RSS

The White Ribbon - 2009


فيلم الشريط الأبيض - The White Ribbon هو أحد تلك الأعمال التي لا تقدم للمشاهد كل ما تريد تقديمه ليس من باب التقصير وإنما من باب التحريض هي تعطيه طرف الخيط ليتابع الطريق وحده بعد نهايته، عمل ليس من النوعية التي تمر بسهولة على المتابع بل تجبره على التفكير فيها وبما قدمته طويلاً بعد النهاية، هو فيلم بعيد عن السينما الفنية التجارية ليقترب من السينما الفلسفية الفكرية التي تناقش وبقسوة وجرأة حقائق وأمور تم تجاهلها طويلاً من قبل الفلاسفة والمؤرخين.
الفيلم الفائز بسعفة كان الذهبية و جائزة أفضل فيلم ومخرج في مهرجان السينما الأوروبية وغولدن غلوب أفضل فيلم أجنبي يمثل ذروة انتاجات السينما الألمانية التي تالقت في السنوات العشر السابقة واستعادت قوتها وهيمنتها الفنية بعد ركود في التسعينات من خلال مجموعة من الأعمال المبهرة أبرزها عودة لينين عام 2003 السقوط عام 2004 حياة الآخرين عام 2006 وجميع تلك الأعمال عالجت بجرأة غير مسبوقة مراحل هامة من التاريخ الألماني في القرن الماضي فقدمت ألمانيا النازية وألمانيا الشيوعية والتحولات الألمانية بعد سقوط جدار برلين وبين تلك الأعمال يأتي الشريط الأبيض ليعيدنا إلى مرحلة أبعد إلى عام 1914 وقبل أشهر من نشوب الحرب العالمية الأولى ليلقي الضوء بقسوة على خفايا المجتمع الألماني بتلك المرحلة من خلال استعراض حياة قرية بسيطة، يبدأ العمل بصوت الراوي يقول : (في تلك الأيام حدثت العديد من الحوادث التي ان استطعنا ان نفهمها فربما نستطيع أن نفهم التغيرات التي حلّت ببلادنا) ثم نتابع العمل لنرى مجموعة من الحوادث تمر على القرية دون أن يفهم أحد سبب حدوثها أو من ارتكبها وحتى نهاية العمل لا نعرف الكثير عن تفاصيل تلك الحوادث بل تزداد الأمور فوضوية وغموض لأن العمل لا يهتم بتلك الأمور بقدر ما يتهم بتقديم البيئة التي انتجت تلك الحوادث ودلالاتها، العمل يحرص على تصوير المجتمع الألماني بتلك الفترة بأنه لم يكن المجتمع المثالي فرغم جماله الظاهر ولكن هناك كبت عميق يخنق أفراده، مثالية وجمال ذلك المجتمع لم تكن سوى قناع يخفي تحته أفراده وحشية ونفاق غير مفهومين، فذلك الطبيب المثالي يعاشر ابنته وراهب الكنيسة الذي ينادي بالمحبة يهين أولاده، والعمال قابعين تحت ذلّ البارون الذي يرمي لهم الفتات دون أن يستطيعوا أن ينهضوا بوجهه بل هم لا يريدون ذلك، في ذلك المجتمع الهادئ ظاهرياً هناك حرب صامتة داخلية، هناك جيل كامل من الشبان والشابات الصغار يعيشون تحت قمع وحشي ويحاولون الانتقام منهم بعنف ووحشية اكتسوبها من العنف الذي عاشوه، وخلال عرض الجرائم والحوادث في العمل يمر خبر اغتيال ولي عهد النمسا (الشرارة التي فجرت الحرب الكونية الأولى) وكأنه أحد تلك الحوادث التي تمر على القرية ضمن تأكيد على أن ما يجري هناك ليس سوى صورة مصغرة لحرب قيم ضخمة داخل أوروبا قادتها إلى حروبها المسعورة.
العمل يطرح سؤال عن سبب التغيير الجذري الذي حلّ بألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى والتي قادت لظهور النازية فيه و إلى العديد من الكوارث، ويجيب أن التغيير لم يكن سببه الحرب بل الحرب أحد نتائجه وما جرى في ألمانيا كلها كان نتيجة سنوات من القمع والكبت التي عاشها المجتمع الألماني بين فساد السلطة الدينية وظلم النظام الاقطاعي وزيف ونفاق التقاليد والأعراف السائدة، في هذا الجو تربى النازيين وترعرعوا وظهروا من رحم ألمانيا المتخبطة بين الفساد والكبت حتى هيمنوا على ألمانيا وقدموا انعكاسات لعقود من عدم التقدير والتفهم.
العمل كتب نصه و أخرجه القدير الألماني مايكل هانك والذي سبق له أن فاز بجائزة أفضل مخرج في كان عام 2005 عن الفيلم البلجيكي (اختباء) الذي يقدم أيضاً بجو من الغموض والريبة العنصرية الفرنسية ضد الجزائرين والعرب وانعكاساتها على حوادث اليوم، هانك صور عمله هذا بالكامل بالأبيض والأسود ليصنع إحساس عالي بالزمن والقتامة وأصر على ذلك باستغلال جميع الأساليب الكلاسيكية الإخراجية بفيلمه بعيداً عن التجريبية والحداثة، العمل إخراجياً منتم بالكامل لسينما الثلاثينات لم يكن هناك مشاهد جنس أو عنف بل تلميح بهمها وهذا ساعد بإعطاء معفول أقوى من المباشرة بالأخص إنه ينسجم مع طابع الكتمان والكبت الذي ساد تلك الحقبة، العمل ورغم قتامته وسودايته ولكنه يبقي المشاهد منسجماً معه حتى بفضل قوة النص وتماسكه مع مونتاج مميز ومحكم، كلاسيكية العمل لم تمنع من صنع جمالية بصرية بالأخص مع التصوير المبهر والذي حول مجموعة من اللقطات إلى لوحات بصرية رائعة شديدة الجمال مع الموسيقى الكلاسيكية الممتازة و أداء رفيع من طاقم العمل جميعاً بالأخص الصغار والشبان منهم الذي أعطوا انعكاس كامل لجيل عاش تحت ظل القهر لدرجة إنه لم يعد يملك القدرة على المسامحة.   

0 التعليقات:

إرسال تعليق