RSS

Slumdog millionaire - 2008


في حفل الأوسكار 2008 كان هناك مهيمن واحد على الجوائز هو Slumdog millionaire - المليونير المتشرد الذي خرج بثمان جوائز أوسكار كأفضل فيلم ومخرج وسيناريو وتصوير ومونتاج وموسيقى وأغنية وصوت رغم عدم وجود اسماء كبيرة تتصدره من تمثيل وإخراج وفنيات أو ميزانية كبيرة تدعمه ، فأبطاله خليط بين مجموعة من الأطفال الهنود المشردين وحفنة من الممثلين المغمورين ومخرجه إنكليزي مغمور قضى عمره بإخراج الأفلام التلفزيونية ولم يقدم أي عمل سينمائي مهم باستثناء الفيلم الدرامي Trainspotting في التسعينات وفيلم الرعب الشهير 28 Days Later. عام 2002 ، بينما لم تتجاوز ميزانيته الخمسة عشر مليون دولار ولكن مع ذلك تمكن العمل من نيل إعجاب كل من شاهده من جمهور ونقاد وأصبح عن جدارة ظاهرة عام 2008 السينمائية الحقيقية .
القصة تدور في مومباي أكبر مدن الهند وأحد أكثر مدن العالم ازدحاماً بمدن الصفيح التي تطوقها في الوقت الذي تنطلق فيه تلك المدينة لتصبح أكبر مدن العمل وأكثرها حضارةً، ورغم ذلك تجاوز المخرج البريطاني داني بويل عناصر الحضارة الوليدة حديثاً في مومباي ليدخل مدن الصفيح ملاحقاً قصص مجموعة من الأطفال المشردين ومسيرة حياتهم الصعبة بين الفقر والتشرد والاستغلال وإهانة الكرامة من أجل تحقيق أبسط الأحلام لقمة العيش وسقف يقيهم البرد والحر وحضن دافئ يحضنهم، ومن بين كل مآسي العمل وقسوته تنطلق قصة حب بريئة بين جمال الشاب الهندي اليتيم المشرد ولاتيكا الشحاذة التي قاسمته حياة التشرد وتستمر قصة الحب تلك على مدة سنوات عديدة وتكون هي دافع جمال ليصمد في وجه مسيرة الحياة الشاقة وليخوض مسيرة البحث الشاقة عنها بعد اختفائها كوسيلة للتخلص من كل الشقاء والبؤس الذي يعيشه، وأثناء بحث جمال عن لاتيكا يدخل بمواقف وقصص لا يمكن تخيلها وتقوده بالنهاية للوصول إلى برنامج المليونير (من سيربح المليون؟ النسخة الهندية) حيث يبدأ العمل وتنسج حبكته حيث يستطيع جمال رغم كونه مجرد عمل مقهى جاهل أن يتجاوز كل الأسئلة للوصول إلى السؤال النهائي الذي يكسبه عشرين مليون روبية مما يثير شكوك مقدم البرنامج حوله بكونه يغش فيدفعه لأيدي المحققين الذي ينهكونه بالتعذيب حتى ينطق بحقيقة مصدر الأسئلة ويرضخ جمال لهم ويتحدث عن مصدر معرفته لكل جواب الذي يرتبط بذكرة سيئة من حياة التشرد التي عاشها فأحدها جوابه يتعلق بوفاة أمه والثاني يتعلق بتجار الأعضاء الذين هرب منهم والثالث مرتبط بالمسدس الذي رفعه أخوه بوجهه حين خطف حبيبته لتشكل الأسئلة والأجوبة فسيفساء حياته ومع استمرار الأحداث وتنقل الصورة بين مشاهد التحقيق وصور الماضي ينسى المشاهد أمر المسابقة وينصب تركيزه على حياة جمال ومن معه من مشردين وعلى الصعوبات والمآسي التي لاقوها بحياتهم.
قد يكون من الغريب تلك الضجة الشعبية التي أحدثها العمل في جميع العالم رغم كونه هندي الهوية بشكل كامل من أجواء وأحداث وممثلين بل حتى من حيث الأسلوبية كانت الهندية هي الغالبة مآسي ومغامرات وحب بريء و موسيقى شعبية ورقصات وأغاني، والغريب أكثر إنه انتزع أهم الجوائز من غولدن غلوب وبافتا وأوسكار رغم منافسة أفلام ضخمة يتصدرها نجوم كبار كشون بين وكيت وينسليت وبراد بيت، الجواب اختصره المخرج داني بويل بقوله : ( إن ما أعجب الجمهور بالعمل هو إن دافع البطل والذي يحرك معه الأحداث ليس المال بل حبه للاتيكا) وقد صدق بقوله فطوال العمل يتم التركيز على إن جمال لا يعنيه المال والثروة كأخبه سليم وكل ما قام به بحياته حتى دخوله لبرنامج المليونير هو من أجل العثور على لاتيكا وهو مستعد للتخلي عن كل الملايين التي كسبها إن كل ذلك هو ضريبة لقائها بل حتى إنه في نهاية العمل يترك كل الجماهير التي اجتمعت حوله وينتظرها بمحطة القطار كما وعدها منذ زمن .
الفيلم غنيّ بالمشاعر الرقيقة الصادقة والتي لا تولد الحزن بقدر ما تولد الأمل والحماس لبطل العمل ليتابع مسيرته بحثاً عن محبوبه، هو يقدم رومانسية حقيقية افتقدتها السينما العالمية منذ زمن ضمن زحمة رومانسية الجسد و الأعمال السوداوية فهنا يتم التركيز على المشاعر المتبادلة بين الحبيبين وعلى القوة التي تولدها لكل منهما ليتابعا مسيرتهما رغم كل الحضيض القابعان فيه ويهتم بإيصال تلك المشاعر للمشاهد، هو العمل ملهم وباعث على الأمل وقادر على التأثير بكل من يشاهده فمع كم المشاعر الهائل التي يطلقها هو قصة كفاح مبهرة للصعود إلى القمة من الحضيض ، هو قصة صمود مؤثرة عن تحويل مصاعب ومآسي الحياة إلى وسيلة للانتصار، ومع ذلك كله هو فيلم عن الدوافع النبيلة الصادقة البريئة والتي لم تلوثها مطامع الحياة ومغرياتها ولم تدمرها الإحباطات المتكررة القاسية.
العمل لم يخلو من القيمة الفكرية بتركيزه على الواقع المؤلم للأطفال المشردين في العالم الثالث – بل إن نماذجهم موجودة أيضاً بمن تسمي نفسها دول راقية – واستعراض ذلك العالم بصورة مجردة واقعية صادمة بعيدة عن التجميل بالأخص باستعانة المخرج بأطفال مشردين حقيقين وبتصويره العمل بالهند الحقيقية وبمدن الصفيح بعيداً عن استديوهات هوليوود ليجعل المشاهد يلمس تلك المعاناة التي تحدث تحت عينيه دون أن يشاهدها ويرينا تأثير تلك البيئة على سكانها والتي قد تدفعهم لدروب من الجريمة والمعاناة لم يكونوا يريدونها ولكنها فرضت عليهم .
رغم ما يحويه العمل من دفئ ورومانسية ولكنه لا يسير ضمن نسق شاعري هادئ، داني بويل تعمد المزج بين النقيضين فقدم رومانسية عالية ضمن أحداث سريعة وحماسية ومشوقة منسجمة مع بيئة العمل المزدحمة الصاخبة وقد ساعده على ذلك المونتاج الممتاز الذي برع بتركيب الأحداث بين الأسئلة والماضي والربط بينهما بصورة مشوقة وبتركيب المشاهد بصورة شبه عشوائية عبثية لزرع نوع من الفوضوية والارتباك والتسارع بالعمل ويقدم إثارة عالية تحبس الأنفاس تجعل من العمل تجربة سينمائية مميزة بقدر ما هي شاعرية ومؤثرة بقدر ما تحويه على إثارة وتشويق عالي يجعل المشاهد ولا يستطيع نزع عينه عن العمل حتى النهاية بالأخص مع إنسجام المونتاج مع التصوير المتقن البعيد عن ضخامة هوليوود وجنحها إلى التصوير الثلاثي الأبعاد والغرافيكس فتصوير هذا العمل يعتمد على الكاميرات المحمولة البسيطة ولكنه يستطيع صنع عمل بضخامة أعمال هوليوود عالية التكلفة من خلال امتلائه بالزواية والحركات التجريبية والألوان الفاقعة التي تشعرنا بقسوة المكان وقذارته وحرارة الأجواء ويجعلنا نخوض تلك التجربة المؤلمة من التشرد والهروب المستمر والطرد الدائم .
وبين التصوير المتقن والمونتاج المبهر هناك الألحان الهندية الرائعة والأغاني المؤثرة من أر رحمان ينجح بصنع جو من الشاعرية في العمل، ورغم عدم احتواء العمل على اسماء تمثيلية كبيرة ولكن أبطال العمل المغمورين قدموا أداء عالي بمستوى العمل حتى الأطفال المشردين منهم بالأخص ديف باتل بدور جمال وفريدا بينتو بدور لاتيكا و الممثل الهندي الشهير رجندريث زيوتشي بدور مقدم البرنامج قدموا جميعاً أداءً ممتازاً ونجحوا بصنع جو من العاطفة والمرارة في الفيلم الذي استحق لقب أفضل فيلم لعام 2008 .

0 التعليقات:

إرسال تعليق