RSS

Capote - 2005



إن الفاصل الرئيسي بين فيلم سيرة ذاتية ناجح وآخر فاشل هو اختيار الشخصية التي سيدور حولها العمل واختيار الممثل الذي سيقوم بتجسيدها ، وكلما كانت الشخصية مركبة ومعقدة كلما كان الفلم أفضل وأغنى بالأحداث وأكثر عمقاً وتعقيداً ، ولا يهم أن تكون الشخصية بطولية أو مكروهة المهم أن تكون تحوي التركيب والعمق الذي يساعد الفلم على النجاح، فقد يفشل فلم يتحدث عن شخصية بطولية ومحبوبة كجورج واشنطن وقد ينجح فيلم يتحدث عن شخصية دموية معقدة مريضة كأدولف هتلر فالمهم هو درجة تعقيد وتركيب الشخصية، وهذا ما رأيناه في فيلم (الثور الهائج) لسكورسيزي الذي صنف كأهم فيلم سيرة ذاتية رغم أنه يتناول شخصية وضيعة معقدة دنيئة مريضة فاشلة هي شخصية الملاكم (جيك لاموتا)، في حين لم يخلف فيلم مايكل مان (علي) أي أثر بتاريخ السينما رغم أنه يتحدث عن واحدة من أساطير الملاكمة وهي (محمد علي كلاي)

 
وذلك لأن جمود الشخصية وعدم تطورها ونزوعها المستمر نحو الجانب البطولي مما سبب سطحية بالتعامل معها أدى ذلك إلى أعاقة الفلم في مراحل عديدة، هذا لا يعني أن الشخصيات البطولية تكون عائق على العمل بل تعامل المخرجين معها على أنها شخصيات بطولية هو الذي يسبب هذه الإعاقة وهذا ما أدركه رون هاورد حين قدم فلم (رجل الساندرلا) عن بطل الملاكمة (جيمس برودويك) فلم بتعامل معه على أنه بطل بل تعامل معه على أنه إنسان عادي يتعرض لنكسات وانتصارات وأيام فرح وأيام حزن، فيلم كابوتي لمخرجه بينت ميللر يحقق تلك المعادلة، هو يأتي كواحد من أفضل أفلام السيرة الذاتية التي عرضت في  الألفية الجديدة ، الذي يجعل من فلمنا المذكور فلماً ناجحاً وبارزاً بين غيره من أفلام السير الذاتية هو أنه لا يتناول سيرة حياة الكاتب الأمريكي المعاصر الغريب الأطوار (ترومان كابوتي) الشخصية بل يتناول شخصيته ، فلم يتناول الشخصية من الجانب التوثيقي ولا من كونها عبقرية أدبية ولا حتى من كونه شخص غريب الأطوار هذه كلها جعلها أشياء ثانوية ومكملة للإطار العام للشخصية في حين راح الفلم يركز على طريقة تعامل الكاتب مع المجزرة الشنيعة التي وقعت في كنساس عام 1959 وذهب ضحيتها أربعة أفراد من عائلة واحدة على يد مجرمين شابين، ولكن مع ذلك فلم يهمل الفلم حياة كابوتي الخاصة فراح يظهر لنا باستمرار الكثير عن تفاصيل حياة كابوتي السابقة والحاضرة والكثير عن عاداته اليومية وصفاته وهواياته وطقوسه الكتابية حتى إنك ستشعر بمعرفة وثيقة بكابوتي الذي وكما يظهر لنا ببداية العمل شخص مرح جداً وغريب الأطوار جداً، صريح لدرجة الصدمة ويعشق تسمية الأشياء بمسمياته حتى لو كانت صادمة، لا يخجل من أي شيء من حياته مهما كان مخجلاً طالما هو حقيقي فنراه يسهب بالحديث عن تفاصيل حياته بل ويجعلها محور لأعماله الأدبية الشهيرة، بالأخص أن أيام طفولته امتلأت بمآسي عديدة جداً من مختلف الأنواع إن كان من سخرية الأطفال عليه بسبب شكله وصوته الذي يشبه الخنزير إلى إدمان والدته ووفاة والده وتربيته عند أقربائه وكان لكل هذه المآسي الفضل بتحميس مخيلته للكتابة، مصدر غرابة أطوار شخصية كابوتي وهو الشيء الذي آثار فضولي حولها هو تعامله مع كل تلك المآسي بطريقة شديدة السخرية والاستهزاء، هو يتحدث عن مآسيه بطريقة ساخرة بغرض إضحاك الناس عليها وكأنها حدثت مع شخص غيره، هل السبب أن كابوتي شخص بلا مشاعر لا بل كابوتي شخص مكسور من الداخل ويحمل جروحاً غائرة من طفولته ولكنه لم يجعل هذه الجروح تعيقه بل جعلته ينطلق ليتابع حياته للأمام ولكن تلك الجروح أبت إلا وأن تترك بعض المخلفات السيئة بنفس كابوتي راح ذاك الأخير ينظر إليها بعين ساخرة وحزينة بنفس الوقت.علاقة كابوتي مع المجزرة التي وقعت في كنساس والتي هزت الشارع الأمريكي من المحيط إلى المحيط تبدأ عندما يقرأ مقال عنها للجريدة فيقرر للذهاب إلى هناك ليغطيها صحفياً ويستلهم منها لكتابه القادم فيذهب إلى كنساس مع صديقة طفولته الكاتبة هاربر لي مبدعة رواية (قتل الطائر المحاكي) وفي كنساس سنرى صدمة كابوتي بالأشكال المخيفة جداً لضحايا المجزرة مما يجعله يرسم صورة موحشة جداً ولكن هذه الصورة ما تلبث أن تنهار عندما يرى صور من مسرح الجريمة حيث قد وضع القتلة رؤوس الضحايا على وسائد وأغمضوا أعينهم قبل قتلهم، وكأن القاتل يريد أن يجعل الضحية تنام قبل قتلها، كابوتي يستغرب ما الذي يدفع قاتلاً لإراحة ضحيته قبل قتلها، وفيما بعد يلتقي كابوتي ببيري سميث أحد القتلة وقد صدم كابوتي بذلك الشخص فلم يرى شخصاً ضخماً فظاً كريه، بل رأى شاب رقيق حلو اللسان يبدو ضعيفاً ومنهاراً من هول ما قام به، مما يجعل كابوتي يتساءل كيف يمكن لشاب مثله القيام بمثل هذه المجزرة فيقرر أن يحول موضوع كتابه القادم فلم يعد يريد أن يجعله حول أحداث جريمة القتل بل قرر أن يجعله عن الأسباب التي تجعل شخصاً رقيقاً مثل بيري يرتكب مثل هذه الجريمة، كابوتي يبدو مذهولاً فعلاً من المصدر الأدبي الذي عثر عليه والذي سيجعله يكتب الكتاب الذي حلم به كتاب عن النفس الإنسانية وعن أمراضها وخوفها وقوتها وضعفها، كابوتي واثق بأن كتابه القادم سيكون أفضل كتاب له رغم أنه لم يكتب حتى الآن غير عنوانه (الدم البارد) ولأجل أن يكتب عليه أن يقيم علاقة صداقة مع بيري القاتل هذه العلاقة غريبة جداً وخبيثة جداً وحذرة جداً هي تتراوح بين الصداقة والحب والاستغلال والخداع، كابوتي أكتشف من تلك العلاقة أسرار عديدة عن بيري وعن نفسه هو، لقد ذهل بشدة عندما علم أن بيري تربى بنفس الظروف السيئة التي تربى بها وعانى معاناة شبيهة للتي عاناها بطفولته، هما متشابهان جداً بالطباع فكان من السهل أن يصبحا أفضل صديقين يحصلان عليه، كابوتي لا يستطيع تفسير ذلك سوى بكلمة واحدة : (كأنني وبيري نشأنا في بيت واحد ولكني خرجت من الباب الأمامي وهو خرج من الباب الخلفي).

إن حياة ترومان كابوتي حياة غنية جداً بالمواقف الدرامية التي تصلح لعشرات الأفلام فهناك طفولته المعذبة وصعوده إلى قمة الأدب، وهناك الضجة التي كانت تثيرها كتبه، وهناك دخوله إلى المجتمع الهوليوودي ككاتب وعلاقاته مع أرباب صناعة السينما، وقصص شذوذه وفضائحه ، إلا أن دان فوترمان أختار من بين كل تلك المراحل مرحلة صناعة كابوتي لأعظم كتبه الدم البارد، لعدة أسباب لان هذه المرحلة هي الأكثر تأثيراً في نفسية كابوتي ولأنها تسمح لفوترمان أن يستقل عن الموضوع الرئيسي سيرة كابوتي لتقدم لنا فلم فلسفي نفسي درامي من نوع خاص عن أمراض الطفولة وعقدها كما فعل سابقاً جونثان ديمي في رائعته صمت الحملان، حيث رأينا شخصان عانيا كثيراً من طفولتهما ولكن الأول فجر معاناته بالآدب والأخر لم يرى تصريفاً لمعاناته سوى بالجريمة، بالإضافة إلى طرح عدة تساؤلات حول جدوى عقوبة الإعدام وحول شخصية المجرم، وهل القاتل دائماً مجرم أم هو ضحية .نجاح العمل يدين بالدرجة الأولى إلى شحص واحد هو (فيليب سيموري هوفمن) الذي أدى دور ترومان كابوتي ، أداء هوفمان مقنع إلى أبعد الحدود ، فيليب سيموري هوفمن أسم مجهول للكثيرين قبل دور كابوتي رغم وجود اسمه كمشارك في العديد من الأعمال الشهيرة مرور الكرام كعطر امرأة و بوغي نايت و السيد ربلاي الموهوب و ماغنوليا وجبل بارد ، على ما يبدو أن هوفمن كان يدرك أن هذا الدور هو فرصته الوحيدة ليصبح نجماً مهماً بتاريخ السينما وقد أجاد فعلاً، هوفمن أدى الشخصية بعاطفة كبيرة جداً فالتعقيد الجسدي والنفسي للشخصية كان محرضاً لهوفمن على الإبداع أكثر منه معيقاً، الأداء الجسدي للشخصية ليس سهل على الإطلاق فقد كان على هوفمان أن يزيد من وزنه ويتحدث بصوت طفولي ولهجة مميزة وإظهار لثغة بارزة والقيام بحركات أيدي إيحائية واستعمال طريقة مميزة بالتدخين والشرب والكلام والضحك، واستخدام أسلوب كابوتي الفريد بإلقاء النكت واستعمال حركات الوجه لإضحاك من حوله، هذا التعقيد الجسدي الكبير كان ليعيق الممثل عن إظهار الجانب النفسي للشخصية لو كان هناك ممثل آخر شاب غير هوفمن تصدى لأدائها ولكن هوفمن أذهلني وأذهل جميع النقاد بإظهار جانب المعاناة النفسية عند كابوتي وجعل التعقيد النفسي يتوازن مع التعقيد الجسدي، طبعاً إظهار جوانب المعاناة النفسية كابوتي هو من مهمة الكاتب ولكن نقلها إلى الشاشة هو المهمة الأصعب ولكن هوفمن كان لذلك بالمرصاد، هو أدى دور كابوتي أفضل من كابوتي نفسه ستشعر بصدقه حين يفرح وحين يحزن وحين يتألم ستشعر بحماسه حين يتحدث عن كتابه الجديد وستشعر بالشعور المرعب الذي أنتابه حين شاهد جثث الضحايا وستلمس اللهجة الحنونة خلال حديثه مع بيري وستشعر بالحسرة الذي انتابته حين سمع بنبأ حكم الإعدام على بيري، بتاريخ السينما مر العديد من التجسيدات التمثيلية الرائعة بالنسبة لي فإن هوفمن بأداءه الصاعق جداً هذا يدخل قائمتي بين أعظم الأداءات السينمائية وبالمراتب الأولى أيضاً ، ببساطة شديدة فيليب سيموري هوفمن قدم واحد من أعظم الأداءات بتاريخ السينما .إلى جانب فيليب سيموري هوفمن هناك كاثريين كينيير بدور الكاتبة هاربر لي ، أداءه جميل جداً فهي لم تظهر فقط بدور الكاتبة ولم تتوقف عند حدود تقمص دورها بل هي أيضاً كانت صديقة كابوتي وأخته ومأوى اسراره أداؤها جميل وستجبرك على الضحك في كل مشهد تظهر فيه، كليفن كولينز جونيور بدور بيري سميث المجرم الشاب يقدم أداء جميل جداً وكذلك كريس كوبر بدور شرطي في كنساس يقدم هو الآخر أداء جميلاً .نص العمل الذي خطه دان فوترمان باقتباس عن كتاب كابوتي (سر الدم البارد) مميز جداً ينجح بالوقف بنقطة الوسط بين كون فيلمه فيلم سيرة ذاتية وبين كونه فيل درامي فلسفي فلا ينحاز ولا يجعل موضوع يطغى على أخر، إخراج العمل تولاه بينت ميللر ، هو لا يقدم الكثير بمجال الإخراج استغرب ترشيحه في قائمة أفضل مخرج، بينت ميللر تميز بإدارته المميزة لهوفمن وبحضور الأجواء الكنساسية بعمله وبالاستخدام الجيد للموسيقى .

0 التعليقات:

إرسال تعليق