RSS

Hugo - 2011


عام 2004 حاز فيلم الطيار الذي تحدث عن مهووس بالسينما على 12 ترشيح أوسكار وبعد 8 سنوات حقق فيلم هيوغو عن بدايات السينما 11 ترشيح أوسكار، ما يجمع بين هذين الفيلمين غير زحمة الترشيحات وهووس السينما هو وجود اسم الأسطورة مارتن سكورسيزي وراء كرسي الإخراج وجون لوغان ككاتب السيناريو و هاورد شو كملحن موسيقي و ثيلما شوتميكر كمونتير ومشاركة جود لو الشرفية فيهما، والأهم من ذلك كله إن كلا الفيلمين تحفا سينمائية حقيقية من صانع أفلام حقيقي ومهووس سينمائي تبرز فعلاً الشغف السينمائي والمعنى الحقيقي لهذا الفن الراقي الذي تعرض للكثير من التشويه على مدى السنوات السابقة.
 
مارتن سكورسيزي اسم غني حاز عن التعريف هو بكل بساطة أفضل مخرج على قيد الحياة ومن أفضل المخرجين على الاطلاق ومخرجي المفضل، صنع على مدى حوالي خمسين سنة عشرات الأفلام من مختلف الصنوف السينمائية وتألق بها جميعاً، هو مهووس حقيقي بالسينما، غرامه بالصورة وبهذا الفن يظهر بكل لقطة من لقطات أفلامه وحركاته، اللمسة التجديدة حاضرة عنده على الدوام ليست تجديدة فقط بأسلوبه وإنما بشكل صناعة السينما كلها، أفلام كشوارع قذرة وسائق التكسي و الثور الهائج و صحبة جيدة والراحل ومؤخراً شتر ايلاند هي باعتقادي علامات فارقة ومحطات انتقال بصنوف أفلام العصابات والجريمة والنفسية والسير الذاتية والإثارة والنوار و الريميك والرياضة، هوس سكورسيزي بالسينما لا يظهر فقط بالصناعة وإنما بكل حواراته ولقاءاته و نشاطاته بالأخص مساهمته مع صديق دربه وثاني أفضل المخرجين الأحياء ومخرجي المفضل الثاني ستيفن سبلبيرغ بحفظ الأعمال السينمائية النادرة من الانقراض والتلف، ومعرفة هذه الخلفية عن سكورسيزي تجعلنا ندرك إن هيوغو بكل بساطة ليست فقط تحفته الجديدة وأحد أفضل أعماله بل أيضاً أكثر أعماله خصوصية وقرباً منه رغم ابتعاده عن نوعيته المفضلة الإجرامية أو قصص البحث عن الذات ونقض الواقع الأمريكي وانتسابه لنوعية لم تكن تخطر على بال أحد أن يقدمها وهي أفلام العائلة، وهنا المفارقة أن يكون ما يمكن أن نعده فيلم سكورسيزي الخاص هو فيلم من بطولة أطفال بتقنية ثلاثية أبعاد وقصة طفولية مبهجة ومثيرة وشديدة العاطفة وهو الذي أفلامه تصدرها كبار النجوم وتميزت بالبساطة التقنية ولكن بالاتقان الفني وقصص شديدة الاكتئاب والسوداوية والنضوج.
 قد تكون المفارقة أنه في عام واحد يظهر فيلمان يحيّان السينما كفن يصلان إلى صدارة ترشيحات الجوائز النهائية والمفارقة إن هيوغو عمل أمريكي يدور في فرنسا والثاني (الفنان) عمل فرنسي يدور في هوليوود وكلاهما يتبع أسلوبية مختلفة بتحيته للسينما وبداياتها، في هيوغو يعود سكورسيزي ليتحدث عن بدايات السينما لا منذ أيام السينما الروائية الصامتة بل إلى ما قبلها إلى اختراع الكاميرا والشرائط المتحركة القصيرة الأولى لأعمال الأخوة موليير وجورج ميليس وثورة الإخراج والإبتكارات السينمائية البسيطة الأولى التي شكلت خطوات نحو صنع هذا الفن الحقيقي وسينما الخيال العلمي بالذات، ما يثير الإعجاب بفيلم سكورسيزي إن تحيته لهذا الفن البسيط يقدمها من خلال التقنية الثلاثية الأبعاد وكأنه يريد تذكير الجمهور وهو يشاهد عملاً بأقصى ما توصلت له تقنيات السينما البصرية كيف بدأ هذا الفن، وهو صنعها بأسلوب تقني عالي الجودة والإبهار جعلت الأب الروحي للصورة الثلاثية الإبعاد جيمس كاميرون يقول إن هذا العمل هو أفضل من قدم هذه التقنية أفضل حتى من أفتار.
من شاهد هذا الفيلم – مثلي – بتقنية ثناية الأبعاد سيدرك مدى الخسارة التي تعرض لها بتفويته عليه ثلاثي الأبعاد فلمسات الإبهار فيه حاضرة بكل مشهد وصورة وزاوية، وسكورسيزي تجاوز الإستعراض المبتذل لهذه التقنية – كأشياء تصطدم بوجه المشاهد وتخرج من الشاشة – ليظهر المعنى الحقيقي والقيمة الحقيقية لهذه التقنية مشاهد عديدة رائعة كثنائية الأبعاد من السهل تخيل حجم روعتها في صورة ثلاثية الأبعاد كمشهد تناثر الأوراق المرسومة ومشهد القطار ومشاهد المطاردة بين هيوغو الشرطي ومشهد الافتتاحية شديد العظمة والروعة، إبهار سكورسيزي التقني لم يقتصر على المؤثرات، هنا لا يوجد مؤثرات بصرية واضحة مبهرة كصنع عوالم أفتار أو تداخل عوالم انسبشن وإنما الإبهار البصري الحقيقي هو بالوسائل السينمائية الحقيقية التصوير الإبداعي الاحترافي من زواية متنوعة وصعبة وألوان مبهرة، والمونتاج العظيم و الأزياء والإخراج الفني ومؤثرات الصوت والمؤثرات البصرية كلها كانت عناصر متكاملة لصنع إبهار بصري حقيقي بعيداً عن الخيال وأقرب إلى الرسم الإبداعي السينمائي الحقيقي شيء فعله سكورسيزي سابقاً بعصابات نيويورك و الطيار ولكن هنا يتفوق على نفسه به ويصنع مثالاً للعمل الإبهاري والفني بنفس الوقت.
الفيلم يسير بخط تسلسل شديد الروعة والاتقان هيوغو كاربيت شاب يتيم يعيش في ساعة ضمن محطة القطار ويعاني من ملاحقة شرطي المحطة الأعرج والمهووس بعمله والمتضرر نفسياً من الحرب العالمية الأولى، هيوغو يتسلل إلى محل أحد مصلحي اللعب ويسرق منه دوماً قطعاً مستعمله لإصلاح رجل آلي عاطل قدمه له والده قبل وفاته وبقي لغز هذا الرجل الآلي هو الرابط الأخير بين الأب وأبنه وكأنه يحمل رسالة خفية يريد اكتشافها، وبمساعدة ليزيت حفيدة مصلح الألعاب يبدأ هيوغو بملاحقة اللغز واكتشاف خيوطة ضمن وجبة تمزج بين الإثارة المفرطة والإبهار البصري العالي و القيمة الدرامية الممتازة ليلاحق معه بدايات السينما وتطورها من فيلم القطار للأخوة موليير انتهاءً بروائع شابلن الصامتة مروراً بأفلام جورج ميليس الخيالية، الفيلم رغم كونه عمل عائلي مثير على نوعية أفلام بيكسار ولكنه ليس مبهج بالكامل هو يحمل الكثير والكثير من الحزن والألم بالأخص على مصير هيوغو ومعاناته ولكنه لا ينجرف وراء المآساة وينزع البهجة من العمل، البهجة موجودة فيه وتزرع الابتسامة بالأخص لحظات المطاردات بين هيوغو والشرطي والتي ربما تشعر إنها دخيلة على الخط الدرامي للعمل ولكنها مهمة له كوننا نتحدث عن فيلم عائلي وفيلم يقدم تحية للسينما ولذاك النوع الذي تراجعت قيمته بالسنوات الماضية بالإضافة إلى كونها النافذة الحقيقية لاستعراض التطور التقني الذي وصلت إليه السينما لا استعراض إبهار تقني مجرد ، عدا إن هذه المغامرات تظهر مدى إيمان وسعي هيوغو نحو هدفه، وكون الفيلم ينتمي إلى نوعية السينما العائلية فنلاحظ إن سكورسيزي لم يهتم كثيراً بتعقيد الحبكة ، الحبكة والقصة مبسطة جداً ولكنها محبوكة ومثيرة ومتسلسلة بطريقة ممتازة ورائعة وتهتم بالقيمة وراء الحبكة لا بالحبكة نفسها .

أكثر ما أثار إعجابي بفيلم سكورسيزي هو إصراره على تذكير المشاهد إن السينما فن حقيقي لا مجرد وسيلة ترفيه تجاري وحتى تقنية ثلاثي الأبعاد هي أيضاً عمل فني لا تختلف بأهميتها عن شرائط موليير الأولى رغم إحترام سكورسيزي الشديد لتلك الشرائط، هو يستعرض شريط موليير عن وصول القطار وحالة الصدمة التي عاشها المشاهد يومها ثم يعرض مشهد حادث القطار الإبهاري السكورسيزي بالعمل هو حركة متعمدة يريد سكورسيزي أن يشير فيها إلى مدى التطور والخطوات التي مرّ بها الفن حتى وصل إلى هنا، وقبل هذا المشهد هناك مشهد اكتشاف سر جورج كيليس وتناثر أوراق نماذجه الأولى في الهواء وتنقلها خلال الطيران من مرحلة الرسم إلى مرحلة العرض الورقي المتتالي الأول ثم الصورة البصرية السينمائية الأولى وتلونها رغم إن المشهد لم يتعدى الثواني، سكورسيزي يصر إن السينما هي فن جذوره الرسم الموسيقى الاستعراض ألعاب الخافة الرواية التصوير الفوتوغرافي، هي بكل بساطة حصيلة كل تلك الفنون ومزجها بالعولم الميكانيكية والتقنية، السينما هي حاصل مزج العقل والقلب العلم والفن هذا ما يريد سكورسيزي أن يقوله، هو يحقق بفيلمه هذا معادلة التوفيق بين الإعجاب والإنبهار بالصورة التقنية الحديثة التي وصلت إليها السينما وبالإعجاب ببدايات السينما البسيطة ، هو مليء بعرض لتلك الشرائط الأولى ودخول تفصيلي بكيفية صناعتها والجهد والتعب المبذول فيها والإبهار الذي صنعه هذا الفن ببداياته قبل أن يتعرض لإنتكاسة مع الحرب الكونية الأولى كإشارة إلى قسوة الإنسان التي تقتل الفن والسعادة بداخله، الفيلم فيه تعريجات سريعة ورمزية على محطات تطور السينما، عرض لمشاهد من أفلام شابلين الصامتة و صنع سينما عائلية بصرية مبهرة على مستوى أفلام فليمنغ الثلاثينية (كساحرة أوز حصراً) وشيء من لفت النظر إلى بدايات ديزني البسيطة بصنع الرسوم المتحركة (الصور المتكررة لرسمات طيار العصفور الشبيهة للنماذج الأولى لصور ميكي ماوس ورواية روبين هود أحد أوائل أعمال ديزني الطويلة الناجحة) مشهد انتقالات بين كينزلي بين الحاضر والماضي بشكل أشبه بعرض لوحة زيتية مرسومة يعيد إلى الذاكرة مشاهد باري ليندون العظيمة (فيلم كوبريك المفضل لدى سكورسيزي) ظهور سكورسيزي الخاطف بالعمل على طريقة هيتشكوك مشهد الحلم السريالي المنتمي لأسلوبية ديفيد لينش شكل الرجل الآلي الشبيه لآلي جورج لوكاس من حرب النجوم ثم أسلوب العرض الثلاثي الأبعاد وبأسلوبية بيكسار العائلية البراقة ولمسة سبلبيرغ الواضحة فيه بالأخص E - T   عدا إنك لن تستطيع نفسك من أن تمنع أفلام سارق الدراجة وأوليفر من أن تخامرك وأنت تشاهد العمل.

الفيلم رغم كونه بعيد جداً عن نوعية أفلام سكورسيزي ولكن فيه الكثير من لمساته طموح تحقيق الذات واكتشافها والنجاة بعالم الصعب وجنون المجتمع الذي يدمر الإنسان كانت حاضرة بهذا العمل، إدارة الممثلين الإبداعية كانت حاضرة أيضاً رغم إن البطولة مسندة لطفلين (أزا بترفيلد و شيلو غريز موريتز) ولكنها قدما أدائيين عالي القيمة والمتانة ، بين كينزلي الذي تألق بتحفة سكورسيزي السابقة شتر ايلاند يقدم هنا أيضاً أداءً رفيعاً وشديد القوة تم تجاهله بشكل غريب، ساشا بارون كوهين أيضاً قدم أيضاً حضوراً مميزاً وجود لو ظهر بشكل شرفي ولكن جيد، مع كل الميزات البصرية العظيمة في العمل هناك موسيقى رائعة من هاورد شو ، مبدع موسيقى ثلاثية الخواتم و كينغ كونغ والطيار يقدم هنا عملاً موسيقياً شديد الإبداع والتأثير متناسباً مع العمل ومؤثراً فيه جداً .
سكورسيزي بمسيرته قدم الكثير من الروائع التي لا تنسى ولكن لا شيء قدمه مثل هيوغو ، هو أكثر أعماله غرابة ولكن أكثره خصوصية وإبهاجاً، الحلم الذي لم يستطع تحقيقه عام 1977 بصنع عمل راقي وضخم يكرم فن الاستعراض والجاز في نيويورك نيونيورك حققه الآن بهذه التحفة، العمل موقعه بكل بساطة بين الكلاسيكات على مستوى سينما باراديسو وربما يفوقه جمالاً ، هو فيلم مهدى لكل عشاق السينما وهذا الفن الأصيل يجعلنا كأطفال ندور بحثاً عن أسراره ومغامراته، هو ليس رحلة حنين بل رحلة تكريم لهذا الفن الذي تحول لعلم دون أن يصبح جامداً بل يزداد روعة، هو عمل يرينا كيف هي السينما وسيلة لتحقيق الأحلام للانتقال إلى عوالم أخرى أكثر جمالاً حيوية لنخرج من عالمنا وندخل عالم السحر ونعيشه كما لم نعشه من قبل.

0 التعليقات:

إرسال تعليق