RSS

Roma – 2018


أسمع دوماً إن المعالجين النفسيين ينصحون المصابين بالاكتئاب بكتابة مذكراتهم ليواجهوا ذكرياتهم السيئة والجيدة، ويحاولون فهم الأيام العصيبة والتصالح معها وتجاوزها، كوارون يفعل هذا ولكن بطريقة سينمائية، يستحضر ذكرياته المؤلمة والمرحة، يعيد تشكيلها ومواجهتها ليفهمها ويتصالح معها ويتجاوزها، هي عودة فيها شيء من الحنين، شيء من محاولة فهم الأمور التي مرت وأسبابها، شيء من التكفير والاعتذار لشخصية هامة بحياته مرت دون أن ينتبه أحد لما تعانيه هي ومثيلاتها، كوارون اتحذ خياراً غريباً وأنانياً حين قرر أن يكون هو مدير التصوير لعمله لا غيره حتى شريكه الآثير أمانويل لابوزكي، ربما لأن ما يريد تقديمه لن يستطيع أحد – حتى المصور الأهم اليوم – أن يقدمه كما يتخيله ويتذكره، كوارون بتصويره يبدو ممثلاً إضافياً خفياً بالعمل، وكأنه بحالة انتقال روحي عاد إلى الماضي وهو يحمل كاميرا ويصور يوميات عائلته وتفاصيلها، الكاميرا تتحرك بتأني شديد، بأسلوب تلصصي، تراقب الأحداث من بعيد، تتحرك بتأني، تسكب الحياة على أماكن وذكريات كساها غبار الزمان ويعيد أحيائها بالكثير من الحنين والحب.
في فيلم كوارون الشهير ( ... Y Tu Mamá También ) تتحدث إحدى الشخصيات عن خادمة قديمة كانت تعيش معهم وكان يحبها كوالدته ثم اختفت وهو بشوق لها، فيلمه الحالي هو عن هذه الشخصية، محاولة سينمائية للقاء بغائب طال الشوق له وتقديم الاعتذار له، يمشي العمل على خطين، خط رواية قصة الخادمة كليو من خلال عيني كوارون، وخط رواية قصة العائلة والمكسيك وجذور موهبة كوارون ونشأته من خلال عيني كليو، وهو أمر غريب وليس سهل أبداً، يحيد شخصيته تماماً ويقدم ذكرياته ليس كما رآها وعاشها، بل كما رأتها كليو وكأن العمل لقاء توثيقي معها، يبدأ عمله بصورة للبلاط الأصم وحين يسكب عليه الماء يحوله لمرآة لنافذة على سماء مفتوحة بلا حدود تخرقها طائرة في رحلة مجهولة الدرب، البلاط الأصم هو كليو وكاميرة كوارون هي الماء التي جعلتها مرآة لعالمه وذكرياته وبلده، ولكن وبحركة شديدة الوفاء يجعل من أحد أهم الحوادث بتاريخ المكسيك وأهم حدث بتاريخ عائلته على الهامش ويضع قصة كليو – الهامشية جداً مقارنة بالأحداث الجلل التي تحدث – في المقدمة ويجعلها انعكاساً لأزمة بلده ومجتمعه.
كوارون يأخذ حيز واسع لذكرياته، العديد من التفاصيل المهمة في ماضيه والتي يبدو إنها آثرت به يعطيها الحياة ويجعلها تلامس الجمهور ويفهمها، صوت الباعة، لعبه مع أخوته، كيف كان يدخل والده بسيارته، ووداعه الأخير له، حادثة شجار بين أخوته كادت أن تؤدي إلى كارثة، سقوط المطر، تفاصيل يومية بسيطة جداً يركّبها كفسيفساء لتشكل لوحة ماضيه، يعطي للمكان أهمية بالغة جداً، منزل العائلة بطل رئيسي بعملنا هذا، يتجول به بحميمية وينقل هذه الحميمية لنا ويجعله قريباً جداً للجمهور ومريحاً له ومعتاد عليه، كوارون في هذا العمل هو طفل العائلة الأصغر تيتو المفضل لدى الخادمة كليو، يلعب معها لعبة التظاهر بالموت، تعجب كليو بتلك اللعبة وتقول (من المريح أن تكون ميتاً) ثم تتسع الكاميرا لتصور عشرات الخادمات مثل كليو اللواتي يعملن على أسطح منازل يقطونها ولكن لا يعيشون فيها، فيلمه هذا يهتم جداً بهذه الجزئية ويتعمق بها، أن تسكن ببيت مع عائلة ولكن آلا تعيش معها، أن تكون حتى وأنت تقاسمهم تفاصيل حياتهم اليومية غريباً عنهم، هذه الجزئية صادقة جداً هنا ومؤلمة، يعبر عنها كوارون بمشاهد بسيطة كمشهد العائلة وهي تتابع التلفاز، مشهد تحميل السيدة صوفيا اللوم لكليو على تسببها بابتعاد زوجها وغضبه، أو لومها على تلصص أبنها عليها، والمشهد الأقسى هو في المشفى أثناء ولادة كليو حين لا تعرف السيدة العجوز أن تجاوب على أي سؤال حول معلومات بسيطة جداً عن كليو وعائلتها وعمرها، طوال الوقت يتم التعامل معها على أنها مجرد غرض إضافي في المنزل، شيء مرمي للخدمة فقط بلا حياة، لا تتكلم، لا تعبر، لا حياة لها، لا أحد يهتم بحياتها ولا بما تعانيه، حتى المآزق الذي تمر به تتعامل معه العائلة بالحدود الدنية.
كوارون لا يجعل لبطلته صفات مميزة، يصر على أنها شخصية تشبه المئات من الشخصيات التي مرت بالحياة ولم يشعر بها أحد، يؤكد على ذلك بالعديد من المشاهد سواء مشهد السطح أو المشفى أو غرفة التوليد، هي سليلة السكان الأصليين، قادمة من الريف لتعمل في المدينة كخادمة، شخصية مقتنعة بقدرها وحدودها في الحياة إنها مجرد عنصر هامشي، تحاول أن تسرق من الحياة لحظات، وحبن تنجح بأن تكون لها حيز خاص تقع بورطة ولا تجد سند، حتى عائلة سيدها تعينها من باب ذرّ الرماد بالعيون، ويزيد الطين بلّة إن ورطتها تأتي في وقت المصيبة التي تحل بالعائلة والتي تزيدها هامشية على هامشيتها، رغم إنني أتوقع أنه حتى لو كانت ظروف العائلة أفضل لما كان أختلف شيء بتعاملهم مها ومع مصيبتها، كوارون ينتصر لهذه الشخصيات الهامشية، يجعل لكليو صفات شبيهة بالقديسة، في مشهد التحدي الذي يرميه البروفيسور زوفيك على تلاميذ الفنون القتالية والذي يصفه بأنه تحدي لم يستطع سوى كبار المعلمين والروحانيين اتقانه نرى بأنه لم يستطيع أحد من التلاميذ والحضور اتقانه، ثم يرينا كوارون بمشهد عابر أن كليو استطاعت كسر التحدي، وفي مشهد لاحق نرى أن الشاب الذي انغمس بعالم الفنون القتالية حتى يصل للصفاء الروحي تحول إلى بلطجي سلطة.
هذا العمل لا ينفصل عن أعمال كوارون السابقة عن جنوحه الروحي نحو العناية الإلهية، مشهد الزلزال وسقوط الحجر على حجرة حاضنة حمت رضيع من الموت يرينا به كوارون كيف إن الرب يعمل بطريقة غير مفهومة، فالطفل الذي ربما ولد قبل أوانه أو ولد محملاً بمرض جعله يوشك على الموت كانت هذه الحالة هي الفضل بحمايته من موت آخر محقق، الأمر يؤكد عليه كوارون من خلال إجهاض كليو، إجهاضها جعل لديها حالة حنان فائض حساسة اتجاه الأطفال، مدفوعةً بذنب تمنيها فقدان أبنتها، لذلك فاندفعت بطريقة جنونية رغم عدم إتقانها السباحة لإنقاذ طفلي العائلة من الغرق حتى ولو خاطرت بحياتها، خسارتها لرضيعها جعل له الفضل بإنقاذ حياة طفلين آخرين .
يرتبط العمل أيضاً بمشروعه الآخر الذي عبّر عنه بجلاء برائعته Y Tu Mamá También عن حالة التناقضات في المجتمع المكسيكي والنفاق والتشوه الاجتماعي الذي يعيشه، يجعل من العائلة صورة مصغرة عن المكسيك المكونة من عناصر متناقضة وتعيش بطريقة مركبة هشّة رغم شكلها الاجتماعي الظاهري البرّاق، يتسع فيما بعد ليجول عبر المكسيك ويعطي للتناقض والتشوه بالمجتمع المكسيكي صورة أعم، يرينا صورتين متناقضتين لمجتمعين متلاصقين ولكن منفصلين كالماء والزيت، مجتمع على السطح ومجتمع تحت الأرض، حين يدخل إلى الريف يرينا الشكل الحقيقي غير الظاهر للمدينة عن الفقر والجوع والإهمال والجهل والظلم، حوارات عديدة جانبية عن الصراع الخفي بين الطبقة البرجوازية والفلاحيين والذي يوشك أن ينفجر والجميع يتجاهله، يحصل حريق في الغابة لا أحد يعرف حقيقة مصدره، ولا يهرع أحد من الفلاحيين ليطفئ النار، يتخلون عن البرجوازيين الذين يتكفلون لوحدهم بإطفاء الحريق، وخلال الحريق يتجول شخص يرتدي زي لوحش أسطوري ينظر بعين حذرة متنبئة بالخطر وينشد أنشودة دينية تحوي لهجة خوف وإنذار وطلب مغفرة من القادم.
صحيح إن كوارون يضع كليو بمقدمة الحدث ويجعل باقي الأحداث هامشية ولكن لا يقدمها منقوصة، قصة العائلة وأزمتها مقدمة بطريقة وافية، وكذلك الحدث السياسي مع صعود ألفاريز في بداية السبعينات يرمي بظلاله على الأحداث بطريقة تصاعدية ويدخل بصلبها ويؤثر بها بطريقة ذكية جداً غير مفتعلة، يجعل من كليو وعائلة أسيادها مرآة لمعاناة المكسيك وحصيلة تشوهاته وضحيتها، هذا التوازن العظيم وتداخله بطريقة دقيقة هو ما يعطي للعمل قيمته، حتى إن خط انهيار العائلة لا يبدو مجرد خط موازي يسير إلى جانب خط كليو فقط، بل يكمل الحدث ويربط بينهما كوارون بطريقة مبهرة، في أحد أهم مشاهد العمل تتجرد السيدة صوفيا من ثوبها البرجوازي وتعود لحقيقتها امرأة وحيدة مجروحة، وتخاطب كليو بهذه الصفة وتقول لها (إننا النساء سنبقى دوماً وحيدات)، هذا المشهد وتكامله مع المحاور التي بدأ بها يعطي كوارون فيلمه هوية نسوية جميلة، عن النساء المتروكات الوحيدات اللواتي يواجهن العالم لوحدهنً، فعلاً بالعمل لا يوجد بطولة حقيقية لرجل راشد، الرجل مغيّب والنساء لوحدهن هن اللواتي يعتنين بالعائلة ويحافظن على توازنها ويتحملن ضريبة ما يفعله الرجل وأخطائه.
يدور الفيلم عن كليو والعائلة والريف والمكسيك وألفاريز والاضطراب السياسي والتركيبة الاجتماعية، ثم يعود إلى كوارون نفسه، كوارون أو تيتو هو بوصلة الفيلم، كل ما نراه يدور بالحقيقة عنه هو، الأمور التي شكلت شخصيته وآثرت في طفولته، والدته، والده وسيارته، جدته، أخوته، كليو، الوضع السياسي، الألعاب التي لعبها، الأفلام التي شاهدها، المنزل الذي عاش فيه، الرحلات التي ذهب بها، كلها أمور صنعت كوارون الذي نعرفه، بدايةً من نبوغ خياله بسن مبكر والقصص التي يرويها عن حيوات قديمة يتخيل أنه عاشها، طفل بهذا الخيال المتقد يستقبل الأحداث حوله بعين مختلفة عن غيره، ويعالجها عقله بطريقة مختلفة، استغراقه بتفصيل التناقضات المجتمعية وحالة النفاق في المجتمع المكسيكي في عمله هذا تصل لدرجة تجعل من Y Tu Mamá También تتمة له، يبدأ ذاك حين ينتهي روما، وحين يتحدث تيتو عن مشاهدته للطفل الذي قتله العسكريين في الشارع وأنفجار رأسه لا نستطيع سوى أن نتذكر مشهد انفجار رأس جوليان مور في أطفال الرجال، وحين نرى كيلو تركض وهي حامل مع السيدة العجوز في المشفى تحت ضربات الرصاص نتذكر كلايف أوين وهو يهرب مع الطفل الرضيع تحت ظلال المعركة في أطفال الرجال أيضاً، الطفل الذي مات في روما نتيجة الفوضى السياسية في المكسيك، يحيه كوارون في أطفال الرجال ويجعله وسيلة لإنهاء الصراع حول العالم، أفلام الفضاء التي ذاع صيتها في نهاية الستينات وبداية السبعينات شكلت البذرة الأولى لمشروع غرافتي ويؤكد كوارون على ذلك بطريقة مباشرة، وقوة الترابط العائلي الذي نشأ عليه كوارون بقيت موجودة معه حتى بحياته السينمائية، لذلك ليس من المستغرب أن يكون أخاه كارلوس شريكه بكتابة Y Tu Mamá También وأبنه يوناس شريكه بكتابة غرافيتي، وعلاقاته بشركائه أليخاندرو كونزاليس وغيلرمو ديل تورو و إمانويل لابوزكي وغايل غارسيا برنل مستمرة لليوم منذ أكثر من عقدين بنفس القوة وأهدى لهم العمل.
هذا الفيلم تحفة سينمائية متكاملة، قطعة فنية كلاسيكية، رواية مكتوبة بالكاميرا، عظيم على صعيد السيناريو والتصوير والمونتاج والأجواء المكانية والزمانية وتفاصيلها وأصوات البيئة، مبهر بالآداءات التمثيلية من طاقم تمثيلي غير محترف، فيلم مصالحة مع الماضي ومشاكله وذكرياته ومحاولة فهم لماذا غرقت البلاد في فوضى سياسة السبعينات، فيلم انتصار لكل المهمشين والمنسيين ومعاناتهم ومحاولة تقديم اعتذار لهم وتحية لجهودهم ومأساتهم التي لم يشعر بها أحد، ينهي فيلمه على السطح، بلقطة واسعة للسماء المفتوحة وطائرة تخترق الأجواء مجدداً، أنهى رحلته بالانتقال العامودي من الأرض للسماء، كل شيء أختلف على الأرض ولكن السماء لم تتغير ولن تتغير، والرحلة ستبقى مستمرة بلا نهاية، القصة لم تنتهي هنا ولم تبدأ حتى هنا، هي فقط قطعة من الحياة أطرها كوارون بشريط سينمائي، هي المرحلة التي أثرت فيه بشكل بالغ ولكن هي ليست الوحيدة، هي نهاية مرحلة ولكن انطلاقة لمراحل أخرى ولتطورات وتغيرات لن تنتهي يوماً .
10/10

tag

Cold War – 2018




الفيلم الذي أكسب البولندي بافل بافيلكوفسكي جائزة أفضل مخرج في كان – سبق له وأن نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن Ida 2014 – هو قراءة استثنائية للحرب الباردة وصراع الشرق والغرب من نهاية الأربعينيات حتى أواسط الستينيات، لا يهتم بالتفاصيل السياسية بقدر ما يهتم بتأثير ذلك النزاع على الحياة الداخلية للشخوص ونفسياتها وأحلامها، شخصيتا زولا وفيكتور هما حصيلة التناقض وضياع الهوية والاغتراب الذاتي الذي سببه ذلك النزاع الدولي و انعكاس لحالة مجتمع بولندا بأكمله.

بافيلكوفسكي يفتتح فيلمه في الريف البولندي عشية الحرب الكونية، فرقة مسرحية تجري منافسة لاختيار أفضل المغنيين الشعبيين للمشاركة بعرض مسرحي فلكلوري بولندي، يعطيك ملامح بلد هدته الحرب ويحاول الوقوف على قدميه مجدداً وأحياء الروح القومية بسكانه من خلال العودة للجذور حتى يستطيع أن ينهض، ولكن وقوعه ضحية الصراع الكوني البارد يعيقه باستمرار، الجو السياسي يفرض نفسه على الفيلم منذ البداية وبافيلكوفسكي يعرف كيف يعبر عنه برمزية قوية، أحد منظمي المسابقة يقف أمام بيت أحد الاقطاعيين السابقين ويشرح للفلاحيين البسطاء إن هذا المنزل أصبح منزل الشعب ولكن لن يدخله سوى النخبة الفائزين بالمسابقة، تعبير ذكي جداً عن حالة التحول بعد سيطرة المد الشيوعي على بولندا، غابت طبقة النخبة الارستقراطية وحلت بدلاً عنها النخبة الشيوعية بقوانينها الخاصة التي لم تختلف سوى بظاهرها عن قوانين التفوق الرأسمالية وبقيت العدالة والمساواة فيها غائبة، وفي مشهد آخر وبعد نجاح الفرقة يتدخل الحزب الشيوعي ليحول عمل الفرقة من أحياء للتراث البولندي إلى أداة إعلامية للحلف الشرقي طامسةً تماماً الهوية البولندية ومتحكمةً باهتمامات الشعب وولاءه وطموحاته.
شخصية زولا هي تعبير عن الجيل الذي نشأ في ظل سطوع الشيوعية، فيها شيء من الموهبة والكثير من الوصولية، هي أبنة زمانها، تعرف كيف تستغل إحدى المتسابقات لتفوز بالمسابقة، وتغوي فيكتور لتقوي مركزها، ولكن العلاقة بينهما تأخذ منحى حب حقيقي، زولا بماضيها المربك تجد بالشيوعية سبيل لتبدأ من جديد، ولا تمانع من القيام بأي شيء لكي تنجح حتى ولو اضطرت للتجسس على حبيبها، فيكتور شيء آخر، لم يعد يستحمل التدخلات الحكومية بفنه ووصول الأمر لحد مراقبته فقرر الهرب بصحبة زولا، هي خذلته ولم تهرب، لم تكن على استعداد بعد أن لمست النجاح أن تبدأ من الصفر، تغلبت على عاطفتها وتخلت عن فيكتور بعد أن غدا غير مفيد واتجهت لغيره لتصنع مجدها، ثم لحقت به لاحقاً بطريقة أمنة وقانونية محافظةً على خط الرجعة، ولا يحدث ذلك إلا بعد أن بدأ فيكتور يعود للسطوع مجدداً في فرنسا ويصبح قادراً على الأخذ بيدها من جديد.
في باريس يقدم بافيلكوفسكي نظرة غير اعتيادية للمعسكر الغربي وللحالة البولنديين بعد الهرب إلى هناك، هم لم يعثروا على الراحة والهدوء والنعيم الذي توقعوه، فيكتور أصبح شخص آخر، حر ولكن مهلهل وضعيف وخابي النجم مجرد موسيقي اعتيادي يتملق النخبة المثقفة، العلاقة بينه وبين زولا انهارت وكان من المتوقع جداً لشخصية وصولية أن تعود إلى مكان نجوميتها الأصلي زولا في فرنسا تكتشف أن عليها أن تقوم بكل ما قامت به سابقا في بولندا حتى تحظى بالنجومية التي تركتها، عليها أن تبدأ من الصفر، أن تضع ماضيها المخجل تحت الأضواء، أن تنافق وتبيع جسدها، تكرار هذا النمط يجعل الحياة غير قابلة للاحتمال فتعود بعد أن أدركت إن ما تسعى إليه غير موجود.
الفيلم يقدم حالة حب جميلة جداً، يلعب بمنطقة بين تصوراتنا عن الحب وحقيقته، فيكتور أحب زولا حب حقيقي وانتظرها ولحقها وفعل كل شيء لأجلها، زولا أمر اخر، مشاعرها مختلطة، بدايةً باستغلال الفنان للنجاح، ثم الافتتان به وشهرته وتكوين ما يشبه الحب، حب كان قوي جداً في البعد بسبب حالة من تأنيب الضمير عند زولا و حنين للوطن عند فيكتور، حين اللقاء لا يمنح القدر العاشقين الحياة المثالية التي توقعاها، الحياة قاسية جداً، في الوصال وزوال أضواء الشهرة بانت عيوب الشخصيات لبعضهما، انخلع عنهم القناع وبانت وجوههم الحقيقية، فيكتور لم يعد جذاباً بالنسبة لزولا ولم تحظى هي بالحياة التي حلمت بها، وفيكتور كشف وصولية زولا وقسوتها، ذكرته بقسوة الوطن الذي هرب منه، لم تعد تلك الفتاة المثالية كما ظهرت له حين كانت تتودد له لتصعد على الشهرة لأنه لم يعد قادراً على أن يقدم لها شيء، وبعد الفراق عاد الحب مجدداً، فيكتور ضحى بكل شيء ليعود إليها – إلى وطنه – ربما يحظيان بالسعادة التي تاقا إليها، الذنب عاد يوقد مشاعر الحب لدى زولا بعد أن لمست مدى صدق مشاعر فيكتور وإلى أي مدى مستعد أن يضحي لأجلها.
بافيلكوفسكي ساحر هنا بصورته، الأبيض والأسود وهدوء المكان الذي صنع لإيدا جواً عظيماً يعيد استخدامه هنا بنفس التألق، يجعل فيلمه قطعة كلاسيكية هاربة من حقبة الحرب الباردة، استخدام الظلال والنور وزواية التصوير ومزاوجتها بالمشاهد المسرحية صنع لوحات جمالية أخاذة مع حركة كاميرا هادئة بسيطة، بافيلكوفسكي يصنع عملاً مبهج جداً للعين بأكثر الوسائل السينمائية أصالة وكلاسيكية، يعطيه جو المكان وعاطفة العلاقة، مع مونتاج مميز، تصميم كلاسيكي للأماكن، وأداءات جبارة من جوانا كويلايغ وتوماسز كوت ، وشريط صوت من أجمل ما يكون. 
الموسيقى في الفيلم تلعب دور البطولة الرئيسي، هناك تعبير عظيم عن الزمن وتبدلاته من خلال الموسيقى، يبدأ بموسيقى شعبية بولندية تتحول إلى دعاية إيديولوجية للنظام الشيوعي، ثم تأتي مرحلة ويطغى الفلكلور الروسي على البولندي وتدخل لاحقاً موسيقى أمريكا اللاتينية في فترة صعود المد الشيوعي هناك مع كاسترو وتشي غيفارا، على نفس المستوى يصنع الجو الموسيقي في فرنسا، بدءً من الجاز والكلاسيكي ثم ملامح التحول نحو الروك في نهاية الخمسينيات، الجو الموسيقي للعمل مبهر جداً، تشكيلة عذبة من الألحان الموسيقية من مختلف الثقافات واللعب على ثيمة معينة لأغنية روسيا شهيرة لتحويلها من غناء الكورال إلى الكلاسيكي بالبولندي والفرنسي.
نهاية الفيلم فيها دعوة للعودة إلى الجذور، بولندا من خلال شخصيتا فيكتور وزولا بلد ضاعت هويته بين شرق وغرب، لم يعرف السعادة هنا ولا هناك، و لم يبقى منه شيء سوى أطلال، قسوة السياسة دمرته وطمرت بقاياه، تركته مشوه وفارغ، وبقيت الشخصيات تبحث عن مكان أفضل لترى منه الأمور بشكل أجمل بشكل صحيح كما كانت مسبقاً.

Never Look Away – 2018




الشريط الثالث لصائغ التحفة Life of Others الألماني فلوريان هانكيل فون دونرسمارك يعيده إلى الطريق الصحيح بعد انحرافة هوليوودية مزعجة عام 2010 بفيلم السائح، فيلمه هذا (لا تنظر بعيداً) الممدوح في مهرجان فينيسيا والمرشح لجائزتي أوسكار كأفضل فيلم أجنبي وأفضل تصوير، يعود به للخصوصية الألمانية التي ميّزت رائعته الأولى، عمل مستوحى من سيرة الرسام والفنان التجريبي الألماني جيرارد ريختر (الذي لم يرضيه العمل) يمتد على مدى ثلاث عقود، مع صعود الرايخ الثالث وحتى منتصف ستينات القرن الماضي، يلعب على عدة طبقات صعبة مترابطة بعناية، مزدحم جداً ومليء بما يريد دونرسمارك قوله، يبدو هذا الازدحام أحياناً مضراً للعمل وعلى وشك أن يطيح به وكأن صانعه يمشي بين حقل ألغام، قد يكون غير مرض للبعض وقد يكون للبعض الأخر سبب تميزه، ولكن من منظوري العمل استطاع النجاة وخرج بصورة مبهرة، طويل وبعيد عن الاستعجال ولكن دون حشو، ممتلئ بالمحاور ولكن مترابط بطريقة قريبة جداً للممتاز، عاطفي جداً في نهايته ولكن دون استبكاء.
العمل مقسم إلى ثلاث أقسام أو ثلاث فترات زمنية، حتى ضمن وقت العمل يلتزم بهذا التقسيم، يحافظ على إيقاعه بطريقة ممتازة بالأخص بالقسم الثاني، منذ مشهده الأول يطرح قضيته الرئيسية عن ارتهان الفن بيد السلطة وتحوله إلى أحد ضحاياها، هذا المحور يعطيه دونرسمارك حقه الكامل، يجعله تعبير عن الحرية الفردية المفتقدة في ظل الأنظمة القمعية، الفن يمكن أسره بكل مكان ولكن سيبقى طليقاً داخل روح الفنان وسيقوده للتحرر وسيحرر معه المجتمع، يجعل العمل مع تقدمه يحمل عدة وجه للصراع، صراع الفنان مع محيطه وصراع في داخله بين ما يريده وبين ما يفرض عليه.

القسم الأول في ظل الحقبة النازية لا يذهب للمألوف حول ما أعادت السينما انتاجه مراراً وتكراراً حتى سئمناه عن الهولوكوست اليهودي، يصور لنا جانباً أخر لم تعتني به السينما كثيراً، عن التصفية الجينية داخل المجتمع الألماني نفسه، استغلال الطب والعلم بطريقة وحشية لصنع مجتمع مثالي، عن الجريمة التي حلّت بأصحاب الإعاقات والمرضى العقليين والنفسيين، يحاول بذكاء أن يشرح وجهة نظر العقلية النازية دون أن يبررها أو يقع بفخ نقاشاتها الفلسفية، في نفس الوقت يدخل بعمق المجتمع الألماني، ينتفض ضد عقدة الذنب التاريخية ليصور إن كل المجتمع كان ضحايا بشكل أو بآخر، الخوف والتضليل والإجبار الذي حول جزء كبير من المجتمع الألماني إلى الفريق النازي دون أن يكون مؤمناً بالضرورة بهذا الفكر، جيل بكامله دفع هذا الثمن مات لسبب رخيص في معركة ليست معركته أو ضحية قصف مجنون لم يميز النازي عن الألماني العادي وبين العسكري والمدني، وذهب بذكريات وأحلام وطموحات وآمال مجتمع بأكمله، ولا ينكر وجود شخصيات كانت فعلاً مؤمنة بهذا الفكر وغرقت به وأغرقت معها المجتمع بأكلمه.
هذه الحقبة يصورها من خلال عيون بطله (كورت) وهو بسن الطفولة، يبدو هنا يلعب على طبقة ثانية، عن الذكريات والأحداث التي نلتقطها بطفولتنا وتبقى ملامحها معنى وتشكل شخصيتنا، معالجة الأمور ضمن نظرة طفل وروح الفنان بداخله، ما رآه كورت في تلك الفترة يبدو مهماً جداً ويتم استعادته وإعادة انتاجه في الفترة اللاحقة بطريقة ذكية جداً بالأخص بالقسم الثالث من العمل، يجعله في نفس الوقت مرثية للطفولة التي تجبر على أن تنشئ مشوهة في واقع وحشي كتلك الفترة.
القسم الثاني مع نهاية الحرب وتقسيم ألمانيا لشرقية وغربية والحرب الباردة، يعود بها دونرسمارك لمسرحه الذي أبدع به بحياة الآخرين عن الحياة ضمن سجن الاشتراكية الكبير بنفس العناصر التي أبدع بها سابقاً، أزمة الفنان في حياة واقعة دوماً تحت المراقبة ضمن روح التشويق هتشكوكية ممتازة، الذكاء أنه لا يكرر نفسه، يهتم بالدرجة الأولى بانعكاسات المرحلة السابقة على هذه المرحلة، شيء من السخرية القدرية أو المرثية الإنسانية التي جعلت الأشخاص الشرفاء الذين رفضوا النازية يدفعون ثمنها لمجرد انتماء على ورقة فرض عليهم توقيعها، بينما النازيين والمجرمين الحقيقيين لم ينجوا فقط بل أعادوا انتاج نفسهم في مختلف المجتمعات التي هربوا لها، تبدوا هنا حالة انعدام يئس حقيقية من العالم تسود على الأجواء، النازية لم تنتهي أصبح لها أشكال وأدوار جديدة، وما زالت تحت الستار تمارس نفس إجرامها السابق، مهما حاولت الشخصيات الهروب ستبقى تحت طغيانها في أي مكان حلّت به، كما في المرحلة النازية تبدو الشخصيات مضطرة لتتبنى أفكار ومعتقدات لا تؤمن بها وربما تدفع ثمنها لاحقاً، كورت هنا في مرحلة بين المراهقة والشباب يجد نفسه لا يعيد فقط تكرار أخطاء الجيل السابق الذي صمت في وجه صعود النازية، بل هو دون أن يشعر يكاد يتحول لنسخة عن الطغاة الذين سببوا تلك الكوارث، في مرحلة مفصلية يقرر أن ينتفض، أن يهرب ولا يخضع لهذا الخيار بين أن يكون ضحية أو جلاداً.
هروب كورت لألمانيا الغربية – في القسم الثالث من العمل - لا يقدم له الخلاص بالضرورة ، فميراثه سيلاحقه حتى فيما تخيله مجتمع حر، هناك لا تبدو الأمور أفضل بكثير، ولكن الهامش الضئيل للحرية الوهمية في ألمانيا الغربية يساعده على أن يتحرك لينظر نفسه وماضيه مجدداً، ليدرك إن الإبداع لا يأتي فقط من حرية المجتمع بل من حريته الشخصية من ذكرياته وعقد ماضيه والصور الباطنية في خياله، ، جاعلاً دونرسمارك من الحرية الفنية – بما تعنيه من حرية ذاتية من كل قيد – ليست فقط سبيل للتخلص من كل ذلك الميراث الأسود ومن العقلية القمعية التي يرزخ المجتمع تحت وطئتها، بل سبيلاً لإنصاف الضحايا المنسيين في تلك الحرب وعقاباً للجلادين الذين أفلتوا واستمروا بطريقة أو بأخرى بالتسويق لجرائمهم وتكرارها بصور مختلفة، القسم الأخير من العمل، وتحديداً فترة انتفاضة كورت الفنية مطولة جداً ولكن بغاية التكثيف العاطفي، يعزل كورت عن كل الشخصيات المحيطة التي رافقته بالعمل ويبقيها على خلفية الحدث والذاكرة كأشباحه الخاصة، يسجنه في مرسمه ليعثر داخله على الحرية، يجعل لعنوان الفيلم – لا تنظر بعيداً – معان بغاية الدرامية، لا تنظر بعيداً لتعثر على الإبداع، لا تنظر بعيداً لتعثر الحرية، لا تنظر بعيداً لتعثر على الانتقام والإنصاف والخلاص، الأمر موجود بداخلك، بشخصيتك بذكرياتك بماضيك بمخاوفك بهزائمك الشخصية وانتصاراتك، دعوة للعودة للنبش في الماضي ورفض كل ظلم والتصالح مع كل هزيمة ورغبة باستلهام القوة لصنع صورة جديدة وواقع جديد أفضل وأكثر انصافاً، تبدو تلك الفترة هي الأفضل بحياة كورت على كل الأصعدة وهي التي غيرته وجعلته يؤمن بوجود حياة أفضل في المستقبل، حياة تتحدى الموت وتكافح لتخرج للنور وتصرخ بوجه الماضي وتصنع غد أفضل.
دونرسمارك يضبط إيقاع العمل بطريقة مذهلة، يتصاعد الإيقاع بطريقة جبارة في القسم الثاني ويصل للذروة، روح هيتشكوكية عالية، أجواء ترقب وتلصص ومؤامرات خفية، شخصيات تجلس وتتبادل الابتسامات ولكنها تحمل جميعها أسرار تدين الآخر وتحتفظ بها للوقت المناسب، تبدو لعبة مرهقة، واقع صعب، يجعلنا نشعر طول الوقت إننا تحت المراقبة بين فكي الخطر، ربما ليس على مستوى عظمة ما قدمه سابقاً بهذا الخصوص في حياة الآخرين ولكن مقدم بطريقة ممتازة، لعبة الضوء والظلال والأماكن العاتمة مع الموسيقى يستغلها دونرسمارك لأقصاها ليصنع هذا الجو، اهتمام طوال العمل برمزية الأشياء واستغلال الجو الفني بالعمل لتحويل أي لوحة واقعية أو أي عمل فني تجريبي إلى رمز لشيء أو وسيلة لإيصال فكرة وأداة سردية خاصة.
مع لعبته البصرية المبهرة يستند دونرسمارك على بناء شخصيات قوي جداً ومستمر حتى اللحظة الأخيرة بالتفاعل والتصاعد متكئاً على أداءات صلبة من توم شيلنغ وسباستيان كوخ، كوخ الذي عمل سابقاً مع دونرسمارك في حياة الآخرين يقدم هنا أداء متوهج ومرعب جداً بدور البروفيسور كارل سيباند، له حضور طاغي، يسيطر على كل مشهد يظهر به، ويسرق العمل كاملاً في القسم الأول والثاني، لأجل ذلك شعرت بشيء من اختلال الإيقاع مع غيابه الطويل في القسم الثالث، رغم مجهود شيلنغ بأدائه الممتاز بالتعويض ودخول أوليفر ماسيوتشي بدور البورفيسور فون فيرتن بشخصية وأداء مبهرين ولكن دون وجود كوخ بقي هناك شيء من الخفة اختفت بعودته بتوقيت مناسب وعاد العمل ليصعد للذروة حتى الخاتمة .
(لا يكفي أن تكون إنساناً صالحاً لتنجو) ... فيلم لا تنظر بعيداً هو عن تلك العقدة والصراع المستمر بين القوة والفضيلة، الحرية والآسر، عن ذكريات الطفولة، عن النضوج، عن التمرد، عن ميراث الماضي، عن دور الفن، عن قوة الاختيار، عن الضحايا المنسيين، عن عبثية الواقع وجنون السياسة، ملحمة تمجد الحرية والإنسان والفن تربطهم سويةً برباط وثيق وتجعلهم تذكرة عبور لمستقبل أفضل.
10/10





مشاهدات سينمائية متنوعة


Aguirre, the Wrath of God - 1972
شخصية أغيري هي ربما الشخصية الأكثر دونكوشوتية التي شاهدتها، مزيج مرعب من الطموح اللامحدود والهوس بالذات والإيمان المطلق بالعظمة، مخلوط بالجنون الذي عبث بعقول مستكشفي القارة الجديدة وخيبة الأمل بانهيار كل الأساطير والأحلام الخيالية حولها وكأنه لعنة حاقت بهم جراء تدنيسهم تلك الأرض التي لم تدخر صعوبة إلا ورمتها بطريقهم.
فيلم فيرنر هيرزك هذا منهك جداً على الصعيد التقني والدرامي، من الواضح تأثيره على كوبولا و أوليفر ستون في القيامة الآن وبلاتون ومؤخراً على أناريتو في العائد، بل يبدو حتى أنه مرجع لأفلام الأكشن والرعب التي تدور في أجواء مشابهة من العزلة والحصار والخوف من المجهول والتضائل البشري أمام سلطان الطبيعة البدائية، تحديات التصوير والتقنيات تستحق الدراسة، الخلفية التي جاء منها الألماني هيرزك كمخرج أفلام وثائقية فادته جداً هنا، عمله فيه الكثير من التوثيق الطبيعي لهذه الرحلة التاريخية المتخلية، والاستعانة بالمذكرات أضاف روح صوت الراوي على العمل، وكله فاد بضخ مناخ واقعي حقيقي للعمل وصنع جو من الكابوسية يشعرك إن الرحلة فعلاً تدور بالجحيم، وإشعار المشاهد بوطئة القلق والخوف والإحباط المستمرين الذي خنق الشخصيات حتى قادها للجنون النهائي، بالأخص مع تعمده عدم عرض الهنود المهاجمين، فقط آثارهم، سهامهم، رماحهم، الجثث والأشلاء التي يخلفوها، الإحساس دوماً أنهم موجودين ويراقبون ما يجري وسينقضون بلا رحمة بأي لحظة.
شخصية أغيري – أداء عظيم من كلاوس كينسكي – ذكرتني جداً بشخصية همفري بوغارت في رائعة جون هيوستن كنز سيرا مادر، الطمع اللا محدود وعدم الثقة اللواتي يقودان للجنون، ولكن هنا ليس فقط طمع الذهب، كنوز الدورادو هي الدافع الأول وهي التي تحرك العمل، ولكن أهميتها بالنسبة لأغيري تتضائل أكثر وأكثر وينمو عوضاً عنها طموحاً أكبر بالعظمة، هذه العظمة هي الكنز الحقيقي الذي يريده أغيري والذي يتعاظم مع علو قيمته بمجتمعه المصغر حتى يبدو أنه لا يتسع له حدود، شيء من تجسيد طموح نبلاء أوروبا في العصور الوسطى لشن الحملات الصليبية لإنشاء ممالكهم الخاصة بالشرق، هنا نحن أمام حملة صليبية بكل معنى الكلمة، العامل الديني الذي يعطيها الشرعية، العامة الطامعين بالثروة، الفرسان والنبلاء الساعين للمجد، أوهام الثروة التي تنتظرهم، أغيري بدأ يشعر بقيمته منذ اللحظة التي أوعز بها لأحد مقاتليه بقصف جثث القتلى على القارب حتى يمنع قائد الحملة من المخاطرة للعودة لإنقاذهم حتى لا يتعرضوا لمخاطرة تعيق الرحلة، هنا أدرك قدرته على السيطرة على الرجال بتشجيعهم على المضي نحو طموحاتهم ولو كان ذلك على حساب أخلاقيات الشراكة أو الالتزام نحو المملكة الإسبانية، لذي يتطور معه الأمر ليقود تمرد على قائد الرحلة، ثم ليعلن الانفصال عن التاج الاسباني وتأسيس إمبراطورية خاصة، جو العزلة والابتعاد عن المركز والجرأة على فعل ما يفكر به الجميع من فظاعات ولا يجرؤن عن فعله يعطيان أغيري القدرة على التمادي بطموحه والإبحار بأحلامه لدرجة لا يعي فيها إلى أي حد كان يغرق بأوهامه ويضيع، حتى يصل لمرحلة ملك على لا شيء سوى على الجثث والقرود ويحلم بإمبراطورية وبعرق صافي هو أصله.
يرينا هيرزك في الخلفية صراع غريب من نوعه بين الرغبة بالنجاة والرغبة بالنجاح – سواء ذهب أو سلطة – وكيف يختلطان ببعض حتى لا يمكن تميزهما، التمرد يحصل حين يقرر القائد القديم العودة، المتمردين يريدون الاستمرار طمعاً بالذهب حتى ولو كلفهم الأمر حياتهم، ولكن مع الاستمرار يفقد الذهب إغراءه وتصبح النجاة هي الهدف ولكن لا يعودون، وفي نفس الوقت لا يجرؤن على النزول من القارب إلى اليابسة التي تحوي الذهب خوفاً من السكان الأصليين، يتابعون المضي هكذا في المجهول ونحو الفراغ بطريقة عبثية، وينتهون على القارب، ينعزلون عن العالم حتى يشكلون مجتمعهم الخاص المتداعي الذي يجعله هيرزك نافذته المصغرة ليلقي نظرة عن تشكل المجتمعات كيف يظهر القادة وكيف يتحولون إلى طغاة وكيف ينتهون .
أغيري يسمي نفسه غضب الرب، يعتبر نفسه المختار لخوض مهمة مقدسة لذلك كل ما يقوم به شرعي ومباح ولا يجوز مناقشته، ولكن غضب الرب هنا حقيقةً هو اللعنة التي انصبت على رؤوس أولئك المستكشفين، هيرزوك لا يوفر فرصة ليصور حجم الشر والوحشية التي حملها المستكشفين الأوروبيين إلى العالم الحديث باسم الرب، ليبدو ما يحل بهم أشبه بانتقام إلهي، يقدم لهم الفرصة تلو الأخرى للعودة والإنذارات والتحذيرات المستمرة ولكن لا يعبئون، يبليهم بكل العقوبات الإلهية من خلاف وطغيان وموت وخطر مترصد وجوع وإنهاك ومرض انتهاءً بالجنون، يبدو فيلم هيزوك بعيداً تماماً عن تمجيد جهود المستكشفين بترويض القارة الجديدة، بل هو هجومي جداً وفيه شيء من روح العبثية، ما الجدوى من كل هذا العناء؟ ماذا حققوا؟ أين هو الذهب والمجد والدعوة التي سعوا إليها؟ ما هي الحضارة التي أنشئوها؟ ما هي جذورها؟ المستكشفون لم يحملوا حضارة ولا تقدم، جاؤوا طامعين ونقلوا أمراض أوروبا والعالم القديم إلى العالم الحديث حتى العنصرية، رغم انغماس الفيلم بزمنه ولكن لا يمكن – على الأقل بالنسبة لي – فصله عن واقع الحضارة الأمريكية، هو ليس فقط دراسة للرحلة العبثية بل عودة للبحث عن جذور المرض، حضارة كانت هذه بداياتها وإرهاصاتها أصبحت اليوم المتحكمة على العالم لنفهم شكله اليوم ونستشف إلى أين سيصل، النهاية المريعة لأغيري هي ليست سوى تنبأ بالنهاية الكارثية التي تنتظر تلك الحضارة.


All That Jazz - 1979
شهد حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 1979 مفارقة بتنافس فيلمين فازا بسعفة كان على جائزة أفضل فيلم، تحفة كوبولا الحربية القيامة الآن الفائزة بسعفة كان عام 1979 مناصفة مع الألماني طبل الصفيح، وفيلم بوب فوس الميوزكال كل هذا الجاز الفائز بسعفة كان في دورة عام 1980 مناصفة مع تحفة كوروساوا كاغيموشا.
بوب فوس ربما هو أخر أساطير السينما الميوزكال الأمريكية حاز فيلمه الشهير كابريه على ثمان جوائز أوسكار منها أفضل إخراج رغم تواجد فيلم يدعى العراب عام 1972، فيلمه هذا يبدو تحية وداع أهداها للعالم قبل اعتزاله - أخرج بعده فقط فيلماً واحداً عام 1984 قبل وفاته عام 1987 - كما أنه يبدو أيضاً تحية وداع لسينما الميوزكال التي كانت تحتضر ثم خبا نجمها نهائياً رغم محاولات أفلام الديسكو التي قدمها جون ترافولتا وكيفين بيكون لأحياء هذا الفن أوالطفرات الحديثة من روب مارشل و تيم بيرتن وداميان شازيل ولكن بقيت كتحيات أكثر منها إعادة أحياء، فوس يبدو أنه كان يقرأ مصير هذا الفن الذي لم يعد مكان في ثورة هوليوود الجديدة فودعه بأفضل طريقة يمكن تقديمها.
هو عمل شديد الذاتية مستوحى من الحياة الخاصة لصانعه نفسها والعديد من الممثلين والممثلات فيه أدوا أدوارهم الحقيقية أو أدوار لشخصيات حقيقية عاصرها فوس، راودته فكرته أثناء أزمة قلبية داهمته وفيه الكثير من الاستلهام من تحفة فلليني 8\5 دون أن يكون محاكاة له أو ينفي هويته الخاصة، عظيم جداً وبأعلى درجات الإبهار السينمائي التي يمكن تخيلها.
رغم كونه ميوزكال واستعراضي ولكن أسلوب السرد فيه مختلف عن أي عمل من نفس التصنيف، عادةً في الميوزكال تقوم الاستعراضات برواية القصة وتحريكها ودفعها للأمام، هنا دور الاستعراضات مختلف، لا تروي القصة بالضرورة، أسلوب السرد لا يختلف عن أي فيلم روائي، الاستعراضات هنا يستخدمها فوس بطريقتين على هامش الحدث في البروفات والتحضير للعمل المسرحي والاستعراضي الضخم الذي يصنعه المخرج جون غيدين، وفي محاكاة جزء من مخاوفه وأفكاره وأحلامه وعالمه الخفي، النتيجة كانت عظيمة وشديدة الخصوصية في سينما الميوزكال، حافظت على جديته وواقعيته التي يتطلبها موضوعه شديد السوداوية ولم تنفي عنه الروح الفنتازية الساحرة وإبهار العروض الذي يتميز به هذا الصنف، بل كون العروض تجري في خيال غيدين وعالمه الذاتي فهذا افسح المجال للفنتازية لتنطلق بلا حدود ولتكون تعبير صادق عن العالم الداخلي للفنان المهووس بفنه لدرجة الجنون، الاستعراضات التي قدمها فوس هنا عظيمة جداً أسرة للعين والقلب و لها قدرة على أن تعلق بذاكرة المشاهد وناجحة بشرح صراعات الشخصية.
هو فيلم عظيم عن الرجل وهو يواجه الموت ويعيد الحسابات بماضيه وعالمه وخياراته الخاطئة، فشله كرجل لم يستطع تكوين عائلة أو علاقة وحيدة ناجحة لا يسمح لنجاحه كفنان بأن يعطيه الرضا، نجاحاته الفنية تبدو لا شيء أمام فشله الإنساني، من ناحية أخرى هو عن هووس الفنان بالكامل وصراعه مع الموت ومحاولته لقهره والخلود من خلال الفن، محاولته للوصول للألوهية من خلال الفن الذي يجعله غير راض عن إنجازاته الفنية مهما كانت عظيمة لأنها لا تحاكي الكمال الذي ينشده ويجعله دوماً عرضة نقده الذاتي وحساس اتجاه أي نقض خارجي.
في نفس الوقت هو فيلم عن صعوبة العمل الاستعراضي، عن الجهد والتعب والإنهاك والسهر والعرق وفقدان الثقة بالنفس وتحدي الذات وضغوطات المنتجين وشراسة المنافسين وعدم رحمة الجمهور، فيلم من دواخل الفنان عن قسوة الفن وجحيم عالم الفنان الذاتي، يجعلك تفكر بكم الصعوبة المبذولة قبل أن نشاهد عملاً فنياً أو مسرحياً لدرجة إن موقع التصوير ربما يتحول إلى ما يشبه الجحيم وفي نفس الوقت يجعلك تلمس حجم اللذة والحب التي يعيشها الفنان وهو يصنع عمله لدرجة تجعله مخدراً ومتقبلاً للآلم كفراشة يأسرها ضوء النار رغم إدراكها أنه سيحرقها.
الفيلم من بطولة أحد نجوم السبعينات روي شايدر (الاتصال الفرنسي و رجل الماراثون وفكاك) وقدم فيه أداء عظيم جداً ومنهك نال عنه ترشيح للأوسكار خسره لصالح الأسطورة داستين هوفمان (شريكه بفيلم رجل الماراثون والذي كان من المفترض أن يشارك بدور شرفي بالعمل بشخصيته الحقيقية كونه عمل مع فاوس في فيلم ليني) الفيلم أطلق نجومية جيسكا لانغ بظهورها الملائكي المثالي كهاجس فاوس نحو الكمال المحتجب الذي لا يستطيع ملامسته ويعذبه.
10\10


Alphaville - 1965
لم اشاهد الكثير لغودار ولكن بين ما شاهدته هذا الأصعب وربما الأميز، في الفيلم الفائز بدب برلين الذهبي يدخل جان لوك غودار منطقة الخيال العلمي بأسلوبيته الخاصة وضمن مشروعه الخاص يمزجه بالنوار وقصص الجاسوسية، لم يهتم - كعادته - بتقاليد الصنف، جرد الفيلم من كل المؤثرات البصرية أو المميز بالمكياج والأزياء والديكور، اهتم بالعمل على التفاصيل الدقيقة التي حولت الاعتيادي إلى لا اعتيادي وصنع صورة متكاملة لعالم خيالي مستقبلي لدرجة يصلح معها أن يكون الفيلم مرجعيا" بهذا المجال.
الفيلم خيالي وتنبؤي بنفس الوقت واليوم يبدو على صوابية كبيرة بما حذر منه، يلقي نظرة قلقة على ضياع الروح الإنسانية و الاستغناء عن الفنون والآداب لصالح تفاقم الاعتماد على التكنولوجية وتطورها المتسارع وهيمنتها على الحياة المعاصرة، نظرة على تفاقم الشيفونية والديكتاتورية والهيمنة الشمولية بمختلف أنواعها على مختلف المجتمعات بمختلف أنواعها وانتمائتها وضياع الروح الفردية وتقييد الحريات وتصاعد حمى التسلح وتطور السلاح بطريقة مخيفة جدا" تكاد تطيح بالبشرية.
غودار يعامل المشاهد كالسائح كشخصيته الرئيسية ليمي كاوتن يدخله من عالم خارجي إلى عالم ألفافيل دون معلومات مسبقة عنه ويجعله يكتشفه ويشكل عنه انطباعاته ونظرته ويتفاعل معه، يغني فيلمه بالكثير من الصور واللقطات التصويرية المبهرة وحوارات بغاية التعقيد وشريط صوتي ممتاز جدا" بالأخص صوت الكمبيوتر ألفا60 ، افتتاحية العمل بصورتين تمثل نهاية الحروب وحلول السلام أسلوب عظيم من غودار لشرح هوية العالم المستقبلي بأكثر الطرق سينمائية ثم يسخر من السلام حين يرينا أنه حين يبنى على القمع وخنق الروح البشرية لن يدوم، ومهما تعاظمت القوة التقنية فستبقى الفطرية الإنسانية أقوى وستنتصر بالنهاية.

Hunger - 2008
من وصف فيلم ستيف مكوين الشهير 12 سنة عبد بأنه قاسي لدرجة السادية فهو بالتأكيد لم يشاهد عمله هذا، فيلمه الطويل الأول الذي جاء بعد أكثر من عقد في صنع الأفلام القصيرة والأغاني المصورة جاء كإعلان مشروعه الخاص بتقديم قصة نزاع الإنسان في ظروف غير طبيعية وربطها بقضايا أكثر عمومية وشمولا (النضال السياسي في السجون والكفاح لإستقلال ايرلندا في الثمانينات، إدمان الجنس والإغتراب في الحياة المعاصرة، العبودية وواقع الرق في أمريكا القرن التاسع عشر)
مكوين هنا يقدم قصة حقيقية عن السجين السياسي بوبي ساندز الذي خاض إضراب مفتوح في سبيل استقلال إيرلندا في السجون البريطانية عام 1980 زمن تيتشر انتهى بوفاته، مكوين لا يجعل فيلمه سيرة ذاتية تقليدية، يحرر فيلمه من النمط وشروط الصنف، الشخصية الرئيسية لا تظهر لبعد مضي ثلث العمل، يبدأ عمله بداية مطولة وقاسية جدا عن واقع النضال السياسي في السجون ضمن ما دعي بحركة عدم الاغتسال التي استمرت أربع سنوات، بداية عنيفة مرهقة تظهر كم كان النضال مرهقا نفسيا وبدنيا للسجان كما كان مرهقا للسجين، ويعطي لمحات بسيطة عن تفاصيل نفسية وإنسانية للمعتقلين، مكوين لا يشرح شخصياته ولا يبني لها كاريكتارات خاصة، يتركها بالعموميات أغلب الوقت جاعلا منها أقرب للمشاهد إنسانيا بدون أن يقيدها بصفات خاصة أو خلفية درامية محددة، والأمر ينجح معه بدرجة كبيرة دون أن ينجر نحو إثارة التعاطف المفتعل بتفاصيل لن تهم، الواقع الذي يعيشه المعتقلون هو ما يهمنا كمشاهدين وهو ما يربطنا مع الشخصيات ويجعلنا نتعاطف ونتفاعل معها وأي شيء أخر حتى القضية نفسها يتركه مكوين على الهامش وفي خلفية الحدث ولا يبدو ذات أهمية.
من هذا التمهيد الذي يأخذ أكثر من ثلث العمل يضيق مكوين الصورة من عموم المعتقلين إلى بوبي الذي يبدو مثله مثل أي سجين لا يختلف عنهم، وقبل أن يتجه الفيلم في الثلث الآخير نحو الحدث الأهم وهو الإضراب يعطي مكوين الشخصية مساحتها الكاملة للتعبير عن نفسها وأفكارها من خلال حوار مطول مع أحد رجال الدين، الحوار الأطول في عمل أعتمد أغلبه على الصمت والصورة جاء بمكانه الصحيح و يجبرنا على أن نتسائل هل قرار بوبي سببه لوثة جنون أصابته نتيجة الاعتقال الطويل؟ رغبة ذاتية بالعظمة وتحقيق المجد من خلال الصلب (بوبي بالأصل رجل دين أيضا)؟، أم إنه إيمان حقيقي لا يمكن زعزعته بالقضية وحرية إيرلندا؟، أم هي الأمور الثلاثة مجتمعة؟، بينما يبدو رجل الدين ناطق بلسان المشاهد فيتسائل هل الأمر يستحق كل هذه التضحية؟، ألا يوجد بدائل أخرى؟، هل الإضراب سيحقق فعلا النصر أم إنه سيذهب بجهود نضالهم أدراج الرياح؟ ألا يوجد حل سوى بالحلول القطعية الموت أو النصر؟، ألا يمكن للتسويات وأنصاف الحلول أن تكون نتيجة مرضية؟.
مرحلة الإضراب هي الأكثر هدوءا في العمل والأقسى في نفس الوقت، مايكل فاسبندر يعطي نفسه كاملا في الدور، يبذل مجهود إعجازي بدنيا ونفسيا ويقدم أداء متوهج ومؤلم جدا كان له الفضل بانطلاقته الصاروخية التي توجها مع مكوين مرتين بفوزه بأفضل ممثل في فينيسا عن فيلم عار 2011 ونيل ترشيحه الأول للأوسكار عن فيلم 12 سنة عبد 2013 .
كاميرا مكوين وصورته هي نجمة العمل، اللغة البصرية التي يتبعها أخاذة، بعيدا عن الحوار بعيدا عن دراسة الشخصيات والدراما النمطية، يهتم بتجسيد الحدث بقسوته بلا رتوش وبواقعية بالغة وقاسية لدرجة تشعر معها بالاختناق والتوتر النفسي طوال فترة العمل، هنا انجاز تصويري مبهر جدا منبعث من روح المكان وواقعه من حيث الألوان والأجواء الكئيبة الداكنة والهروب منها للحظات بأختيار زواية تصوير بغاية الجمالية دون أن تعطب روح العمل، عمله هذا مثل عمليه اللاحقين عبارة عن مواقف ومشاهد متتالية بلا خط درامي يصعد ويهبط ويتطور ويتفاعل سوى بالحد الأدنى ولكن مرصوفة بعناية بمونتاج أنيق جدا، فيه الكثير من روح التوثيق والكثير من روح السينما القصيرة المعتمدة على الإختزال وتقديم زبدة الحدث بلا إضافات، رغم ذلك الأمور أفلتت قليلا منه، بعض الإضافات الدرامية لم يكن لها داع أبدا لا أعرف لما وضعها كمشهد أغتيال الضابط بالذات، كان يمكن الاستغناء عنه لأنها لم تقدم شيء للعمل وغيابها لم يكن ليؤثر.



ضمن تظاهرة سينما الأخوة (Bro) عرض نادي ATLC الفيلم الإيطالي الفائز بسعفة كان عام 1977 (Padre padrone) للمخرجين باولو وفيتوريو تافاني، دار عقبه نقاش بإشراف منظما التظاهرة الصديقان فراس محمد و سليم صباغ، الفيلم المعنون بالعربية (أبي ، سيدي) أحد أفضل الأفلام التي مزجت بين دراسة البيئة والنضوج وتشريح علاقة الأب والأبن، يبدأ الفيلم بأسلوب كسر الحاجز الرابع مع ظهور كاتب الكتاب المقتبس عنه الفيلم عالم اللغات الذي يتحدث الفيلم عن قصته خروجه من الريف الإيطالي وتمرده على سلطة أبيه ليحقق ذاته وحلمه بالتعلم بعد أن قضى حياته بالأمية ثم يعود ليتصالح مع بيئته، الفيلم تعامل مع الريف الإيطالي والبيئة بطريقة غير تقليدية، بعيداً كل البعد عن النستولوجية والحب وتمجيد جماليات الريف نحو تسليط الضوء على كل ما هو قاسي ومتعب ومحبط و بشع في حياة الريف، ولكنه مع ذلك لا يهاجم الريف والبيئة الريفية كبيئة بقدر ما يهاجم الجهل والفقر والعادات السيئة المتوارثة والتي جعلت البيئة مكان على هامش الزمان والحضارة ويطبع شخوصه بقسوته وتخلفه ويجعله جزء من تكوينهم ويحولهم إلى أسرى البيئة وبحاجة شديدة للتحرر، يصر الأخوان تافاني منذ المشهد على أن الجهل والفقر هو سبب انحطاط البيئة والخلاص منه بالعلم والتحرر والشرارة تبدأ بالموسيقى ولا يجعل السبيل لذلك هيناً.
الفيلم جريء ومبدع برسم تفاصيل البيئة وشخوصها مع لمسة كوميدية محببة عودتنا عليها الواقعية الطليانية، شخصية الأب متقنة جداً بعيدة عن أحادية التكوين بجعلها مجرد شخصية مهووسة بالسلطة والتحكم، هو مع هوسه بالتحكم بحياة عائلته شخص مهووس بمستقبلهم وانتشالهم من الفقر وتأمين مستقبلهم ولا يعرف سوى طريق وحيد لهذا وهو أن يكون قاسياً معهم لأنه هو الوحيد الذي يعلم الطريقة الأصح حسب اعتقاده، علاقته بأبنه فيها الكثير من الحب والحنان المختبئ تحت القسوة والتعنيف المستمر، يصنع شاباً حين اشتد عوده تعامل بنفس القسوة التي اكتسبها من أبيه ليتحرر منه، ثورته للحصول على التعليم ليس فقط رفضاً للبيئة و رغبةً بالتحرر من سطوة الأب وبناء حياة جديدة بل لاكتشاف ذاته وجوهره وقدراته وشخصيته الضائعة بظل الأب والمرسومة سلفاً والمعروف نهايتها ، لذلك فحين انتصر واكتشف نفسه عاد وتصالح مع بيئته ووالده واكتشف جذوره التي أدرك بعد ابتعاده عنها إنه لا بديل له غيرها، بقي عالقاً عند لحظة سحبه من مدرسته لم يستطع تجاوزها، ولكن أصبح أكثر تصالحاً معها ومع كل عنف وقسوة بيئته.
بعيداً عن أهمية الفيلم فقد أثار بالنسبة لي تساؤل عن سبب عدم اقتحام مخرجينا لقصص الناس العاديين والبيئة الشعبية لصنع أفلامهم وإحسان تسويقها، بالأخص إن البيئة المعروضة بشخوصها بعاداتها بمشاكلها مماثلة جداً لريفنا، بعض المخرجين حاولوا وقاربوا تلك المعالجة كعبد اللطيف عبد الحميد بليالي ابن أوى ولكن لا أفهم لما لا تسوق أعمال كهذه عالمياً بالشكل المستحق لتحصل على التكريم الذي يليق بها وتتعمم التجربة ونكررها ونضيف عليها، الفيلم الذي شاهدناه بالنادي وفائز بكان ومنافس ببرلين لم يأتي بشيء من الفضاء، جاء بالبيئة والواقع والحقيقة وأحسن تصويرها ومعالجتها بصدق وذكاء جعل القصة عالمية عن الريف بشكل عام لا عن الريف الإيطالي فقط.


The Treasure Of The Sierra Madre – 1948
كلاسيكية جون هيوستن المتوجة بثلاث جوائز أوسكار أفضل مخرج ونص وممثل مساعد لوالده والتر هيوستن، تحوي في ظاهرها كل عوامل الفيلم التشويقي عن الصعوبات التي واجهها المنقبون في استخراج الذهب، ويذهب في العمق لجعل رحلة المنقبون عن الذهب في فترة القرن التاسع عشر في المكسيك - كما يفترض الفيلم - ليست سوى استعادة وإسقاط لرحلة المكتشفين الأوائل لأمريكا، الفقراء الذين حملتهم الحاجة والرغبة بحياة أفضل والثراء السريع إلى عبور المحيط من أوروبا نحو أرض الحلم البكر الموعودة بالذهب والخيرات الوفيرة واصطدموا بصعوبات لم تخطر على بالهم مصدر أغلبها جنونهم وشجعهم الشخصي، أولئك الفقراء يعودون هنا بشكل جديد، عن أمريكيين يعيشون انعكاسات الحرب الأهلية، تركوا أراضيهم نحو القفار في الجنوب حيث أرض يشاع إنها عائمة على بحر من الذهب قد تنتشلهم من بؤسهم وتعرضوا لخيارات أعادت تشكيل ذاتهم.
هيوستن يستغرق بداية فيلمه مطولاً بعرض تفاصيل شخصياته وعوالمها، يقدم لنا أرضية بناء نفسي ممتازة للشخصيات الثلاث، يركز الضوء في البداية على شخصية دوبس (همفري بوغرات) دون أن يجعل له خصوصية معينة، هو لا يختلف عن أي منقب آخر دفعه الفقر وطموح الثروة لركوب درب المغامرة ، لذلك نراه ينسجم سريعاً مع كيرتين (تيم هولت) هو مثله يشبهه تماماً لا يختلف عنه، كلاهما شابان من خلفية مشابهة وبنفس الطموح والحاجة ويتعرضان لنفس الاختبارات الإخلاقية ولكن يتخذان خيارات مختلفة تقودهما نحو طريقان متناقضان، الأمر يبدأ بخطوة ومع تتالي الخطوات يبدو كلاهما وكأنهما عبرا طريقان متباعدان لا يلتقيان، من هنا يبدو وجود شخصية هاورد (والتر هيوستن) الأكبر سناً مهم وله خصوصيته، العجوز الذي عايش تلك التجارب طويلاً، وأصبح له خبرة واسعة ليس فقط بالتنقيب عن الذهب وإنما بطبيعة الرجال، يبدو إن سيناريو تلك الرحلة قد سبق وعايشه مراراً وتكراراً لذلك فله القدرة الواسعة على التنبوء بتصرفات رفاقه واستشفافها والتعامل معها وربما تبريرها، وفي نفس الوقت هذا العجوز يخوض رحلته الخاصة، اكتشافه الذاتي والروحي الخاص، اختبارات تحدد أخلاقيته وخياراته، الحياة لا تتوقف عن اختبار الأشخاص مهما كبر سنهم وعظمت خبرتهم، الجميع سيتعرض في مرحلة ما من حياته لاختبار يحدد شخصيته، وسيلقى عاقية خياراته.
هيوستن ينقل فيلمه من رحلة ومغامرة التنقيب عن الذهب ليجعله فيلم عن الخيارات الأخلاقية، عن ما تفعله بنا الثروة، عن معنى الذهب وسبب قيمته المرتفعة واللعنة التي ترافقنا حين نحصل عليه، أهمية الفيلم الحقيقية بنظري هي بالتفاصيل الإنسانية عن الانحدار النفسي الذي يحل بالشخصيات وصراعتها الأخلاقية التي تتفاقم مع كل لحظة يتفاقم بها مخزون الذهب ويتراكم، الشرخ الذي أحدثه المنقبون داخل الجبل لاستخراج الذهب رافقه شرخ آخر في نفوسهم كشف حقيقتهم ومعدنهم، وكلما ازداد الذهب لمعاناً كلما ازدادت تلك النفوس سواداً.
نص العمل مقتبس عن رواية لب تريفن ، الروح الروائية بالعمل عظيمة جداً، جمل وحوارات فيها الكثير من الفلسفية المنطوقة بالكثير من العفوية والواقعية، يثير الكثير من الأفكار وإشارات الاستفهام لدى المشهد حول القيم المادية و علاقتها بالطبيعة البشرية ومن المسؤول عن إفساد الأخر، هل الماديات هي فعلاً من تشوه الروح،؟ أم إن الطبيعة الوحشية والجشع هي من تعطي للأشياء المادية قيمتها وتصنع منها سلاح يفتك بها؟، ما الذي يجعل للذهب قيمته؟، لمعانه وندرته أم امتزاجه بدم وعرق البشر على مدى آلاف السنين؟، عن صوابية الرحلة والكنز الحقيقي المنشود منها، هيوستن أعطى للنص حقه الكامل، ولكن جعل للصورة الهيمنة، يدخلنا بأجواء الرحلة والمكان، يستغرق بتفاصيل التنقيب والبحث، يجعلنا نلمس ونشعر بتعب الشخصيات ومعاناتها وإنهاكها وما يخلفه هذا الإنهاك على نفسيتها، يستخرج أداءات بديعة من طاقمه وتحديداً الأسطورة همفري بوغارت، يخلع عن أيقونة سينما النوار في الأربعينات – الذي توهج معه في ما يمكن عده أول فيلم نوار أمريكي حقيقي الطائر المالطي لهيوستن أيضا" – ثوب البطل الكلاسيكي أو ثوب العاشق الذي أسر القلوب في كازبلانكا ليظهره بشخصية بعيدة عن البطولة النمطية، شخصية فيها الكثير من السوداوية والسلبية والتناقضات والتحولات، يقدم الانهيار الأخلاقي والنفسي بطريقة بديعة تستحق التأمل، درس ناضج جداً في رسم هذه الشخصيات وبطريقة تقديمها على الشاشة.
على هامش قصة المغامرة التي يقدمها هيوستن هناك ملامح رائعة لصورة حضارة تخوض مخاض عسيراً لتلد، مقولة إن أمريكا ولدت على عرق ودم المهاجرين تبدو واضحة جداً بأصدق صورها، التمازج بين الأعراق المختلفة مستوطنين وأصليين مهجنين، هنود حمر على الهامش يعيشون آخر أيام حضارتهم، حفارات النفط، بداية تشكل القانون وسيطرته وامتداده، السكة الحديدية والقطار، انتشار قوانين تقييد الاكتشاف والحفريات التي أعاقت عمل المستكشفين، تبلور القيم الأمريكية المادية و السعي الحثيث للثراء والتنافسية والفردانية، مشاهد وتفاصيل أعطاها هيوستن مساحتها الكافية لتشكل لنا الجو العام، هذا الجو الذي يحمل الكثير من الهجاء المبطن الذكي، لن تستطيع أن تمنع نفسك من المقارنة بين الانحدار والحالة المزرية التي وصلها السكان الأصليين المندمجين بالحضارة الحديثة من فقر وشحاذة ولصوصية وعمل بالأجرة شبيه بالاسترقاق، وبين المشاهد القليلة التي بها ملامح فردوسية للسكان الأصليين المحافظين على عاداتهم والمقيمين بقبائلهم، فيه كسر للنمط من تصوير الهنود الحمر كجزارين ولصوص وسلاخي رؤوس، هيوستن يبتعد عن هذه الصورة، يخرج الهنود الحمر منها، وينسب التهم إلى السكان الأصليين المندمجين بالحضارة الغربية الذين حولتهم إلى لصوص، كل ما نعرفه وشاهدناه بأفلام الغرب عن الهنود الحمر السفاحين قساة الملامح الغدارين المغيرين على القطارات الذين لا يحفظون عهداً موجود ولكن فقط لدى هنود خلعوا عن نفسهم تقاليد أجدادهم وملابسهم وألوانهم وقوسهم وسهمهم وارتدوا الملابس الغربية وتكلموا بلغة المستوطنين الأسبان الأوائل أو أحفاد المستعمرين الإنكليز اللاحقيين وحملوا البنادق النارية، مع تلميحات لا يمكن إغفالها في حوارات مطولة تتحدث عن الطبيعة، معاملتها ككائن حي واعي، وأن لها سلطة ونفوذ وانتقام، تعطي كنوزها وخيراتها كاختبار وستعاقب المتجاوزين، نص ينصف الحضارة الأمريكية الأصلية وفيه الكثير من روحها وقيمها، بل إن الكثير من مفاصل العمل المحورية منسوبة للصدفة والقدرية، الرحلة بأكملها وبدايتها تبدو كترتيب قدري، وكأن الطبيعة استدعت أولئك الثلاثة ليخوضوا امتحان خاص ظاهره الذهب ولكن باطنه أعمق وأهم من ذلك بكثير، شيء من الأمثولة الدينية في الديانات السماوية ولكن بالكثير من الروح الطبيعية الأصلية بعيداً عن التوراتية.
10/10


….. And Your Mother too – 2001
أنجح فيلم لتروفو ليس مخرجه تروفو، المكسيكي ألفونسو كوارون في الفيلم الذي أكسبه اعترافاً عالمياً حقيقياً بعد فيلم أول مكسيكي ناجح واثنان أمريكيان متوسطا القبول قدم هويته وهواجسه بهذا العمل، حقق بعده النقلة الأهم بمسيرته حين أخرج الجزء الثالث من هاري بوتير - الجزء الأهم - ثم عمله الأهم أطفال الرجال، والأوسكاري جاذبية، ونال مؤخراً أسد فينيسيا عن شريطه المكسيكي الثالث روما.
بهذا العمل نفخ الروح بالموجة الفرنسية - فرع فرانسوا تروفو - وأعطاها هوية مكسيكية، صوت الراوي، مثلث الحب، الجرأة الجنسية، أبعاد المكان والهم الاجتماعي، التأويل والدلالات المنبعثة من العلاقة وإسقاطاتها على مشاكل المجتمع، البساطة البصرية، دراسة القصص من زاوية ورؤية الشخصيات الثلاث، السهولة والانسيابية بالتأسيس للحدث وتقديمه ودراسة نتائجه والاعتماد على ذكاء المشاهد لفهم الدلالة وراء الحدث.
ألفونسو - بالتعاون مع أخيه كارلوس بكتابة النص المرشح للأوسكار - قدم ربما الفيلم الأهم بشرح واقع الحياة المكسيكية على مشارف القرن الحديث، صراع الهوية الخفي الذي يتضخم في هذا المجتمع، اندثار التقاليد والأعراف أو كما يسميه الشباب بثورتهم غير المعلنة (موت الأخلاق) ليحل بدل عنها فوضى غير معروف إلى أين ستذهب، كوارون قدم جرأة بالغة جداً بفيلمه هذا وتعمق بتفاصيل الجنسية للعلاقة بين شخوصه وعبر عن الثورة من خلال الجنس، ولكن بنفس الوقت كان محافظاً جداً بالمضمون الفكري لعمله، هو يصور هذه الجرأة الجنسية من منطلق ضياع وفراغ الشخصيات وتعبير عن فوضى لا تعرف حدود ستطيح بالنهاية، تبدو بالنسبة لشخصية لوسي تعبير عن ثورة غضب على قمع مفرط يمارس ضدها منذ صغرها ومحاولة لتعيش الحياة وتشعر بها دون أن تعرف طريقة لصحيحة هذا، تخوض رحلة مع المراهقين (خوليو) و (تينشو) اللذان أنهيا الدراسة الثانوية وعلى اعتاب الجامعة، رحلة عبث ولكن هامة جداً بالنسبة لهما لتكوين شخصيتهما وطرح خيارات حقيقية أمامهما واكتشاف جوانب بنفسيهما لا يعرفانها، يلتقيان بالرحلة بالكثير من الشخصيات، يكتشفان المكسيك على حقيقتها بعيداً عن الحياة الهادئة والمرفهة التي يعيشانها، من خلال صوت الراوي نلمس مآسي وانهيار اجتماعي واقتصادي يعيشه العامة، ولكن مع ذلك فالشخصيات لا يريان هذا، لا يهتمان له بالأحرى، يعرفانه مسبقاً ربما ومتعايشان معه وبأنانية مطلقة لا يكترثان به وهدفهما ينحصر بإشباع غرائزهما الجنسية، مؤكداً كوارون على حالة الفوضى والتهديد بالضياع الذي يحيط بالمكسيك حين لا يعي الشباب مشاكل مجتمعه بل متصالح معها وماض بها.
ينفجر الخلاف بين الشخصيات خلال الرحلة، في عمق الخلاف هناك ماض قديم تفجر، ليست الخيانة هي السبب، ماضي الشخصيات، تركيبة علاقتهما، البيئة التي جاءوا منها، الفروق الطبقية بينهما، خلفية الأول الريفية ووالد الثاني المسؤول الحكومي الفاسد، التركيبة الهشة والمتداعية لمجتمع المكسيك بأكمله، كلها تراكمت فوق بعضها لتنفجر بين الشخصيات، في النهاية لا تحدث مصالحة، بل مهادنة، يستمرون بالكذب وارتداء الأقنعة لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحقيقية ويتصالحون أكثر مع إخفاقهم وزيفهم ودونيتهم، وتنحدر علاقتهم نحو مستويات مجهولة داكنة فوضوية عشوائية تقتلها بالنهاية، كوارون يركز على حالة الكذب، والادعاء، والخيانة، والتقنع، والنظرة المبالغة للذات، أسلوب تهرب به الشخصيات من ماضيها، وهزائمها الخاصة، وضعفها، وعجزها، ومجتمعها، تهرب نحو مكان وهمي تختلقه هرباً من مصير مجهول لا يطمأن بالخير.
في هذا العمل نص عظيم، لغة عفوية وحوار قريب للارتجال ومليء بما بين السطور ومدروس ومحسوب بعناية ودقة بالغة، افتتان كوارون بالكاميرا المحمولة والزاوية الواحدة والسحبات الطويلة بلا قطع بان ملامحه هنا، وبهذا العمل – الذي أدار تصويره إيمانويل لابوزكي في ثاني تعاون بينه وبين كوارون قبل أن يقدم معه أهم إنجازاته في أطفال الرجال وينالان الأوسكارات عن جاذبية- أعطت حيوية وواقعية مفيدة جداً، بالأخص مع الألوان الطبيعية الأقرب لتسجيلات الفيديو المنزلية، وسرقة لحظات بصرية خلابة كمشهد السباحة أو مشهد الشاطئ ودعم عمله بأداءات مبهرة من نجم المكسيك الأول غايل غارسيا بيرنل بعد عام واحد على تألق ذاك مع الأسطورة المكسيكية الأخرى إليخاندرو كونزاليس في (اموغز بيغوس) وتبعه بأداءات هامة في مذكرات سائق الدراجة وبابل وعميان وNO والسلسلة التلفزيونية الأمريكية موزارت في الغابة التي أكسبته الغولدن غلوب ومؤخراً الفيلم الفائز بدب برلين كسيناريو (Museo)، ومعه دييغو لونا بأداء ممتاز أيضاً والامتياز الحقيقي كان من ماربيل فيغدو بأداء صعب وبغاية الجرأة والإبهار والتفجر.


Taxi Tahran - 2015
في إحدى مشاهد العمل يلتقي جعفر بنهاهي (صانع العمل) بشاب شغوف بالسينما وبصنع فيلم قصير ولكن ينقصه الموضوع، يخبره بناهي أنه لن يعثر على الموضوع في الكتب والأفلام عليه الخروج للشارع، ويبدو إن الشاب لم تقنعه النصيحة دون أن يدري أنه شخصية في فيلم يجري تصويره عفويا" بكاميرا بناهي التي ثبتها على تابلو سيارة الأجرة التي يقودها بشوارع طهران.
فيلم بناهي هذا الحائز على دب برلين الذهبي ديكو دراما يمزج بين الوثائقي والروائي، كان لبناهي الرغبة بتصويره وثائقي عفوي بالكامل ولكن عدم تجاوب الركاب مع وجود الكاميرا بالسيارة والخوف من المسؤولية القانونية جعله يلجأ للاستعانة بممثلين مغمورين وأشخاص حقيقيين رضوا بالتجرية ليصنع فيلم روائي بروح الوثائقي، استقى موضوعه من التجارب التي واجهها أثناء عمله كسائق تكسي محاولا" صنع الوثائقي، حبك الموضوع بأسلوب روائي دون الخروج عن روح عشوائية الفيلم الوثائقي العفوي.
بناهي الذي صنع عمله بطريقة غير قانونية يعالج بالدرجة الأولى موضوع القانون والفضيلة والثواب والعقاب منذ المشهد الأول وحوار بين راكبين حول ضرورة صرامة العقوبات أو العودة للبحث بجذور الجريمة، وخلال هذا النقاش يطرح بناهي بأسلوب مستتر أفكاره حول فراغ القوانين من مضمونها وعدم فهم غايتها في مجتمع صارم مما يدفع الناس لتخالف القوانين للعيش بطريقة أسهل
يتعمق بناهي كثيرا" بهذه الجزئية بالاستعانة بشخصيات بسيطة طارحا" سؤال هل الجريمة هي الفعل الذي نعت بهذا الوصف بكتب القانون أم هي الأفعال التي تصنفها المفاهيم العامة للفضيلة بهذه الخانة؟ هل الناس متقبليين للقيود القانونية أم أنهم بطبيعتهم ميالون للاستقلالية؟ كل الشخصيات التي قابلناها تكسر قانونا" ما وجميعهم لهم مبرراتهم سواء لتسهيل حياة الناس أو لصنع الفن أو لتحدي الفوارق الاجتماعية أو لنيل حق لا يمكن نيله بالقانون، بل حتى أننا نرى إمرأتان تحاولان خداع الموت وكسر قوانين الطبيعة.
من ناحية أخرى هو فيلم ذاتي عن بناهي نفسه، عن همومه الخاصة وهموم صناعة السينما في إيران، عن أحلامه والأماكن والأشخاص التي يستقي منها إلهامه، عن إحساسه بالمسؤولية اتجاه الناس ومحاولة إيصال صوتهم، عن الضريبة التي دفعها والكوابيس التي تطارده جراء سباحته عكس التيار.
رحلته في شوارع طهران حيوية جدا"، كما كان الراحل كيورستامي يحول الريف وشخوصه إلى أبطال لأعماله كذلك يفعل بناهي مع طهران، يعطي صورة حية حقيقية لبلد محكوم بالنمطية والأحكام المسبقة، يصور لنا مجتمع حي وطموح جدا" يسبح للأمام والتطور بأيدي مقيدة
9/10


Jules and Jim – 1962
لا أظن إن تروفو كان ليتخيل بأفضل حالاته المزاجية إن صورة من مشهد لا يستمر دقيقة ستصبح رمز لحقبة سينمائية بالغة التآثير، صورة جولز وجيم وكاثرين وهم يركضون على الجسر لها تأثير عميق في الوعي السينمائي الجمعي يقارن مع مشرد شابلين وشطرنج بيرغمان و قبلة بيرو المجنون و وجه روكي المدمة وطفلة سبلبيرغ بالرداء الأحمر وفستان مونرو المتطاير وسغائر بوغارت، سر عجيب بهذا المشهد وهذه الصورة، ربما لأنها تختزل الكثير مما قاله تروفو، العاشقان اللذان يلهثان وراء فتاة تتلاعب بهما، روح الشباب وبراءة العواطف المعلقة بين السماء والأرض والمتجهة نحو المجهول الذي يخفي الكثير من الصدمات، شغف الحرية الحارق الذي يكوي الإنسان ويحوله من حر إلى عبد لفكرة الحرية.
تروفو وفي ذروة انطلاقة سينما الموجة الفرنسية قدم هذا الفيلم الذي يجعلنا نفهم لماذا هذه الموجة عظيمة، منطوق الفيلم يبدو جريئاً جداً حتى هذا اليوم وكاسراً لكل الأعراف والتقاليد السينمائية والمجتمعية، مثلث العلاقات العاطفية الذي أصبح يعرف بمثلث تروفو لا أذكر إن شاهدته يوماً بهذا التعقيد، تروفو الذي يبدو أنه يلجأ للمباشرة في تقديم فيلمه وشخصياته وبعض مفاصل أحداثه من خلال الحوار أو صوت الرواي هو في الحقيقة إيحائي جداً وغامض، مباشرته لا تلامس سوى قشور السطح، يعطينا مفاتيح لنفتح أبواب متاهته المحيرة جداً، لغة الصورة تتحدث أكثر مما يقوله الحوار، توزيع الكادر بين الشخصيات الثلاث له قدر كبير من التعبير، كاثرين في أغلب المشاهد تتوسط بين جولز وجيم وتسبقهما بخطوة، طوال العمل وهما يطاردانهما ولا يستطيعان الإمساك بها كشبح أو خيال أو حلم هلامي، حتى عندما تبدو في الظاهر قريبة لهما أو مع أحدهما تكون أبعد مما سبق، فيلم يكسر المعتاد والمألوف سينمائياً ومجتمعياً عن فكرة العلاقات المتداخلة، الشخصيات الثلاث جميعها لها وجهة نظر خاصة، مساحتها الخاصة، تصوراتها الخاصة، طموحاتها الخاصة، الجميع يسعى لفكرة مثالية، لحلم رومانسي لا يمكن أن يتحقق في عالم مبالغ بواقعيته لدرجة الصدمة، الحب والصداقة والزواج والعائلة والحرية، كيف يمكن أن نجمع كل تلك الأمور معاً من خلال شخص واحد، هو عن صعوبة أن يختزل الشخص طموحاته وحياته كلها من خلال شخص له أيضاً عالمه وطموحاته الخاصة.
بين ألمانيا وفرنسا مطلع القرن وبين حربين كونيتين وتغيرات لا يمكن استيعابها يدرس تروفو كيف بدأ العالم الحديث يتشكل من خلال ولادة عسيرة انتجت مخلوق مشوه وانتهى بحلم هوا واحترق وضاعت آثاره، هل هو مجرد دراسة لصدمة قسوة الواقع مع الخيال الرومانسي؟ هل هو دراسة لمفهوم الحرية وكسر النمط وصعوبة أن يعيش الإنسان على حقيقته في ظل وجود عالم يتوقع منه أن يكون بقالب معين؟ هل هو أعمق من ذلك ورمزي جداً عن أوروبا بين الحربين، ألمانيا المنكسرة وفرنسا المضطربة وغزو الشيوعية الصاعدة التي انتهت بأوروبا منهكة قابلة للانهيار والتفجر؟ تروفو لم يكن أبداً مباشراً، أدخلنا بدوامة من العلاقات ودوامة من الرموز ودوامة من فضول التأويل دون إجابة شافية عن شيء وناجحاً ككل أفلامه التي سبق وشاهدتها بجعلنا نفكر بما قدمه وبمدى تشابهه مع ذاتنا وعالمنا والتاريخ والمجتمع.



Fitzcarraldo - 1982
بعد عشر سنوات على رائعته أغيري غضب الرب، قدم الألماني فرنر هرتزو ما عده البعض استكمالا لتحفته تلك، صعود حضارة وأفول أخرى على خلفية صراع دونكيشوتي، المقارنة طبعا" لن تنصف فيتزجرالدو رغم إمتيازه، فيتزجرالدو ابتعد عن جزئية الصراع ضد طواحين الهواء في أغيري ليذهب إلى منطقة هووس الإنسان بحلمه، الأمر إيجابي بعدم رغبة هرتزو بتكرير نفسه ولكن النتيجة ليست بثقل أغيري وهذا بكل الأحوال لا يعني إنها لم تكن ممتازة.
بناء شخصية فيتزجرالدو ورسم ملامح هووسه ممتاز منذ المشهد الأول ومؤسس له بعناية، هرتزو لا يرمي الحمل بالكامل على الاستثنائي كلاوس كينسكي بل يدعمه بتكثيف بصري - صوتي مبهر لمشهد الأوبرا، يكمله برسم لا يقل امتيازا" لمحيط فيتزجرالدو وبيئته وسخرية من حوله من حلمه الذي يتحول لقضية تحدي واثبات ذات وتحقيق إنجاز ما في حياته.
في رحلته يصل لشيء لم يكن يتخيله، يتحول العمل إلى إسقاط لرحلة كريستوف كولومبس واكتشاف أمريكا، المغامر الإيطالي الذي تملكه هووس الوصول إلى الهند عن طريق الغرب فاكتشف شيء آخر لم يدر ما هو، فيتزجرالدو أراد بناء دار أوبرا وسط أدغال أمريكا الجنوبية فتحول لآله بين السكان الأصليين.
إسقاط هرتزو على كولومبس وعلاقته بالسكان الأصليين يتعزز هنا أكثر، من حيث استغلال فيتزجرالدو لجهلهم وضعفهم ومعتقداتهم ليمارس دور الرب عليهم ويستعملهم لتحقيق حلمه، يذهب بالأمر إلى أقصاه وكأنه يختبر نفسه إلى أين سيصل بلعب دور الرب، ليقدم لنا هرتزو دراسة جيدة لنفسية الإنسان الذي يجد نفسه في هذا الموقع.
هذه الدراسة يدعمها هرتزو بتصوير ممتاز لصعود حضارة على حساب آفول أخرى، أسئلة ممتازة حول معنى الانتماء وعلاقة الإنسان بالوطن والأرض، والذهاب بجزئية الحلم إلى مكان آخر غير الهووس، بل الحلم الذي يدمر صاحبه، السكان الأصليون عاشوا عقودا" مؤمنين بفكرة المخلص الذي سيحررهم من الأرواح الملعونة، وعندما اتى استعبدهم، ليتحول العمل إلى تشريح لعقلية الغازي والمكتشف، سبق له وقدمها في أغيري من الناحية الدينية وهنا يذهب إلى الجانب الحضاري أكثر، هنا لدينا غازي يحمل مشروع حضاري ومهووس بالفن والموسيقى، ولكن تحت هذا القناع هناك شكل بربري أناني وحشي لا يرحم.
بصريا" هو عمل بديع، تحد آخر خاضه هرتزو بالتصوير بالبيئة الحقيقية وكسبه، هو أضخم وأعقد انتاجيا" من سابقه، مشهد صعود السفينة للجبل جبار جدا" منفذ بالطريقة اليدوية التقليدية رغم أن العمل صنع بزمن ثورة المؤثرات البصرية بعد حرب النجوم وغيره، في العمل ظهور جميل للإيقونة الإيطالية كلوديا كاردينالي ، الفيلم نال جائزة مهرجان كان كأفضل مخرج وترشيح للبافتا، عظيم بمفرده مظلوم بمقارنته بأخيه الأكبر.
10/10

tag


tag






tag