RSS

Never Look Away – 2018




الشريط الثالث لصائغ التحفة Life of Others الألماني فلوريان هانكيل فون دونرسمارك يعيده إلى الطريق الصحيح بعد انحرافة هوليوودية مزعجة عام 2010 بفيلم السائح، فيلمه هذا (لا تنظر بعيداً) الممدوح في مهرجان فينيسيا والمرشح لجائزتي أوسكار كأفضل فيلم أجنبي وأفضل تصوير، يعود به للخصوصية الألمانية التي ميّزت رائعته الأولى، عمل مستوحى من سيرة الرسام والفنان التجريبي الألماني جيرارد ريختر (الذي لم يرضيه العمل) يمتد على مدى ثلاث عقود، مع صعود الرايخ الثالث وحتى منتصف ستينات القرن الماضي، يلعب على عدة طبقات صعبة مترابطة بعناية، مزدحم جداً ومليء بما يريد دونرسمارك قوله، يبدو هذا الازدحام أحياناً مضراً للعمل وعلى وشك أن يطيح به وكأن صانعه يمشي بين حقل ألغام، قد يكون غير مرض للبعض وقد يكون للبعض الأخر سبب تميزه، ولكن من منظوري العمل استطاع النجاة وخرج بصورة مبهرة، طويل وبعيد عن الاستعجال ولكن دون حشو، ممتلئ بالمحاور ولكن مترابط بطريقة قريبة جداً للممتاز، عاطفي جداً في نهايته ولكن دون استبكاء.
العمل مقسم إلى ثلاث أقسام أو ثلاث فترات زمنية، حتى ضمن وقت العمل يلتزم بهذا التقسيم، يحافظ على إيقاعه بطريقة ممتازة بالأخص بالقسم الثاني، منذ مشهده الأول يطرح قضيته الرئيسية عن ارتهان الفن بيد السلطة وتحوله إلى أحد ضحاياها، هذا المحور يعطيه دونرسمارك حقه الكامل، يجعله تعبير عن الحرية الفردية المفتقدة في ظل الأنظمة القمعية، الفن يمكن أسره بكل مكان ولكن سيبقى طليقاً داخل روح الفنان وسيقوده للتحرر وسيحرر معه المجتمع، يجعل العمل مع تقدمه يحمل عدة وجه للصراع، صراع الفنان مع محيطه وصراع في داخله بين ما يريده وبين ما يفرض عليه.

القسم الأول في ظل الحقبة النازية لا يذهب للمألوف حول ما أعادت السينما انتاجه مراراً وتكراراً حتى سئمناه عن الهولوكوست اليهودي، يصور لنا جانباً أخر لم تعتني به السينما كثيراً، عن التصفية الجينية داخل المجتمع الألماني نفسه، استغلال الطب والعلم بطريقة وحشية لصنع مجتمع مثالي، عن الجريمة التي حلّت بأصحاب الإعاقات والمرضى العقليين والنفسيين، يحاول بذكاء أن يشرح وجهة نظر العقلية النازية دون أن يبررها أو يقع بفخ نقاشاتها الفلسفية، في نفس الوقت يدخل بعمق المجتمع الألماني، ينتفض ضد عقدة الذنب التاريخية ليصور إن كل المجتمع كان ضحايا بشكل أو بآخر، الخوف والتضليل والإجبار الذي حول جزء كبير من المجتمع الألماني إلى الفريق النازي دون أن يكون مؤمناً بالضرورة بهذا الفكر، جيل بكامله دفع هذا الثمن مات لسبب رخيص في معركة ليست معركته أو ضحية قصف مجنون لم يميز النازي عن الألماني العادي وبين العسكري والمدني، وذهب بذكريات وأحلام وطموحات وآمال مجتمع بأكمله، ولا ينكر وجود شخصيات كانت فعلاً مؤمنة بهذا الفكر وغرقت به وأغرقت معها المجتمع بأكلمه.
هذه الحقبة يصورها من خلال عيون بطله (كورت) وهو بسن الطفولة، يبدو هنا يلعب على طبقة ثانية، عن الذكريات والأحداث التي نلتقطها بطفولتنا وتبقى ملامحها معنى وتشكل شخصيتنا، معالجة الأمور ضمن نظرة طفل وروح الفنان بداخله، ما رآه كورت في تلك الفترة يبدو مهماً جداً ويتم استعادته وإعادة انتاجه في الفترة اللاحقة بطريقة ذكية جداً بالأخص بالقسم الثالث من العمل، يجعله في نفس الوقت مرثية للطفولة التي تجبر على أن تنشئ مشوهة في واقع وحشي كتلك الفترة.
القسم الثاني مع نهاية الحرب وتقسيم ألمانيا لشرقية وغربية والحرب الباردة، يعود بها دونرسمارك لمسرحه الذي أبدع به بحياة الآخرين عن الحياة ضمن سجن الاشتراكية الكبير بنفس العناصر التي أبدع بها سابقاً، أزمة الفنان في حياة واقعة دوماً تحت المراقبة ضمن روح التشويق هتشكوكية ممتازة، الذكاء أنه لا يكرر نفسه، يهتم بالدرجة الأولى بانعكاسات المرحلة السابقة على هذه المرحلة، شيء من السخرية القدرية أو المرثية الإنسانية التي جعلت الأشخاص الشرفاء الذين رفضوا النازية يدفعون ثمنها لمجرد انتماء على ورقة فرض عليهم توقيعها، بينما النازيين والمجرمين الحقيقيين لم ينجوا فقط بل أعادوا انتاج نفسهم في مختلف المجتمعات التي هربوا لها، تبدوا هنا حالة انعدام يئس حقيقية من العالم تسود على الأجواء، النازية لم تنتهي أصبح لها أشكال وأدوار جديدة، وما زالت تحت الستار تمارس نفس إجرامها السابق، مهما حاولت الشخصيات الهروب ستبقى تحت طغيانها في أي مكان حلّت به، كما في المرحلة النازية تبدو الشخصيات مضطرة لتتبنى أفكار ومعتقدات لا تؤمن بها وربما تدفع ثمنها لاحقاً، كورت هنا في مرحلة بين المراهقة والشباب يجد نفسه لا يعيد فقط تكرار أخطاء الجيل السابق الذي صمت في وجه صعود النازية، بل هو دون أن يشعر يكاد يتحول لنسخة عن الطغاة الذين سببوا تلك الكوارث، في مرحلة مفصلية يقرر أن ينتفض، أن يهرب ولا يخضع لهذا الخيار بين أن يكون ضحية أو جلاداً.
هروب كورت لألمانيا الغربية – في القسم الثالث من العمل - لا يقدم له الخلاص بالضرورة ، فميراثه سيلاحقه حتى فيما تخيله مجتمع حر، هناك لا تبدو الأمور أفضل بكثير، ولكن الهامش الضئيل للحرية الوهمية في ألمانيا الغربية يساعده على أن يتحرك لينظر نفسه وماضيه مجدداً، ليدرك إن الإبداع لا يأتي فقط من حرية المجتمع بل من حريته الشخصية من ذكرياته وعقد ماضيه والصور الباطنية في خياله، ، جاعلاً دونرسمارك من الحرية الفنية – بما تعنيه من حرية ذاتية من كل قيد – ليست فقط سبيل للتخلص من كل ذلك الميراث الأسود ومن العقلية القمعية التي يرزخ المجتمع تحت وطئتها، بل سبيلاً لإنصاف الضحايا المنسيين في تلك الحرب وعقاباً للجلادين الذين أفلتوا واستمروا بطريقة أو بأخرى بالتسويق لجرائمهم وتكرارها بصور مختلفة، القسم الأخير من العمل، وتحديداً فترة انتفاضة كورت الفنية مطولة جداً ولكن بغاية التكثيف العاطفي، يعزل كورت عن كل الشخصيات المحيطة التي رافقته بالعمل ويبقيها على خلفية الحدث والذاكرة كأشباحه الخاصة، يسجنه في مرسمه ليعثر داخله على الحرية، يجعل لعنوان الفيلم – لا تنظر بعيداً – معان بغاية الدرامية، لا تنظر بعيداً لتعثر على الإبداع، لا تنظر بعيداً لتعثر الحرية، لا تنظر بعيداً لتعثر على الانتقام والإنصاف والخلاص، الأمر موجود بداخلك، بشخصيتك بذكرياتك بماضيك بمخاوفك بهزائمك الشخصية وانتصاراتك، دعوة للعودة للنبش في الماضي ورفض كل ظلم والتصالح مع كل هزيمة ورغبة باستلهام القوة لصنع صورة جديدة وواقع جديد أفضل وأكثر انصافاً، تبدو تلك الفترة هي الأفضل بحياة كورت على كل الأصعدة وهي التي غيرته وجعلته يؤمن بوجود حياة أفضل في المستقبل، حياة تتحدى الموت وتكافح لتخرج للنور وتصرخ بوجه الماضي وتصنع غد أفضل.
دونرسمارك يضبط إيقاع العمل بطريقة مذهلة، يتصاعد الإيقاع بطريقة جبارة في القسم الثاني ويصل للذروة، روح هيتشكوكية عالية، أجواء ترقب وتلصص ومؤامرات خفية، شخصيات تجلس وتتبادل الابتسامات ولكنها تحمل جميعها أسرار تدين الآخر وتحتفظ بها للوقت المناسب، تبدو لعبة مرهقة، واقع صعب، يجعلنا نشعر طول الوقت إننا تحت المراقبة بين فكي الخطر، ربما ليس على مستوى عظمة ما قدمه سابقاً بهذا الخصوص في حياة الآخرين ولكن مقدم بطريقة ممتازة، لعبة الضوء والظلال والأماكن العاتمة مع الموسيقى يستغلها دونرسمارك لأقصاها ليصنع هذا الجو، اهتمام طوال العمل برمزية الأشياء واستغلال الجو الفني بالعمل لتحويل أي لوحة واقعية أو أي عمل فني تجريبي إلى رمز لشيء أو وسيلة لإيصال فكرة وأداة سردية خاصة.
مع لعبته البصرية المبهرة يستند دونرسمارك على بناء شخصيات قوي جداً ومستمر حتى اللحظة الأخيرة بالتفاعل والتصاعد متكئاً على أداءات صلبة من توم شيلنغ وسباستيان كوخ، كوخ الذي عمل سابقاً مع دونرسمارك في حياة الآخرين يقدم هنا أداء متوهج ومرعب جداً بدور البروفيسور كارل سيباند، له حضور طاغي، يسيطر على كل مشهد يظهر به، ويسرق العمل كاملاً في القسم الأول والثاني، لأجل ذلك شعرت بشيء من اختلال الإيقاع مع غيابه الطويل في القسم الثالث، رغم مجهود شيلنغ بأدائه الممتاز بالتعويض ودخول أوليفر ماسيوتشي بدور البورفيسور فون فيرتن بشخصية وأداء مبهرين ولكن دون وجود كوخ بقي هناك شيء من الخفة اختفت بعودته بتوقيت مناسب وعاد العمل ليصعد للذروة حتى الخاتمة .
(لا يكفي أن تكون إنساناً صالحاً لتنجو) ... فيلم لا تنظر بعيداً هو عن تلك العقدة والصراع المستمر بين القوة والفضيلة، الحرية والآسر، عن ذكريات الطفولة، عن النضوج، عن التمرد، عن ميراث الماضي، عن دور الفن، عن قوة الاختيار، عن الضحايا المنسيين، عن عبثية الواقع وجنون السياسة، ملحمة تمجد الحرية والإنسان والفن تربطهم سويةً برباط وثيق وتجعلهم تذكرة عبور لمستقبل أفضل.
10/10





0 التعليقات:

إرسال تعليق