RSS

Cold War – 2018




الفيلم الذي أكسب البولندي بافل بافيلكوفسكي جائزة أفضل مخرج في كان – سبق له وأن نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن Ida 2014 – هو قراءة استثنائية للحرب الباردة وصراع الشرق والغرب من نهاية الأربعينيات حتى أواسط الستينيات، لا يهتم بالتفاصيل السياسية بقدر ما يهتم بتأثير ذلك النزاع على الحياة الداخلية للشخوص ونفسياتها وأحلامها، شخصيتا زولا وفيكتور هما حصيلة التناقض وضياع الهوية والاغتراب الذاتي الذي سببه ذلك النزاع الدولي و انعكاس لحالة مجتمع بولندا بأكمله.

بافيلكوفسكي يفتتح فيلمه في الريف البولندي عشية الحرب الكونية، فرقة مسرحية تجري منافسة لاختيار أفضل المغنيين الشعبيين للمشاركة بعرض مسرحي فلكلوري بولندي، يعطيك ملامح بلد هدته الحرب ويحاول الوقوف على قدميه مجدداً وأحياء الروح القومية بسكانه من خلال العودة للجذور حتى يستطيع أن ينهض، ولكن وقوعه ضحية الصراع الكوني البارد يعيقه باستمرار، الجو السياسي يفرض نفسه على الفيلم منذ البداية وبافيلكوفسكي يعرف كيف يعبر عنه برمزية قوية، أحد منظمي المسابقة يقف أمام بيت أحد الاقطاعيين السابقين ويشرح للفلاحيين البسطاء إن هذا المنزل أصبح منزل الشعب ولكن لن يدخله سوى النخبة الفائزين بالمسابقة، تعبير ذكي جداً عن حالة التحول بعد سيطرة المد الشيوعي على بولندا، غابت طبقة النخبة الارستقراطية وحلت بدلاً عنها النخبة الشيوعية بقوانينها الخاصة التي لم تختلف سوى بظاهرها عن قوانين التفوق الرأسمالية وبقيت العدالة والمساواة فيها غائبة، وفي مشهد آخر وبعد نجاح الفرقة يتدخل الحزب الشيوعي ليحول عمل الفرقة من أحياء للتراث البولندي إلى أداة إعلامية للحلف الشرقي طامسةً تماماً الهوية البولندية ومتحكمةً باهتمامات الشعب وولاءه وطموحاته.
شخصية زولا هي تعبير عن الجيل الذي نشأ في ظل سطوع الشيوعية، فيها شيء من الموهبة والكثير من الوصولية، هي أبنة زمانها، تعرف كيف تستغل إحدى المتسابقات لتفوز بالمسابقة، وتغوي فيكتور لتقوي مركزها، ولكن العلاقة بينهما تأخذ منحى حب حقيقي، زولا بماضيها المربك تجد بالشيوعية سبيل لتبدأ من جديد، ولا تمانع من القيام بأي شيء لكي تنجح حتى ولو اضطرت للتجسس على حبيبها، فيكتور شيء آخر، لم يعد يستحمل التدخلات الحكومية بفنه ووصول الأمر لحد مراقبته فقرر الهرب بصحبة زولا، هي خذلته ولم تهرب، لم تكن على استعداد بعد أن لمست النجاح أن تبدأ من الصفر، تغلبت على عاطفتها وتخلت عن فيكتور بعد أن غدا غير مفيد واتجهت لغيره لتصنع مجدها، ثم لحقت به لاحقاً بطريقة أمنة وقانونية محافظةً على خط الرجعة، ولا يحدث ذلك إلا بعد أن بدأ فيكتور يعود للسطوع مجدداً في فرنسا ويصبح قادراً على الأخذ بيدها من جديد.
في باريس يقدم بافيلكوفسكي نظرة غير اعتيادية للمعسكر الغربي وللحالة البولنديين بعد الهرب إلى هناك، هم لم يعثروا على الراحة والهدوء والنعيم الذي توقعوه، فيكتور أصبح شخص آخر، حر ولكن مهلهل وضعيف وخابي النجم مجرد موسيقي اعتيادي يتملق النخبة المثقفة، العلاقة بينه وبين زولا انهارت وكان من المتوقع جداً لشخصية وصولية أن تعود إلى مكان نجوميتها الأصلي زولا في فرنسا تكتشف أن عليها أن تقوم بكل ما قامت به سابقا في بولندا حتى تحظى بالنجومية التي تركتها، عليها أن تبدأ من الصفر، أن تضع ماضيها المخجل تحت الأضواء، أن تنافق وتبيع جسدها، تكرار هذا النمط يجعل الحياة غير قابلة للاحتمال فتعود بعد أن أدركت إن ما تسعى إليه غير موجود.
الفيلم يقدم حالة حب جميلة جداً، يلعب بمنطقة بين تصوراتنا عن الحب وحقيقته، فيكتور أحب زولا حب حقيقي وانتظرها ولحقها وفعل كل شيء لأجلها، زولا أمر اخر، مشاعرها مختلطة، بدايةً باستغلال الفنان للنجاح، ثم الافتتان به وشهرته وتكوين ما يشبه الحب، حب كان قوي جداً في البعد بسبب حالة من تأنيب الضمير عند زولا و حنين للوطن عند فيكتور، حين اللقاء لا يمنح القدر العاشقين الحياة المثالية التي توقعاها، الحياة قاسية جداً، في الوصال وزوال أضواء الشهرة بانت عيوب الشخصيات لبعضهما، انخلع عنهم القناع وبانت وجوههم الحقيقية، فيكتور لم يعد جذاباً بالنسبة لزولا ولم تحظى هي بالحياة التي حلمت بها، وفيكتور كشف وصولية زولا وقسوتها، ذكرته بقسوة الوطن الذي هرب منه، لم تعد تلك الفتاة المثالية كما ظهرت له حين كانت تتودد له لتصعد على الشهرة لأنه لم يعد قادراً على أن يقدم لها شيء، وبعد الفراق عاد الحب مجدداً، فيكتور ضحى بكل شيء ليعود إليها – إلى وطنه – ربما يحظيان بالسعادة التي تاقا إليها، الذنب عاد يوقد مشاعر الحب لدى زولا بعد أن لمست مدى صدق مشاعر فيكتور وإلى أي مدى مستعد أن يضحي لأجلها.
بافيلكوفسكي ساحر هنا بصورته، الأبيض والأسود وهدوء المكان الذي صنع لإيدا جواً عظيماً يعيد استخدامه هنا بنفس التألق، يجعل فيلمه قطعة كلاسيكية هاربة من حقبة الحرب الباردة، استخدام الظلال والنور وزواية التصوير ومزاوجتها بالمشاهد المسرحية صنع لوحات جمالية أخاذة مع حركة كاميرا هادئة بسيطة، بافيلكوفسكي يصنع عملاً مبهج جداً للعين بأكثر الوسائل السينمائية أصالة وكلاسيكية، يعطيه جو المكان وعاطفة العلاقة، مع مونتاج مميز، تصميم كلاسيكي للأماكن، وأداءات جبارة من جوانا كويلايغ وتوماسز كوت ، وشريط صوت من أجمل ما يكون. 
الموسيقى في الفيلم تلعب دور البطولة الرئيسي، هناك تعبير عظيم عن الزمن وتبدلاته من خلال الموسيقى، يبدأ بموسيقى شعبية بولندية تتحول إلى دعاية إيديولوجية للنظام الشيوعي، ثم تأتي مرحلة ويطغى الفلكلور الروسي على البولندي وتدخل لاحقاً موسيقى أمريكا اللاتينية في فترة صعود المد الشيوعي هناك مع كاسترو وتشي غيفارا، على نفس المستوى يصنع الجو الموسيقي في فرنسا، بدءً من الجاز والكلاسيكي ثم ملامح التحول نحو الروك في نهاية الخمسينيات، الجو الموسيقي للعمل مبهر جداً، تشكيلة عذبة من الألحان الموسيقية من مختلف الثقافات واللعب على ثيمة معينة لأغنية روسيا شهيرة لتحويلها من غناء الكورال إلى الكلاسيكي بالبولندي والفرنسي.
نهاية الفيلم فيها دعوة للعودة إلى الجذور، بولندا من خلال شخصيتا فيكتور وزولا بلد ضاعت هويته بين شرق وغرب، لم يعرف السعادة هنا ولا هناك، و لم يبقى منه شيء سوى أطلال، قسوة السياسة دمرته وطمرت بقاياه، تركته مشوه وفارغ، وبقيت الشخصيات تبحث عن مكان أفضل لترى منه الأمور بشكل أجمل بشكل صحيح كما كانت مسبقاً.

0 التعليقات:

إرسال تعليق