RSS

Mother! – 2017



لن استغرب إن سمعت أن دارين أرنوفسكي قرر الاعتزال بعد هذا العمل، فهو يبدو وكأنه جمع فلسفته كاملة حول الحياة من أدق الأمور إلى أعقدها فيه، كأنه يكتب كتابه المقدس الخاص من خلال الكاميرا، هو ليس ذروة أعماله فنياً على أهميته ولكنه ذروتها فلسفياً وفكرياً، وحصيلة مشروعه الفكري قبل السينمائي الذي انطلق قبل عشرين سنة، لأجل ذلك هو عمل مهم، أكبر من مجرد شريط سينمائي بل عمل فكري متكامل مريب ومقلق ومحير وجدلي وغريب وجريء ولا يناسب الجميع وربما لا يناسب أحد لأنه ليس لأحد، هو بوح أرنوفسكي الخاص وصرخة غضبه على كل شيء ونظرته حول كل شيء، عمل من النادر أن نرى مثيله بمسيرة السينما ومهم بقدرته على إثارة الجدل سواء سينمائياً أو فكرياً.

In the Mood for Love - 2000




وونغ كاراوي صنع فيلماً للقلب مباشرةً، قصة حب عظيمة غير منطوقة طوال العمل، عظمتها بما سكتت الشخصيات عن قوله ولم تبح به، عملاً يكسر كل تقاليد أفلام قصص الحب النمطية، يبتعد عن التعبير المباشر والرومانسية النمطية ويهتم بالإيحاء، يعبر عن مشاعر الشخصيات وتحولات وتقلبات تلك القصة المعقدة وينقلها للمشاهد بملامح الوجه، حركة الجسم، نظرات العيون، استخدام اللون، الإضاءة، كوادر المشهد، حركة الكاميرا، الموسيقى، والأغاني، الروتين اليومي، فيلم عظيم عن قصص الحب المحرمة، نال مديحاً واسعاً بكان وتتويج بجائزة أفضل ممثل ثم ترشيح للبافتا كأفضل فيلم الأجنبي، ومع الأيام أصبح كلاسيكي وعلى رأس قوائم أفضل أفلام القرن الجديد (آخرها الثاني في قائمة الـBBC)، بل إن كلاسيكيات رومانسية معاصرة عن الحب المحرم كجبل بروكباك وكارول ومونلايت تدين لهذا الفيلم بمنهجيتها.

Stalker - 1979




أحد أكثر الأفلام التي قابلتها صعوبة كمشاهدة وقراءة وكتابة، الروسي الشاعر أندريه تاركوفسكي لغز محير، قاسي وعاطفي في الوقت نفسه، يشير بوقاحة إلى مكامن الجروح الإنسانية ثم يجلس ويبكي رثاءً على الإنسان، رائعته هذه هي الثانية في مجال الخيال العلمي بعد سولاريس، ولكن كسابقتها لم يكن غرضه الخيال العلمي لأغراض سينمائية اعتيادية كتقديم تصور عن المستقبل أو استشاف لنهاية مسيرة الحضارة أو تحدي تقني ومغامرة مثيرة، الخيال العلمي عند تاركوفسكي هو قالب أو وسيلة أخرى لاستعراض هموم إنسانية بحتة، معضلات أخلاقية شائكة، في سولاريس ناقش العزلة الإنسانية، هوس الإنسان بالعزلة وهوسه بكسرها باختراعه عوالمه الخاصة، هنا تاركوفسكي يناقش شيئاً آخر – أو أشياء - أكثر تعقيداً، عن الإنسان الحديث وإحباطاته ومخاوفه وعلاقته بالدين والحضارة والأمل والإبداع والعائلة، عن خوفه المستمر ورغبته الحثيثة بالعثور على بر الأمان.

- مشاهدات سينمائية 3 - سوق المتعة - -Hell or High Water - The Artist – la doulos - The Seven Year Itch



سوق المتعة - 2000

يفتتح سمير سيف فيلمه بمشهد داخل السجن حيث التلفاز يعرض جلسة لمجلس الشعب يتناقش بها عضو اسلامي واخر علماني حول حرمانية استيراد الخمور وضرورتها للاقتصاد، هذه الافتتاحية يقول بها سيف والكاتب وحيد حامد إن الفيلم أكبر وأعمق من مجرد عرض حالة إنسانية كالتي شاهدناها، نعم هو موفق بتصوير سلوكيات أحمد (اداء مبهر جدا من محمود عبد العزيز) ونقل فكرة إن الإنسان لا يخسر في السجن حريته وسنين عمره فقط بل يخسر معها إنسانيته التي لا يمكن للملايين أن تعوضها، بعد 20 سنة سجن ظلم يعرض المتسببين بسجن أحمد 8 مليون جنيه كتعويض عن الظلم الذي وقع عليه، ولكن هل يمكن للملايين أن تجعل من اعتاد 20 سنة أن يبول بالسطل أن تجعله يعتاد قضاء حاجته بمرحاض ؟، أو أن يشعر بالراحة على سرير وثير وهو معتاد النوم على البلاط قرب الحمام،؟ أن يشعر بلذة الطعام وهو من اعتاد أن يأكل بوقت معين وجبة معينة لا يختارها وهو لا يستطيع الاعتراض عليها ،؟ أن يشعر بلذة معاشرة إمرأة وهو من اعتاد إطفاء حرارة جسده بالاستمناء على الصور الجامدة؟، والأهم هل سيستطيع أن يشعر بإنسانيته وأن ينال إحترام ذاته وهو الذي شرب وأكل المهانة طيلة 20 سنة؟، الفيلم رائع جدا بتصوير معنى أن يكون السجن داخل الإنسان أن يغادر السجن ولكن السجن لا يغادره، ربما يعتقد المشاهد إن حل القصة هو أن يرتكب أحمد جرما جديدا يعيده للسجن وهو الذي اشتاق له بدل أن يبني سجنا خاصا ولكن هذا لا ينفع، أحمد يتعارض به نقيضان الرغبة بالاستمتاع بالملايين التي جاءته وأن يعيش حريته من خلالها وأن يعود إلى النظام الذي عاش عليه وألفه فكان خياره الغريب ببناء سجن خاص ليس سوى تعبير عن التخبط والضياع الذي تعيشه الشخصية.
كعادة أفلام سمير سيف ووحيد حامد فالقصة أعمق مما شاهدناه ومليئة بالرمزيات، الاحداث يفترض إنها تدور بمطلع القرن الحالي أو بنهاية التسعينات ويفترض إن أحمد سجن بنهاية السبعينات أو مطلع الثمانينات، رمزية الزمان هامة جدا فهي فترة إنتقال مصر من النظام الإشتراكي إلى النظام الرأسمالي وإنفتاح السوق على اقتصاد الاستثمارات والشركات الذي أفاد فئة قليلة جدا على حساب الأغلبية، الفيلم يطرح تساؤل هل من الممكن أن ينجح إنقلاب إقتصادي بهذا الشكل السريع ويقلب حياة البلاد رأسا على عقب دون أن يترك أثاره السلبية على المواطن والوطن، هل من الممكن أن تستجيب البلاد لهذا التغير الجوهري وتنساب معه بشكل طبيعي دون تشوهات، أحمد لم يكن يرمز سوى للمواطن الذي دفع ضريبة التغيير و عصابة المخدرات هي التي استفادت وبنت أمجادها على حسابه، وحين جاءت لتعوضه بالفتات عن الثمن الباهظ الذي دفعه لم يعرف ماذا يفعل به فساقوه نحو الرذيلة والشهوات وسوق المتعة شرط ألا يسأل ولا يعترض ولا يستفسر عن الحقائق الغائبة بقصته ، تلك الفئة الحاكمة لم تحاول أن تبني للمواطن إقتصاد قوي وأن تنمي وعيه وتدله إلى مصلحته وتساعده على بناء نفسه، ساقت الشعب لتحقيق كل شهواته ورغباته وتعويضه عن الكبت بأرخص الأثمان حتى تشتري سكوته فزادته ضياعا على ضياع.
يلتقي أحمد بأحلام (أداء جيد جدا من إلهام شاهين) نموذج بائعة هوى فريد من نوعه يحبها ويرغب الزواج بها ولكنها ترفضه ﻻن السجن بداخله وهي تحب الحرية، شخصية أحلام مليئة بالرموز، تسجيد لعامة الشعب المفتقد للبوصلة بين الإنفتاح والتقاليد والقيم، أحلام تتحدث عن نفسها إنها لا تقبل معاشرة أي شخص ولا تعاشره إلا بشروطها بعد أن تختاره، هي تفعل ذلك بالخفاء لتحافظ على سمعتها وتظهر للمجتمع بشكل الإمرأة الرزينة الوقورة العفيفة وهي تمارس الرذيلة للعثور على المتعة ولتحافظ على شيء من الحياة المتقدة بداخلها وبنفس الوقت حتى تستطيع تأمين مبلغ من المال يعينها للعثور على الزوج الذي يرضيها وعندها ستكون أعف زوجة وأحن أم وستعيش بالرضى ولن تمارس البغاء مجددا، هي ضائعة، تعترف بذلك إنها ضائعة بين رغبتها بالمتعة وخوفها من المستقبل وتمسكها بالقيم وتحاول أن توازن بينهم ، اسم الشخصية (أحلام) ليس سوى رمز لأحلام أجيال مشوهة وضائعة ومشتتة بين شبق جنسي مسعور فجره الإنفتاح الحديث وما جر معه من رغبات ووسائل لذة لم تعرفها المجتمعات المحافظة، هي رمز لمجتمع ضائع بين رغبته باقتناص الحياة وتمسكه بالموروث الأخلاقي القيمي ومحاولاته اليائسة لصنع مستقبل أمن، وتبدو نظرة حامد وسيف سوداوية بإظهار جميع الشخصيات بلا استثناء تركع وتبيع مبادئها وحريتها حتى مقابل المال وكأنه بالمجتمع المعاصر لم يعد البغاء يقتصر على أحلام وممارستها للرذيلة، بل أصبح للبغاء مئة وجه ووجه في كل طبقات المجتمع وأصبح (أكل عيش)
كعادة كل أفلام وحيد حامد سواء مع سمير سيف أو غيره أشعر إن هناك استشفاف للمستقبل الذي نعيشه حاليا، المجتمع الذي عاش عقودا بالديكتاتوريا والاسر والاضطهاد لا يمكن له التأقلم مع الحرية سريعا سيعاني جدا، حين أصبح لأحمد حرية اختيار سكنه اختار بناء سجن والمجتمع العربي حين ثار لينال حريته صنع ديكتاتوريات جديدة بدل القديمة التي اسقطها ، حامد كما في كل أفلامه يتنبئ إنه ستقع ثورة ثورة سيدفع ثمنها الإنسان البسيط ولكنه على الأقل سيموت (بني آدم مش حطب محروق)
 
10/10

Hell or High Water (2016)
 
في افلام النيو ويسترن هناك دوما رثاء لحضارة الغرب الاصيل وهجاء للحضارة الأمريكية الرأسمالية الحديثة، هذا الفيلم يحافظ على الرثاء ولكنه يتجاوز الهجاء فيجعل الرثاء مزدوجا حيث يرثي كذلك الحضارة الامريكية التي تتداعى وتنهار بمطارق أهلها، فيلم عظيم عن الفوارق بين القانون والعدالة، فيصور لنا ما فعله بطلا الفيلم إنه يتجاوز الإجرام ليصبح ثورة، ثورة تستعر بصدور الطبقة الكادحة وهي تأخذ شكل حوادث متفرقة تحظى بموافقة البيئة الشعبية والتحريض عليها ودعمها ولو بشكل مبطن ولا أحد يدري متى قد تصبح عاصفة تطيح بالجميع، الفريد إن بطلينا ليسا ثوريين بالمعنى الفلسفي ولا يدركان حتى إن ما يقوما به ثورة ولا يتعامل معهم احد بشكل صريح بهذه الصفة أو يتم تكريمهم عاساسها ، فيقتل أحدهما بيد ابناؤ بيئته شركاءه بالظلم ويسير الثاني على خطوات ليخرج من بيئته ويصبح من الرأسماليين، ففكرة الثورة لم تختمر بعد وبطلينا تحركهما غرائزهما الاصلية التي تسعى للعدل كحاجة إنسانية أصلية وترفع عن نفسها الظلم وتخرج نفسها من مأزق ، هما ليسا مجرمين لديهما مبادئ سرقة مبلغ معين من الجهة التي سلبت أموال عائلتهما ليخرجا أنفسهما من ورطة، وحتى الشريف رغم التزامه بتنفيذ القانون ولكنه يشعر بداخله بشيء من التضامن مع قضيتهما وهو الذي سبق وان طالته سياط هذا النظام فياتي ليزور الاخ الاصغر ليس ليبحث عن دليل كما تحجج بل ليبرر له قتله لأخيه، هو يقول له إنه لم يكن سيتوقف سيستمر حتى يوقعهم لقد انقذه بقتله، شيء من روح التمرد وإدمان الحرية لدى الأخ الأكبر دفعه لتلك المغامرة لم يكن موجودا لدى الصغير الذي تحركه مسؤوليته نحو عائلته - وربما أيضا رغبة مستترة بالانتقام وشهوة الحرية والتمرد - لذلك فدى الأخ الأكبر شقيقه بحياته ليحظى هو بموته البطولي ويعطي لأخيه فرصة للعيش، الأخ الأصغر يقول والدي كان فقير ووالده كان فقير إنه أمر متوارث ولكن لن أورثه لأولادي ، هذه الجملة هي أشبه بصيحة كفى نطقها الغرب أخيرا بوجه الجور الذي مارسه ضدهم النظام الرأسمالي ، جور وقع على أهل الغرب البسطاء منذ الحرب الأهلية وما زال مستمرا ويحمل معه ذنب الهنود الحمر والحضارة الاصلية الذي لاحقهم كلعنة وتصفية حسابات قدرية فنالت حضارة الدم الامريكية قصاصها على يد ابنائها ولكن الأمر لن يتوقف حتى تقع المذبحة الكبرى (اتعرف ماذا يعني الكومياتشي .... ؟ يعني اعداء الجميع
-
اتعرف ماذا يجعلني هذا ؟
-
يجعلك عدو
-
بل يجعلني كومياتشي

The Artist – 2011

بعد المشاهدة الثانية للعمل خلال خمس سنوات اقتنعت جدا إن هذا فيلم عظيم جدا ، عام 2011 كنت مبهورا بقضية إنه فيلم صامت ابيض وأسود في زمن ال3D وكانت زحمة احداث وافلام 2011 بين روائع ماليك وسكورسيزي و باين لم تترك لي المجال لاتعمق به ، بعد المشاهدة الثانية تذكرت كلمتي التي قلتها فور مشاهدتي الأولى إنه تذكرة رحلة عبر الزمن ، يسرقك من ضوضاء السينما التقنية وإبهار الصورة الثلاثية الإبعاد إلى سينما بسيطة أصيلة نقية وينسيك إنك في سنة 2011 ليعيدك إلى 1931 ، هو فعلا كذلك وهذا شيء عظيم بالعمل،وبالمشاهدة الثانية تتكرر هذه الرحلة المبهرة ومجددا تستمتع بالعمل وتنسجم معه تماما بل وتنبهر بمحتواه، الجديد بالمشاهدة الثانية انني بهرت هذا العمل ك(فيلم) بحد ذاته بدون جزئية الأبيض والأسود والصامت، هو هارب من كلاسيكيات تلك الأيام إلى زمننا.
الفيلم ليس فقط تحية لزمن السينما الصامتة وحنين لها وليس مجرد قصة انهيار فنان السينما الصامتة بعد دخول الصوت، القصة أعمق من ذلك ، الفيلم يتحدث عن جورج فالنتاين كشخص لا كممثل ومشكلة تعاطيه بمن حوله برفضه الانصات لغيره أو الإفصاح بما في داخله، شخصية منغلقة متعجرفة...، غروره يمنعه من التنازل ليتواصل مع أحد أو يتفاعل مع أحد وهو ما جعله يصر على موقفه برفض الصوت في السينما، القضية لدى فلنتاين ليس وفاء للفن الصامت بل وفاء لغروره وقصته مع الصوت في السينما وإنهيار مسيرته ليست سوى تجسيد لهذا النزاع الداخلي بحياته، مخرج العمل ميشيل (لا اعرف نطق اسمه الثاني) يركز عمشاهد انعدام تواصل فالنتاين مع العاملين معه وتعامله معهم من زاوية عجرفته وغروره وكأنه الملك مستفيدا من موقعه الفني كملك على الشاشة الفضية وعلى انعدام تواصله مع زوجته وإنهيار علاقته معها والعظيم إنه يصنع هذا العمق والمضمون بمنظور السينما الصامتة ببساطتها ونقائها وقربها للمشاهد دون كلام ابدا ودون تفلسف جاعلا العمل طقسا امتاعيا لا يخلو من الابداع والعمق البسيط ولكن وافي دون قصور، انت طوال الوقت تدرك إن فالانتاين مغرور ومتعجرف ولكنك تحبه وتتعاطف معه كما تحب وتتعاطف مع كل نجوم السينما المحبوبين ، والفيلم ورغم محتواه العميق ولكن يبقى لطيفا وجذابا ومليئا بالأمل ، في المشاهدة الماضية استهجنت هذا اللطف، استهجنت كيف يؤسس المخرج لنجاة بطله من الموت بفضل وفاء كلب، وكيف لا تتنكر له بيتي او يتخلى عنه سائقه، ولكن هذه المشاهدة تقبلت ذلك كله، لأنني نظرت للعمل بمنظور سينما تلك الأيام لا بمنظور سينما ايامنا، المخرج يؤسس لذلك منذ المشهد الأول حين يعرض مشهد من احد افلام فالانتاين وهو أسير عند الاعداء وينقذه كلب، هو منذ المشهد الاول بقول هذا فيلم من ايام العشرينات تعامل معه هكذا.
بالتعمق بالعمل تلمس عظمة صناعة السينما الصامتة وإنها ورغم بساطتها الظاهرة ولكنها تتطلب جهد وفن حقيقي، المخرج ابهرني باساليبه السردية المبدعة والمنسجمة مع سينما العشرينات، التقديم الجميل للشخصيات وبناء عوالمها وتأسيس القصة، الكاريزما الرائعة بين فالنتاين وبيتي وبناء العلاقة الجميل بينهما ، واللغة السردية التي يتبعها ليقدم قصته بأساليب تعوض عن الصوت والحوار، مشهد البداية من احد افلام فالانتاين وهو يتعذب ليعترف وبصيح لن اتكلم ، المشهد العظيم حين تحتضن بيتي معطف فالانتيان، ومشهد صعود بيتي بمسيرتها من خلال موقع اسمها على تترات افلامها، ثم لقائها بفالنتاين وهي تصعد على درجات الاستديو وهو ينزل كتعبير عن صعودها وهبوطه، ومشهد مقابلتها الصحفية وهي بقمة عزها ونجاحها وهو خلفها مع سائقة منبوذ وغير معروف، هي مشدودة الظهر وهو محني ومتعب، ومشهد صناعته لأخر افلامه والمونتاج العظيم بذلك المشهد بقطع الصورة بين توقيعه للشيكات وحالة تخطبه بالتصوير والتركيز على مشهد حصاره من قبل بدائين قتلى ومشهد عرض الفيلم وخلو القاعة من الجمهور وازدحامهم بالصالة التي تعرض فيلم بيتي والتركيز على مشهد في فيلمه وهو يغرق في الرمال المتحركة كتعبير عن نهاية فلانتاين الفنية والشخصية ومشاهد اخرى عديدة.
الفيلم مليء بالتفاصيل البصرية الرائعة من ديكورات وملابس، الموسيقى لا تهدئ ومبدعة والاداء من جان ديجاردان وبيرينش بيجو فوق الابداع يحملان العمل ويتصرفان كنجوم سينما صامتة يعتمدان على الكاريزما واللطف والجمال ومواهب بالتمثيل والرقص و تقديم الانفعالات بملامح الوجه دون ابتذال او تصنع ، عام 2012 استهجنت حصول العمل على خمس اوسكارات بوجود اعمال مفضلة اكثر لدي لكن بعد المشاهدة الثانية اقتنعت ان الفيلم من الروائع المعاصرة، حالة خاصة لن تتكرر، ربما لا يوجد حالة مشابهة له بتفردها سوى boyhood ونحن كمتابعي سينما محظوظين اننا عشنا بزمن فيه هذين الحالتين الابداعيتين الفريدتين.  10/10

la doulos - 1963
 
بين زحمة أفلام الأوسكار كان لي استراحة مع رائعة جان بير ميلفيل هذه، فيلم يعطيك كل الاجوبة حول سبب كون النوار هو أحد أكثر الصنوف تقديرا" بتاريخ السينما، أتى ميلفيل في ذروة الموجة الفرنسية ليقدم فيلم نوار كلاسيكي على الطراز الأمريكي ومع ذلك ينجح ويحجز اسمه بين روائع السينما الفرنسية في الستينات، فيلم ذكي جدا" ومحير حبكة معقدة تشد المشاهد حتى النهاية، يتحدث عن من كان اسمهم القبعة وهم العملاء المزدوجون بين العصابات والشرطة حيث لا تعرف عن الشخص سوى وجه واحد من حقيقته ويلعب الفيلم على هذه الجزئية حيث يعطيك طوال الوقت وجه واحد للحقيقة ويجعلك تحتار بحقيقة ما يدور ويجري حولك حتى خاتمة المكاشفة المذهلة، ملفيل يحضر لذلك جيدا" حيث يسلط الأضواء منذ المشهد الافتتاحي على شخصية واحدة ويركز الحبكة حولها طوال ثلث العمل قبل أن يسبح البساط من تحتها إلى شخصية أخرى هي الشخصية الرئيسية التي تمسك بكل خيوط العمل، وتحت الحبكة الممتازة هناك قصة رائعة عن شخصيات تريد النجاة، طوي صفحة الماضي والبدء من الجديد ويمزج ميلفيل ذلك بذكاء بفكرة العواقب ليجعله فيلما" ممتازا" عن الافعال والنواية وعن استحالة أن يسبح الشخص بالطين ثم يخرج نظيفا"، ذكاء الفيلم وعمق افكاره يجعله كلاسيكيا" صالحا" لكل زمان والصورة التي يقدمها ميلفيل بواسطة الابيض والاسود واللعب المبهر بالإضاءة والظلال والإنعكاسات على المرايا والزجاج تجعله فرجة بصرية ممتعة جدا" بالأخص مع مونتاج خدم العمل جدا" وموسيقى كلاسيكية أسرة.
في زمن أعاد فيه داميان شازيل التقدير للميوزكل اتمنى ان يأتي شخص بنفس شغفه واجتهاده ويعيد التقدير لسينما النوار التي اشتقنا لها جداً

The Seven Year Itch (1955)

باعتقادي إن هناك مجموعة معدودة من الاسماء تدين لهم هوليوود بهيمنتها السينمائية العالمية ومن أوائل هذه الاسماء هو بيلي وايلدر، الرجل صنع منذ الأربعينات وحتى الستينات تحفة تلو الأخرى ضربت بعمق صناعة السينما كقيمة فنية وفكرية وتجارية خاض بها غمار مواضيع لم يخضها أحد قبله وخرج لها بأساليب معالجة يمكن اعتبارها ثورية بزمانها و مرجعية بزماننا ، فيلم هرشة السبع سنين أحد أكثر أفلامه شعبية وارتباطا بذاكرة الجمهور بفضل الحضور المبهر لمارلين مونرو والمشهد الشهير حين تطير تنورة الفستان، هذا صحيح ولكن تلخيص الفيلم بالممثلة والمشهد هو تسخيف له، الفيلم أعمق وأهم من ذلك بكثير، على صعيد الفكرة هناك معالجة رائعة لقضية أزمة منتصف العمر والبرود الجنسي بحياة الرجل والمراهقة بعد الأربعين والتأثيرات النفسية للحياة الملتزمة المنضبطة، والمميز بالعمل إن معالجة هذه الفكرة تتم بأسلوب كوميدي مبهر جدا" ولا أبالغ إن وصفته بأحد أفضل الأعمال الكوميدية بالتاريخ دون أن ينفي عن الفكرة قيمة المعالجة ولا يعطيها حقها، وايلدر يحصر بطله ريتشارد بشقته 90% من وقت العمل ولكنه مع ذلك يجعل المكان رحبا" جدا" ويعتمد على سيناريو رشيق يمزج بين الخيال والحقيقة ويجعل الهلاوس الجنسية الطريفة جزء" أساسيا" من العمل التي تبدو متعارضة مع تصميم شخصية البطل وهذا التعارض هو ما يجعلها بغاية الطرافة وهذا يحمل فضله الممثل القدير توم اويل الذي كان شكله لوحده بنظراته وتشنجه وتوتره الجنسي المستمر سببا" رئيسيا" ليجعل العمل صاخبا" بالكوميدية فكيف حين يرميه بين أنياب مارلين مونرو التي يتعمد وايلدر بإظهارها بشكل مبالغ وغير واقعي من ناحية الجمال والإغراء، يعطيها من كل شيء الكثير إلا العقل ينزعه منها فيجعلها غير مدركة لإثارتها البالغة وغير مدركة إن الناس طامعين بها وهذا يمنح الشخصية فرصة لتتصرف بأقصى عفوية ممكنة، عفوية تبدو قاتلة بالنسبة لشخصية مثل ريتشارد والتناقض بين هاتين الشخصيتين يجعل الفيلم مجنونا" دون الحاجة إلى مفارقات خارجية أو شخصيات دخيلة أو حركات مفتعلة ووايلدر أدرك ذلك فاكتفى برمي النار والبارود جنب بعض ويجعلنا نراقب الانفجار ويبدع حين يستغل الزمن القصير للأحداث وضيق المكان وطبيعة الشخصيات لأقصاها وينقذه من الرتابة والتكرار أو من المبالغة فكان حيويا" جدا" جدا" ومنعشا" .
من ناحية أخرى الفيلم يبدو تجسيد وإستفادة لظاهرة مارلين مونرو في الخمسينات، يظهر جمالها وفتنتها لأقصاها ويجعل الفيلم يبدو خارجا" من الخيالات الجنسية لرجال الأربعينات وإنعكاسا" لهلاوسهم وتجسيدا" لخيالاتهم ، ومارلين مونرو تعطي الكثير للدور ليس فقط من حيث الجمال والإغراء بل من حيث العفوية والطرافة والحضور وروح الفكاهة ، وايلدر جدد تعاونه مع مونرو عام 59 بالفيلم الشهير some like it hot .. وكلا الفيلمين يعتبران من كلاسيكيات الكوميدية ومن الأعمال الأكثر تأثيرا" بسينما هوليوود، فيلم هرشة السبع سنين ينتهي نهاية مريحة تناسب جمهور الخمسينات والنهاية جيدة متناسبة مع روح العمل وليست مجرد مهرب من المحظورات الرقابية للخمسينات ومع ذلك تأثيره فاق الخمسينات من الممكن أن تعتبره نموذج اولي لجمال أمريكي وملهم له ومن الممكن ملاحظة الكثير من التشابه ونقاط الإلتقاء بين العملين لدرجة إنه يمكن إعتبار إن روح وايلدر وفيلمه هذا كانت ملهمة لمنديز بصنع رائعته التسعينية

مشاهدات (2) - Song to Song - Offside - The Cow - The Passion of Anna - Baby Driver - The Lobster

Song to Song - 2017

 


واحد من الأسرار التي ستبقى عصية على الفهم هي كيف يصنع تيرانس ماليك أفلامه؟، كيف يجعلها منبثقة من دواخل الشخصيات وأفكارها ومخاوفها وهواجسها وأحلامها؟ ، كيف يجعل أفلامه جزء من الحياة الواقعية كأنك تتابع تسجيلات منزلية يدوية لحياة الشخصيات وتسمع تعليقهم الداخلي؟ ، كأنك شخص إضافي كنت معهم تراقبهم أو كأنك تجول ضمن ذاكرتهم تلاحق صور من ماضيهم ونسمع حكمهم عليها.
لم أتوقع شيء اقل من هذا من ماليك في فيلمه الجديد song to song ، كل ما نحبه في سينما الرجل سنراه هنا، الروحانية المفرطة، نبذ العدوانية والوحشية البشرية، التمسك بالأرض والطبيعة، السمة الصوفية الإنسانية التي تصبغ أفلامه، حب الحياة والتمسك بها دون إفراط يحولها إلى سم يفقدنا مذاقها.
ماليك لا ينتقد المدينة وحياة الموسيقى ويهاجمها، يصورها جميلة وساحرة بشكل خاص، ولكنه يهاجم الإنغماس بها، التعلق بها ونبذ أي شيء عداها، يهاجم الغرائزية والحيوانية الإنسانية التي تحيل أي شيء إلى جحيم مهما كان جميلا" وساحرا".
الدور الذي يلعبه مايكل فاسبندر كمنتج موسيقي غارق بالشهوات هو تعبير من ماليك عن تلك الحيوانية التي تحيل الإنسان إلى شيطان يدمر نفسه ومن حوله ويحول أحلام الجميع إلى كوابيس، طوال الفيلم وشخصية فاسبندر تنحدر وتسحب من حولها معها، يلعب بالجميع وبمشاعرهم وأحلامهم وعواطفهم ومخاوفهم بلا شفقة، ككائن طفيلي يتغذى على بواطن الأخرين، يستنزفهم و نفسه، وخسارته هو الأكبر، باقي الشخصيات تعاني حتى بعد أن تبتعد عنه، تبقى تحمل ندوبها منه، تخوض رحلتها الخاصة من المعاناة لتتحرر وتتطهر من الآلم الذي سببها له، تعود إلى جذورها وأصولها، تستلهم القوى من ماضيها وأرضها، لتكتشف أن النعيم ليس بأضواء الشهرة بل بضوء أشعة الشمس على العشب المصفر في يوم صيف.
الاداءات بالعمل جبارة، روني مارا ورايان غوسلينغ ومايكل فاسبندر ونتالي بورتمان يسحرون العين ويأسرون القلب، حضور جميل لكيت بلانشيت، استخدام رائع للموسيقى والأغاني، تصوير يخطف الأبصار.
قد يعاب على الفيلم إنه في القسم الثاني أصابه بعض التشتت وسوء بتوزيع المشاهد بين الشخصيات بعد افتراقها مما سبب بالغياب الطويل لبعض الشخصيات ولكن الفيلم خرج متماسكا"، قد لا تعجب أفلام ماليك الجميع وهذا سبب الإنقسام النقدي الدائم حولها، البعض يعيب عليها روحانيتها ووعظيتها ولا يتقبلون ما يسموه تنظير المخرج عليهم، لأجل هؤلاء أقول جميع المخرجين الكبار يصنعون الفيلم كما يريدون له أن يكون هو رسالته للجمهور، لا يصنع الفيلم حسب توصيات الجمهور، مالك ليس من مخرجي القوالب الجاهزة الفارغة التي ترضي الجميع وتتصدر البوكس أوفس ثم ينساها الزمن، أفلامه للزمن، يصنعها كبوح ذاتي ورسالة فنية أو فكرية يريد تقديمها للعالم وتقبلها من عدمه أمر يعود للمشاهد.
The Cow


فيلم درويش مهراجي العظيم هذا يدور ضمن قرية صغيرة في الريف الإيراني، يعالج من خلال قصة بسيطة جدا" أفكار معقدة عن سلطان الخوف وتخاذل المجتمع، والحياة ضمن الوهم والرغبة المكبوتة لدى شخوص المجتمعات المحافظة بالتحرر وأن تكون ذاتها، فيلم صنع زمن الشاه حيث الرقابة الحكومة كانت متهاونة، ولكن كونه يدور في بيئة ريفية محافظة فهذا يجعله تحت مجهر رقابة مجتمعية هي في كثير من الأحيان أشد وطئة من الرقابة الحكومية، إلا إن هذا لم يمنع مهرجاي من صنع عمل حاز على رضى الجمهور المحلي والإعجاب الدولي فنال جوائز تكريمية مختلفة في مهرجاني برلين وفينيسا .
القصة تدور في قرية فقيرة عن حسين الذي يعتاش من بقرته ومعلقا" بها تعلقه بالحياة، تنفق البقرة بشكل مفاجئ مع تلميحات أن يكون تم قتلها على يد عصابة شعبية تثير الرعب بالأنحاء، مما يصيب حسين بالجنون فيتهيء له أنه هو البقرة ويتعامل معه أهل القرية كمجنون.
مهراجي يؤسس فيلمه بشكل ممتاز بتصويره حالة الهيام التي يكنها حسين لبقرته وكأنها جزء من عائلته ومزاوجتها مع حالة الخوف من عصابة اللصوص، في الفيلم لا نرى هذه العصابة تقوم بأي جريمة، هي تظهر فقط من بعيد ولكن سمعتها هي التي تهيمن على القرية، تبدو أشبه بالفزاعة التي يعلق عليها الجميع أخطاءهم وبعضهم يستغلها ليحقق لنفسه نفوذ كشخصية قريبهم الذي يعيث فسادا" بالقرية بلا حسيب أو رقيب، حتى موت بقرة حسين لا يبدو واضحا" إنه بسببهم - ولا أي جريمة أخرى - ربما نبتة سامة أكلتها وربما خطأ من زوجته أدى لموتها ولكن الجميع نسبع للعصابة تهربا" من المسؤوليةحتى حسين نفسه.
الجنون الذي يصيب حسين يبدو كرد فعل غاضبة على موقف أهل قريته الذين حاولوا إخفاء الحادثة عنه وعدم التحقيق بشأنها خشية دخول المشاكل إليهم، وربما تعبير عن غضبه من نفسه لإهماله أكثر ما يحبه لدرجة خسارته وعدم قدرته على الدفاع عنه، هو صرخة غضب بوجه هذه المجتمعات الخائفة الجبانة، ثورته هذه تحرك شيء من النخوة لدى أهل قريته فينهضون للمرة الأولى للتصدي للصوص ولكن هذا لا يكفي فيقررون التخلص من حسين الذي يشكل وصمة العار على جبينهم جميعا".
مهراجي يقول إن فيلمه يمكن تفسيره من وجهة نظر أخرى إنه تعبير عن تمرد الفرد على قوانين مجتمعه ورغبته بأن يعيش ذاته وحياته الخاصة، من زاوية معينة يمكن أن يكون هذا صحيحا" وعبر عنها مهراجي بشكل رمزي من خلال الجنون وانتحال شخصية البقرة وإلحاح أهل القرية على عودة حسين إلى شخصيته القديمة الوديعة المسالمة - الجنون في القرية الصغيرة أقدم أشكال رمزية ثورة الحرية في كل الفنون-
الفنيات السينمائية في العمل جبارة ، زواية التصوير ودرجات الأبيض والأسود والمونتاج والموسيقى على أعلى مستوى أما أداء عزت الله انتظامي لدور حسين فهو باعتقادي من أفضل الأداءات السينمائية التي شاهدتها 

 Offside - 2006
.

يتحدث الفيلم عن محاولة مجموعة من الفتيات كسر حظر اختلاط الفتيات بالشبان في إيران وحضور مباراة بين منتخبي إيران والبحرين التي سيتوقف عليها تأهل إيران لكأس العالم في ألمانيا 2006، الفيلم من إخراج جعفر بناهي وكغيره من أفلام المخرج لم يعرض في إيران ولكن هذا لم يمنعه من نيل جائزة الدب الفضي في برلين ، بناهي من المخرجين المغضوب عليهم في الجمهورية الإسلامية لإشكالية المواضيع التي يتطرق لها، منع عدة مرات من الإخراج وحاليا" هو أسير الإقامة الجبرية ولكن ذلك لم يمنعه من إخراج تاكسي طهران الحائز على دب برلين الذهبي 2015.
الفيلم يسير بخط من الكوميدية السوداء الرائعة، هو لا يصور أولئك الفتيات كناشطات ثوريات لحقوق المرأة، هن فتيات عاديات جدا" يعشن ككل بنات جيلهن بحماس وطيش المراهقة، لم تتشكل لديهن بعد الصورة الكاملة عن معنى الحرية والمساواة، إندفاعهن للمباراة هو لممارسة حقهن بعيش الشباب، للمشاركة بتلك الحالة الوطنية والاحتفاء بنصر منتخب بلادهن.
من خلال هذه الكوميدية الجميلة يعرض بناهي بذكاء فكرة الازمة التي تثيرها خلو القوانين من مضامينها في البلدان الشمولية، حين لا يفهم الفرد مغزى القوانين وأهميتها ومعناها ويرى تناقضات الدولة بتطبقيها فتفقد قوتها الإلزامية بالنسبة له ويصبح همه خرقها ليعيش حياته.
مشاهد عديدة في العمل لا تنسى بالعمل كسؤال إحدى الفتيات للعسكري عن سبب منع الاختلاط فيخبرها حتى لا يسمعن السباب وفي نفس الوقت هناك عسكري أخر يسب ويلعن بسبب المباراة، وحين يبرر العسكري إنه مسموح للبحرينيات والأجانب حضور المباراة حتى لا تثير الحكومة أزمة إعلامية مع اقتراب الانتخابات.
بناهي أعطى حرية كاملة لممثلاته المغمورات الموهوبات ليرسموا شخصياتهن بأنفسهن حتى يسهل عليهن التواصل معهن، وهذا كان له الفضل بتقديم حالة أدائية عفوية مذهلة.
في أحد أعظم مشاهد العمل تبكي إحدى الفتيات بعد الفوز يسالنها عن السبب، لماذا تبكي رغم الفوز؟ فتخبرهن إنها لا تهتم بالمباراة ولكن حبيبها كان ممن قتلوا بحوادث شغب المباراة السابقة وكان سيود حضور المباراة لذلك خاطرت بالقدوم إكراما" لذكراه، هنا يتحول الاحتفال من فرحا" بالفوز إلى إحتفالا" بالحب، ويختم بناهي فيلمه بحالة وطنية جميلة غير مبتذلة حين يدخل الجمهور المحتفل بالشارع إلى سيارة نقل المساجين ويخرجن الفتيات والسجانين ويرقصون جميعا" مع جمهور الشارع على أنغام النشيد الوطني الإيراني، كتعبير من بناهي على أن ما يوحد الإيرانيين هو الولاء للبلاد ولا يجوز أعتبار أي طرف له رأي معارض للنظام وقوانيه بأنه خائن 
.
The Passion of Anna - 1968

(
الصامتون هم الأكثر ألما")
لم أكن يوما" من المفتونين بالسويدي انغمار برغمان، لدي مشكلة مع أفلامه، أشعر إنها ثقيلة جدا" متعبة جدا" مؤلمة جدا"، تصيبني بالإرهاق حتى على الصعيد النفسي، ليست سيئة على الإطلاق، على العكس فيها درر وجواهر ونفائس على صعيد السيناريو والتمثيل والفكرة والشكل البصري الذي تظهر عليه سواء" كانت أبيض وأسود أو ملونة، بل إن قدرة أفلامه على إنهاك المشاهد فكريا" ونفسيا" وعاطفيا" هو ما يجعلها عظيمة، الآلم الذي لا بد منه كما يقول صديقي فراس محمد، لذلك فأنا لا انكب على مشاهدتها، مشاهدتي لبرغمان قليلة ومتباعدة ولكن كلما شاهدت له شيء أشعر إنني فعلا" مقصر بحق مخرج هو على مرتبة واحدة مع كوبريك وفلليني وهيتشكوك مدرسة بحد ذاته.
فيلمه هذا - The Passion of Anna وأفضل استخدام العنوان السويدي The Passion - هو ثالث فيلم لبرغمان ضمن ثلاثية العزلة بعد The Hour of wolf و Shame عام 1968 ، هو ثاني فيلم ملون له ،و ككل أفلامه السابقة واللاحقة يقدم لنا برغمان شخصيات منهكة في عالم صعب ومنهك، يصور لنا يومياتها ويلاحق من خلال تفاصيل حياتها العنف والعزلة واحتقار الذات وإدمان الألم، يصور المعاناة الإنسانية في كثير من الأحيان على إنها من أصل الفطرة البشرية، جوهر أزمتها الوجودية غير المرتبطة بالضرورة بالحياة الحديثة أو القديمة، بل الآلم والكآبة شيء متأصل بالطبيعة البشرية، ربما هو ما يجعلنا أكثر بشرية أو ربما هو ما يجعلنا متصالحين أكثر مع غرائزنا الحيوانية ومتمردين على السلوكيات الحضارية الحديثة.
الفيلم عن اندرياس الهارب من شيء مجهول والذي يعيش ضمن عزلة خانقة سئمها ويحاول كسرها من خلال علاقته بآنا وصديقيها أليس وإيفا،)أنا) خارجة حديثا" من حدادها على زوجها وابنها الذين فقدتهم في حادث سير ، أليس وإيفا يمثلان الزواج العصري الهش الكاذب المنعدم العاطفة والقائم على المظاهر الاجتماعية، الشخصيات الاربعة من الظاهر تبدو مثالية جميلة، أنيقة، مثقفة، ولكن حقيقتها عفنة قبيحة ، حياتهم قائمة على الكذب والنفاق والخداع وإنعدام الأخلاقيات، يبدون الاربعة صورة مصغرة عن عالم اليوم الحضاري المثالي النظيف في ظاهره والمنحل المتهالك في أعماقه.
علاقة اندرياس وأنا هي أشبه بإعادة الكرة لعلاقة أنا بزوجها السابق اندرياس وعلاقة أندرياس بخطيبته السابقة، وينتهي العمل عند نفس نقطة البداية، ليس تجريبا" فقط من برغمان بقدر ماهو ضروري لتوضيح فكرة الشخصيات التي تسجن نفسها بدائرة من أخطاء ماضيها وآلامه وعقده حتى لا تستطيع الخروج منها فتكررها دون وعي، هو من أعظم الأفلام التي صورت حالة أدمان العزلة، العزلة تتحول إلى مرض يسبب الإدمان بحد ذاته وبرغمان يجسد تلك الفكرة بنجاح من خلال شخصية اندرياس الذي من خلالها أيضا" قدم بريغمان تحليله الوافي لنفسية الإنسان المقبل على الانتحار، يشرحها ويفصصها كما لم تفعل مئات الكتب والمراجع النفسية.
برغمان أحد أفضل كتاب السيناريو في تاريخ السينما ليس فقط بفضل مونولوجاته العظيمة بل لقدرته على تطويعها في المكان المناسب ضمن حبكة وسياق قصصي مبهرين وتكون وافية لشرح دواخل شخصياته المبنية بعناية والمؤداة بشكل جبار من طاقمه الأثير ماكس فون سيداو وليف اولمان وبيبي اندرسون وايرلاند جوسيفسون، صحيح إن عوامل القوة هذه مرجعها خلفية برغمان المسرحية ولكن في كل مرة يستطيع كسرها برؤيته البصرية، فيلمه الملون الثاني هذا فيه إبداع باستخدام الألوان، الأحمر تحديدا" ، وإعطاءه أبعاد دلالية وجمالية جدا"، شيء سيكرره بعظمة بفيلمه الأهم صرخات وهمسات بعد ثلاث أعوام.
الفيلم لم يخل من غمز برغمان المحبب عن صمت الرب أمام كل هذه المعاناة، ربما لم تكن هذه الجزئية طاغية كأفلامه الأخرى ولكنها موجودة وبقوة هنا ومعبرة جدا" بمكانها عن حالة المعاناة الوجودية التي تعيشها الشخصيات.

 Baby Driver - 2017


من خلال مشاهدتي لأربعة من أفلام الإنكليزي إيدغار رايت من أصل خمسة طويلة أخرجها منذ عام2004 فإن الشيء الذي لا يمكنني إنكاره إن تلميذ تارانتينو النجيب لم يستطع فقط الحفاظ على مستوى واحد من الجودة في تقديم إعماله، بل إنه مع كل عمل يزداد نضجاً ويطور أدواته ويعزز أسلوبيته الخاصة حتى أصبح له هويته الخاصة المميزة في كل أعماله، يلعن بنجاح بزاوية تقديم أفلام كوميدية وحركية فيها الكثير من التحية والوفاء والأحياء لكلاسيكيات النوع دون أن يقع بفخ السطحية والإبتذال والتكرار بل أفلامه دوماً لها هويتها وطابعها الخاص وقوتها التي تفرض نفسه على المشاهد.
رايت نجح من خلال Baby Driver أن يقدم أنضج أعماله، فيلمه الأقل كوميدية والأكثر درامية ولكن بنفس روح البهجة والسرعة التي اعتدناها وأحببناها، يعلن منذ المشهد الأول عن هوية فيلمه، تحية لأفلام السيارات والسرعة والعصابات (وتحديداً أفلام مارتن سكورسيزي) ولموسيقى الروك الكلاسيكية، النسخة الأكثر بهجة من فيلم نيكولاس وايد ريفين (Drive) ، يصنع من خلال بيبي (أنسل ألغورت) شخصية متينة ومميزة جداً، شاب أنحرف في دروب الجريمة بعد كارثة عائلية كنوع من التعويض والعثور على عالم يحتويه ويقدره ووصل الآن لمرحلة يريد الإنسحاب وتغير نمط حياته ولكنه لم يعثر على العالم البديل حتى دخلت بحياته ديبورا (ليلي جيمز) وأعطته تصور عن مستقبل أخر بعيداً عن الجريمة، مستقبل لن يكون من السهل أبداً أن يحصل عليه.
أنسل ألغورت الذي سبق له وأن شارك شايلي وود بالفيلم الرومانسي الجميل (Fault in our Stars) يقدم هنا أداء ممتاز جداً حركي ودرامي ويعطي شخصية بيبي عمقها الدرامي المطلوب ويجعلها حية على الشاشة سواءً من هدوءه وسيطرته وراء المقود أو إنجرافه مع الموسيقى وإنفجاره بالحياة معها وإظهار حزنه العميق الدفين على والدته ورغبته بالانعتاق وانفتانه بديبورا وصنعه كيمياء ممتازة مع الساندرلا ليلي جيمز.
إيدغار رايت مبدع ومبهج جداً بصنع عوالم الشخصية وبرسم الشخصيات الثانوية من حوله، يستعين بطاقم تمثيلي قدير (كيفين سبيسي، جيمي فوكس، جون بيرنثال، والنجم التلفزيوني جون هام) ويعطي لكل شخصية مساحتها الخاصة ويصنع لها عالمها الخاص وخلفية مهمة للعمل وينجحون بتعزيز عوالم الشخصية الرئيسية ودفع الحبكة للأمام وتصعيد الصراع، الصراع في الفيلم لا يهدء ويتصاعد للأمام وصولاً لذروة ممتازة على صعيد الدراما وعلى صعيد مشاهد الحركة ممتازة الصنع جداً والممتعة، ويرافقه حوارات جميلة جداً وذكية

The Lobster - 2016


اليوناني يورغوس لانثيموس أحد أمهر مستخدمي الرمز في سينما اليوم ليعبر عن الهموم المعقدة التي تعترض الإنسان المعاصر، سواء من نزاع داخلي بين الإنسان وذاته لاكتشاف نفسه وجسمه وهواجسه ومخاوفه وتصوراته تجاه الجنس الأخر، أو نزاع الإنسان للتحرر والتخلص من هيمنة الأنظمة القمعية ، وفلسفة تلك الأنظمة وممارساتها، ضمن جرعة من العنف الانفجاري المرعب والصادم.
لانثيموس قدم أسلوبيته وأفكاره برائعته المرشحة للأوسكار كافضل فيلم أجنبي Dogtooth، ومع خروجه من اليونان إلى نافذة السينما الأوروبية للعالم (السينما البريطانية) وعمله مع كبار نجوم بريطانيا وهوليوود أعاد تقديم تلك الخلطة ضمن فيلم خيال علمي عالي التكلفة دون أن يفقد سيطرته على الفيلم ونظرته السينمائية وهذا شيء يحسب له ومهم جدا"، لأنه بذلك نجا من الفخ الذي يقع به أغلب المخرجيين خارج منظومة اللغة الأنكليزية الذين يطرقون أبواب بريطانية وهوليوود وينجرون مع الموجة العالمية ويفقدون ما ميزهم بالأصل هويتهم ونظرتهم السينمائية.
في رائعته الثانية هذه The lobster - السلطعون ، الفائزة بجائزة لجنة تحكيم كان 2015 ومرشحة لأوسكار أفضل سيناريو 2016 يقدم في ظاهره قصة خيالية بروح كوميدية سوداء عن مجتمع افتراضي لا يقبل بالعزوبة ويعرض أفراده من عزاب أو مطلقين أو أرامل لتجربة الإقامة في فندق للعثور على شريك خلال شهر وفي حال الفشل سيتم تحويل الفرد إلى حيوان ما يختاره.
في عمق القصة هناك تعبير عن مخاوف الإنسان الحديث من الوحدة وعن تعقيدات العلاقات العاطفية - والاجتماعية الحديثة بشكل عام - وعبثيتها ونفاقها -، وعن قوانين المجتمع وأحكامه الصارمة ونظرته القاسية تجاه الإنسان الوحيد التي تتحول إلى قيد تجبر الإنسان على القبول بأي حل حتى على حساب راحته وذاته حتى لا يتعرض لحكم المجتمع القاسي الذي قد يعامله كإنسان مريض أو ربما يجرده من إنسانيته، مما يسبب تشوه في العلاقات الاجتماعية والعاطفية ويجردها من معناها ويحولها من غاية بحد ذاتها إلى وسيلة للإندماج الاجتماعي ومظهر أخر ضروري من مظاهر الحياة المعاصرة.
مع استمرار الفيلم وبالتعمق به أكثر يقدم لانثيموس معالجة بغاية الذكاء لرغبة الإنسان الفطرية من التحرر من قيود الأنظمة مهما كانت متناقضة (سواء كانت أنظمة تقليدية محافظة أو تحررية تقدمية، اشتراكية أو رأسمالية، شرقية أو غربية، غنية أو فقيرة) والتي تجمعها نفس الدكتاتورية والسلطوية وقمع الذات الفردية وتقييدها، صراع ذكي جدا" مليء بالهرب والعنف والرغبة الفطرية بالتحرر التي لا يمكن تقييدها ولا إرضاءها بأنصاف الحلول أو الحلول المقنعة طالما هناك سلطة عليا توجه الفرد وتسيره وتنزع إنسانيته وتعامله كحيوان ، ليختم العمل بطريقة عبقرية تطرح عدة أسئلة بوقت واحد حول إلى أين يمكن أن يصل الإنسان بالعنف والحيوانية؟ إلى أي مدة مستعد أن يضحي بذاته ليبقى مع الشخص الذي يحبه؟ماهو الثمن الذي يمكن أن يدفعه ليحقق حريته؟
لانثيموس مبهر بضبط إيقاع عمله ، حيوي جدا"، مثير وذكي ومهم وكوميدياه على سوداويتها ممتعة جدا"، يقدم واحد من أذكى وأمتع النصوص المعاصرة و أجواء بصرية رائعة جدا" ، إدارة الممثلين لها خصوصية مهمة هنا وانتجت أداءات جماعية ممتازة جدا" من كولين فاريل وراشيل وويز وليا سيدوكس وجون سي رايلي، وكله تظافر لينتج فيلما" استثنائيا" يجعلني بغاية الحماس لمشاهدة فيلم لانثيموس القادم The Killing of a Sacred Deer الفائز بجائزة كان الأخيرة كافضل سيناريو