RSS

In the Mood for Love - 2000




وونغ كاراوي صنع فيلماً للقلب مباشرةً، قصة حب عظيمة غير منطوقة طوال العمل، عظمتها بما سكتت الشخصيات عن قوله ولم تبح به، عملاً يكسر كل تقاليد أفلام قصص الحب النمطية، يبتعد عن التعبير المباشر والرومانسية النمطية ويهتم بالإيحاء، يعبر عن مشاعر الشخصيات وتحولات وتقلبات تلك القصة المعقدة وينقلها للمشاهد بملامح الوجه، حركة الجسم، نظرات العيون، استخدام اللون، الإضاءة، كوادر المشهد، حركة الكاميرا، الموسيقى، والأغاني، الروتين اليومي، فيلم عظيم عن قصص الحب المحرمة، نال مديحاً واسعاً بكان وتتويج بجائزة أفضل ممثل ثم ترشيح للبافتا كأفضل فيلم الأجنبي، ومع الأيام أصبح كلاسيكي وعلى رأس قوائم أفضل أفلام القرن الجديد (آخرها الثاني في قائمة الـBBC)، بل إن كلاسيكيات رومانسية معاصرة عن الحب المحرم كجبل بروكباك وكارول ومونلايت تدين لهذا الفيلم بمنهجيتها.

هذا من الأفلام التي تتمنى ألا تنتهي، فيلم مصنوع بمزاج عالي، شاعري جداً ورقيق ومليء بالأحاسيس والحسرة والحزن، صراع الحب العاصف مع الذنب، مليء بتفاصيل الحياة اليومية وبالحوارات الجانبية، بالقصص والمواقف العابرة التي تخفي بين طياتها أسراراً وقصصاً ومشاعر لا تفهمها الشخصيات ولا تعرف كيف تتعامل معها ولم يعلم بها أحد أبداً، قصة جارين يكتشفان إن زوجيهما يخوناهما معاً، يلعبان لعبة بريئة بتخيل كيف بدأت العلاقة بينهما، ومن خلال الإدعاء تتسرب المشاعر الحقيقية، وفي بيئة وزمن محافظ (هونغ كونغ الستينات) يكون من الصعب على الشخصيات الإنجرار نحو علاقة خيانة محرمة بالأخص مع صدمة الخيانة التي تدفعهما ليتمسكا بكونهما أفضل من أزواجهما، لتراوح العلاقة مكانها، لحظات التمثيل والإدعاء هي المساحة للتعبير عن حقيقة المشاعر (التي لا يفصحان بها لبعض طوال العمل) ، وتفاصيل الحياة اليومية الاعتيادية تتحول إلى أدلة إدانة على شيء يرفضان الاعتراف بوجوده حتى لنفسهمها .
كاراوي يبدع بصنع تصاعد في الحالة الشاعرية وربطها بالإحساس بالذنب طوال العمل، يضعك منذ البداية في الجو بأن هناك قصة حب لن تنجح منذ كلمات القصيدة في الافتتاحية، يقدم لنا عائلتين في بيئة محافظة تعانيان من ضغوط حياتية فرضت على الشركاء البعد والبرود، يشعرك منذ البداية بحضور البيئة المحافظة بفضل تصويره الذي يأخذ دور المشاهد المتلصص الذي يراقب الأحداث ويرصد أدق تفاصيل تحركات الشخصيات، يأخذ التصوير زواية مريبة من خلف النوافذ وشق الأبواب وزواية الممرات الضيقة، يشعرك دوماً إن المكان مزدحم بالشخصيات مليء بالضجة حتى التحرك فيه صعب يقضي على الخصوصية ويضعك تحت الرقابة الدائمة، وانغ كاراوي ينجح بجعل المشاهد متلصص على الأحداث فيشعره – دون أن يقول – أن هناك شيء مريب يحدث في علاقة الزوجين بشركائهما.

علاقة تشان وشو بعد معرفتهما بخيانة زوجيهما تأخذ شكل المواساة وكسر الوحدة في البداية، هذا القسم يبدأ فيه كاراوي بالتركيز على اللون الأحمر ويستعمله في مواقع مدروسة حين تلتقي الشخصيات أو حين يفكران ببعض، بعد الفراق تصبح الألوان داكنة ويكثر استعمال الظلال والعتم، في لحظات وجودهما معاً يتسع كادر التصوير للإحساس بالتحرر، يجعل كاراوي حركة الكاميرا أبطيء كرغبتهما بسرقة المزيد من الوقت مع بعض، يجعل من النظرات المسروقة والابتسامة أبجدية للشخصيات تعبير فيه عن دواخلها، يصنع لحظات وجودهما بالسيارة متخمة بالحميمية والدفئ يحول بها السيارة إلى كبسولة عزل بها الشخصيات عن العالم، يزيد من استخدام الموسيقى الشاعرية المليئة بالشجن بالتدريج ويكثر استخدام الأغاني مع تصاعد المشاعر، يصبح للمطر رمزية تطهيرية، يعطي للعلاقة طهرية مقدسة بأنها غسلت روحيهما من صدمة الخيانة وبرودة الوحدة، ويجعل لها شكلاً طاهراً لم يتدنس بالخطيئة وإيذاء الأخر، ومن ناحية أخرى هو أشبه بالدموع التي تنهمر من روح الشخصيات حسرةً على عدم قدرتهما على أن يكونا سويةً.
كاراوي ذكي جداً بالنص الذي خطه، كيف يجعل الشخصيات تعيش الحب وتعبر عنه بتفاصيل الحياة اليومية الروتينية، كيف يحول الحياة الأحداث الاعتيادية إلى لغة مشفرة لا تفك رموزها سوى الشخصيات دون أن يضطروا إلى النطق بكلمة واحدة عن حقيقة مشاعرهم، ويبدع بربط تصاعد العلاقة مع تصاعد الإحساس بالذنب والخطيئة والرقابة، الشخصيتين لم تغير عاداتهما السلوكية، لم تتغير طبيعة علاقتهما، كل المشاعر التي تشتعل في داخلهما نحو بعضهما تبقى داخلية، لا يوجد اعتراف بالحب وكلمة حب حقيقية واحدة إلا بالنهاية، ولكن إحساس الذنب الذي تفرضه بيئة وتقاليد معينة يجعل الرقيب الداخلي ينشط داخل الشخصيات وتحديداً شو الزوجة، منذ المشهد التمثيلي الأول مع تشان نلاحظ تحفظها البالغ الذي تفرضه طبيعتها كإمرأة في مجتمع محافظ، يمثل تشان أنه زوجها ويحاول إغوائها بشخصية جارتها، هي ترفض هذا التمثيل لأن عزتها كأنثى لا تسمح لها بتخيل أن زوجها هو من بادر بخيانتها، تنقلب الأدوار وتحاول هي إغواء شاو بوصفه زوجها ولكنها تتوقف في المنتصف وتقول : (لا استطيع) طبيعتها كإمرأة عفيفة تمنعها حتى من تمثيل أن تكون مغوية، تضع فيما بعد شرطاً أن لا تدخل مع تشان سويةً إلى المبنى خشية إثارة الشبهات رغم إنهما قبل بداية لعبتهما اعتادا الدخول سويةً والإلتقاء منفردين بعلم الجميع كتصرف اعتيادي روتيني بريء، ولكن التغيير الداخلي الذي طرئ عليهما بعد وقوعهما بالحب يجعل إحساس الذنب يتصاعد عندهما فيبالغان بالحذر، ومع انتفاء أي تواصل جسدي بينهما يكون هذا الحذر البالغ هو البديل أو المعادل الغريب بالنسبة لهما للجنس.

علاقتهما تتراوح بين الإدعاء والوهم والإيهام كتعبير أو إخفاء لمشاعر حقيقية لا يفهمانها وتشعرهما بالذنب بدل النشوة ولكن لا يستطيعان المضي بها أكثر أو الإنسحاب منها، علاقة تبقيهما عالقين بالوسط، كتلك الليلة التي سجنت بها شاو نفسها بغرفة تشان، كان من الممكن لها الخروج بشكل عادي ولكنها بقيت معه طوال الليل في الغرفة دون أن تفعل شيء، الذنب والحذر البالغ يسجنها وشوق تشان لتمكث معه أطول فترة ممكنة يبقيها في الغرفة ولا يقترح حلاً ليخرجها، شخصية تشان كأي رجل في مجتمع محافظ يبدو أكثر جرأة وقابلية لخوض علاقة محرمة من المرأة، هو دوماً يبادر على خجل للتقرب منها ولكن شاو تنسحب رغم شوقها، كاراوي يصور مشاهد الترقب بلغة مبهرة، شاو تقف على قارعة الطريق، تشان يتقدم منها يقفان دقائق ثم تنسحب، علاقتهما بالكامل أخذت هذا الشكل، وفي كل محاولاته الخجولة ليلمس يدها يركز كاراوي على خاتم الزواج كإشارة الدائمة إلى الحاجز الذي يمنعهما من التقدم.
كاراوي يبدع بإشعال الأحاسيس بين الشخصيات وإيصالهما بينهما وللمشاهد بفضل أدائين جبارين من ماغي تشونغ وتوني تشواي ليونغ، يتوهجان عظمة بنظرات العيون ونبرة الصوت ورعشة الجسم والحركة المضطربة، يقدمان أحد أكثر ثنائيات على الحب على الشاشة صدقاً، لحظة وداعهما العظيمة هي من أفضل وأغرب مشاهد الوداع على الشاشة،  حين يخبر تشان شاو إنه سيرحل تكون ردة فعلها باردة (رغم احتراقها الداخلي) ولكن حين يمثلان هو وإياها كيف ودع زوجاهما بعضهما انهارت وانفجرت بالبكاء، حالة غريبة من الذنب والكبت وقوة هيمنة البيئة التي لا تسمح للشخص بأن يعبر عن ذاته إلا حين يدعي أنه شخص آخر، بعد الوداع تتعمد علاقتهما بآلام الفراق وحسرة الضياع، ألم يبقى كذلك داخلي غير منطوق، يوشك أن يتفجر داخل تشان فيتذكر قصة قديمة عن لجوء القديمين لشجرة ليحفظوا الأسرار في جذعها، هو يلجأ إلى حجر أثري في معبد بوذي مهجور، يعطي لقصتهما شيء من القداسة والخلود، ويحافظ كاراواي على إحساس الخطيئة والذنب مع وجود راهب بوذي يتأمل تشان وهو يعترف بمحاكاة للإعتراف المسيحي بالخطيئة.

هو ليس فقط فيلماً عن الحب الذي يغدر بأصحابه ويعذبهم بسادية، لس مجرد فيلم يقدم لك الحسرة، والذنب، والشوق وألم الحرمان وصفاء الحب، هو فيلم يجعلك تعيش كل هذه المشاعر، فيلم عن القصص العديدة التي طواها الزمن ولم يعرف بها أحد، فيلم عن النفاق الاجتماعي، عن سطوة التقاليد التي تجعل الإنسان رقيباً على أحاسيسه وتصرفاته، هو مواساة لكل الأشخاص الذين أحبوا بصمت وتعذبوا بصمت ولم يعلم بهم أحد، فيلم عن الحب الذي يقوى مع الحرمان والبعد ولا يموت ويبقى كالجمرة يحرق أصحابها، هو ذروة حقيقية للفنون شعراً ورسماً و لوناً و أداءً وموسيقى وأغنية، فيلم للأحاسيس ينعشها ويحيها ويخاطبها، فيلم أصيل يستحق مكانته كأعظم إنجازات القرن الحديث.
10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق