RSS

مع تاركوفسكي Mirror - The Sacrifice



The Mirror - 1975

بتصوري إن أحدى أفضل القرارات التي اتخذتها هو التمهل بمشاهدة أفلام أندريه تاركوفسكي، خلال أربع سنوات شاهدت له ثلاث أفلام فقط، الأمر أتاح لي الفرصة لإدراك عظمته بالتدريج كأبناء جيله الذين تابعوا صعوده عبر ثلاث عقود، جعلني استفيد من عامل الزمن والنضج لأفهم أكثر أستاذ فن النحت على الزمن.

التقسيم الاعتيادي للفيلم السينمائي، وأي عمل فني حسب رأي أرسطو ثم سيد فيلد هو بداية وسط خاتمة، في المسرح تأسيس حبكة حل، في السينما تمهيد مواجهة حل، هذه الوصفة تنطبق على كل عمل سينمائي تقريباً، بالنسبة لتاركوفسكي التقسيم يأخذ أبعاداً مختلفة، يبدأ بالخاص ينتقل إلى الاجتماعي أو العام ثم إلى العالمي أو الكوني، لاحظت هذا في سولاريس وستالكر، وفي المرآة كان أكثر وضوحاً.
لماذا اسم الفيلم هو المرآة؟ في المرآة ترى انعكاسك ولكن تراه معكوس اليمين يصبح يسار وهكذا، إلا أنك أنت تبقى أنت، المرآة في هذا الفيلم هو الزمن، الحاضر يعكس الماضي، الأبن يعكس الأب، الواقع يعكس التاريخ، كل التغييرات التي نراها ظاهرية ولكن لا شيء يتغير، في أحد المشاهد تقرأ إحدى الشخصيات كتاب عن تاريخ روسيا القيصرية، عزلتها عن أوروبا الكاثوليكية، ودورها بالتصدي للمغول وإنقاذ أوروبا في العصور الوسطى، يتلوه مشهد عن الحرب العالمية الثانية، تصدي روسيا الشيوعية أو الاتحاد السوفيتي المعزول عن أوروبا الرأسمالية للغزو النازي وإنقاذها العالم، الفيلم يسير على هذا النمط، تاركوفسكي أختار نفس الممثلين للعب عدّة شخصيات في أزمنة مختلفة للتأكيد على تكرار دائرة الزمن بلا نهاية، الشخصية الرئيسية حين تكبر تعيد تكرير تصرفات والدها يتزوج شخصية تشبه أمه شكلاً وطباعاً وينجب طفل يعيد تكرير مسيرته بطفولته ويتنبأ بمستقبله، يحاول جاهداً أن يكسر هذه الدائرة ولكنه لا يستطيع، أبنه يشعر أنه عاش هذه الحياة مسبقاً، وهناك صور مشوشة تجتاح رأسه ولا يفهمها، كل ما يمر به سبق ومرّ به والده، المكان والزمان فقط اختلف، من الريف الروسي في عشية الحرب الكونية إلى المدينة في ذروة الحرب الباردة، لا تبدو الأمور اختلفت كثيراً حتى سياسياً ويبدو إنها لن تختلف مستقبلاً وشكل الواقع الحالي ينبأ بذلك، وهذا برأيي يعطي للفيلم صفة تنبوئية أكثر من كونه تحليل للماضي وارتباط للواقع، تفكيك الزمن وإعادة تركيبه ليس فقط لفهمه والتحرر منه بل الغرض الأهم هو استشفاف ما سيجري لاحقاً وما سيولد، حتى على الصعيد الشخصي تاركوفسكي تنبأ بموته بسن مبكر وهو بذروة بعطائه ولم تمض عشر سنين حتى صدقت نبوءته، وروسيا المعزولة في الزمن القيصري ثم الاتحاد السوفيتي ما زالت لليوم معزولة وهي تحمل اسم روسيا الاتحادية.
الفيلم خليط من ذكريات تاركوفسكي وأحلامه، عن علاقته المضطربة مع والدته وطفولته المشوهة وتآثير هذه الطفولة والعلاقة على فترة نضجه وعلاقته بأبنه، ليست قصة استثنائية، الكثير من القصص والأفلام عالجت التزاوج بين الماضي والحاضر، المميز هنا بطريقة الطرح وأسلوبيته، لا يصرح تاركوفسكي إن هذا مشهد هو حلم أو ذكرى أو واقع، كل الوقائع مخلوطة ببعضها، ولكن أسلوبية التقديم تجعل المشاهد مع بعض التركيز يدرك الفرق، طريقة التصوير التي توحي دائماً بوجد شخص خفي نرى من عينيه الحدث، الانتقال من الألوان إلى الأبيض والأسود، الإحساس الدائم بالتشويش وإن هناك شيء ما ورائي يحدث وكأن الحياة عبارة عن حلم طويل نشترك به جميعاً حول العالم.
كما ذكرت الفيلم مقسم إلى ثلاث وحدات، خاص وعام وعالمي، الثلث الأول مركز على طفولة تاركوفسكي وذكرياته الخاصة وعلاقاته بعائلته، الثلث الثاني مركز على ذكرياته في الخدمة العسكرية ويبدو الأمر يتسع أكثر من عالمه الخاص إلى أزمة جيل كامل، الثلث الثالث يبدو عالمياً أكثر عن أزمة إنسانية، عن الزمن وتكراره بلا توقف بكل أخطاءه بكل أحلامه المحطمة بكل آلامه، صورة العمل استثنائية، كل مشهد يستحق التدريس، كل مشهد له رمزية خاصة، مشاهدة العمل صعبة جداً، حاولت مشاهدته سابقاً وشعرت بحواجز بيني وبينه، وتقريباً كل من يبدأ بأعمال تاركوفسكي يتعرض لنفس الموقف، الفيلم يحتاج لتأمل وصبر في بدايته ولكن لاحقاً ستغرق به وتخرج منه بتجربة استثنائية، تجربة تعيش مع المشاهد، تعيد تفكيره بحياته بماضيه بدور الزمن في حياته ويحاول قراءة مستقبله.


The Sacrifice - 1986
آخر أفلام الروسي أندريه تاركوفسكي صنعه في السويد، كرغبة منه لتجاوز المعوقات الانتاجية في الاتحاد السوفيتي من ناحية، وجانب آخر تحية لأحد ملهميه السويد أنغمار برغمان، وفي صميم العمل رسالة وداع أخيرة من تاركوفسكي للعالم الذي فارقه بعد أشهر من صدور الفيلم.
(انتظار الموت أصعب من وقوعه) أحد العبارات الحوارية المميزة في العمل، أندريه كان يمر بهذه الحالة، يعاني وهو ينتظر موته، ليس فقط المعاناة الجسدية التي سببها السرطان، بل معاناته الخاصة - الأصعب - مع حياته وذكرياته وماضيه، إحساسه بأن كل ما قدمه بلا فائدة وبلا طائل، وبدل أن يجعله حراً قيده أكثر، شعوره بأنه شوه الذكرى أثناء نبشها بدلاً من تمجيدها وقضى على صفائها في عقله، رعبه من مفارقة ابنه كنزه الوحيد وآمله بمستقبل أفضل له.
تاركوفسكي ككل الناس عاش وهو ينتظر شيئاً ما لم يستطع الحصول عليه، والآن وهو على مشارف الموت أدرك كم كان ذلك الشيء المجهول بلا قيمة، وهو مستعد أن يضحي بكل شيء ، بكل نجاحه وحياته والأشخاص من حوله فقط ليعود كما كان في صغره، ليهرب من الموت ويتوحد مع الذاكرة ويبدأ من جديد، تاركوفسكي كسر استحالة هذه الفكرة بالسينما، انهى فيلمه بلقطة الشجرة التي افتتح بها أول أعماله (طفولة إيفان) وكأن الرّب قبل قربانه وعاد للبداية لطفولته، وربما الختام بهذه اللقطة تعبير عن أنه أغلق الدائرة، ختام حياته هو بدايتها وسيعود لتكرار كل شيء من جديد بطريقة حتمية لا يمكن الهروب منها.
الفيلم رغم غرقه بخصوصية تاركوفسكي أكثر من أي وقت مضى ولكنه لا ينفصل عن أسلوبيته، الانتقال من الخاص للعام فالأعم، ليس فقط عن هواجس تاركوفسكي قبل موته، بل أيضاً عن مخاوف الاتحاد السوفيتي وأوروبا بشكل عام، صحيح أنه سويدي الهوية ولكن الطابع الروسي فيه واضح، أشباح الحرب العالمية الثانية التي ما زالت تطارد الجميع، فقدان الإحساس بالطمأنينة مع طول السلم الهش، الشعور بأن كل شيء حلم وسينتهي بأي لحظة، ومهما طال السلام فشبح الحرب موجود وسيغدر بالعالم بأي لحظة وستكون فعلاً آخر الحروب التي تنهي الحضارة.
الفيلم فيه نبرة تشاؤمية واضحة حول مستقبل الاتحاد السوفيتي، الإحساس بدنو إنهياره وعدم جدوى كل الإيدولوجيات وسنوات النضال والصراع التي خاضها النجم الأحمر بالأخص مع سياسات غورباتشوف الانفتاحية، انتقاد سياسة التعتيم التي يمارسها قادة الاتحاد السوفيتي على الشعب في حين كل شيء ينهار من حولهم وهم يختبئون وراء أصبعتهم ويسترون عورتهم بورقة التوت، مع تعبير عن أزمة ضياع هوية المجتمع الروسي بين من يريد الانفتاح على التجارب الغربية في دول شرقية (التركيز في العمل على اليابان واستراليا) وبين من يريد العودة إلى الجذور المسيحية القيصرية وهي الأزمة التي برزت بشكل أوضح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
مع كل هذا (وهنا يأتي الأهم) هو تعبير عن أزمة الإنسان العصر الحديث، إحساسه بعدم الجدوى وفقدان الشغف، مشاكل الهوية والانتماء، الشياطين التي تتنازعه، الكوابيس التي تسكنه، تاركوفسكي لا يصرح في النهاية هل كل ما جرى حقيقة أم حلم، ولكن ندرك إن كل ما حدث لم يكن سوى (مرآة) لواقع غير مفهوم يفتك بصاحبه ويقوده إلى حرق كل شيء أملاً بإنقاذ الطبيعة وإعادتها إلى نقائها قبل أن تفتك بها الحضارة الحديثة.
بصرياً ربما هذا أفخم أعمال تاركوفسكي، الرجل كان يتفنن باختيار مواقع التصوير بطريقة تشبه الهووس، ومع كل فيلم أشاهده له اتعجب من الأماكن التي يختارها ليصور بها، المكان جزء أساسي من أفلامه كما هو جزء أصيل من ذاكرته، هو دوماً البطل الرئيسي ويمزجه مع تصوير عجيب جداً، السحبات الطويلة واللقطة الواحدة، التلاعب بالدرجات اللونية والإضاءة والظل وميزاستين الحركة داخل الكوادر والتباين بين الداخلي والخارجي، يمسرح عمله ثم يكسر هذه المسرحية بصورة سينمائية أصيلة (كما كان يفعل استاذه برغمان) مع متواليات حوارية طويلة ومرهقة ومخيفة مدعومة بأداء جبار من إلراند جوسفسون (أحد نجوم أفلام برغمان ونجم فيلم تاركوفسكي السابق نستلوجية) هنا يقدم أحد أفضل الأداءات السينمائية لشخصية تعيش انهيارها الخاص، كل ما يقدمه محكم وحقيقي المونولوجات والحركة والارتجاف والتعرق والدموع، نموذج قياسي حول كيف تأدية دور شخصية تنحدر نحو الجنون.
١٠/١٠




مشاهدات سينمائية (4)



Viva Zapata ! - 1952
هذا الفيلم لا يحيد عن النهج اليساري المرتبط بمسيرة كازان وأفلامه، فيه الكثير من التحيز للفلاح البسيط وحقوقه ومستاء من شكل الدولة الحديثة التي جاء صعودها على حساب البسطاء وارتبطت بصراعات عنيفة ودموية كان الشعب وقودها لتضيئ أوسمة الجنرالات، يطرح أفكار جدلية وإشكالية عن العلاقة بين الغاية والوسيلة، وهل يمكن تحقيق الغاية النبيلة بالوسيلة الدنيئة؟ وهل يمكن إقامة دولة حضارية من رماد حرب كوت الجميع؟ هل جنرالات الحرب يصلحون للسلم؟ وهل هم فعلاً ينشدون مصلحة الشعب أم مصالحهم الشخصية؟
كازان جعل فيلمه عن القطيعة بين المصلحة الخاصة و العامة، لا يمكن تحقيق المصلحتين معاً، لا يمكن للبطل الشعبي أن ينجو في عالم السياسة، لا يمكنه أن يكون سياسي وبطل في الوقت نفسه، الفيلم قوي جداً بطرحه السياسي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبروز الدولة الأمريكية العميقة من خلال المكارثية بحجة مواجهة الشيوعية وتحول حلفاء الأمس لأعداء اليوم مع الحرب الباردة، فيه الكثير من الإسقاط رغم أن أحداثه في مكسيك مطلع القرن العشرين، عن الأبطال الذين يتحولون لطغاة وعن الانتصارات التي تفرز نفسها وعن الديكتاتوريات التي تعيد انتاج ذاتها باسماء جديدة، عن ضياع معنى وغاية الحروب، وضبابية معنى الحرية والسلم، وهشاشة معنى البطولة.

قوة هذا الطرح وهذه الأفكار تبدو بأفضل صورها من خلال البناء العظيم لشخصية إيمينلو زاباتا، الفلاح صاحب المعنى الفطري للحرية، صاحب القانون الأخلاقي الواضح، المحمل برغبات وأحلام بسيطة، اندفاعه الثوري كان نقي ومجرد من أي شوائب خاصة، لتحقيق العدالة وتحقيق ذاته والعثور على قيمة له بين الناس، هذه الدوافع التي حركته في ثورته الأولى البسيطة تحقيق مصلحة قومه ورغبته بأن يكون ذا قيمة وشآن، هذه الدوافع المختلطة العامة والخاصة تتضخم مع تعقد الصراعات وتتالي الانتصارات وتتنافر ثم تتضارب مع ضبابية الأهداف واختلاط الحلفاء والأعداء، ينتقل من بطل شعبي إلى طاغية وخلال هذا الانتقال يضيّع ذاته، يكتشف أن لا مكان له في عالم السياسة هو الفلاح الأمي، ولكن وبعد كل ما خاضه لن يكون الإنسحاب سهلاً، ليخوض حربه الأخيرة الحقيقية، الحرب التي حولته لأسطورة شعبية وملهم لكل ثوار أمريكا الجنوبية.

كازان بفضل النص العظيم الذي خطه جون ستايتنك يمجد الشخصية البطولية دون أن يجردها من إنسانيتها، هو بطل ضمن الإطار الإنساني وإنسانيته هي التي حولته لرمز، تحركه دوافعه الخاصة، يشعر بالخجل الذاتي من نفسه، يتعرض للإغواءات والتضليل والضياع لتظهر إن أصعب حرب خاضها هي ضد رغباته وشياطينه الخاصة، هو إنسان، عاشق، زوج، أخ، رجل يبحث عن الراحة، عن موقعه في عالم فوضوي، عن الأمان في عالم جنوني.
مارلون براندو - أعظم ممثل في التاريخ - يوصل شخصية زاباتا بكل تعقيداتها وتناقضاتها، يقدمه بعفوية لا أحد غيره يقدر عليها، جلافته، بساطته، جاذبيته الشعبية، وحشيته، صدقه، نظراته التي لا تعرف الثقة، صراعاته الذاتية مع شياطينه، خجله الذاتي من نفسه، إحساسه بالضياع حين يدخل عالم السياسة، جنون الحرب الذي ينهكه، يتوحد مع زاباتا ويقدمه بلا أي تكلف أو مجهود، ومنسجماً جداً مع الدور ومطوع نفسه بالكامل له ويجعله إحدى الأيقونات السينمائية في زمانه، ومعه انتوني كوين بأداء عظيم ببربريته وفوضيته وروحه الطفولية الوحشية، وجوزيف وايترمان الذي قدم شكل العالم السياسي بكل شيطانيته ووصوليته وغدره.
إليا كازان قدم صورة جميلة مليئة بالتفاصيل وملحمية مع لغة تعبيرية رمزية ممتازة جداً أعطت أبعاد عديدة للفيلم، صنع فيلماً عن الشعب الذي يصنع بطلاً والرمز الذي يلهم الشعب والحروب التي تنجب الطغاة.
٩/١٠

ما حدث ذات مرة في الأناضول هو أنه لم يحدث شيء، أو ربما هو حدث يكرر نفسه على الدوام في بيئة تعيد انتاج نفسها إلى ما لا نهاية، من قواعد السينما عموماً والسينما الكلاسيكية خصوصاً هو إن ما يحدث داخل الكادر هو المهم، الكلاسيكيون كانوا متزمتين جداً بهذه القاعدة لدرجة أنهم اعتبروا إن لا شيء يحدث خارجه، نوري بيجلان لا يكسر هذه القاعدة بل ينسفها من أساسها، في فيلمه هذاوهو أهم ما شاهدته له للآن - ما يحدث في الكادر ليس سوى مرآة لحوادث هامشية تراكمت حتى انفجرت، نتابع مع فريق من الشرطة المحلية وطبيب شرعي ونائب عام ومتهم وشاهد عملية بحث عن جثة وقعت ضحية جريمة لا نعلم عنها شيء، وحتى نهاية العمل لا نعلم كيف ولماذا وقعت الجريمة، بيجلان يسحب اهتمامنا تماماً عن هذا الحدث ويوجهه نحو الشخصيات، نحو حياتها وهمومها البسيطة وأسرارها وهواجسها ومخاوفها وذنوبها وخيباتها، يقوم بذلك بدون أن يغادر مسرح الأحداث - موقع الجريمة - وبدون أن يدخلنا إلى بيوت وعوالم الشخصيات الخاصة، يعتمد على الحوارات الجانبية وتفاعل الشخصيات فيما بينها خلال البحث عن الجثة ليرينا حياتهم بالكامل.
هذا من الأعمال الذي يستند لحبكة قوية ظاهرية، عبارة حدث ذات مرة حين تكون عنوان لفيلم ما (متبوعة بالغرب أو أمريكا أو الصين ومؤخراً هوليوود) تعني قصة حياتية مرتبطة بمكان وزمان معينين تتحول إلى أسطورة شعبية وتعكس المرحلة التاريخية؟ حدث ذات مرة في الأناضول لا يخالف تلك القواعد (قواعد الأسطورة الشعبية) جريمة هزت ريف الأناضول في زمن تبدو فيه تركيا على منعطف تاريخي مع طموحات دخول الاتحاد الأوروبي تضع فيه البلاد في مواجهة بين ما تريد أن تكون عليه وما هي على الحقيقة، المهم في عمل بيجلان أنه يحول حبكة العمل المتقنة إلى عنصر ثانوي جداً وهامشي وينقل هوامش الحدث للمقدمة، يجعل الشخصيات جزء من قسوة المكان وتعبير حي عنه، ويطرح معضلته المعهودة، إلى أي حد يطبع المكان قسوته على الإنسان؟ ويذهب حتى النهاية بفرضية كيف يمكن لهذه الطبيعة الجلفة أن تقتل الإنسانية بساكنيها وتحولهم إلى وحوش، ليس بالضرورة أشرار ولكن ربما القسوة والوحشية أسلوب حياة وطريقة نجاة في هذا المكان الموحش.

عبارة (الدخول للاتحاد الأوروبي) تمر بشكل عابر في إحدى الحوارات ولا يعاد تكريرها ثانية، ولكن لها رنين قوي في العمل بالأخص بموقع استخدامها، يجعلك تتساءل هل فعلاً هذه البلاد قادرة على دخول الاتحاد الأوروبي وهي لا تستطيع إيصال الكهرباء لريفها...؟ هل يكفي أن نكون (متحضرين)حسب شروط الاتحاد الأوروبي لنكون فعلاً كذلك، أم إن الانتقال من العالم الثالث للأول يحتاج إلى عمل أكثر تعقيداً وصعوبة في هيكلة وبناء المجتمع.
بيجلان لا يحود عن هاجسه الآثير في كل أفلامه (نسبية الحقيقة)، هو عادةً يستغل هذا الجانب ليصنع نفس تشويقي خفي يدفع القصة للأمام، هنا حالة الإثارة خفيفة جداً رغم إن صلب الموضوع عن جريمة، المهم أكثر هنا هو جدلية الحقيقة، إلى حد نحن بحاجة للحقيقة؟ هل من الممكن أن تكون الحقيقة لعنة؟ وهل معرفتنا لها تزيد من معاناتنا والأفضل أن تبقى الأمور مخفية؟ ولكن هل إخفاء الحقيقة يلغيها؟ أليست مجتمعاتنا بحاجة لمواجهة ذاتها وعيوبها وحقيقتها مهما كانت قاسية حتى نستطيع تجاوزها؟ هل مشكلة مجتمعاتنا أنها بارعة بشيء وحيد وهو إخفاء الحقيقة واختلاق الأكاذيب وإدمانها؟.
العمل عظيم بصرياً، بيجلان أحد أهم صناع الواقعية اليوم، يهتم بالمكان وتفاصيله - داخلياً وخارجياً - وتآثيره ويجعله محرك للحدث، وككل أفلامه هناك لوحات بصرية من قسوة المكان، ويضيف جيلان اهتمام كبير بملامح الوجوه وإلتقاط التعابير والنظرات والصمت والتعب والإرهاق والجلافة والقسوة، ينقب تحت طبقات التعب وقسوة الزمان والمكان ليزيل التراب عن إنسانية الشخصيات، يوجد في العمل جهد بديع في المونتاج وتوزيع اللقطات وانتقالها بين الشخصيات ورواية قصصها ...
الفيلم حالة عظيمة عن الأسرار التي يخفيها الإنسان ونعذبه، عن صراع الزي الحضاري والطبيعة الغرائزية، عن نزاع الإنسانية وقسوة المكان، عن الطموحات والأحلام التي يقتلها الواقع، عن مجتمع محتضر يتم دفعه للأمام رغم قناعة ساكنيه أنه قضية خاسرة ولا حل معه سوى هجره، حاز على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كان ٢٠١١ أحد أقوى سنوات المهرجان مع وجود أفلام شجرة الحياة وقيادة وفنان و منتصف الليل في باريس والجلد الذي أسكنه وغيرها، وربما في أي عام آخر لاحق لكان الفيلم هو من توج بالسعفة حتى بوجود فيلم جيلان الآخر حامل سعفة كان ٢٠١٤ بيات شتوي .
١٠/١٠


The Exterminating Angel - 1962
الفيلم الذي لا يمكن تفسيره، هذا هو الوصف الذي يجمع عليه أغلب متابعي السينما تجاه رائعة الإسباني لويس بونويل هذه، عمل مرهق كمتابعة وتفسير، كابوس من نوع مختلف تقع به الشخصيات ونتورط كمتابعين معه، الكابوس ينجب كوابيس وهلوسات متادخلة مع بعضها يعري بها بونويل كعادته الطبيعة البشرية، البرجوازية والنظام الطبقي، السلطة الدينية، المؤسسات الحكومية، العلاقات الاجتماعية.
منذ المشهد الأول هناك شيء غير طبيعي يحدث، الخدم يريدون المغادرة بلا سبب وعلى عجل، أجواء العشاء البرجوازي تفضح الكثير عن زيف ونفاق تلك الطبقة، تلميحات إلى قوة سخرية تملكها صاحب المنزل تحول بها خدمها لدب، وجود غير مفهوم للماعز، اثنان من الضيوف عضوان ماسونيان، إحدى الضيفات أحضرت معها ريش وأرجل دجاجة يتضح خلالها إنها لأداء شعائر دينية، ثم سلسلة من التصرفات الغريبة تحول غرفة المعيشة في القصر إلى سجن أبدي.
وراء كل الأحداث الغرائبية التي تقع هناك تعرية قاسية للطبقة البرجوازية، تصويرهم كمجتمع منغلق هش محكوم بقوانين صارمة ضاعوا حين خرقوها، الأمر أشبه بفايروس بدأ بخرق بسيط (قام به العضو الماسوني) ثم تفشت العدوة وتطورت لتتحول إلى وباء، ومعها أخذ قناع الإنسان الحضاري بالسقوط وكشف عن وجه بدائي مرعب انحدروا معه إلى أماكن بغاية الانحطاط.
الإنسان كائن اجتماعي ولكنه يظهر أسوء ما فيه مع الجماعة، لذلك يميل إلى وضع القوانين التي تشكل حدود تفصله عن الآخر، يحولها كأسوار لقلعة يحمي نفسه فيها، أو يخفي حقيقته فيها ويظهر بشخصية مزيفة منمقة، وحين تُخرق القوانين وتتلاشى الحدود وتتورط الشخصيات بمكان واحد يظهرون جميعاً أسوء ما في الطبيعة البشرية، عذاب الشخصيات الحقيقي ليس نقص الماء وفقدان الطعام والدواء وانحدار النظافة والصحة، العذاب الحقيقي هو اضطرارهم أن يكونوا سويةً، أن تُخترق خصوصيتهم، أن يكونوا عراة أمام بعضهم.
المفارقة أن الجحيم الذي تقع به الشخصيات (البرجوازية) لم يحصل إلا حين تخلى عنهم الخدم (العامة)، البرجوازيون كانوا دائماً يعزلون نفسهم عن العامة متجاهلين إن بقائهم يعتمد على وجودهم، ليس فقط لخدمتهم ورفعهم، بل لتميز أنفسهم من خلال النقيض، حين اختفى النقيض أصبحوا جميعاً متساوين، والعامة الذين رفعوهم هم من اسقطوهم، لم يبقى لهم سوى رئيس الخدم، اخر من وقع في العزل معهم، حلقة الوصل بين العامة والبرجوازيين، يتورط معهم لأنه بداخله يميل لهم رغم أنه الأقل الاستفادةمنهم، وحتى حين يقع معهم بالسجن يبقى بالنسبة لهم مجرد خادم رغم عدم وجود خدمات يستطيع تقديمها، وفي الخارج نرى العامة ورجال الدين والمؤسسات الحكومية وقد تخلت عنهم وتركوهم ليتعفنوا.
من ناحية اخرى هو فيلم عن قوة الفكرة أو الكلمة، السجن بالعادة مكان مغلق الأبواب، سجن الشخصيات مشرع الأبواب ولكن لا تستطيع المغادرة، لأن سجنها الحقيقي هو أفكارها، الأمر الذي بدأ بإختلال سلوكي غريب لم تفهمه الشخصيات ففسرته على نحو مختلف ليصبح (حقيقة) بعقل الشخصيات، إن هناك قوى ما تسجنهم باختلاف التفسيرات، لتنتقل عدوى الكلمة للخارج، لا أحد يفهم لماذا الشخصيات محبوسة ولكنهم مقتنعين أن السبب غير اعتيادي لأنه غير مفهوم وبالتالي هو بالتأكيد خطير، لذلك لا أحد يجرأ على تحريرهم، أشبه بنظرة لعلاقة الإنسان مع المجهول ورعبه منه وإلى أين يمكن أن يأخذه هذا الخوف، ومن ناحية أخرى هو تحليل بسيط من بونويل للأسطورة والخرافة كيف تتشكل وكيف تسيطر على الجميع.
يستغرق بونويل وقتاً طويلاً بدراسة إنحطاط السلوك الإنساني يدعمه برسم مميز للشخصيات وخصائصها وعوالمها يغني جداً العمل ومحور الإنحطاط، ولكن هو ليس فقط فيلم عن إنحدار الإنسان، هو عن تشكيل المجتمعات، عن الإنسان الذي اكتشف نفسه وحيداً ومعزولاً وأعزلاً على الأرض، نزاع للبقاء وتأمين الحاجات الأساسية، ثم خاض سباق لعب به الاصطفاء دوراً ليقدم الأقوى ويترك الأضعف بالخلف، سلسلة ظواهر غير طبيعية حاول الإنسان إيجاد تفسيرات لها ترضيه ولو خرافية، ثم انقسام المجتمع إلى مجتمعات ووقوع النزاعات فيما بينهما واضطرار الإنسان لصنع قواعد وحلول تحمي بقائه، قواعد تبدو أيضاً كالخرافة، وهمية وغير حقيقية لأنها ستنهار في يوم ما مجدداً فطبيعة الإنسان المدمرة أكبر من القواعد ولن يستطيع أن يستمر بالتمثيل للأبد، والحضارة ستسقط وستعود السيطرة للطبيعة.
١٠/١٠



Incendies - 2010
منطق الحرب عدم وجود منطق ...
يذهب الكندي ديني فيلنو بهذه الفكرة لأقصاها، يعالجها من زوايا رومانسية وإثارة وإنسانية ونقد سياسي، يدور في دولة شرق أوسطية افتراضية (نعلم جميعاً أنه يعني لبنان الحرب الأهلية) يلجأ إلى افتراضية المكان ليجرده من الجدلية والخصوصية السياسية ويجعله رمز لكل حالات النزاعات الأهلية الطائفية والعرقية حول العالم، يذهب أكثر نحو الحالة الإنسانية، إلى الدمار النفسي الذي تحدثه الحروب على عوالم شخصياتها ويجعلهم جميعاً بشكل أو بآخر ضحايا لأجندات وأفكار وثقافات أكبر منهم.

الفيلم يسير على خطين زمنيين، ليس فقط بغرض الإثارة المصنوعة بشكل جيد بل لينقل شخصياته بين زمنين، زمن الزرع وزمن الحصاد، زمن كان فيه كل شيء مباح وزمن كشف حساب لما ارتكبوه بالماضي، لنرى إن الشخصيات جميعها بمختلف انتماءاتهم خرجوا خاسرين بطريقة أو بأخرى، والتويست بالنهاية - الذي قد يبدو مبالغاً - يبدو غرضه تعزيز هذه الحالة وتعزيز عدم المنطقية التي تسود الحرب و التأكيد على ناحية البحث عن الجذور التي يهتم بها الفيلم جداً.

جزئية البحث عن الجذور تشغل الفيلم بطريقة لا تقل أهمية عن تسليط الضوء على فظاعة الحروب، بل إن المحورين مربوطين معاً بطريقة متينة، تبدو رحلة بحث الشخصيات عن جذورها كابوسية بطريقة مؤرقة، وتبدو كشر لا بد منه، رسالة مبهمة عن ضرورة مواجهة الماضي بكل عيوبه وشوائبه والتصالح معه حتى لا نكرر كوارث التاريخ، يبدو كمسيرة الأوطان التي تنشأ بالحب وتمزقها الكراهية ثم تتجاهل سوداوية تاريخها وتلمعه، وتبدو الرحلة مهمة لنرى إن ندوب الحرب لم تندمل حتى على الصعيد الشخصي، حتى لو هربنا منها وتناسيناها ستبقى تطاردنا إلى أخر العالم، وآثارها ضاربة العمق بالمجتمع ولو تجاهلها وربما تنفجر بأي وقت بالأخص مع انعدام عدالة نتائجها حيث تساوى الضحية بالجلاد وقادة الميليشيات يعيشون بنعيم من دماء البسطاء الذين ورطوهم بنزاعاتهم.
الفيلم قاس جداً وفيه مستوى عال من الجرأة بتجسيد فظاعة الحرب ولوثة الكره وشهوة الدم بلا رتوش، يحاول فيلنو أن يلتقط جميع الآثار الممكنة للحروب على التعليم والثقافة والطفولة والعائلة والمجتمع، ويستغل أدق تفصيل ليجعله رمز لشيء معين يريد قوله.
هو ليس فقط فيلم عن الحرب وما تقتله بداخلنا، هو عن اللهاث وراء السراب، عن الضريبة التي ندفعها لتحقيق أمانينا، عن الهوية والحقيقة وتقبلها مهما كانت، نال ترشيح لأوسكار أفضل أجنبي وكان له الفضل بإنطلاقة فيلنو للعالم وتحوله إلى أحد أكثر العاملين شعبية بهوليوود اليوم، بهذا العمل تظهر ملامح أسلوبيته أو مشروعه الخاص بتقديم الروابط غير الاعتيادية بين الشخصيات، بقدرته الرفيعة على ضبط الإيقاع، بهووسه بالتويست، بهاجسه الخاص بفكرة الهوية وسط صراعات عامة وخاصة، بتصعيد حالة الإثارة والعاطفة بطريقة متوازنة واللعب بالتويست بتقديمه بين عدة تويسات وهمية، صحيح أنني دوماً انتقده لهووسه بمحاكاة مخرجين آخرين (سودربيرغ - لينش - نولان - فينشر - سكوت) بطريقة تضيع فيها هويته كمخرج دون أن يتخلى عن مشروعه الخاص عن هموم الهوية، ولكن بهذا العمل كان بأكثر حالته خصوصية وأصالة، بالأخص بذهابه إلى منطقة مجهولة بالنسبة لمخرجي الغرب - منطقة الشرق الأوسط - وتقديمها بروح ابن المنطقة وبأدق تفاصيها وأكثر صدقاً وبطريقة بغاية الواقعية وكأنه خرج منها، مع أداء رفيع من لبنى أزابال التي أتقنت الأداء بلغة غريبة عنها رغم إن اللهجة خانتها.
٩/١٠

Naked - 1993
العري في هذا الفيلم هو عري المجتمع أمام فشله ومخاوفه، الإنكليزي المخضرم مايك لي يقدم دراسة شخصية استثنائي من خلال جوي، مشرد فريد من نوعه أقرب ما يكون للصعاليك، مثقف لدرجة الفلسفة التي أصابته بلوثة جنون (عرّت) أمامه المجتمع ولم يعد يستطيع أن يراه كما كان، وربما بهذا هو الشخصية العاقلة الوحيدة في واقع ضائع يغرق بجنون لا نهائي، جوي يشعر أنه مخنوق بالواقع، فقد كل صلاته الاجتماعية، سجين بحقيقة إن البشرية تسير مسرعةً نحو فنائها.
مايك لي يغرقنا بهذه الحالة، يجعلنا مع رحلة جوني في شوارع لندن ليلاً نعيش بفوضوية خانقة نلمس فيها العدمية التي اعتنقها جوني ونشعر بنذور القيامة في كل مكان، لا يوجد شخصية واحدة يمكن أن نعدها متصالحة مع واقعها أو متزنة، جميع الشخصيات تعيش ضياعها الخاص وحالة انعدام وزن وإحساس بعدم الانتماء.
الفيلم هو تعبير عن كل مخاوف وفلسفة وأفكار وتناقضات فترة التسعينات، مايك لي (يعري) تلك الحقبة التي مثلت للكثير من الفلاسفة والمنظرين قمة الحضارة ومثلت لآخرين نهاية الحضارة وأنها المرحلة الأخيرة قبل النهاية، مايك لي يعبر بعظمة عن تلك الحالة، حالة الخيبة من أن هذه هي الذروة التي طمح البشر للوصول لها طوال آلاف السنين ولم يعد هناك مكان أبعد يذهبون إليه والطريق الوحيد هو للأسفل.
مايك لي بنى سمعته أنه مخرج الناس العاديين، وهنا يشرب الواقعية للثمالة، يقدم وجه آخر للندن لم نعتد مشاهدته، الحواري الخلفية و الشوارع القذرة، لندن الليل، لندن المشردين والمعاتيه والمضطربين، كاميرته تعشق المكان وتعطي مع كل قذارته جمالية تصويرية باستخدام إضاءة الطريق واللقطة المتسعة، ينقلنا إلى جو خانق في المشاهد الداخلية ويعطينا إحساس إن الشخصيات عملاقة وعالقة بأقفاص ويقزمها في المشاهد الخارجية ويجعلها تضيع في الشوارع والزحام، لا يخلو الفيلم من مغازلة لتحفة كوبريك برتقالة آلية ويتقاطعان في نقطة محددة.
مايك لي يصنع جو من التوتر ممزوج بكوميدية سوداء دون أن يسطح الفكرة، يحافظ على صرامة الموضوع بجو من السريالية المرهق، يعتمد بشكل كبير على موسيقى أندرو دنيكسون ويرمي الحمل الأكبر على القدير ديفيد ثويلايس الذي نال عن الدور سعفة كان كأفضل ممثل.
الفيلم كان بداية صداقة مايك لي مع مهرجان كان الذي منحخ جائزة الإخراج ونال بعد ثلاث سنوات سعفة أفضل فيلم عن تحفته أسرار وأكاذيب وحافظ على نفسه ضيف اعتيادي للمهرجان، ولكن بالمقابل لي لم يكن مخلصاً تماماً لكان، هو كذلك من المفضلين لفينيسيا ونال أسدها الذهبي عن فيرا دارك ٢٠٠٤ كما أنه من مدللي الأوسكار وأسمه تردد مرتين مرشح كأفضل مخرج وخمس مرات كأفضل كاتب مؤكداً صفته كأحد أفضل كتاب السيناريو بتاريخ السينما - رغم إن مكانته أكبر من مجرد كاتب استثنائي - والأمر مستحق بالتأكيد للاستثنائية التي يقدمها برسم الشخصية والحبكة وتطعيم العمل بحوارات عظيمة وسيناريو (عري) شاهد على ذلك.
٩/١٠


Ikiru - 1954

مع أن الياباني أكيرا كوروساوا قد شكل سمعته بفضل الأفلام الغارقة بالتراث الشعبي الياباني مثل راشمون والملحمة الأكثر إلهاما" بتاريخ السينما الساموراي السبعة، ولكنه حين يذهب للدراما الاجتماعية فأنه يظهر وجها" آخر لا يقل أهمية عن ملاحمه الفلكلوريا، بالأخص فيلمه هذا أكيرو - عش أحد أكثر أعماله شعبية والمقتبس عن رواية للروسي ليو تولستوي.

كوروساوا بفيلمه هذا يلعب بذكاء على الأزمتين العامة والخاصة للمجتمع والبطل، ويربطهما ويغذيان بعضهما بطريقة لا يسمح فيها لمحور أن يطغى على الآخر، يبدأ بذلك من الافتتاحية الممتازة جدا" بشرح الجو العام للقصة على الصعيدين الخاص والعام ووضع المشاهد بوسط الأحداث وتعريفه على الشخصيات الثانوية المهمة جدا" في ثلث العمل الأخير، النص محكم جدا" ومدعوم بتتابعات مونتاجية مبهرة، يعتمد كوروساوا على لغة إخراجية سريعة وخانقة تجعل شخصياته أسرى لنمط معين وروتين ممل تهرب فيه منهم الحياة دون أن يدركوها ويتقاسمون خسارتهم مع مجتمع كامل، الفيلم يزداد صعودا" بلا توقف مع التعمق أكثر بعالم الشخصية الرئيسية واتانابي - أداء عظيم من تاكاشي شيمورا -وعرض خيباته مع اكتشافه لمرضه وأدراكه أنه لم يعش خلال الثلاثين السنة الماضية وكل ما عاش لأجله كان بلا طائل.
قصة الفيلم شعبية جدا" وكعادة أغلب أفلام كوروساوا مقتبسة عدة مرات من مختلف أنحاء العالم، واتانابي يقرر استغلال الأشهر القليلة التي بقيت له ليعيش ويستعيد حياته المفقودة، يخوض مغامرات ماجنة مع كاتب سكير فاشل، وهذا القسم من العمل يصنعه كوروساوا بتتاليات مكررة ونمطية تغذي إحساس الملل لدى المشاهد ليدفع واتانابي نحو المنعطف الأهم بقصته، ليس أن يعيش بل أن يكتشف الطريقة الصحيحة للعيش وأن يهزم الموت بإنجاز يجعله خالدا" بقلوب الناس.
الفيلم فيه مفارقة درامية جميلة عن الشخص الذي بدأ بالحياة بعد أن خسر كل شيء ونجح بهزيمة الموت بعد أن أسره لثلاث عقود، ويربط بين أزمة واتانابي مع السرطان والروتين وأزمة المجتمع الذي يعاني من سرطان البيروقراطية التي تقتله وتجعله ميتا" من الداخل، ينجح كوروساوا بالتنقل برشاقة بين أزمة بطله وأزمة المجتمع وجمعهما بخط واحد، يستعمل مختلف أساليب السرد السينمائية بنجاح من العرض الكلاسيكي إلى الفلاش الباك، يحول واتانابي من شخصية مستضعفة إلى بطل شعبي، ينزع عن فيلمه الخصوصية السينمائية نحو سرد أكثر عالمية وقريب من مختلف المجتمعات بمختلف الأزمان - وهذه ميزة كوروساوا بمختلف أفلامه حتى التراثية ولكن هنا كان أكثر عالمية -
فيلم عظيم عن الحياة وصراعها الدائم مع الموت، عن سعي الإنسان الدائم للخلود، عن الطريقة الصحيحة للحياة.
١٠/١٠




Tokyo Story - 1953
في هذا الفيلم يأتي أوزو بكل التناقضات الاجتماعية ويخلطها سوية"، جيلين، حقبتين، بيئتين، صانعا" واحدا" من أكثر ما شاهدته له حميمية، قصة والدين عجوزين يخوضان رحلة من الريف الياباني إلى طوكيو الناهضة من ركام الحرب العالمية الثانية لزيارة أولادهما.
أوزو مخرج صنع أسلوبيته السينمائية من تفاصيل الحياة العادية والأفكار المحافظة مع روح تقدمية مضبوطة ومن الأناس التقليديين والعلاقات العائلية البسيطة وقدم قصصه الحميمية ضمن هذه العوالم (لا عجب أن يكون أهم المؤثرين بالسينما الإيرانية بعد الثورة) أوزو هنا لا يحيد عن أسلوبيته ولا يبتعد عن الأفكار أو المشروع الذي خطه لنفسه، التغييرات الاجتماعية في يابان بعد الحرب، بل يحفر أعمق من السابق، يبدأ فيلمه بالريف وبتفاصيل حياة روتينية عادية لعجوزين على حافة السبعينات معززا" فكرة الاستقرار وأن لا شيء يحدث والأحداث اليومية والوجوه نفسها تتكرر منذ زمن طويل وإلى أجل غير مسمى، مؤكدا" على فكرة إنتماء شخصيتيه الرئيستين إلى زمان ومكان بعيد ومعزول عن جنون العالم الخارجي، ثم يرميهما بطريقة القفزة إلى وسط طوكيو التي تسابق الزمن لتنهض من تحت الركام وتواكب العالم وتسبقه مشكلة" هوية" وشكل جديد بعيد عن كل ما يعرفه هذين العجوزين غير القادرين على الانتماء للزمان والمكان الجديدين.
أوزو يحول رحلة الوالدين إلى بحث اجتماعي معمق جدا" لشكل اليابان الجديدة ممثلة" بطوكيو بعد الحرب، وكيف حولها السباق بين الأمم إلى وحش يلتهم العلاقات الاجتماعية ويتغذى عليها، يعطي إحساس عالي بالاغتراب تعيشه الشخصيات بدرجات متفاوتة، يقدم عقدة المدينة الكبيرة التي تبتلع ساكنيها بطريقة تبدو سابقة لزمانها ومتفوقة حتى اليوم، الشخصيات دائما" مشغولة وتعيش بقلق مادي وغير راضية عن واقعها، تؤجل مشاريعها الخاصة وتتناسى أحلامها الكبيرة، تتجاهل عواطفها البشرية الإنسانية وعلاقاتها العائلية فقط لتبقى ضمن العجلة التي تتزايد سرعتها يوميا".
الشخصيات لا تعيش فقط اغترابها الذاتي وإنما ضياعها عن ذاتها، العجوزان هما الأكثر ضياعا"، يشعران أكثر وأكثر بغربتهما عن المكان والزمان وغريبان عن أولادهما اللذان لم يعودان يعرفوهما، يقدم أوزو خليط جميل من العلاقة بين الوالدين وأولادهما، إحساس بالحب الفطري والخيبة وعدم الجدوى من الندم أو المعاتبة بعد مضي الزمن وفوات الأوان وإدراكهما إن الزمن يتغير بسرعة لا يستطيعان مجاراتها، يشكلان العلاقة الأكثر حميمية مع زوجة ابنهما المختفي من أيام الحرب، علاقة فيها الكثير من العاطفة عن والدين يبحثان عن آثر أخير لابنهما وزوجة تحاول التواصل مع زوجها المختفي من خلال والديه، ومن خلال هذه الجزئية يقدم أوزو خط درامي اعتاد على تقديمه بأعماله عن المرأة التي تعيش استقلاليتها وترفض الزواج والارتباط لاسباب عاطفية خاصة.
الفيلم يرتقي بثلثه الأخير ليصبح أكثر عاطفية بطريقة بعيدة عن كل التآثيرات العاطفية الكلاسيكية، يتحول إلى كشف حساب تواجه به الشخصيات ذاتها وتحصي خسائرها الحقيقية في سباق العالم المعاصر والذي يبدو أنه سباق بلا جدوى على الصعيد الشخصي.
في الثلث الأخير يلعب أوزو بطريقة قوية على جزئية الخسائر التي لا يمكن تعويضها، ولكن المآساة الحقيقية هي بعدم التعلم من كل تلك الأخطاء المرتكبة لتفادي خسائر جديدة، الشخصيات تأخذ مساحتها الخاصة للندم ولكن لا تغير شيء بسلوكها بعد أن باتت مدمنة على النمط الحياة الحديث ، ولا يبدو الندم يتجاوز كونه واجب اجتماعي، فحتى في هذا القسم العاطفي تتصرف الشخصيات بطريقة بغاية الروبوتية، واضعا" هنا أوزو أخر التناقضات بوجه بعضها، الحياة والموت، الموت يباغت الإنسان ولكن الإنسانية تهزمه بالإصرار على الحياة والتقدم للأمام، وتبدو هنا عبثية الفكر الإنساني، ركوب قطار الحياة نحو وجهة غير واضحة، تجاهل الاستمتاع بالرحلة والتركيز على الوصول إلى المحطة الأخيرة ... الموت
١٠/١٠


tag

Black Narcissus - 1947

قبل عام من صنعهما رائعتهما الحذاء الأحمر، قدم الإنكليزيان مايكل باول وإيمرك بريسبيرغر قصة تتقاطع في ظاهرها مع تحفتها الأهم، عن اللعنات غير المنطوقة وصراع الذات الدائم بين طبيعتنا وبين ما يفرض علينا، قصة خمس راهبات يخرجن من عزلتهن ويذهبن إلى أقصى جنوب شرق آسيا لإنشاء كنيسة، ولكن المهمة تنحرف ليصبن بالجنون، لا تعرف هذا الجنون سببه لعنة المكان أم هي أشياء في نفوس الراهبات أخفينها طويلا" وحاولن كبتها ولكن سحر المكان فجرها.

الفيلم ناضج جدا" وسابق لزمانه بتحليل الحالة النفسية لشخصياته، تقديم نزاع الغريزة ضد القيود التي نفرضها عليها لأسباب مختلفة، الشخصيات كبتن انفسهن طويلا" وعزلنها حتى نسين أنهن بشر وإناث ، وفي لحظة وحدة انتقلن بطريقة تشبه القفزة إلى مكان يحوي سحر وجمال وكل اللذات التي حرمن أنفسهن منها، عدن ليتذكرن من هن ويتواصلن مع ذاتهن البشرية والإنثوية، واكتشفن إن تلك العزلة التي فرضنها على أنفسهن لتجعلهن أقوى حولتهن إلى كائنات بغاية الهشاشة لم يصمدن في العالم المفتوح، قفزت أمامهن خيارات بحياة متعددة الألوان، وتذكرن أن الحياة ليست بلون واحد، وأمام هذه التغييرات انهارت حالتهن النفسية حتى فقدن السيطرة على ذاتهن.
العمل مؤسس بطريقة قوية منذ المشاهد الأولى يؤكد لنا إن الراهبات لسن مؤهلات لهذه المهمة وأن إحداهن تعاني من اضطرابات خاصة وغير مؤهلة بعد لنظام الحياة الدينية الصارم، ويركز على سحر المكان ويستغرق فيه ويعطي الشخصيات الثانوية مساحتها الوافية، المخرجان يبدعان بإعطاء طابع سحري ما وراءي للعمل، محولان المكان إلى نجم الفيلم الحقيقي بفضل مدير التصوير جاك كارديف الذي قدم لوحات تصويرية واستفاد من الطبيعة ورحابتها وألوانها وتشكيلاتها ومزجها بانتقالات موفقة للتصوير بأماكن عاتمة وضيقة واستعمال الظلال والضباب.
الصراع بالعمل يتصاعد بهدوء ليصل لذروة مجنونة بطريقة أقرب للسريالية، قدم من خلالها المخرجين متتاليات مرعبة وبغاية الأصالة في ذروة العمل بفضل أدائيين عظيمين من ديبورا كير وكاثلين بيرون.
٩/١٠






Shame – 1968
العار في هذا الفيلم هو الحرب، هي العار الحقيقي الذي يشوب البشرية منذ نشوئها، برغمان صنع هذا الفيلم بعد مرور أقل من ربع قرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي فترة جنون العالم بالحرب الباردة وسباق التسلح وحداثة العهد بأزمة الصواريخ الكوبية وتسرب أخبار كوارث حرب فيتنام، هو تعبير عن مخاوفه الخاصة ومخاوف البشرية عامةً من الحروب وسيطرة التطرف والفاشية، يتخيل وقوع حرب أهلية في السويد تمتد لسنوات طوال حتى تعتاد الشخصيات حالة الحرب وتنسى سببها وتصبح الحرب غاية بحد ذاتها تحرق كل شيء في طريقها.
هو ربما أقسى أفلام الحروب التي شاهدتها وأصدقها، بالنسبة لي كسوري فالفيلم مؤلم جداً وبلدي يعيش أيام وأحداث مشابهة بل مطابقة لما شاهدته بالفيلم، ليست القضية تنبئ مستقبلي، فالحرب هي الحرب بكل بشاعتها ووحشيتها لا تختلف من مكان لآخر، الصورة قاسية جداً لا ترحم ولا تجامل، يقدم برغمان الحرب بصرياً ببشاعتها الحقيقية، فيلمه قريب للملحمية ومكلف بطريقة بعيدة عن الاستعراضية ومهمة للتعبير عن الجو الوحشي السريالي الذي تدور فيه الأحداث.
ما يهم بيرغمان بالدرجة الأولى هي الانعكاسات النفسية للحرب على نفوس شخصياته، الحرب قوة هدامة تدمر كل جمال، الشخصيات تعيش جحيم واحتضار بطيء، الموسيقى توقفت، الفن تعطل، الناس يخشون من الإنجاب، لا يرون مستقبل وغد يعيشون لأجله، يخافون من الموت دون أن يوجد سبب حقيقي يدفعهم للتمسك بالحياة، المدارس تحولت لمعتقلات، الأطباء تحولوا لجزارين، قيمة الإنسان لا تساوي رصاصة، والخير والإحسان تتحول إلى وسيلة استغلال، برغمان يقدم زمن ضاع فيه مفهوم الشرف واختلفت فيه المفاهيم والمعايير أصبح فيه الإنجاب جريمة و قتل طفل وسيلة للنجاة.
أخطر ما يقدمه بيرغمان في عمله هذا هو نظرته لتحول الإنسان من كائن حضاري مسالم إلى وحش، يريك كيف إن الحرب لا تترك للإنسان سوى خيارين إما أن يبقى ضحية أو يتحول إلى وحش، فيه دراسة تحول نفسية مميزة جداً وصاعقة وممثله الآثير ماكس فون سيداو لعب بالشخصية باحترافية عالية وقدم معه أحد أفضل أدواره بالتوازي مع العظيمة ليف أولمان التي تقدم أداء استثنائي ربما هو الأهم بمسيرتها مع بيرغمان.
علاقتي مع سينما برغمان مضطربة عادةً، جوه الكئيب السوداوي يحبطني لذلك أترك دوماً فترات متباعدة بين متابعتي لأفلامه ولكن لا استطيع إنكار أهمية وقوة أعماله، برغمان كما هو معروف ذا خلفية مسرحية بالأصل، لذلك في أعماله دوماً تركيز على قوة الحوار وأداء الممثل، ولكن مسرحية الرجل لم تمنعه من أن يصنع لغة سينمائية عظيمة خاصة سواء بأفلام الأبيض والأسود أو الملونة، هنا شعرت أنني أشاهد برغمان بأكثر حالاته سينمائية، أكثر حتى الختم السابع والتوت البري و صرخات وهمسات، الحوار مختزل جداً ويعتمد بأغلبه على التلميح مانحاً المجال للصورة للتكلم، هو ربما أكثر أعماله اهتماماً بالصورة والتقنية لدرجة تصل – كما ذكرت بالأعلى – إلى الملحمية، الفيلم هو الحلقة الثانية من ثلاثية أطلقها بين عامي 1968 و 1969 ، بدأت بـHour of the wolf واتبعها بهذا الفيلم وختمها بـ Passion of Anna
10/10



Ordet - 1955
في فيلمه الفائز بأسد فينيسيا الذهبي يقدم الدنماركي كارل ثيودور درير قصة روحية عن معنى الإيمان ومعنى أن تكون متدين والفارق بينهما، عمله عن قوة الإيمان الحقيقية في حياة الإنسان والامتحانات المرهقة التي يتعرضوا لها والحكمة من وراءها.
يدخلنا في يومين من حياة شخصياته يعرضهم فيها لمواجهات متتالية مع أصحاب معتقدات مختلفة أو مع ملحديين والأهم والأخطر مواجهة مع الشكوك الذاتية حول مصداقية وصوابية الإيمان، يلخص هذه الصراعات بشخصية مورتن بورجن (أداء مذهل من هينريك مالبرغ) مزارع وكاهن كنيسة صغيرة في قرية تتبع مذهب مختلف، أرمل وولده الأكبر يوهانسون (أداء ممتاز من بردن لودورف راي) الذي كان أمله بأن يخلفه وينشر المذهب مصاب بلوثة عقلية بسبب انكبابه على دراسة اللاهوت جعلته يعتقد أنه المسيح المخلص، صدمة مورتن بيوهانسون يكملها عليه ابنه الأخر الملحد الذي لا يتوقف عن لوم والده على مصير أخيه، وابنه الأصغر اندرياس مغرم بابنة كاهن الكنيسة المخالفة ويريد الارتباط بها عكس إرادة والده، سلوى مورتن الوحيدة هي بزوجة ابنه التي ترفع معنوياته دوماً وتلعب دور الموازن في العائلة المتناقضة، ولكن لا تستطيع أن تساعده بأكثر مواجهاته إرهاقاً مع شكوكه الذاتية حيال صمت الرب اتجاه صلواته وشعوره بالخيبة من خذلان المعتقد الذي نذر له حياته.
درير يصور حالة الإيمان عند مورتن إنها قضية تتعلق بالكرامة أكثر منها إخلاص لمعتقده، كرامته لا تسمح له أن يعترف لأحد ولا حتى لنفسه أنه كان مخطئ مما يعذبه أكثر، هذا الصراع الذاتي يتصاعد حين يرفض الكاهن الآخر طلب أندرياس بالزواج من ابنته ويطرده وينعته ووالده بالكفر، الكرامة المجروحة تدفع مورتن ليغيير موقفه من رغبة ابنه ويؤيده برغبة زواجه ليرد الإهانة ويثبت للجميع أنه مؤمن وليس كافر مع احتفاظه بمعتقده، هنا يأخذ الفيلم شكل معالجة جديدة وجميلة لمآثرة شكسبير روميو وجوليت دون أن يغرق بها، ينسحب منها بالوقت المناسب ليحافظ على هويته ويستمر بطرح أسئلة إيمانية مرهقة جداً.
المنحى الروحي للعمل يتصاعد بقوة في الثلث الأخير ويصل للذروة بطريقة تخطف القلب، يتجاهل كل الفوارق الدينية كل الحقائق العلمية ليجعلنا نصمت أمام الحقيقة الوحيدة التي لا جدال حولها (الموت)، أمام الموت تنهار كل الحقائق والمعتقدات والفوارق والأفكار والخلافات، يغرقنا درير بالحدث بطريقة بغاية الروحانية والعاطفية يرجف معها القلب ثم يسحبنا إلى ما وراء الحدث ليستمر بطرح الأسئلة المرهقة، ما الجدوى من كل الشيء؟ ما الحكمة من المصيبة؟ ما غرضها؟ هل هي صفعة من الرب أم طريقة أخرى ليوجه لنا رسالته؟ هل فعلاً الرب صامت أمام صلواتنا أم إن صمته هو لغة خاصة لم نفهمها؟
درير يذهب بأسئلته إلى أبعد من ذلك، إلى صلب العقيدة، هل من الممكن للمعجزات أن تحصل اليوم؟ لماذا توقفت المعجزات؟ هل قتلها العلم أم إن العلم هو وجه أخر للمعجزة؟ هل للمعجزة شروط خاصة لتتحقق؟ هل هي سبيل إلى إيمان قوي أم إنها تحتاج إلى الإيمان القوي لتحدث؟ أين هو الإيمان الحقيقي؟ هل الإلتزام بالشعائر وترديد الصلوات وارتداء ملابس رجال الدين كاف لنكون مؤمنين ؟ أم إن الإيمان هو حالة قلبية خاصة بمعزل عن كل الشكليات والطقوس؟
قوة النص التي بني عليها العمل يترافق مع لغة سينمائية إخراجية عظيمة، كل عناصر الفيلم موضوعة بالمكان الصحيح وموظفة لتقدم فكرة معينة، الكوادر والظلال وزواية التصوير والميزاستين والقطع واستغلال مساحة المنزل والتصوير الخارجي كله مخدم ليعطي العمل مع الدراما القاتمة والروحية العاطفية جو مضبوط ومشدود من الإثارة التي خدمت الحالة الدرامية بطريقة ممتازة ونجحت بكسر الحاجز بين الفيلم وبين متابعه من أي معتقد كان لتقدم له وجبة روحية عاطفية من أعظم ما قدمته السينما.
١٠/١٠
tag