RSS

مع تاركوفسكي Mirror - The Sacrifice



The Mirror - 1975

بتصوري إن أحدى أفضل القرارات التي اتخذتها هو التمهل بمشاهدة أفلام أندريه تاركوفسكي، خلال أربع سنوات شاهدت له ثلاث أفلام فقط، الأمر أتاح لي الفرصة لإدراك عظمته بالتدريج كأبناء جيله الذين تابعوا صعوده عبر ثلاث عقود، جعلني استفيد من عامل الزمن والنضج لأفهم أكثر أستاذ فن النحت على الزمن.

التقسيم الاعتيادي للفيلم السينمائي، وأي عمل فني حسب رأي أرسطو ثم سيد فيلد هو بداية وسط خاتمة، في المسرح تأسيس حبكة حل، في السينما تمهيد مواجهة حل، هذه الوصفة تنطبق على كل عمل سينمائي تقريباً، بالنسبة لتاركوفسكي التقسيم يأخذ أبعاداً مختلفة، يبدأ بالخاص ينتقل إلى الاجتماعي أو العام ثم إلى العالمي أو الكوني، لاحظت هذا في سولاريس وستالكر، وفي المرآة كان أكثر وضوحاً.
لماذا اسم الفيلم هو المرآة؟ في المرآة ترى انعكاسك ولكن تراه معكوس اليمين يصبح يسار وهكذا، إلا أنك أنت تبقى أنت، المرآة في هذا الفيلم هو الزمن، الحاضر يعكس الماضي، الأبن يعكس الأب، الواقع يعكس التاريخ، كل التغييرات التي نراها ظاهرية ولكن لا شيء يتغير، في أحد المشاهد تقرأ إحدى الشخصيات كتاب عن تاريخ روسيا القيصرية، عزلتها عن أوروبا الكاثوليكية، ودورها بالتصدي للمغول وإنقاذ أوروبا في العصور الوسطى، يتلوه مشهد عن الحرب العالمية الثانية، تصدي روسيا الشيوعية أو الاتحاد السوفيتي المعزول عن أوروبا الرأسمالية للغزو النازي وإنقاذها العالم، الفيلم يسير على هذا النمط، تاركوفسكي أختار نفس الممثلين للعب عدّة شخصيات في أزمنة مختلفة للتأكيد على تكرار دائرة الزمن بلا نهاية، الشخصية الرئيسية حين تكبر تعيد تكرير تصرفات والدها يتزوج شخصية تشبه أمه شكلاً وطباعاً وينجب طفل يعيد تكرير مسيرته بطفولته ويتنبأ بمستقبله، يحاول جاهداً أن يكسر هذه الدائرة ولكنه لا يستطيع، أبنه يشعر أنه عاش هذه الحياة مسبقاً، وهناك صور مشوشة تجتاح رأسه ولا يفهمها، كل ما يمر به سبق ومرّ به والده، المكان والزمان فقط اختلف، من الريف الروسي في عشية الحرب الكونية إلى المدينة في ذروة الحرب الباردة، لا تبدو الأمور اختلفت كثيراً حتى سياسياً ويبدو إنها لن تختلف مستقبلاً وشكل الواقع الحالي ينبأ بذلك، وهذا برأيي يعطي للفيلم صفة تنبوئية أكثر من كونه تحليل للماضي وارتباط للواقع، تفكيك الزمن وإعادة تركيبه ليس فقط لفهمه والتحرر منه بل الغرض الأهم هو استشفاف ما سيجري لاحقاً وما سيولد، حتى على الصعيد الشخصي تاركوفسكي تنبأ بموته بسن مبكر وهو بذروة بعطائه ولم تمض عشر سنين حتى صدقت نبوءته، وروسيا المعزولة في الزمن القيصري ثم الاتحاد السوفيتي ما زالت لليوم معزولة وهي تحمل اسم روسيا الاتحادية.
الفيلم خليط من ذكريات تاركوفسكي وأحلامه، عن علاقته المضطربة مع والدته وطفولته المشوهة وتآثير هذه الطفولة والعلاقة على فترة نضجه وعلاقته بأبنه، ليست قصة استثنائية، الكثير من القصص والأفلام عالجت التزاوج بين الماضي والحاضر، المميز هنا بطريقة الطرح وأسلوبيته، لا يصرح تاركوفسكي إن هذا مشهد هو حلم أو ذكرى أو واقع، كل الوقائع مخلوطة ببعضها، ولكن أسلوبية التقديم تجعل المشاهد مع بعض التركيز يدرك الفرق، طريقة التصوير التي توحي دائماً بوجد شخص خفي نرى من عينيه الحدث، الانتقال من الألوان إلى الأبيض والأسود، الإحساس الدائم بالتشويش وإن هناك شيء ما ورائي يحدث وكأن الحياة عبارة عن حلم طويل نشترك به جميعاً حول العالم.
كما ذكرت الفيلم مقسم إلى ثلاث وحدات، خاص وعام وعالمي، الثلث الأول مركز على طفولة تاركوفسكي وذكرياته الخاصة وعلاقاته بعائلته، الثلث الثاني مركز على ذكرياته في الخدمة العسكرية ويبدو الأمر يتسع أكثر من عالمه الخاص إلى أزمة جيل كامل، الثلث الثالث يبدو عالمياً أكثر عن أزمة إنسانية، عن الزمن وتكراره بلا توقف بكل أخطاءه بكل أحلامه المحطمة بكل آلامه، صورة العمل استثنائية، كل مشهد يستحق التدريس، كل مشهد له رمزية خاصة، مشاهدة العمل صعبة جداً، حاولت مشاهدته سابقاً وشعرت بحواجز بيني وبينه، وتقريباً كل من يبدأ بأعمال تاركوفسكي يتعرض لنفس الموقف، الفيلم يحتاج لتأمل وصبر في بدايته ولكن لاحقاً ستغرق به وتخرج منه بتجربة استثنائية، تجربة تعيش مع المشاهد، تعيد تفكيره بحياته بماضيه بدور الزمن في حياته ويحاول قراءة مستقبله.


The Sacrifice - 1986
آخر أفلام الروسي أندريه تاركوفسكي صنعه في السويد، كرغبة منه لتجاوز المعوقات الانتاجية في الاتحاد السوفيتي من ناحية، وجانب آخر تحية لأحد ملهميه السويد أنغمار برغمان، وفي صميم العمل رسالة وداع أخيرة من تاركوفسكي للعالم الذي فارقه بعد أشهر من صدور الفيلم.
(انتظار الموت أصعب من وقوعه) أحد العبارات الحوارية المميزة في العمل، أندريه كان يمر بهذه الحالة، يعاني وهو ينتظر موته، ليس فقط المعاناة الجسدية التي سببها السرطان، بل معاناته الخاصة - الأصعب - مع حياته وذكرياته وماضيه، إحساسه بأن كل ما قدمه بلا فائدة وبلا طائل، وبدل أن يجعله حراً قيده أكثر، شعوره بأنه شوه الذكرى أثناء نبشها بدلاً من تمجيدها وقضى على صفائها في عقله، رعبه من مفارقة ابنه كنزه الوحيد وآمله بمستقبل أفضل له.
تاركوفسكي ككل الناس عاش وهو ينتظر شيئاً ما لم يستطع الحصول عليه، والآن وهو على مشارف الموت أدرك كم كان ذلك الشيء المجهول بلا قيمة، وهو مستعد أن يضحي بكل شيء ، بكل نجاحه وحياته والأشخاص من حوله فقط ليعود كما كان في صغره، ليهرب من الموت ويتوحد مع الذاكرة ويبدأ من جديد، تاركوفسكي كسر استحالة هذه الفكرة بالسينما، انهى فيلمه بلقطة الشجرة التي افتتح بها أول أعماله (طفولة إيفان) وكأن الرّب قبل قربانه وعاد للبداية لطفولته، وربما الختام بهذه اللقطة تعبير عن أنه أغلق الدائرة، ختام حياته هو بدايتها وسيعود لتكرار كل شيء من جديد بطريقة حتمية لا يمكن الهروب منها.
الفيلم رغم غرقه بخصوصية تاركوفسكي أكثر من أي وقت مضى ولكنه لا ينفصل عن أسلوبيته، الانتقال من الخاص للعام فالأعم، ليس فقط عن هواجس تاركوفسكي قبل موته، بل أيضاً عن مخاوف الاتحاد السوفيتي وأوروبا بشكل عام، صحيح أنه سويدي الهوية ولكن الطابع الروسي فيه واضح، أشباح الحرب العالمية الثانية التي ما زالت تطارد الجميع، فقدان الإحساس بالطمأنينة مع طول السلم الهش، الشعور بأن كل شيء حلم وسينتهي بأي لحظة، ومهما طال السلام فشبح الحرب موجود وسيغدر بالعالم بأي لحظة وستكون فعلاً آخر الحروب التي تنهي الحضارة.
الفيلم فيه نبرة تشاؤمية واضحة حول مستقبل الاتحاد السوفيتي، الإحساس بدنو إنهياره وعدم جدوى كل الإيدولوجيات وسنوات النضال والصراع التي خاضها النجم الأحمر بالأخص مع سياسات غورباتشوف الانفتاحية، انتقاد سياسة التعتيم التي يمارسها قادة الاتحاد السوفيتي على الشعب في حين كل شيء ينهار من حولهم وهم يختبئون وراء أصبعتهم ويسترون عورتهم بورقة التوت، مع تعبير عن أزمة ضياع هوية المجتمع الروسي بين من يريد الانفتاح على التجارب الغربية في دول شرقية (التركيز في العمل على اليابان واستراليا) وبين من يريد العودة إلى الجذور المسيحية القيصرية وهي الأزمة التي برزت بشكل أوضح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
مع كل هذا (وهنا يأتي الأهم) هو تعبير عن أزمة الإنسان العصر الحديث، إحساسه بعدم الجدوى وفقدان الشغف، مشاكل الهوية والانتماء، الشياطين التي تتنازعه، الكوابيس التي تسكنه، تاركوفسكي لا يصرح في النهاية هل كل ما جرى حقيقة أم حلم، ولكن ندرك إن كل ما حدث لم يكن سوى (مرآة) لواقع غير مفهوم يفتك بصاحبه ويقوده إلى حرق كل شيء أملاً بإنقاذ الطبيعة وإعادتها إلى نقائها قبل أن تفتك بها الحضارة الحديثة.
بصرياً ربما هذا أفخم أعمال تاركوفسكي، الرجل كان يتفنن باختيار مواقع التصوير بطريقة تشبه الهووس، ومع كل فيلم أشاهده له اتعجب من الأماكن التي يختارها ليصور بها، المكان جزء أساسي من أفلامه كما هو جزء أصيل من ذاكرته، هو دوماً البطل الرئيسي ويمزجه مع تصوير عجيب جداً، السحبات الطويلة واللقطة الواحدة، التلاعب بالدرجات اللونية والإضاءة والظل وميزاستين الحركة داخل الكوادر والتباين بين الداخلي والخارجي، يمسرح عمله ثم يكسر هذه المسرحية بصورة سينمائية أصيلة (كما كان يفعل استاذه برغمان) مع متواليات حوارية طويلة ومرهقة ومخيفة مدعومة بأداء جبار من إلراند جوسفسون (أحد نجوم أفلام برغمان ونجم فيلم تاركوفسكي السابق نستلوجية) هنا يقدم أحد أفضل الأداءات السينمائية لشخصية تعيش انهيارها الخاص، كل ما يقدمه محكم وحقيقي المونولوجات والحركة والارتجاف والتعرق والدموع، نموذج قياسي حول كيف تأدية دور شخصية تنحدر نحو الجنون.
١٠/١٠




0 التعليقات:

إرسال تعليق