RSS

Red Desert - 1964




أحد أسياد البطئ في السينما إن لم يكن أبطأهم، الإيطالي مايكل-أنجلو أنطونيوني مخرج منهك جداً جداً، يحتاج لجمهور من ذوي البال الطويل لتقدير أعماله، ومن حسن حظه إن هذا الجمهور كان متوفر في زمانه، الجو السينمائي كان حاضناً لتلك السينما المرهقة ومنحه الجوائز الأولى في مهرجاناته الثلاث الكبرى برلين و كان وفينيسيا .
فيلمه هذا الحائز على أسد فينيسيا الذهبي قبل عامين على تقديمه فيلمه الأشهر (إنفجار) الفائز بسعفة كان، يشبه المخدر الذي ينساب بالدم ببطئ قبل أن يستحوذ على المشاهد، يبني مقولته بهدوء كأنه ينحت لا يروي قصة، منذ المشهد الأول يقدم صور وأحداث متفرق ومتنافرة يربط بينها ببرود مستفز حتى يصل إلى مقولته النهائية بمشهد الختام، لا يمكن أن تفهم ما يريد أنطونيوني قوله إلا مع الوصول للمشهد الأخير، الأفلام عادةً تقدم مقولة وتعالجها أما هو يقدم معالجة تكشف المقولة أو الفكرة، لذلك هو يطالب الجمهور بالتركيز التام بكل مشهد وكل حدث وجملة حوارية .
فيلمه هذا عن جوليانا زوجة مدير معمل إيطالي تعاني من اكتئاب وذهان أوصلها لمحاولة الانتحار سابقاً ولم تتعافى وتدخل بعلاقة متأرجحة بين الحب والصداقة والخيانة مع صاحب المعمل الذي يعيش مشاكله النفسية الخاصة مع غموض الهدف وضبابية الدور بحياته.
هو فيلم الأرواح المنهكة، أنطونيوني يقدم دراسة سلوكية ممتازة للشخصية المكتئبة مسخراً كل العناصر السينمائية لخلق حس المعايشة وجعل المشاهد يرى الأمور من منظورها ويقاسمها إحساس الضيق والتشتت، مدعوم بأداء رفيع من مونيكا فايتي التي تقدم إحساس داخلي وتعبير جسدي عظيمين لتجسد الشخصية الذهانية على أكمل وجه.
أهمية ما يقدمه أنطونيوني - كعادته - هو بما لا يصرح به، لا يشرح الكثير عن أسباب اكتئاب جوليانا ولا يكتفي فقط بالدراسة السلوكية للاكتئاب، يضع اهتمامه كاملاً على الصورة ليقول ما يريده بشكل كامل منذ المشهد الأول للأخير، يبتعد عن المباشرة نحو التلميح المرهق، هناك تكثييف في الصورة للمعامل والمداخن والدخان الذي تطلقه، وعلى هيمنة تواجد المكنات والآلات على كل مفاصل الحياة حتى ألعاب الأطفال.
هناك تعمد بتصوير فراغ الشوارع وعفن الجدران والوحدة وعدم وجود أي تجمعات تقريباً في المدينة كأنها مهجورة، لا يظهر أي عناصر طبيعية من نباتات وحيوانات مع زيادة الزحف العمراني الصناعي على حساب الطبيعة، ناقلاً أزمة اكتئاب جوليانا من حالة فردية إلى عامة ومجتمعية مع التأكيد على انهيار الروابط الاجتماعية وهشاشة الأسرة وافتقاد الطموح والعواطف.
هو فيلم عن احتضار الكوكب، عن المرحلة الأخيرة قبل القيامة، الصور الرمزية التي قدمها أنطونيوني تعزز ذلك، السفينة الموبوءة التي ظهرت بشكل مفاجئ و مداخن المعامل التي تطلق دخان أصفر، الطفل الذي لا يوجد له صديق سوى الرجل الآلي ويصاب بالشلل ثم يشفى بعد أن تروي له والدته قصة عن صوت الطبيعة وسحرهها وكأنها قصة عن عالم سحري لم يعد موجود ولم يبقى من الصوت سوى نداء استغاثة صدح في افتتاحية العمل .
٩/١٠

Quiz Show - 1994




رغم أهميته غير قابلة للجدل كممثل فإن روبيرت ريدفورد المخرج لا يقل أهمية عن ريدفورد الممثل، مشكلته الحقيقية هي بعلاقته مع الجمهور، هناك شيء من سوء الحظ يلاحقه، فوزه بالأوسكار عن عمله البديع (أناس عادييون) عام ١٩٨٠ جاء على حساب تحفة سكورسيزي (الثور الهائج) مما جعل فيلمه محط كره واستخفاف الجمهور لمجرد قيمة المنافس، مجردين العمل من قيمته الفنية ومبتعدين بتقييمه عن الموضوعية - نفس لعنة أفلام أخرى هامة مثل كم كان أخضراً الوادي وروكي و كريمر بمواجهة كريمر و رقص مع الذئاب وخطاب الملك - فيلمه هذا أيضاً تعرض لسوء الحظ لوجوده في قائمة منافسة أوسكارية شرسة شملت بولب فيكشن وفورست غومب وإصلاحية شوشانك والكوميدية الإنكليزية الشعبية جداً بزمانها أربع حفلات زفاف وجنازة، مما جعله أحد روائع هوليوود التسعينية المنسية.
الفيلم يروي أحداث فضيحة برنامج المسابقات ٢١ الذي انتجته NBC في خمسينيات القرن الماضي، العمل مستند إلى كتاب الشخصية الرئيسية ريتشارد غودوين وكيفه للسينما باول اتاناسيو في أول أعماله للسينما والذي اكسبه ترشيح للأوسكار اتبعه بثان عام ١٩٩٧ عن دوني براسكو وهما أهم ما قدمه بمسيرته.
نص اتاناسيو يبدو هاماً جداً بصياغته للصراع الأزلي بين القيمة المادية والإخلاقية، ويحوله إلى سلسلة مواجهات مدعومة بحوار ممتاز جداً وممتع وعال الذكاء حول مادية الأشياء وضريبتها الأخلاقية، ينتقل بسلاسة بين عدة طبقات للصراع تخدم هذه الفكرة، الشخصيات الرئيسية الثلاث لها نزاعاتها الخاصة حول إثبات ذاتها بمحيطها تتجسد ببرنامج المسابقات، الشخصيات مختلفة بظاهرها وخلفيتها وتجمعها العبقرية ورغبة تحقيق القيمة في مجتمع يذهب نحو تسليع كل شيء، سواء أن يكون الشخص محبوباً في مجتمعه مثل ستيمبل أو يخرج من ظل والده مثل فون دورن أو تحقيق غودون لإنجاز مهني يتناسب مع مؤهلاته وعبقريته.
هذه الصراعات الذاتية للشخصيات مبنية بطريقة جيدة تدفع الحدث للأمام، عميقة بالدرجة الكافية التي تحتاجها الفكرة وتنتج عنها صراعات وعلاقات ثانوية جيدة، إحساس ستيمبل بالدونة من فون دورن وحسده أو إعجاب غودوين به.
القصة والصراعات تذهب باتجاه جيد حيث تكون الغاية في البداية المنفعة المادية ثم تصبح المادة منفعة جانبية أمام قيمة أكبر حققتها لهم برنامج المسابقات وتصبح القيمة المادية هي التجسيد للقيمة الحقيقية للشخصيات، أو يصبحون سلعة لها ثمنها وتزداد قيمتهم بغلو السعر، وهنا ينتقل العمل إلى طبقة أعمق وهي تسليع الأشياء، تسليع الطب والإعلام والقضاء والتعليم والثقافة والأخلاق، تسليع الحلم الأمريكي الذي يبدو متاحاً فقط لأشخاص لهم صفاتهم الخاصة التي تتناسب مع الصورة التي يصدرها الإعلام وهي صورة بغاية الصرامة المثالية وتتناسب مع أحلام الجماهير، ليبدو كل شيء مجرد وهم وكذبة اتفق عليها الجميع الجمهور والرعاة والمتسابقين، ويلقي الضوء على هيمنة وقوة شركات الإعلام والأعمال على المجتمع (الدولة العميقة) وتحويل الجمهور إلى قطيع وإدمان الشهرة والأضواء، ولو إن هذين المحورين ليسا بثقل أفلام مشابهة مثل (الشبكة) و(ماغنوليا) ولكن كانا جيدين بخدمة الفكرة.
هو فيلم هوليوودي نموذجي مصنوع على المسطرة، وربما يكون هذا الوصف سبباً لعدم حصول الفيلم على الاحترام الكافي من الجمهور - رغم أني لا أظنه وصفاً معيباً نظراً للنتيجة الجيدة - روبيرت ريدفورد قدم أداءً إخراجياً جيد جداً بتركيزه على تفاصيل الحقبة وما وراء كواليس برامج المسابقات والهروب من مسرحة الحدث والمواجهات الحوارية إلى صورية سينمائية تعبيرية جيدة وإدارة ممتازة للممثلين بمن فيهم سكورسيزي الذي ظهر بدور قصير جيد.
العمل تصدر بطولته اثنان من أهم الاسماء الصاعدة في التسعينات جون تورتورو القادم من رائعة الكوينز بارتون فينك وراف فينز بعد عام واحد على أداءه الرفيع بتحفة سبلبيرغ قائمة تشاندلار وقدم كلاهما أداءين رفيعين ومعهما روب مورو و القدير الأوسكاري باول سكوفيلد بأداء عظيم أعاده لترشيحات الأوسكار بعد غياب ٢٨ عاماً منذ فوزه عن تحفة فريد زينمان A man for all Seasons .
9/10

Scanners - 1981




رغم إنه أحد أفضل صناع سينما الخيال العلمي على الاطلاق ولكنه أقلهم جماهيرية، الكندي العظيم ديفيد كرونبيرغ قدم فيلمه هذا (الفاحصون) عقب صخب كبير آثاره بThe Brood ١٩٧٩ ، اتبعه بأربع كلاسيكيات خيال علمي في الثمانينيات شاهدت منها ثلاث Dead Zone و The Fly و Videodroom ، أفلام تبدو معها كل ما تم تقديمه من نفس النوع في نفس العقد (سلسلة عودة للمستقبل مثلاً) مجرد حكايا أطفال.
أفلامه - وهذا نموذج عنها - ليست للجميع وللجميع في نفس الوقت، من يبني توقعات مسبقة أنه سيشاهد شيء تقليدي سيصدم ويخيب أمله، ولكن من يطمح بالمختلف بصنف يعاني النمطية - خيال علمي وأكشن - فسيعثر على وجبة سينمائية أصيلة وممتعة جداً، هو مزيج من الخيال العلمي والأكشن والرعب ضمن صورة صادمة جداً ومنفرة معتمداً على حس فوضوي ينسجم مع نظرة كرونبيرغ للعالم.
هذا الفيلم فيه الكثير من روح الكوميكس الأمريكي ولكن بطريقة صارمة جداً، تجارب علمية أفضت إلى خلق جيل من المحاربين يقاتل بالتحكم بالعقل وقراءة الأفكار وزرعها والتخاطر والتنويم المغناطيسي، قصة مشوقة جداً محبوكة بطريقة ممتازة كنص ومنفذة بصرياً بطريقة لا يفسح معها كرونبيرغ مجالاً للراحة، يختلف عن أفلام مشابهة بغياب الطابع الترفيهي ومصداقية الإحساس بالخطر لدرجة يتحول معها إلى كابوس حقيقي، إذا كان ميشيل هانيكيه مثلاً يعتمد أسلوب الصفعة مع المشاهد فإن كرونبيرغ معلم الصعق الكهربائي، مهما كان المشهد الذي يقدمه خطيراً وعنيفاً فأنه يملك القدرة على أن يصعّد الجرعة لدرجة هستيرية تجعل الفيلم أقرب للسريالية، والمبهر أنه يقوم بذلك بالوسائل السينمائية الكلاسيكية الأكثر أصالة، بالمكياج والمؤثرات اليدوية مع سلوموشن وقطع الصوت وتصعيد الموسيقى (وضعها للعمل الأسطورة هاورد شو) أو بتصعيد الجو الصوتي المحيط، مع مونتاج مربك وحركة كاميرا مدروسة، أفلامه الكلاسيكية مثل هذا وتحفته الأهم The Fly بصقة بوجه كل صناع سينما المؤثرات اليوم سواءً في الخيال العلمي والرعب.
هذه سينما أصيلة حقيقية حرفية وثورية تتمرد على النوع - كتمرد داريو أرجنتو على سينما الرعب الرخيصة وجعلها أصيلة - وبنفس الوقت لها عدة طبقات فكرية عميقة ومواضيع اعتاد كرونبيرغ مناقشتها في الثمانينيات، هنا ليس فقط نظرة إلى أي مستوى سيصل به هوس السلاح وتطورات أجيال الأسلحة والحروب وارتباط الأجهزة العسكرية برجال الأعمال، بل هو أيضاً عن ضياع الكينونة الإنسانية مع زيادة ارتباط الإنسان بالتكنولوجيا وتحوله لآلة وسلاح، وإسقاط على تطور أنظمة الجاسوسية وغسيل الأفكار وغياب الحرية الفردية للإنسان مع ازدياد هيمنة الأجهزة الاستخباراتية وتلونها في أكثر دول العالم حرية لدرجة يكاد يكون العمل تنبؤي عن شكل العالم اليوم الذي تتحكم به مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجية الحديثة ووسائل الإعلام بأفكار وعقول العامة وتوجه إرادتها وتزييف الحقائق وبنفس الوقت تخضع الكوكب كاملاً لرقابة لا يمكن الفكاك منها.
أهم ما يقوم به كرونبيرغ هنا هو صنعه لحالة الإنسان عدو نفسه، جعل المشاهد يعيش طوال الفيلم حالة من عدم الثقة وهو يشاهد شخصيات تتعرض للغزو بأكثر مناطقها أماناً، عقولها وأفكارها، حيث لا يستطيع الإنسان الثقة هل أفكاره فعلاً ذاتية أم هناك من يزرعها فيه، هل ما يراه فعلاً حقيقي أم مزور، هل يتحرك ضمن إرادته الخاصة أم إن هناك من يوجهه، حتى النهاية لا تستطيع أن تثق بها وتؤمن أنها فعلاً على الشكل الذي تراه، سينما عظيمة رمزية تحمل من المقولات أكثر مما يوحي ظاهرها.
١٠/١٠

The Discreet Charm of the Bourgeoisie (1972)


الإسباني لويس بونويل في فيلمه الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي يأخذنا برحلة سريالية داخل عقول شخصياته، نجول بين أحلامها وكوابيسها المتداخلة فيما بينها والمتشابكة مع الواقع بطريقة يصعب التمييز بينها، الذكاء في منجز بونويل هو في قدرته على خداع المشاهد، العمل لديه خطط قصصي واضح، القصة ليست عشوائية، تبدأ بطريقة اعتيادية قصة مشوقة عن ستة أصدقاء يحاولون قضاء سهرة عشاء وفي كل مرة يحصل معهم موقف غرائبي يعيق مشروعهم، الأمور بالتدريج تزداد تشويشاً وإرباكاً وتتعرض القصة للتخلخل عندها يدرك المشاهد أن كل ما كان يراه سلسلة أحلام ولم يعلم متى تبدأ ومتى تنتهي وإلى مدى هي حقيقية وخيالية، هو تجسيد سينمائي ممتاز جداً لترجمة الحلم او الكابوس، لا اظن احد جارا بونويل فيها سوا ديفيد لينش، الحلم يبدأ من المنتصف بطريقة اعتيادية مستنداً إلى حدث حقيقي، ثم تأخذ الأمور مساراً غرايبياً يختل معها مفهوم الواقع، يتورط معها الحالم - أو المشاهد هنا - لا يعرف كيف يفسرها أو يتفاعل معها ولا يدرك أنه كان يحلم إلا بعد الاستيقاظ.
بونويل لا يكتفي بجعل فيلمه تحليل لمفهوم الحلم بل يجعله بوابة لفهم عقلية الحالم ومنه لفهم طبيعة طبقة اجتماعية من المتنفذين المنافقين الذين اعتاد بونويل مهاجتهم بأعماله، لذلك يتسع من دائرة الشخصيات الرئيسية الستة (الصحبة) إلى شخصيات أكثر تنوعاً، يدخلنا بونويل إلى لاوعي تلك الشخصيات، يرينا أن الجميع لديه جانب يخفيه، حقيقة وحشية أو وضيعة لا يظهرها، الجميع يعيش أسير مخاوفه وماضيه وهمومه، الجميع يخاف من شيء ويحلم بشيء لن يحدث.
في رحلة بونويل سنرى قساً يحلم بالانتقام ولا يستطيع الغفران، رجل قانون يعيش بعالم خيالي من المغامرات التي تجسد رجال السلطة كزومبي ساديين يتلذذون بالقتل وخرق القانون، وسفير يستغل حصانته ليصبح صاحب الكلمة العليا في البلد التي يمثل بها رداً على العنصرية والاستخفاف التي يُعامل بها، ويؤرقه دوماً كابوس عن إرهابيين من بلده (ثوار) يطاردونه لاغتياله، ورجل برجوازي يشعر أنه تحت المجهر ودمية بيد غيره، أشخاص يلتقون بأحبائهم بعد الموت، آخرون تسيطر عليهم عقد الطفولة، وغيرهم يخوض مغامرات جنسية بلا ضوابط، وبعضهم يحلم بالشباب الدائم.
في عمق هذه الأحلام وتلك العلاقات المتداخلة يكشف بونويل إلى حد تشكل الطبقة البرجوازية خطراً على المجتمع ومنبعاً للفساد والفوضى فيه، هم أباطرة المخدرات وتجار الحروب، هم أصل الديكتاتورية والفساد ورعاة القمع، هم المتحكمين بالدين ومصائر شباب يرمونهم بحروب ومعارك غرضها الوحيد زيادة سلطتهم وثروتهم، علاقاتهم منحطة، مشاعرهم باردة، لا يتفاعلون مع مصائب الآخرين ولا تهمهم.
الفيلم هو هجاء عميق لعلاقة المجتمع الغربي بدول العالم الثالث، تدخله بتلك الدول دون أن يفهمها أو يهمه أن يفهمها، وزرعه للفوضى والعنف فيها تحت مسمى نشر الحرية ووأديه لأي حرية حقيقية فيها ومعاملة الشرفاء على أنهم مجرمين حتى داخل بلدانهم، بونويل تنبؤي بهذا العمل، يحذر من أن الفوضى التي يزرعها الغرب في الخارج سترتد عليه ولكنه بنفس الوقت تشاؤمي وساخر، فتلك الطبقة البرجوازية تعرف كيف تحمي نفسها وجعل غيرها يدفع ضربائها وأن تبقى - كما اثبت التاريخ دوماً - محصنةً من العقاب وهذا هو السحر الخفي للبرجوازية، القدرة على الإفلات من كل الخطايا والجرائم.
ولكن أين العدالة بهذه التركيبة؟ هل من المنطقي أن يبقى المجرمون بلا عقاب؟ بونويل يصنع جحيماً خاصاً لتلك الطبقة، جحيماً في عقولهم وأحلامهم، حين تختفي كل الضجة والصخب وتنحسر الأضواء سيتهاجمهم الكوابيس وسيظيهم عقلهم عقاباً قاسياً لا رحمة فيه.
١٠/١٠

tag

Fanny & Alexander - 1982


ربما هي التحفة الأخيرة لبيرغمان الذي شغل السينما لثلاث عقود سابقة بأسئلته الوجودية التي حيرت جمهوره وعبّرت عن موجة التغييرات الفكرية التي اجتاحت أوروبا والعالم بعد الحرب العالمية الثانية، بفيلمه هذا يعود إلى أيام صباه ويستلهم أحداثه من ذكرياته عن عائلته وتحديداً علاقته بوالده القس المتشدد الذي حوله بالعمل إلى زوج أمه، عمله هذا قدمه للإجابة على الأسئلة التي طرحها جمهوره دوماً عن جذور أزماته الوجودية، أساس عقليته الفنية ونبوغه الفكري.
نقل شخصية والده إلى مرتبة زوج الأم بالعمل ليس فقط نوع من تصفية حساب متأخر بقدر ما هو تعبير عن ارتباط عميق وذكي بين حياته الخاصة وشغفه بمسرح شكسبير وتحديداً مسرحية هاملت، تلك الأخيرة حاضرة بقوة بالفيلم ويستغلها ليقدم إسقاطات عبقرية على القصة، تتلبس شخصية إلكساندر روح هاملت، يعتبر زواج والدته (الممثلة المسرحية المعتزلة) من القس المتشدد (النقيض عن كل ما يمثله والده) نوع من الخيانة لذكرى والده (المخرج المسرحي المتوفي بعد أصابته بأزمة صحية أثناء تحضيره لمسرحية هاملت)، بالأخص أنه يحاربه بكبح خياله الذي يشكل قصص ويعتبره خطيئة يعاقيه عليها، رغم إن القصص الخيالية اليي يصنعها هي المهرب الوحيد له من عالمه هذا والنهاية المحيرة الفنتازية لم تكن سوى تعبير عن إن إلكساندر (أو بيرغمان) هرب من الواقع إلى الخيال وسكنه وعاد إلى الحياة في الخيال - سواء مسرح أو سينما - بعد أن مات الفتى بتأثير القسوة.
كما في هاملت فإن شخصية إلكساندر تناجي روح والده، ولكن المناجاة هنا ليس لكشف حقائق واستلهام القوة للانتقام بقدر ما هي وسيلة تواصل مع العالم الماورائي لطرح الأسئلة الوجودية الأولية التي تشكلت بعقلية فتى تدمر عالمه، حول الحكمة من كل شيء وحقيقة وجود الرّب والمعنى من وراء أفعاله وأقداره.
هو فيلم مؤلم جداً - ككل أفلام بيرغمان - ربما هو الأطول بمسيرته ولكن ورغم الألم الذي يحويه والهدوء المعتاد المصنوع به إلا أنه قادر على جذب الاهتمام ومحبوك ومضبوط الإيقاع بطريقة تفوق بها السويدي الراحل على نفسه، جميع الشخصيات حتى الثانوية مكتوبة ومقدمة بطريقة ممتازة والأحداث جميعها محبوكة بطريقة جيدة وتقود إلى العقدة الرئيسية بأسلوب تصاعدي دون أي اهتزاز لنصل إلى تتابعات في النهاية تشد أعصاب المشاهد ومتوازية مع المغزى والعمق الفكري الذي يطرحه، حتى جرعة الألم المرّة التي يطرحها تأخذ الطريق التصاعدي فيبدأ بجو مريح جداً قبل أن نغرق تدريجاً بالدراما القاتمة التي يقدمها.
الحدث المزلزل الذي يهز أركان الشخصيات (احتضار الأب ووفاته) يعطيه بيرغمان حقه كاملاً من التفاصيل، يبدو مقدماً بأسلوب ومضات من الذاكرة وكأن كل التفاصيل الدقيقة لذلك اليوم وذلك المكان الذي شهد تلك الصدمة هي ضربات شفرة تركت أثرها عميقاً بنفوس شخصيتي فاني وإلكساندر، وتلك الحالة القاسية من التشبع بالحدث والألم ليست فارغة أو غايتها الألم لمجرد الألم ومعايشة إحساس الشخصيات، هي مهمة لأنها أساس التحولات التي تمر بها الشخصيات ومبرر لكل تصرفاتها اللاحقة وتفاعلها مع واقعها الذي هوى من السماء إلى الأرض.
في العمق لا يبدو إن الغرض مما يقدمه بيرغمان فقط قصة تفاعل شخصيتي فاني وإلكساندر مع التغييرات بحياتهما بقدر ما الغرض منه هو تقديم مفهوم الواقع وعلاقته بالإنسان، فأحداث العمل مروية بالتوازي من منظورين، منظور الراشد ومنظور الفتى القاصر، في النصف الأول من العمل تكون الشخصيات القاصرة ثانوية الحضور والتأثير أما الراشدة هي المتصدرة للمشهد ولا يبدو واقعها مثالياً، هي تعاني من مشاكل وخيبات تحطم الأحلام وفقدان الثقة بالذات وضياع الشغف والوهن الجسدي وأزمة منتصف العمر والحسرة على الحب الضائع، بالمقابل يبدو هذا الواقع المخيب بالنسبة للراشدين مثالي بالنسبة للفتية الصغار المستمتعين بتفاصيل صغيرة ولكن بغاية الأهمية بالنسبة لهم والتي تشكل واقعاً مثالياً رغم أنه بالحقيقة كاذب وهش ولكن لا يدركون ذلك حتى يضربهم واقع الكبار بقسوته، الهزائم والإنكسارات التي تصيب عالم الكبار يصل ارتدادها إلى عالم الصغار وتحطمه وتعيد تركيبه، وهنا يقلب بيرغمان أدوار البطولة في النصف الثاني من عمله، ينتقل الفتية من الأدوار الثانوية للصدارة ويعود البالغون لخلفية المشهد باستثناء شخصيتي القس وأخته المتسلطة كتعبير من بيرغمان عن الوحدة التي عانى منها فاني وإلكساندر أثناء مواجهتهم لقسوة الواقع، وكأن الحياة لا تكون حقيقية إلا حين ترتبط بالمآساة أما السعادة وردية فهي ليست سوى سراب أو خيال ضبابي لا يوجد فيه شيء يستحق أن يروى.
من هذا المنطلق بجعل بيرغمان فيلمه عن النضوج، عن إلكساندر المراهق الذي يشق طريقه نحو البلوغ، ويبدأ باكتشاف معاني الرجولة والحب وبداية موهبة رواية القصة ونسجها، يحاول أن يأخذ دور البالغ كاملاً بغياب والده، ولكن رجولته تتعرض لهزة بدخول زوج أمه، الصراع بينهما صراع إثبات ذكورة، وهو صراع يفجر الأسئلة الوجودية الأولية لفتى بدأ يرى العالم على حقيقته.
العظمة النصية التي يقدمها بيرغمان هنا (وهو أحد أفضل كتاب السيناريو على الاطلاق) توازيها صورة جبارة لا نستغرب معها فوز الفيلم بثلاث جوائز أوسكار تقنية بالإضافة إلى أوسكار أفضل فيلم أجنبي، مبهر بتفاصيل الديكور والأزياء والملابس، المونتاج جبار ويلعب دوراً أساسياً بتصعيد الحدث وضبط الإيقاع وكسر برود العمل، التصوير عظيم بالتوازي مع الحالة النفسية لكل مشهد وإعطائه هوية ومزاج بصري خاص، بالإضافة إلى إدارة ممتازة لجميع الطاقم التمثيلي تحديداً الصغار المغمورين الذين قدموا أداءات تمثيلية رفيعة.
هو بالمحصلة فيلم من بيرغمان لكل عشاق بيرغمان عن بيرغمان، عن علاقته بوالده وجذور أزماته الروحية وافتتانه بالمسرح وهوسه بروي القصة وبداية تشكيل وعيه للعالم، هو فيلمي المفضل بين أفلامه التي شاهدتها.
١٠/١٠
tag


Annie Hall - 1977



يستخدم وودي آلين السينما كعلاج نفسي ذاتي من العقد النفسية التي يعاني منها وتسببت بانفصاله عن حب حياته دايان كيتن قبل انطلاق نجوميتهما، الفيلم عنه وعنها، هما لم يكونا يمثلان بقدر ما كانا يستعيدا ذكريات عاشاها معاً، وربما تلك الكيمياء بينهما وصدق التفاعل والأداء هي ما جعلت هذا الفيلم أحد ألطف وأعمق التجارب الرومانسية وانتجت أحد أفضل النصوص المكتوبة، المشهد الأخير حين كان (ألفي - وودي) يخرج مسرحية يحوّر فيها الحقيقة ويختم علاقته بأني - دايان كيتون بالشكل الذي حلم به يمكن بسهولة ملاحظة ملامح الحزن والحسرة بعيني وودي، لم يكن مجرد تمثيل جيد بقدر ما كان إعادة معايشة لحظات وأمنيات وحسرة على خسارته الحبيبة التي من أجلها صنع هذا الفيلم، لم يغير النهاية كما في المسرحية المتخيلة بل حافظ على صدق لحظة الخسارة لأنه يدرك إن التزييف لن يغير شيء ومواجهة الحقيقة هو العلاج الذي يحتاج إليه.
(الإنسان أفضل طبيب لذاته) حكمة قديمة طبقها وودي آلين هنا، العمل أشبه بسرد طويل منه على مسامع طبيب نفسي، رحلة اكتشاف ذات وليس رحلة تأليف، بوح معلن للكاميرا، لذلك لم يلتزم بقواعد الرواية التقليدية، العمل بتركيبته أشبه بسرد صور من الذكريات، يبدأ بفتور العلاقة مع آني ثم يعود لاكتشاف اسباب هذا الفتور، يعود إلى طفولته ثم يقفز إلى جمال البدايات ويقارن بينها وبين صديقاته السابقات وبينه وبين أحبائها السابقين، ويعود للنهاية ومرحلة الصدمة والعلاج منها، يطرح سؤالين (لماذا أحب أني؟) ثم (لماذا أنفصل عن أني؟) يعود إلى طفولته ونشأته وبيئته ليبحث في جذور مشاكله النفسية والاجتماعية التي حملها كآرث من بيئته ومجتمعه المغلق في بروكلين ومزجها بالوعي العاطفي والجنسي المبكر الذي خلق لديه فضول لاكتشاف الجنس الآخر من صغره، كله أدى إلى خلق شخصية مهزوزة منعدمة الثقة بذاتها تعالج الأمور وتواجهها بالسخرية والكوميدية السوداء ونجح بذلك وتحول إلى كوميدان ناجح ومشهور مما وضعه ببيئة ومكان أكبر من مجتمعه المغلق، يخرج مع فتيات مثقفات وذكيات ولكن لا يستطيع الاستمرار معهن لأنهن يخفنه ويشعرنه بالتهديد فيبتكر دون أن يعي وسائل ليخرب العلاقة، ينجذب إلى آني ولطافتها وجمالها، فتاة بسيطة وجميلة منجذبة إلى ذكائه وثقافته تمده بالإحساس بالأمان، ولكن بالمقابل ينتقل إحساس التهديد لها، تشعر دوماً إنها أدنى منه بالمستوى الفكري والثقافي، وما يعزز هذا الإحساس دفع ألفي المستمر لها للتعلم والتثقف، كان يحاول تحويلها إلى نسخة عن الفتيات اللواتي كن يجذبنه ويخشى الخروج معهن، وينقلب السحر على الساحر، أني بدعم ألفي تخوض رحلة تغيير ونضوج حتى تصل إلى مرحلة تستطيع بها الاستقلال بنفسها والتحرر من ألفي، حتى هو يشعر إنها تغيرت ولم تعد نفس الفتاة التي أحبها، خسر الشيء الأهم الذي كانت تمده به وهو الإحساس بالأمان، خسرها للأبد وحتى حين عاد وحاول التواصل معها لم يرى سوى إنسانة أخرى تشبه الفتاة التي أحبها يوماً.
هو ربما أحد أفضل وأجمل أفلام تحليل العلاقات وتعقيدها، وودي آلين بنظري أهم كاتب سينمائي أمريكي خلال نصف قرن الماضي، لا أعثر له على نظير اليوم سوى الكوينز أو تشارلي كوفمان، أصيل وذكي جداً، يقفز من الخاص إلى العام ويمزج بينهما، شديد الإبداع برسم الكاريكتارات وبناء الشخصيات ونسج علاقاتها وخلافاتها وتعقيداتها وتجاذباتها، وصعود وهبوط الحدث وتفاعله من الحوادث اليومية البسيطة، ضمن روح نكتة سوداء مبهجة وذكية وبعيدة عن الابتذال تمتلئ بها حوارات شخصياته، قادر على أن يعالج نفس مواضيع العلاقات بمئة شكل ومعالجة وفعل ذلك على طول مسيرته المزدحمة بالأعمال، أحدث ثورة بمجال الكوميدية وسينما العلاقات وآثاره واضحة على كل أفلام ومسلسلات النوع التي أصبح لها صنف جديد ( كوميدية مثقفي نيويورك).
باعتقادي من المجحف حصره وأفلامه بإطار الكوميدية والرومانسية، أعمالها فيها الكثير من التشريح لطبيعة العلاقات الاجتماعية والرومانسية في العصر الحديث، هذا الفيلم هو معالجة ذكية جداً وعميقة - عكس بساطتها الظاهرة - لمشاكل البيئة والطفولة التي تخلق شخصية مهتزة تجد من الصعوبة أن تتغير وتتواصل مع محيطها، نموذج عن أزمة منتصف العمر وجمال العثور على الحب الحقيقي ولوعة فقدانه.
هذا أفضل أفلام وودي آلين رغم إن ما قدمه لاحقاً كمنهاتن وهانا وأخواتها وجرائم وجنح حتى منتصف الليل في باريس لا يقل أهمية وجودة، ككل أفلامه لا يحصر نفسه بزاوية العلاقات العاطفية، هو شديد الارتباط بنيويورك وثقافتها وعوالمها ومجتمعها، تعبير عن حالة إدمان الانتماء لمكان - ليس حب المكان - الذي يجعل من مفارقته رغم ضرره أمر صعب جداً، جزئية تكشف الكثير عن شخصية مدمنة جلد الذات وتعذيبها ورعب مغادرة المنطقة الأمنة وتجريب عوالم وأماكن جديدة، مع هجاء للمجتمع الثقافي النيويوركي وسخرية لاذعة من نمط الحياة في كاليفورنيا وصناعة الترفيه فيها وتشويهها للفن والثقاقة.
هذا ربما أكثر فيلم لودي آلين متحرر وتجريبي إخراجياً، يبدأه بتحية لملهمه السويدي أنغمار بيرغمان، بل إن شخصية ألفي وكل شخصيات أفلامه وعقدتها الوجودية في سعيها الدائم وراء المجهول وصراعها لاستحواذ المفقود وإدمان التعاسة هي كلها عناصر بيرغمانية منفذه بأسلوب كوميدي أسود، يقفز ألين إلى أساليب الموجة الفرنسية وتمردها على الانماط والسرد ولغتها النخبوية وسخريتها اللاذعة وتنظيرها المستمر والابتعاد عن التعقيد والبذخ البصري ولكن بلغة مبسطة محببة مبهجة تجعل الفيلم قريب للمشاهد، آلين الذي صنع عمله كسرد ذاتي لذكرياته صوره وكأنه خارج من عقله أو سياحة للمشاهد في عقله، فجنح إلى مسر الجدار الرابع، مناقشة الكومبارس بإحداث العمل، الاستعانة بشخصيات ثقافية للتعليق على بعض الأحداث، اللجوء للرسوم المتحركة والشرح التوضيحي المكتوب، عرض اختلاف وجهات النظر بين ألفي و أني حول نقطة معينة من خلال تناظر المشاهد مونتاجياً أو الصوت الداخلي.
دوماً يتم وصف أفلام وودي آلين إنها قوية بفضل نصوصها، وهذا أمر فيه شيء من الصواب ولكن لا يمكن إغفال قوة لغته الإخراجية بصنع جو بصري بسيط واقعي لا يخلو من الكوادر البصرية الجميلة وبعضها أصبح أيقوني كمشهد القبلة على خلفية جسر منهاتن من هذا الفيلم عند الغروب، كما لا يمكن إنكار أنه أفضل مديري الممثلين على الإطلاق، دايان كيتن قدمت هنا أداء عمرها وربما أهم أداء نسائي في السبعينات، لا تكتفي بالاتكاء على ذاكرتها وارتباطها الحقيقي بالشخصية بل تعيش معها تحولات نضوجها وتغيرها، هي في النهاية غير ما كانت عليه في البداية نبرة حديثها وشخصيتها مختلفة جذرياً، والأهم عفويتها بتقديم الطاقة والطيبة والبساطة والجاذبية التي لم تقنعنا فقط لماذا هي حب وودي آلين الحقيقي، بل أصبحت رمزاً عاطفياً لجيل السبعينيات بالكامل ولا زالت أحد أكثر الشخصيات النسائية شعبية لليوم، حازت عن الدور على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة بالإضافة إلى ثلاث أوسكارات أخرى نالها العمل أفضل فيلم وإخراج وسيناريو في أحد أكثر اللحظات شجاعة من الأكاديمية ومصداقية رغم وجود طوفان جورج لوكاس وحرب النجوم، أحد أفضل أفلام السبعينات وربما أفضل من تحدث عن تلك الحقبة، الفيلم الذي أحلم أن أصنع يوماً مثله.
١٠/١٠

Ran - 1985




المشروع الحلم للأسطورة الياباني أكيرا كوروساوا، عشر سنوات في كتابة السيناريو، سنتين في رسم المشاهد (ستوريبورد) تصميم حوالي ألفي زي أزياء، عمل بدء كمعالجة لحكاية شعبية يابانية وانتهى باقتباس لمسرحية شكسبير (الملك لير) - طعنة بظهر بيتر أوتول الذي كان يحلم بتجسيد لير بمشروع من إخراج كوروساوا - مفخرة حقيقية لسينما الياباني العجوز خرجت بترشيح للأوسكار كمخرج وفوز للأزياء، كان من الطبيعي أن يعتزل بعدها ولكن استمر وقدم ثلاث أعمال حتى توفاه الموت عام ١٩٩٨ وهو راض عن أن أعظم أحلامه رأى النور على صورة ربما أفضل مما يتخيلها.
الفيلم الذي قام ببطولته شريك كوروساوا الآثير تاتسو ناكاداي (وقدم من خلال دور اللورد هايديتورا أحد أجمل الأداءات السينمائية في الثمانينيات) يعيد تجسيد المسرحية الشكسبيرية المعروفة عن اللورد هايديتورا الذي وزع ملكه على أبنيه المنافقين ونبذ ابنه الثالث سابورو الذي يحبه بصدق ولكن لا يعرف كيف يعبر عن عاطفته إلا بطريقة متطرفة فجة (في مسرحية شكسبير هن ثلاث فتيات) كوروساوا يكيّف القصة لتناسب البيئة الشرقية اليابانية بكل تفاصيلها، يبتعد عن المعضلة الشكسبيرية حول السؤال الذي فجر الأحداث (من يحب والده أكثر؟ أو كم مقدار حبك لوالدك؟) ليأخذ الأمور نحو منحاً أكثر جدية وظلامية وشديدة الإسقاط السياسي.
القصة أكبر من الحب بقدر ماهي عن المصلحة أو الحكمة والصوابية السياسية، سابورو لم تكن مشكلته مع والده حبه له (وهو فعلاً الأكثر براً وحباً لوالده) بل المشكلة كانت عدم رضاه بقراره وإحساسه بالمسؤولية على مستقبل عائلته الذي يجبره على معارضة والده، كوروساوا يلخص كل شيء بالمشهد الافتتاحي العظيم، الحاكم أو الأب وصل لأرذل العمر ويريد التقاعد، ابناءه الثلاثة خاضعين لأمره دون الجرأة على إبداء الرأي وبحيرة حول المستقبل مع كبر والدهم، أعداء الأمس أصدقاء اليوم يتحينون الفرصة للإنقضاض، الأب رغم ضعفه مازال هو رمزاً لوحدة المملكة وقوتها ولا يمكن مخالفته، حين يصحو فزعاً من كابوس أبنيه ينشغلان بملاطفته لكسب وده، سابورو الوحيد الذي جهر بإحساسه بالخوف مما يتحول إليه والده، هو وحده الذي ظلله حين نومه بعد أن تخلى عنه الجميع.
حين يتم تقسيم المملكة على الأخوة يبتهج الأخوان بأن ما عملا لأجله طوال عمرهما أثمر، سابورو لم يقبل، لديه بعد نظر، يرى بهذا القرار سبيل إلى تقسيم المملكة وإضعافها، لا يثق بأخويه ولا بنفسه، أكثر خبرة بطبائع الرجال وعدم وفائهم، يعرف الكثير عن عالم السياسة وماضي والده الدموي الذي خلف لهم العديد من الأعداء ولو كانوا مستكينين، يدرك إن تجريد والده لنفسه من سلطاته ووضعه تحت رحمة أخوته سيفتح الباب للعداوات والفتن التي ستفتت المملكة وتدمر الإرث الذي خلفه.
المطلع على الأصل الشكسبيري يعرف إلى أين تتجه الأمور، رؤية سابورو كانت صحيحة والدم يسيل بين الأخوة ووالدهم والمملكة تضيع، والأب يخوض رحلة يكتشف بها مدى ظلمه لولده الأكثر وفاءً ويحاول إصلاح ما بينهما بعد فوات الأوان، كوروساوا يحافظ على هذا ويهتم أكثر بموضوع الكارما (العاقبة الأخلاقية)، ليس من منطلق عقائدي فقط بل من زاوية الحتمية التاريخية والسياسية، لو أن الملك لم يقم بتوزيع مملكته كم كان سيعيش؟ سنة اثنتين؟ سيموت وتتقسم المملكة ونفس الاقتتال سيقع لأن هذا أمر محتوم الحدوث، فالمملكة التي أقامها هايديتورا تأسست على العدوان والطغيان والمجازر والسلب والقتل، كوروساوا يتمسك بهذه النظرية ليشرح ويعالج حال الممالك التي تقوم على طغيان الفرد، ممالك تقوم على الخوف والطاعة المطلقة بلا تفكير، تعتمد على الفرد الواحد وتستمد قوتها من هذا الفرد ولكن أساسها هش، ما أن يختفي الطاغية حتى تنهار، في رحلة هايديتورا يعرضه كوروساوا لحالة من كشف الحساب، جرائم الماضي تطارده، ضحاياه يعودون ليقتسوا منه ومن عائلته، الأحلاف الهشة ستخرق والأصدقاء سيعودون أعداء ويأتون ليستردوا حقوقهم، جاعلاً كوروساوا فيلمه ليس فقط دراسة سياسية بل دراسة درامية لشخصية فقدت كل شيء وتتعرض لمحاكمة متأخرة من ضحاياها على كل جرائمها وأخطائها ويحاول الإصلاح بعد فوات الأوان.
بنفس الوقت اهتم كوروساوا بفكرة الخضوع الأعمى، الخضوع للمشاعر والخوف والأوامر العليا والأطماع والأهواء وعدم إحكام العقل، النزاع منذ بدايته كان بين العاطفة والعقل، بين الأمر ومخالفته، الأمراء حركتهم أهوائهم وأصدروا أوامر لقادة رغم معرفتهم إنها خاطئة اتبعوها لإنها أوامر وماتوا من أجلها، وحين تنكسر الشخصيات ترمي فشلها على الأقدار والآلهة وأنها تعبث بهم متجاهلين ومتهربين من حقيقة ومسؤولية أنهم كانوا دوماً يملكون القدرة والحرية للتصرف والتغيير ولكنهم اتبعوا أهوائهم التي قادتهم للكوارث.
كوروساوا قدم أحد أجمل الإنجازات البصرية في الثمانينيات، لوحات بصرية مبهرة وتضج بالحياة والأهم هنا هي المشاهد القتالية، هناك أناس يصورون حروب وأناس يصنعونها وكوروساوا من النوع الثاني، مشاهد المعارك بهذا العمل تجعلك تدرك المستوى المزري الذي تدنت إليه صناعة الملاحم باعتمادها الكامل على المؤثرا الحاسوبية، في هذا العمل كل شيء يضج بالحياة وحقيقي، كل شيء مصنوع يدوياً، حشود من ألفي كومبارس وخيل صممت لأجلهم حوالي الألفي زيل وصنعت عشرات الديكورات مزج بها بين أدق التفاصيل الواقعية والجمالية، وإدارة جبارة للحشود وتصوير مرهق وصعب وقطع ممتاز وإستخدام جيد للمؤثرات والمكياج، منذ المشهد الأول مشهد الصيد وكوروساوا يعدّ المشاهد لفرجة استثنائية ويحقق وعده، يقدم شيء بمستوى إبهار ذهب مع الريح ولورانس العرب والقيامة الآن وطبعاً رائعته الأهم الساموراي السبعة.
١٠/١٠