RSS

Mother! – 2017



لن استغرب إن سمعت أن دارين أرنوفسكي قرر الاعتزال بعد هذا العمل، فهو يبدو وكأنه جمع فلسفته كاملة حول الحياة من أدق الأمور إلى أعقدها فيه، كأنه يكتب كتابه المقدس الخاص من خلال الكاميرا، هو ليس ذروة أعماله فنياً على أهميته ولكنه ذروتها فلسفياً وفكرياً، وحصيلة مشروعه الفكري قبل السينمائي الذي انطلق قبل عشرين سنة، لأجل ذلك هو عمل مهم، أكبر من مجرد شريط سينمائي بل عمل فكري متكامل مريب ومقلق ومحير وجدلي وغريب وجريء ولا يناسب الجميع وربما لا يناسب أحد لأنه ليس لأحد، هو بوح أرنوفسكي الخاص وصرخة غضبه على كل شيء ونظرته حول كل شيء، عمل من النادر أن نرى مثيله بمسيرة السينما ومهم بقدرته على إثارة الجدل سواء سينمائياً أو فكرياً.



من زاوية معينة هو فيلم عن حياة العذاب التي تعيشها الشخصيات الشهيرة أو العامة التي تلغي أي خصوصية، فيه الكثير عن صراع السيطرة الذكورية والأنثوية على العلاقة الزوجية وعن الأخطاء والمشاكل الصغيرة التي نخفيها ونغطيها ثم تتفاقم لتصبح فوضى وتدمر كل شيء، ومن زاوية أخرى هو يحلل علاقة الأم بأولادها التي تعطيهم كل شيء بلا توقف ولكن هذا لا يكفي حتى يستهلكوها بالكامل، تعطيهم كل ذاتها ولكنهم يبقون يبحثون عن شيء آخر بالخارج يضحون لأجله بالعلاقة الأكثر قداسةً وطهراً دون أن يجنوا شيئاً بالمقابل، فقط لإرضاء غرورهم وأنانيتهم ورغبتهم بإكتشاف عالم آخر خارج جنة الأم.
كان لأرنوفسكي من الممكن له أن يكتفي بهذا ويصنع إنجازاً عظيماً (وهذه الأفكار الإنغماس بالذات والطموح المدمر الذي يدمر كل شيء والسعي الحثيث نحو الكمال الوهمي لدرجة النهم واضطراب علاقات العائلات) سبق له وعالجها فرادة بأشكال مختلفة في أفلامه السابقة الأفضل (القداس والمصارع والبجعة) ولكن إغراء فكرة تقديم فلسفته وقراءته الخاصة للتوراة وقصة الخلق ومسيرة الإنسانية وعبثية الوجود البشري سيطر عليه، هو سبق له وأن قدم قراءات مختلفة لهذه المواضيع في pi و النافورة و بشكل سيء في نوح ولكن هنا تبدو الصورة أكثر تكاملاً وشمولاً ولكن المشكلة في الشكل المنفذ فيه.
العمل مقسم لنصفين ومن الواضح التباين بالمستوى بينهما، في القسم الأول هناك خط درامي واضح تمشي فيه العلاقات والشخصيات والصراعات وهو خط مصنوع بشكل واضح ومتين ورغم شكله الكابوسي ولكن يبدو منطقي، بل كل ما يريد أرنوفسكي أن يقوله قاله في القسم الأول لدرجة أنه كان من الممكن أن ينهي القصة عند الطوفان ونخرج بعمل نتيجته ممتازة، في القسم الثاني الرموز تسيطر حتى تلغي السرد، يلغي أرنوفسكي خطوط الصراع ويبترها ويخفيها وينتصر للرمز الذي يصبح أكثر وضوحاً ومباشراً جداً، ويعتمد أرنوفكسي على متوالية كابوسية سريالية فوضوية مطولة لتقديم رموزه، لدرجة إن المشاهد سيدرك إلى أين تذهب الأحداث وسيتنبئ بنجاح بالخاتمة و مع ذلك أرنوفسكي لا يتركه هانئاً، سيصدمه بمشاهد لا أحد غيره يجرأ على تقديمها كمشهد الأبن، لأجل ذلك ستلاحظ أنه في القسم الأول وجود شخصيتي إيد هاريس وميشيل بفايفر ضروري جداً ومهم ويدفع العمل للأمام ويحرك الصراع، أما في القسم الثاني ورغم دخول شخصية مهمة تؤديها ممثلة شهيرة أخرى (الناشرة - كريستين وانغ) ولكن لم تشعر بأن الشخصية مهمة أو ضرورية أو قدمت شيء للعمل، حتى شخصيات خافيير وجينفر لم تعد مهمة لتحريك الصراع ودفعه، أصبحت فقط منفعلة ومتأثرة وفاقدة للتأثير وتائهة وسط الفوضى الدائرة.
ولكن مع ذلك ورغم مشكلة السرد إلا أن المشاهد لن يشعر بالاستياء من العمل، على الأقل في المشاهدة الأولى، بل ربما لن يلاحظ بتر ، ذكاء استخدام الرمز و إغراء الفوضى والصخب والشكل الكابوسي السريالي المحكم جداً الذي يصنع به أرنوفسكي القسم الثاني ونجاحه بضبط الإيقاع وتصاعده المستمر وقوته البصرية وقدرته على جعل المشاهد بتوتر مستمر لدرجة الإحساس بالاختناق رغم عدم وجود أي موسيقى، تعطي العمل قوة تأسر المشاهد وتسيطر عليه وتغريه بإعادة المشاهدة، ولكن هذه القوة وهمية لن تصمد بعد المشاهدة الثانية، لذلك لا أستغرب إن العديد من محبي العمل أنقلبوا عليه بعد الإعادة، الفوضى والكابوسية والرمزية التي صنع بها أرنوفسكي عمله جعلته لا يحتمل انصاف الحلول، إما أن يكون محبباً جداً للمشاهد أو منفراً جداً بالنسبة له لذلك لا استغرب هذا الإنقسام العنيف حوله بين متعصب له أو كاره، ولكن حتى الكارهين يقرون بأهمية ما قدمه أرنوفسكي والمحبين يعترفون إن أرنوفسكي كان يجب عليه أن يعيد تنقيح النص وكتابته، على الأقل نصفه الثاني، وألا يكتفي بالنسخة الأولى التي قدمها على الشاشة والتي كتبها بثلاث أو خمس أيام.
آرنوفسكي هنا لا يقدم وجهة نظره عن علاقة الإنسان بالطبيعية بل عن علاقة الآله بالطبيعة، يكفر بالآله السماوي ويرثي الآلهة القديمة الأنثوية المرتبطة دوماً بالأنثى والطبيعة والأم والعطاء اللامحدود والخصوبة والإرضاع والتي احتضنت الإنسان وقدست النظام والكمال، وينتقد بشدة  الآله الذكوري (الآله الإبراهيمي) الذي  لم يكتفي بالطبيعة والمخلوقات المكرسة لحبه بلا إرادة واختيار فخلق البشر ذوي الإرادة والرغبة والحرية والشهوات ليعبدوه ويرضوا غروره، أصابه الملل من رتابة وروتينية الحياة بالجنة فخلق البشر ليسلوه بقصصهم وصراعتهم ويكسرون وحدته وعزلته ويمجدوه بإرادتهم، ولكن أولئك البشر لم يعرفوا أن يعبروا عن ولائهم إلا بالعنف وتقديم القرابين وإبتداع الخرافات والكره (عكس الطبيعة التي تمجد الآله بالكمال والانتظام والتضحية بالذات) وبعضهم أدعى حبه واستغله ليكون آلهاً صغيراً، فحلت الفوضى، و لم يستطع أن يحافظ على توازن العالم ففقد السيطرة عليه وتسبب بخرابه وضاع فيه و ضحى بكل شيء ودمر كل شيء حتى أبنه إرضاءً لغروره ورغبته بأن يكون محبوباً ومسيطراً ومعبوداً، وكانت الطبيعة هي ضحية غرورته فانتقمت ودمرت كل شيء،  وبعد فشله عاد للطبيعة ولجأ لها لينهض مجدداً حتى يشتد عوده ويعود ويستهلكها مجدداً في دائرة لا نهائية غايتها فقط ارضاء غروره اللا محدود .
في عمل يتحدث عن الآله ومسيرة الوجود الكونية والروايات الدينية أجد نفسي بتساءل أين الشيطان في العمل؟ الشيطان كان دوماً أهم الشخصيات المؤثرة لدى الأديان السماوية، وهنا هو مختلف تماماً، أرنوفسكي يدافع عن الشيطان، بل يلغي وجوده كما نعرفه ويدمجه بالطبيعة، شخصية الأم جينفر لورانس التي ترمز للطبيعة هي الشيطان في نفس الوقت، المكرسة لمحبة زوجها والتي شعرت بالغيرة من تفضيله الضيوف عليها ورفضت استقبالهم وأصرت على إخراجهم من المنزل، تبدو جميلة جداً ومغوية والجميع يحاول التحرش بها، وحين تصبح الأمور فوضوية يرمون المسؤولية عليها ويحاولون الانتقام منها ومعاقبتها، ثم تستعين بالنار لتنتقم منهم وتعاقبهم، أرنوفسكي من وجهة نظره إن الشيطان حسب الرواية الدينية غير موجود، وليس هو مصدر الشر، الشر والفوضى سببها الطبيعة البشرية المجنونة التي رمت كل أخطائها وكوارثها على شخصية الشيطان التي ابتدعت وجوده وصاغته بوعيها الجمعي كمصدر لكل الشرور لترمي عن نفسها المسؤولية من جهة وتستغله كذلك للمزيد من الفوضى والعنف والدم.
العمل يحوي طاقم تمثيلي رفيع جداً إيد هاريس وميشيل بفايفر و كريستين وانغ رغم حضورهم القصير قدموا أداءات مهمة ولكن الامتياز الحقيقي من خافيير بارديم وجينفر لورانس بأدائين جبارين، خافيير رائع بالدور يظهر الأنانية الطفولية التي لا تعرف المساومة ولا يمكن إشباعه، أما جينفر لورانس فهي شيء أخر، من الصعب علي أن أتخيل التعذيب السادي الذي عرضها لها أرنوفسكي حتى تخرج أفضل أداءاتها وتظهر هذه التوتر والضياع والخوف وإنعدام الذات بأفضل أشكاله وتضيف الكثير للعمل وترفع من قيمته.
رغم إدراكي لضعف السرد في العمل ولكن أحببته جداً وآثار إعجابي، من النادر أن ترى أعمال بهذه الجرأة والكثافة الفكرية، ربما لا اتفق مع كل الأفكار المقدمة ولكن هذا لا ينكر أهمية ما صنعه أرنوفسكي، هو يبدو صرخة يآس وسأم من كل الفوضى التي تجتاح العالم والتي تضرب الإنسان بمعتقداته واستقراره الروحي والفكري، صرخة أرنوفسكي الذاتية غضباً من العنف والضياع البشري الحالي ورثائاً للطبيعة المحتضرة، ولكنها صرخة صاخبة جداً، عالية أكثر من اللزوم وأحياناً فوضوية.

9/10


0 التعليقات:

إرسال تعليق