RSS

Roma – 2018


أسمع دوماً إن المعالجين النفسيين ينصحون المصابين بالاكتئاب بكتابة مذكراتهم ليواجهوا ذكرياتهم السيئة والجيدة، ويحاولون فهم الأيام العصيبة والتصالح معها وتجاوزها، كوارون يفعل هذا ولكن بطريقة سينمائية، يستحضر ذكرياته المؤلمة والمرحة، يعيد تشكيلها ومواجهتها ليفهمها ويتصالح معها ويتجاوزها، هي عودة فيها شيء من الحنين، شيء من محاولة فهم الأمور التي مرت وأسبابها، شيء من التكفير والاعتذار لشخصية هامة بحياته مرت دون أن ينتبه أحد لما تعانيه هي ومثيلاتها، كوارون اتحذ خياراً غريباً وأنانياً حين قرر أن يكون هو مدير التصوير لعمله لا غيره حتى شريكه الآثير أمانويل لابوزكي، ربما لأن ما يريد تقديمه لن يستطيع أحد – حتى المصور الأهم اليوم – أن يقدمه كما يتخيله ويتذكره، كوارون بتصويره يبدو ممثلاً إضافياً خفياً بالعمل، وكأنه بحالة انتقال روحي عاد إلى الماضي وهو يحمل كاميرا ويصور يوميات عائلته وتفاصيلها، الكاميرا تتحرك بتأني شديد، بأسلوب تلصصي، تراقب الأحداث من بعيد، تتحرك بتأني، تسكب الحياة على أماكن وذكريات كساها غبار الزمان ويعيد أحيائها بالكثير من الحنين والحب.
في فيلم كوارون الشهير ( ... Y Tu Mamá También ) تتحدث إحدى الشخصيات عن خادمة قديمة كانت تعيش معهم وكان يحبها كوالدته ثم اختفت وهو بشوق لها، فيلمه الحالي هو عن هذه الشخصية، محاولة سينمائية للقاء بغائب طال الشوق له وتقديم الاعتذار له، يمشي العمل على خطين، خط رواية قصة الخادمة كليو من خلال عيني كوارون، وخط رواية قصة العائلة والمكسيك وجذور موهبة كوارون ونشأته من خلال عيني كليو، وهو أمر غريب وليس سهل أبداً، يحيد شخصيته تماماً ويقدم ذكرياته ليس كما رآها وعاشها، بل كما رأتها كليو وكأن العمل لقاء توثيقي معها، يبدأ عمله بصورة للبلاط الأصم وحين يسكب عليه الماء يحوله لمرآة لنافذة على سماء مفتوحة بلا حدود تخرقها طائرة في رحلة مجهولة الدرب، البلاط الأصم هو كليو وكاميرة كوارون هي الماء التي جعلتها مرآة لعالمه وذكرياته وبلده، ولكن وبحركة شديدة الوفاء يجعل من أحد أهم الحوادث بتاريخ المكسيك وأهم حدث بتاريخ عائلته على الهامش ويضع قصة كليو – الهامشية جداً مقارنة بالأحداث الجلل التي تحدث – في المقدمة ويجعلها انعكاساً لأزمة بلده ومجتمعه.
كوارون يأخذ حيز واسع لذكرياته، العديد من التفاصيل المهمة في ماضيه والتي يبدو إنها آثرت به يعطيها الحياة ويجعلها تلامس الجمهور ويفهمها، صوت الباعة، لعبه مع أخوته، كيف كان يدخل والده بسيارته، ووداعه الأخير له، حادثة شجار بين أخوته كادت أن تؤدي إلى كارثة، سقوط المطر، تفاصيل يومية بسيطة جداً يركّبها كفسيفساء لتشكل لوحة ماضيه، يعطي للمكان أهمية بالغة جداً، منزل العائلة بطل رئيسي بعملنا هذا، يتجول به بحميمية وينقل هذه الحميمية لنا ويجعله قريباً جداً للجمهور ومريحاً له ومعتاد عليه، كوارون في هذا العمل هو طفل العائلة الأصغر تيتو المفضل لدى الخادمة كليو، يلعب معها لعبة التظاهر بالموت، تعجب كليو بتلك اللعبة وتقول (من المريح أن تكون ميتاً) ثم تتسع الكاميرا لتصور عشرات الخادمات مثل كليو اللواتي يعملن على أسطح منازل يقطونها ولكن لا يعيشون فيها، فيلمه هذا يهتم جداً بهذه الجزئية ويتعمق بها، أن تسكن ببيت مع عائلة ولكن آلا تعيش معها، أن تكون حتى وأنت تقاسمهم تفاصيل حياتهم اليومية غريباً عنهم، هذه الجزئية صادقة جداً هنا ومؤلمة، يعبر عنها كوارون بمشاهد بسيطة كمشهد العائلة وهي تتابع التلفاز، مشهد تحميل السيدة صوفيا اللوم لكليو على تسببها بابتعاد زوجها وغضبه، أو لومها على تلصص أبنها عليها، والمشهد الأقسى هو في المشفى أثناء ولادة كليو حين لا تعرف السيدة العجوز أن تجاوب على أي سؤال حول معلومات بسيطة جداً عن كليو وعائلتها وعمرها، طوال الوقت يتم التعامل معها على أنها مجرد غرض إضافي في المنزل، شيء مرمي للخدمة فقط بلا حياة، لا تتكلم، لا تعبر، لا حياة لها، لا أحد يهتم بحياتها ولا بما تعانيه، حتى المآزق الذي تمر به تتعامل معه العائلة بالحدود الدنية.
كوارون لا يجعل لبطلته صفات مميزة، يصر على أنها شخصية تشبه المئات من الشخصيات التي مرت بالحياة ولم يشعر بها أحد، يؤكد على ذلك بالعديد من المشاهد سواء مشهد السطح أو المشفى أو غرفة التوليد، هي سليلة السكان الأصليين، قادمة من الريف لتعمل في المدينة كخادمة، شخصية مقتنعة بقدرها وحدودها في الحياة إنها مجرد عنصر هامشي، تحاول أن تسرق من الحياة لحظات، وحبن تنجح بأن تكون لها حيز خاص تقع بورطة ولا تجد سند، حتى عائلة سيدها تعينها من باب ذرّ الرماد بالعيون، ويزيد الطين بلّة إن ورطتها تأتي في وقت المصيبة التي تحل بالعائلة والتي تزيدها هامشية على هامشيتها، رغم إنني أتوقع أنه حتى لو كانت ظروف العائلة أفضل لما كان أختلف شيء بتعاملهم مها ومع مصيبتها، كوارون ينتصر لهذه الشخصيات الهامشية، يجعل لكليو صفات شبيهة بالقديسة، في مشهد التحدي الذي يرميه البروفيسور زوفيك على تلاميذ الفنون القتالية والذي يصفه بأنه تحدي لم يستطع سوى كبار المعلمين والروحانيين اتقانه نرى بأنه لم يستطيع أحد من التلاميذ والحضور اتقانه، ثم يرينا كوارون بمشهد عابر أن كليو استطاعت كسر التحدي، وفي مشهد لاحق نرى أن الشاب الذي انغمس بعالم الفنون القتالية حتى يصل للصفاء الروحي تحول إلى بلطجي سلطة.
هذا العمل لا ينفصل عن أعمال كوارون السابقة عن جنوحه الروحي نحو العناية الإلهية، مشهد الزلزال وسقوط الحجر على حجرة حاضنة حمت رضيع من الموت يرينا به كوارون كيف إن الرب يعمل بطريقة غير مفهومة، فالطفل الذي ربما ولد قبل أوانه أو ولد محملاً بمرض جعله يوشك على الموت كانت هذه الحالة هي الفضل بحمايته من موت آخر محقق، الأمر يؤكد عليه كوارون من خلال إجهاض كليو، إجهاضها جعل لديها حالة حنان فائض حساسة اتجاه الأطفال، مدفوعةً بذنب تمنيها فقدان أبنتها، لذلك فاندفعت بطريقة جنونية رغم عدم إتقانها السباحة لإنقاذ طفلي العائلة من الغرق حتى ولو خاطرت بحياتها، خسارتها لرضيعها جعل له الفضل بإنقاذ حياة طفلين آخرين .
يرتبط العمل أيضاً بمشروعه الآخر الذي عبّر عنه بجلاء برائعته Y Tu Mamá También عن حالة التناقضات في المجتمع المكسيكي والنفاق والتشوه الاجتماعي الذي يعيشه، يجعل من العائلة صورة مصغرة عن المكسيك المكونة من عناصر متناقضة وتعيش بطريقة مركبة هشّة رغم شكلها الاجتماعي الظاهري البرّاق، يتسع فيما بعد ليجول عبر المكسيك ويعطي للتناقض والتشوه بالمجتمع المكسيكي صورة أعم، يرينا صورتين متناقضتين لمجتمعين متلاصقين ولكن منفصلين كالماء والزيت، مجتمع على السطح ومجتمع تحت الأرض، حين يدخل إلى الريف يرينا الشكل الحقيقي غير الظاهر للمدينة عن الفقر والجوع والإهمال والجهل والظلم، حوارات عديدة جانبية عن الصراع الخفي بين الطبقة البرجوازية والفلاحيين والذي يوشك أن ينفجر والجميع يتجاهله، يحصل حريق في الغابة لا أحد يعرف حقيقة مصدره، ولا يهرع أحد من الفلاحيين ليطفئ النار، يتخلون عن البرجوازيين الذين يتكفلون لوحدهم بإطفاء الحريق، وخلال الحريق يتجول شخص يرتدي زي لوحش أسطوري ينظر بعين حذرة متنبئة بالخطر وينشد أنشودة دينية تحوي لهجة خوف وإنذار وطلب مغفرة من القادم.
صحيح إن كوارون يضع كليو بمقدمة الحدث ويجعل باقي الأحداث هامشية ولكن لا يقدمها منقوصة، قصة العائلة وأزمتها مقدمة بطريقة وافية، وكذلك الحدث السياسي مع صعود ألفاريز في بداية السبعينات يرمي بظلاله على الأحداث بطريقة تصاعدية ويدخل بصلبها ويؤثر بها بطريقة ذكية جداً غير مفتعلة، يجعل من كليو وعائلة أسيادها مرآة لمعاناة المكسيك وحصيلة تشوهاته وضحيتها، هذا التوازن العظيم وتداخله بطريقة دقيقة هو ما يعطي للعمل قيمته، حتى إن خط انهيار العائلة لا يبدو مجرد خط موازي يسير إلى جانب خط كليو فقط، بل يكمل الحدث ويربط بينهما كوارون بطريقة مبهرة، في أحد أهم مشاهد العمل تتجرد السيدة صوفيا من ثوبها البرجوازي وتعود لحقيقتها امرأة وحيدة مجروحة، وتخاطب كليو بهذه الصفة وتقول لها (إننا النساء سنبقى دوماً وحيدات)، هذا المشهد وتكامله مع المحاور التي بدأ بها يعطي كوارون فيلمه هوية نسوية جميلة، عن النساء المتروكات الوحيدات اللواتي يواجهن العالم لوحدهنً، فعلاً بالعمل لا يوجد بطولة حقيقية لرجل راشد، الرجل مغيّب والنساء لوحدهن هن اللواتي يعتنين بالعائلة ويحافظن على توازنها ويتحملن ضريبة ما يفعله الرجل وأخطائه.
يدور الفيلم عن كليو والعائلة والريف والمكسيك وألفاريز والاضطراب السياسي والتركيبة الاجتماعية، ثم يعود إلى كوارون نفسه، كوارون أو تيتو هو بوصلة الفيلم، كل ما نراه يدور بالحقيقة عنه هو، الأمور التي شكلت شخصيته وآثرت في طفولته، والدته، والده وسيارته، جدته، أخوته، كليو، الوضع السياسي، الألعاب التي لعبها، الأفلام التي شاهدها، المنزل الذي عاش فيه، الرحلات التي ذهب بها، كلها أمور صنعت كوارون الذي نعرفه، بدايةً من نبوغ خياله بسن مبكر والقصص التي يرويها عن حيوات قديمة يتخيل أنه عاشها، طفل بهذا الخيال المتقد يستقبل الأحداث حوله بعين مختلفة عن غيره، ويعالجها عقله بطريقة مختلفة، استغراقه بتفصيل التناقضات المجتمعية وحالة النفاق في المجتمع المكسيكي في عمله هذا تصل لدرجة تجعل من Y Tu Mamá También تتمة له، يبدأ ذاك حين ينتهي روما، وحين يتحدث تيتو عن مشاهدته للطفل الذي قتله العسكريين في الشارع وأنفجار رأسه لا نستطيع سوى أن نتذكر مشهد انفجار رأس جوليان مور في أطفال الرجال، وحين نرى كيلو تركض وهي حامل مع السيدة العجوز في المشفى تحت ضربات الرصاص نتذكر كلايف أوين وهو يهرب مع الطفل الرضيع تحت ظلال المعركة في أطفال الرجال أيضاً، الطفل الذي مات في روما نتيجة الفوضى السياسية في المكسيك، يحيه كوارون في أطفال الرجال ويجعله وسيلة لإنهاء الصراع حول العالم، أفلام الفضاء التي ذاع صيتها في نهاية الستينات وبداية السبعينات شكلت البذرة الأولى لمشروع غرافتي ويؤكد كوارون على ذلك بطريقة مباشرة، وقوة الترابط العائلي الذي نشأ عليه كوارون بقيت موجودة معه حتى بحياته السينمائية، لذلك ليس من المستغرب أن يكون أخاه كارلوس شريكه بكتابة Y Tu Mamá También وأبنه يوناس شريكه بكتابة غرافيتي، وعلاقاته بشركائه أليخاندرو كونزاليس وغيلرمو ديل تورو و إمانويل لابوزكي وغايل غارسيا برنل مستمرة لليوم منذ أكثر من عقدين بنفس القوة وأهدى لهم العمل.
هذا الفيلم تحفة سينمائية متكاملة، قطعة فنية كلاسيكية، رواية مكتوبة بالكاميرا، عظيم على صعيد السيناريو والتصوير والمونتاج والأجواء المكانية والزمانية وتفاصيلها وأصوات البيئة، مبهر بالآداءات التمثيلية من طاقم تمثيلي غير محترف، فيلم مصالحة مع الماضي ومشاكله وذكرياته ومحاولة فهم لماذا غرقت البلاد في فوضى سياسة السبعينات، فيلم انتصار لكل المهمشين والمنسيين ومعاناتهم ومحاولة تقديم اعتذار لهم وتحية لجهودهم ومأساتهم التي لم يشعر بها أحد، ينهي فيلمه على السطح، بلقطة واسعة للسماء المفتوحة وطائرة تخترق الأجواء مجدداً، أنهى رحلته بالانتقال العامودي من الأرض للسماء، كل شيء أختلف على الأرض ولكن السماء لم تتغير ولن تتغير، والرحلة ستبقى مستمرة بلا نهاية، القصة لم تنتهي هنا ولم تبدأ حتى هنا، هي فقط قطعة من الحياة أطرها كوارون بشريط سينمائي، هي المرحلة التي أثرت فيه بشكل بالغ ولكن هي ليست الوحيدة، هي نهاية مرحلة ولكن انطلاقة لمراحل أخرى ولتطورات وتغيرات لن تنتهي يوماً .
10/10

tag

0 التعليقات:

إرسال تعليق