RSS

مشاهدات سينمائية متنوعة


Aguirre, the Wrath of God - 1972
شخصية أغيري هي ربما الشخصية الأكثر دونكوشوتية التي شاهدتها، مزيج مرعب من الطموح اللامحدود والهوس بالذات والإيمان المطلق بالعظمة، مخلوط بالجنون الذي عبث بعقول مستكشفي القارة الجديدة وخيبة الأمل بانهيار كل الأساطير والأحلام الخيالية حولها وكأنه لعنة حاقت بهم جراء تدنيسهم تلك الأرض التي لم تدخر صعوبة إلا ورمتها بطريقهم.
فيلم فيرنر هيرزك هذا منهك جداً على الصعيد التقني والدرامي، من الواضح تأثيره على كوبولا و أوليفر ستون في القيامة الآن وبلاتون ومؤخراً على أناريتو في العائد، بل يبدو حتى أنه مرجع لأفلام الأكشن والرعب التي تدور في أجواء مشابهة من العزلة والحصار والخوف من المجهول والتضائل البشري أمام سلطان الطبيعة البدائية، تحديات التصوير والتقنيات تستحق الدراسة، الخلفية التي جاء منها الألماني هيرزك كمخرج أفلام وثائقية فادته جداً هنا، عمله فيه الكثير من التوثيق الطبيعي لهذه الرحلة التاريخية المتخلية، والاستعانة بالمذكرات أضاف روح صوت الراوي على العمل، وكله فاد بضخ مناخ واقعي حقيقي للعمل وصنع جو من الكابوسية يشعرك إن الرحلة فعلاً تدور بالجحيم، وإشعار المشاهد بوطئة القلق والخوف والإحباط المستمرين الذي خنق الشخصيات حتى قادها للجنون النهائي، بالأخص مع تعمده عدم عرض الهنود المهاجمين، فقط آثارهم، سهامهم، رماحهم، الجثث والأشلاء التي يخلفوها، الإحساس دوماً أنهم موجودين ويراقبون ما يجري وسينقضون بلا رحمة بأي لحظة.
شخصية أغيري – أداء عظيم من كلاوس كينسكي – ذكرتني جداً بشخصية همفري بوغارت في رائعة جون هيوستن كنز سيرا مادر، الطمع اللا محدود وعدم الثقة اللواتي يقودان للجنون، ولكن هنا ليس فقط طمع الذهب، كنوز الدورادو هي الدافع الأول وهي التي تحرك العمل، ولكن أهميتها بالنسبة لأغيري تتضائل أكثر وأكثر وينمو عوضاً عنها طموحاً أكبر بالعظمة، هذه العظمة هي الكنز الحقيقي الذي يريده أغيري والذي يتعاظم مع علو قيمته بمجتمعه المصغر حتى يبدو أنه لا يتسع له حدود، شيء من تجسيد طموح نبلاء أوروبا في العصور الوسطى لشن الحملات الصليبية لإنشاء ممالكهم الخاصة بالشرق، هنا نحن أمام حملة صليبية بكل معنى الكلمة، العامل الديني الذي يعطيها الشرعية، العامة الطامعين بالثروة، الفرسان والنبلاء الساعين للمجد، أوهام الثروة التي تنتظرهم، أغيري بدأ يشعر بقيمته منذ اللحظة التي أوعز بها لأحد مقاتليه بقصف جثث القتلى على القارب حتى يمنع قائد الحملة من المخاطرة للعودة لإنقاذهم حتى لا يتعرضوا لمخاطرة تعيق الرحلة، هنا أدرك قدرته على السيطرة على الرجال بتشجيعهم على المضي نحو طموحاتهم ولو كان ذلك على حساب أخلاقيات الشراكة أو الالتزام نحو المملكة الإسبانية، لذي يتطور معه الأمر ليقود تمرد على قائد الرحلة، ثم ليعلن الانفصال عن التاج الاسباني وتأسيس إمبراطورية خاصة، جو العزلة والابتعاد عن المركز والجرأة على فعل ما يفكر به الجميع من فظاعات ولا يجرؤن عن فعله يعطيان أغيري القدرة على التمادي بطموحه والإبحار بأحلامه لدرجة لا يعي فيها إلى أي حد كان يغرق بأوهامه ويضيع، حتى يصل لمرحلة ملك على لا شيء سوى على الجثث والقرود ويحلم بإمبراطورية وبعرق صافي هو أصله.
يرينا هيرزك في الخلفية صراع غريب من نوعه بين الرغبة بالنجاة والرغبة بالنجاح – سواء ذهب أو سلطة – وكيف يختلطان ببعض حتى لا يمكن تميزهما، التمرد يحصل حين يقرر القائد القديم العودة، المتمردين يريدون الاستمرار طمعاً بالذهب حتى ولو كلفهم الأمر حياتهم، ولكن مع الاستمرار يفقد الذهب إغراءه وتصبح النجاة هي الهدف ولكن لا يعودون، وفي نفس الوقت لا يجرؤن على النزول من القارب إلى اليابسة التي تحوي الذهب خوفاً من السكان الأصليين، يتابعون المضي هكذا في المجهول ونحو الفراغ بطريقة عبثية، وينتهون على القارب، ينعزلون عن العالم حتى يشكلون مجتمعهم الخاص المتداعي الذي يجعله هيرزك نافذته المصغرة ليلقي نظرة عن تشكل المجتمعات كيف يظهر القادة وكيف يتحولون إلى طغاة وكيف ينتهون .
أغيري يسمي نفسه غضب الرب، يعتبر نفسه المختار لخوض مهمة مقدسة لذلك كل ما يقوم به شرعي ومباح ولا يجوز مناقشته، ولكن غضب الرب هنا حقيقةً هو اللعنة التي انصبت على رؤوس أولئك المستكشفين، هيرزوك لا يوفر فرصة ليصور حجم الشر والوحشية التي حملها المستكشفين الأوروبيين إلى العالم الحديث باسم الرب، ليبدو ما يحل بهم أشبه بانتقام إلهي، يقدم لهم الفرصة تلو الأخرى للعودة والإنذارات والتحذيرات المستمرة ولكن لا يعبئون، يبليهم بكل العقوبات الإلهية من خلاف وطغيان وموت وخطر مترصد وجوع وإنهاك ومرض انتهاءً بالجنون، يبدو فيلم هيزوك بعيداً تماماً عن تمجيد جهود المستكشفين بترويض القارة الجديدة، بل هو هجومي جداً وفيه شيء من روح العبثية، ما الجدوى من كل هذا العناء؟ ماذا حققوا؟ أين هو الذهب والمجد والدعوة التي سعوا إليها؟ ما هي الحضارة التي أنشئوها؟ ما هي جذورها؟ المستكشفون لم يحملوا حضارة ولا تقدم، جاؤوا طامعين ونقلوا أمراض أوروبا والعالم القديم إلى العالم الحديث حتى العنصرية، رغم انغماس الفيلم بزمنه ولكن لا يمكن – على الأقل بالنسبة لي – فصله عن واقع الحضارة الأمريكية، هو ليس فقط دراسة للرحلة العبثية بل عودة للبحث عن جذور المرض، حضارة كانت هذه بداياتها وإرهاصاتها أصبحت اليوم المتحكمة على العالم لنفهم شكله اليوم ونستشف إلى أين سيصل، النهاية المريعة لأغيري هي ليست سوى تنبأ بالنهاية الكارثية التي تنتظر تلك الحضارة.


All That Jazz - 1979
شهد حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 1979 مفارقة بتنافس فيلمين فازا بسعفة كان على جائزة أفضل فيلم، تحفة كوبولا الحربية القيامة الآن الفائزة بسعفة كان عام 1979 مناصفة مع الألماني طبل الصفيح، وفيلم بوب فوس الميوزكال كل هذا الجاز الفائز بسعفة كان في دورة عام 1980 مناصفة مع تحفة كوروساوا كاغيموشا.
بوب فوس ربما هو أخر أساطير السينما الميوزكال الأمريكية حاز فيلمه الشهير كابريه على ثمان جوائز أوسكار منها أفضل إخراج رغم تواجد فيلم يدعى العراب عام 1972، فيلمه هذا يبدو تحية وداع أهداها للعالم قبل اعتزاله - أخرج بعده فقط فيلماً واحداً عام 1984 قبل وفاته عام 1987 - كما أنه يبدو أيضاً تحية وداع لسينما الميوزكال التي كانت تحتضر ثم خبا نجمها نهائياً رغم محاولات أفلام الديسكو التي قدمها جون ترافولتا وكيفين بيكون لأحياء هذا الفن أوالطفرات الحديثة من روب مارشل و تيم بيرتن وداميان شازيل ولكن بقيت كتحيات أكثر منها إعادة أحياء، فوس يبدو أنه كان يقرأ مصير هذا الفن الذي لم يعد مكان في ثورة هوليوود الجديدة فودعه بأفضل طريقة يمكن تقديمها.
هو عمل شديد الذاتية مستوحى من الحياة الخاصة لصانعه نفسها والعديد من الممثلين والممثلات فيه أدوا أدوارهم الحقيقية أو أدوار لشخصيات حقيقية عاصرها فوس، راودته فكرته أثناء أزمة قلبية داهمته وفيه الكثير من الاستلهام من تحفة فلليني 8\5 دون أن يكون محاكاة له أو ينفي هويته الخاصة، عظيم جداً وبأعلى درجات الإبهار السينمائي التي يمكن تخيلها.
رغم كونه ميوزكال واستعراضي ولكن أسلوب السرد فيه مختلف عن أي عمل من نفس التصنيف، عادةً في الميوزكال تقوم الاستعراضات برواية القصة وتحريكها ودفعها للأمام، هنا دور الاستعراضات مختلف، لا تروي القصة بالضرورة، أسلوب السرد لا يختلف عن أي فيلم روائي، الاستعراضات هنا يستخدمها فوس بطريقتين على هامش الحدث في البروفات والتحضير للعمل المسرحي والاستعراضي الضخم الذي يصنعه المخرج جون غيدين، وفي محاكاة جزء من مخاوفه وأفكاره وأحلامه وعالمه الخفي، النتيجة كانت عظيمة وشديدة الخصوصية في سينما الميوزكال، حافظت على جديته وواقعيته التي يتطلبها موضوعه شديد السوداوية ولم تنفي عنه الروح الفنتازية الساحرة وإبهار العروض الذي يتميز به هذا الصنف، بل كون العروض تجري في خيال غيدين وعالمه الذاتي فهذا افسح المجال للفنتازية لتنطلق بلا حدود ولتكون تعبير صادق عن العالم الداخلي للفنان المهووس بفنه لدرجة الجنون، الاستعراضات التي قدمها فوس هنا عظيمة جداً أسرة للعين والقلب و لها قدرة على أن تعلق بذاكرة المشاهد وناجحة بشرح صراعات الشخصية.
هو فيلم عظيم عن الرجل وهو يواجه الموت ويعيد الحسابات بماضيه وعالمه وخياراته الخاطئة، فشله كرجل لم يستطع تكوين عائلة أو علاقة وحيدة ناجحة لا يسمح لنجاحه كفنان بأن يعطيه الرضا، نجاحاته الفنية تبدو لا شيء أمام فشله الإنساني، من ناحية أخرى هو عن هووس الفنان بالكامل وصراعه مع الموت ومحاولته لقهره والخلود من خلال الفن، محاولته للوصول للألوهية من خلال الفن الذي يجعله غير راض عن إنجازاته الفنية مهما كانت عظيمة لأنها لا تحاكي الكمال الذي ينشده ويجعله دوماً عرضة نقده الذاتي وحساس اتجاه أي نقض خارجي.
في نفس الوقت هو فيلم عن صعوبة العمل الاستعراضي، عن الجهد والتعب والإنهاك والسهر والعرق وفقدان الثقة بالنفس وتحدي الذات وضغوطات المنتجين وشراسة المنافسين وعدم رحمة الجمهور، فيلم من دواخل الفنان عن قسوة الفن وجحيم عالم الفنان الذاتي، يجعلك تفكر بكم الصعوبة المبذولة قبل أن نشاهد عملاً فنياً أو مسرحياً لدرجة إن موقع التصوير ربما يتحول إلى ما يشبه الجحيم وفي نفس الوقت يجعلك تلمس حجم اللذة والحب التي يعيشها الفنان وهو يصنع عمله لدرجة تجعله مخدراً ومتقبلاً للآلم كفراشة يأسرها ضوء النار رغم إدراكها أنه سيحرقها.
الفيلم من بطولة أحد نجوم السبعينات روي شايدر (الاتصال الفرنسي و رجل الماراثون وفكاك) وقدم فيه أداء عظيم جداً ومنهك نال عنه ترشيح للأوسكار خسره لصالح الأسطورة داستين هوفمان (شريكه بفيلم رجل الماراثون والذي كان من المفترض أن يشارك بدور شرفي بالعمل بشخصيته الحقيقية كونه عمل مع فاوس في فيلم ليني) الفيلم أطلق نجومية جيسكا لانغ بظهورها الملائكي المثالي كهاجس فاوس نحو الكمال المحتجب الذي لا يستطيع ملامسته ويعذبه.
10\10


Alphaville - 1965
لم اشاهد الكثير لغودار ولكن بين ما شاهدته هذا الأصعب وربما الأميز، في الفيلم الفائز بدب برلين الذهبي يدخل جان لوك غودار منطقة الخيال العلمي بأسلوبيته الخاصة وضمن مشروعه الخاص يمزجه بالنوار وقصص الجاسوسية، لم يهتم - كعادته - بتقاليد الصنف، جرد الفيلم من كل المؤثرات البصرية أو المميز بالمكياج والأزياء والديكور، اهتم بالعمل على التفاصيل الدقيقة التي حولت الاعتيادي إلى لا اعتيادي وصنع صورة متكاملة لعالم خيالي مستقبلي لدرجة يصلح معها أن يكون الفيلم مرجعيا" بهذا المجال.
الفيلم خيالي وتنبؤي بنفس الوقت واليوم يبدو على صوابية كبيرة بما حذر منه، يلقي نظرة قلقة على ضياع الروح الإنسانية و الاستغناء عن الفنون والآداب لصالح تفاقم الاعتماد على التكنولوجية وتطورها المتسارع وهيمنتها على الحياة المعاصرة، نظرة على تفاقم الشيفونية والديكتاتورية والهيمنة الشمولية بمختلف أنواعها على مختلف المجتمعات بمختلف أنواعها وانتمائتها وضياع الروح الفردية وتقييد الحريات وتصاعد حمى التسلح وتطور السلاح بطريقة مخيفة جدا" تكاد تطيح بالبشرية.
غودار يعامل المشاهد كالسائح كشخصيته الرئيسية ليمي كاوتن يدخله من عالم خارجي إلى عالم ألفافيل دون معلومات مسبقة عنه ويجعله يكتشفه ويشكل عنه انطباعاته ونظرته ويتفاعل معه، يغني فيلمه بالكثير من الصور واللقطات التصويرية المبهرة وحوارات بغاية التعقيد وشريط صوتي ممتاز جدا" بالأخص صوت الكمبيوتر ألفا60 ، افتتاحية العمل بصورتين تمثل نهاية الحروب وحلول السلام أسلوب عظيم من غودار لشرح هوية العالم المستقبلي بأكثر الطرق سينمائية ثم يسخر من السلام حين يرينا أنه حين يبنى على القمع وخنق الروح البشرية لن يدوم، ومهما تعاظمت القوة التقنية فستبقى الفطرية الإنسانية أقوى وستنتصر بالنهاية.

Hunger - 2008
من وصف فيلم ستيف مكوين الشهير 12 سنة عبد بأنه قاسي لدرجة السادية فهو بالتأكيد لم يشاهد عمله هذا، فيلمه الطويل الأول الذي جاء بعد أكثر من عقد في صنع الأفلام القصيرة والأغاني المصورة جاء كإعلان مشروعه الخاص بتقديم قصة نزاع الإنسان في ظروف غير طبيعية وربطها بقضايا أكثر عمومية وشمولا (النضال السياسي في السجون والكفاح لإستقلال ايرلندا في الثمانينات، إدمان الجنس والإغتراب في الحياة المعاصرة، العبودية وواقع الرق في أمريكا القرن التاسع عشر)
مكوين هنا يقدم قصة حقيقية عن السجين السياسي بوبي ساندز الذي خاض إضراب مفتوح في سبيل استقلال إيرلندا في السجون البريطانية عام 1980 زمن تيتشر انتهى بوفاته، مكوين لا يجعل فيلمه سيرة ذاتية تقليدية، يحرر فيلمه من النمط وشروط الصنف، الشخصية الرئيسية لا تظهر لبعد مضي ثلث العمل، يبدأ عمله بداية مطولة وقاسية جدا عن واقع النضال السياسي في السجون ضمن ما دعي بحركة عدم الاغتسال التي استمرت أربع سنوات، بداية عنيفة مرهقة تظهر كم كان النضال مرهقا نفسيا وبدنيا للسجان كما كان مرهقا للسجين، ويعطي لمحات بسيطة عن تفاصيل نفسية وإنسانية للمعتقلين، مكوين لا يشرح شخصياته ولا يبني لها كاريكتارات خاصة، يتركها بالعموميات أغلب الوقت جاعلا منها أقرب للمشاهد إنسانيا بدون أن يقيدها بصفات خاصة أو خلفية درامية محددة، والأمر ينجح معه بدرجة كبيرة دون أن ينجر نحو إثارة التعاطف المفتعل بتفاصيل لن تهم، الواقع الذي يعيشه المعتقلون هو ما يهمنا كمشاهدين وهو ما يربطنا مع الشخصيات ويجعلنا نتعاطف ونتفاعل معها وأي شيء أخر حتى القضية نفسها يتركه مكوين على الهامش وفي خلفية الحدث ولا يبدو ذات أهمية.
من هذا التمهيد الذي يأخذ أكثر من ثلث العمل يضيق مكوين الصورة من عموم المعتقلين إلى بوبي الذي يبدو مثله مثل أي سجين لا يختلف عنهم، وقبل أن يتجه الفيلم في الثلث الآخير نحو الحدث الأهم وهو الإضراب يعطي مكوين الشخصية مساحتها الكاملة للتعبير عن نفسها وأفكارها من خلال حوار مطول مع أحد رجال الدين، الحوار الأطول في عمل أعتمد أغلبه على الصمت والصورة جاء بمكانه الصحيح و يجبرنا على أن نتسائل هل قرار بوبي سببه لوثة جنون أصابته نتيجة الاعتقال الطويل؟ رغبة ذاتية بالعظمة وتحقيق المجد من خلال الصلب (بوبي بالأصل رجل دين أيضا)؟، أم إنه إيمان حقيقي لا يمكن زعزعته بالقضية وحرية إيرلندا؟، أم هي الأمور الثلاثة مجتمعة؟، بينما يبدو رجل الدين ناطق بلسان المشاهد فيتسائل هل الأمر يستحق كل هذه التضحية؟، ألا يوجد بدائل أخرى؟، هل الإضراب سيحقق فعلا النصر أم إنه سيذهب بجهود نضالهم أدراج الرياح؟ ألا يوجد حل سوى بالحلول القطعية الموت أو النصر؟، ألا يمكن للتسويات وأنصاف الحلول أن تكون نتيجة مرضية؟.
مرحلة الإضراب هي الأكثر هدوءا في العمل والأقسى في نفس الوقت، مايكل فاسبندر يعطي نفسه كاملا في الدور، يبذل مجهود إعجازي بدنيا ونفسيا ويقدم أداء متوهج ومؤلم جدا كان له الفضل بانطلاقته الصاروخية التي توجها مع مكوين مرتين بفوزه بأفضل ممثل في فينيسا عن فيلم عار 2011 ونيل ترشيحه الأول للأوسكار عن فيلم 12 سنة عبد 2013 .
كاميرا مكوين وصورته هي نجمة العمل، اللغة البصرية التي يتبعها أخاذة، بعيدا عن الحوار بعيدا عن دراسة الشخصيات والدراما النمطية، يهتم بتجسيد الحدث بقسوته بلا رتوش وبواقعية بالغة وقاسية لدرجة تشعر معها بالاختناق والتوتر النفسي طوال فترة العمل، هنا انجاز تصويري مبهر جدا منبعث من روح المكان وواقعه من حيث الألوان والأجواء الكئيبة الداكنة والهروب منها للحظات بأختيار زواية تصوير بغاية الجمالية دون أن تعطب روح العمل، عمله هذا مثل عمليه اللاحقين عبارة عن مواقف ومشاهد متتالية بلا خط درامي يصعد ويهبط ويتطور ويتفاعل سوى بالحد الأدنى ولكن مرصوفة بعناية بمونتاج أنيق جدا، فيه الكثير من روح التوثيق والكثير من روح السينما القصيرة المعتمدة على الإختزال وتقديم زبدة الحدث بلا إضافات، رغم ذلك الأمور أفلتت قليلا منه، بعض الإضافات الدرامية لم يكن لها داع أبدا لا أعرف لما وضعها كمشهد أغتيال الضابط بالذات، كان يمكن الاستغناء عنه لأنها لم تقدم شيء للعمل وغيابها لم يكن ليؤثر.



ضمن تظاهرة سينما الأخوة (Bro) عرض نادي ATLC الفيلم الإيطالي الفائز بسعفة كان عام 1977 (Padre padrone) للمخرجين باولو وفيتوريو تافاني، دار عقبه نقاش بإشراف منظما التظاهرة الصديقان فراس محمد و سليم صباغ، الفيلم المعنون بالعربية (أبي ، سيدي) أحد أفضل الأفلام التي مزجت بين دراسة البيئة والنضوج وتشريح علاقة الأب والأبن، يبدأ الفيلم بأسلوب كسر الحاجز الرابع مع ظهور كاتب الكتاب المقتبس عنه الفيلم عالم اللغات الذي يتحدث الفيلم عن قصته خروجه من الريف الإيطالي وتمرده على سلطة أبيه ليحقق ذاته وحلمه بالتعلم بعد أن قضى حياته بالأمية ثم يعود ليتصالح مع بيئته، الفيلم تعامل مع الريف الإيطالي والبيئة بطريقة غير تقليدية، بعيداً كل البعد عن النستولوجية والحب وتمجيد جماليات الريف نحو تسليط الضوء على كل ما هو قاسي ومتعب ومحبط و بشع في حياة الريف، ولكنه مع ذلك لا يهاجم الريف والبيئة الريفية كبيئة بقدر ما يهاجم الجهل والفقر والعادات السيئة المتوارثة والتي جعلت البيئة مكان على هامش الزمان والحضارة ويطبع شخوصه بقسوته وتخلفه ويجعله جزء من تكوينهم ويحولهم إلى أسرى البيئة وبحاجة شديدة للتحرر، يصر الأخوان تافاني منذ المشهد على أن الجهل والفقر هو سبب انحطاط البيئة والخلاص منه بالعلم والتحرر والشرارة تبدأ بالموسيقى ولا يجعل السبيل لذلك هيناً.
الفيلم جريء ومبدع برسم تفاصيل البيئة وشخوصها مع لمسة كوميدية محببة عودتنا عليها الواقعية الطليانية، شخصية الأب متقنة جداً بعيدة عن أحادية التكوين بجعلها مجرد شخصية مهووسة بالسلطة والتحكم، هو مع هوسه بالتحكم بحياة عائلته شخص مهووس بمستقبلهم وانتشالهم من الفقر وتأمين مستقبلهم ولا يعرف سوى طريق وحيد لهذا وهو أن يكون قاسياً معهم لأنه هو الوحيد الذي يعلم الطريقة الأصح حسب اعتقاده، علاقته بأبنه فيها الكثير من الحب والحنان المختبئ تحت القسوة والتعنيف المستمر، يصنع شاباً حين اشتد عوده تعامل بنفس القسوة التي اكتسبها من أبيه ليتحرر منه، ثورته للحصول على التعليم ليس فقط رفضاً للبيئة و رغبةً بالتحرر من سطوة الأب وبناء حياة جديدة بل لاكتشاف ذاته وجوهره وقدراته وشخصيته الضائعة بظل الأب والمرسومة سلفاً والمعروف نهايتها ، لذلك فحين انتصر واكتشف نفسه عاد وتصالح مع بيئته ووالده واكتشف جذوره التي أدرك بعد ابتعاده عنها إنه لا بديل له غيرها، بقي عالقاً عند لحظة سحبه من مدرسته لم يستطع تجاوزها، ولكن أصبح أكثر تصالحاً معها ومع كل عنف وقسوة بيئته.
بعيداً عن أهمية الفيلم فقد أثار بالنسبة لي تساؤل عن سبب عدم اقتحام مخرجينا لقصص الناس العاديين والبيئة الشعبية لصنع أفلامهم وإحسان تسويقها، بالأخص إن البيئة المعروضة بشخوصها بعاداتها بمشاكلها مماثلة جداً لريفنا، بعض المخرجين حاولوا وقاربوا تلك المعالجة كعبد اللطيف عبد الحميد بليالي ابن أوى ولكن لا أفهم لما لا تسوق أعمال كهذه عالمياً بالشكل المستحق لتحصل على التكريم الذي يليق بها وتتعمم التجربة ونكررها ونضيف عليها، الفيلم الذي شاهدناه بالنادي وفائز بكان ومنافس ببرلين لم يأتي بشيء من الفضاء، جاء بالبيئة والواقع والحقيقة وأحسن تصويرها ومعالجتها بصدق وذكاء جعل القصة عالمية عن الريف بشكل عام لا عن الريف الإيطالي فقط.


The Treasure Of The Sierra Madre – 1948
كلاسيكية جون هيوستن المتوجة بثلاث جوائز أوسكار أفضل مخرج ونص وممثل مساعد لوالده والتر هيوستن، تحوي في ظاهرها كل عوامل الفيلم التشويقي عن الصعوبات التي واجهها المنقبون في استخراج الذهب، ويذهب في العمق لجعل رحلة المنقبون عن الذهب في فترة القرن التاسع عشر في المكسيك - كما يفترض الفيلم - ليست سوى استعادة وإسقاط لرحلة المكتشفين الأوائل لأمريكا، الفقراء الذين حملتهم الحاجة والرغبة بحياة أفضل والثراء السريع إلى عبور المحيط من أوروبا نحو أرض الحلم البكر الموعودة بالذهب والخيرات الوفيرة واصطدموا بصعوبات لم تخطر على بالهم مصدر أغلبها جنونهم وشجعهم الشخصي، أولئك الفقراء يعودون هنا بشكل جديد، عن أمريكيين يعيشون انعكاسات الحرب الأهلية، تركوا أراضيهم نحو القفار في الجنوب حيث أرض يشاع إنها عائمة على بحر من الذهب قد تنتشلهم من بؤسهم وتعرضوا لخيارات أعادت تشكيل ذاتهم.
هيوستن يستغرق بداية فيلمه مطولاً بعرض تفاصيل شخصياته وعوالمها، يقدم لنا أرضية بناء نفسي ممتازة للشخصيات الثلاث، يركز الضوء في البداية على شخصية دوبس (همفري بوغرات) دون أن يجعل له خصوصية معينة، هو لا يختلف عن أي منقب آخر دفعه الفقر وطموح الثروة لركوب درب المغامرة ، لذلك نراه ينسجم سريعاً مع كيرتين (تيم هولت) هو مثله يشبهه تماماً لا يختلف عنه، كلاهما شابان من خلفية مشابهة وبنفس الطموح والحاجة ويتعرضان لنفس الاختبارات الإخلاقية ولكن يتخذان خيارات مختلفة تقودهما نحو طريقان متناقضان، الأمر يبدأ بخطوة ومع تتالي الخطوات يبدو كلاهما وكأنهما عبرا طريقان متباعدان لا يلتقيان، من هنا يبدو وجود شخصية هاورد (والتر هيوستن) الأكبر سناً مهم وله خصوصيته، العجوز الذي عايش تلك التجارب طويلاً، وأصبح له خبرة واسعة ليس فقط بالتنقيب عن الذهب وإنما بطبيعة الرجال، يبدو إن سيناريو تلك الرحلة قد سبق وعايشه مراراً وتكراراً لذلك فله القدرة الواسعة على التنبوء بتصرفات رفاقه واستشفافها والتعامل معها وربما تبريرها، وفي نفس الوقت هذا العجوز يخوض رحلته الخاصة، اكتشافه الذاتي والروحي الخاص، اختبارات تحدد أخلاقيته وخياراته، الحياة لا تتوقف عن اختبار الأشخاص مهما كبر سنهم وعظمت خبرتهم، الجميع سيتعرض في مرحلة ما من حياته لاختبار يحدد شخصيته، وسيلقى عاقية خياراته.
هيوستن ينقل فيلمه من رحلة ومغامرة التنقيب عن الذهب ليجعله فيلم عن الخيارات الأخلاقية، عن ما تفعله بنا الثروة، عن معنى الذهب وسبب قيمته المرتفعة واللعنة التي ترافقنا حين نحصل عليه، أهمية الفيلم الحقيقية بنظري هي بالتفاصيل الإنسانية عن الانحدار النفسي الذي يحل بالشخصيات وصراعتها الأخلاقية التي تتفاقم مع كل لحظة يتفاقم بها مخزون الذهب ويتراكم، الشرخ الذي أحدثه المنقبون داخل الجبل لاستخراج الذهب رافقه شرخ آخر في نفوسهم كشف حقيقتهم ومعدنهم، وكلما ازداد الذهب لمعاناً كلما ازدادت تلك النفوس سواداً.
نص العمل مقتبس عن رواية لب تريفن ، الروح الروائية بالعمل عظيمة جداً، جمل وحوارات فيها الكثير من الفلسفية المنطوقة بالكثير من العفوية والواقعية، يثير الكثير من الأفكار وإشارات الاستفهام لدى المشهد حول القيم المادية و علاقتها بالطبيعة البشرية ومن المسؤول عن إفساد الأخر، هل الماديات هي فعلاً من تشوه الروح،؟ أم إن الطبيعة الوحشية والجشع هي من تعطي للأشياء المادية قيمتها وتصنع منها سلاح يفتك بها؟، ما الذي يجعل للذهب قيمته؟، لمعانه وندرته أم امتزاجه بدم وعرق البشر على مدى آلاف السنين؟، عن صوابية الرحلة والكنز الحقيقي المنشود منها، هيوستن أعطى للنص حقه الكامل، ولكن جعل للصورة الهيمنة، يدخلنا بأجواء الرحلة والمكان، يستغرق بتفاصيل التنقيب والبحث، يجعلنا نلمس ونشعر بتعب الشخصيات ومعاناتها وإنهاكها وما يخلفه هذا الإنهاك على نفسيتها، يستخرج أداءات بديعة من طاقمه وتحديداً الأسطورة همفري بوغارت، يخلع عن أيقونة سينما النوار في الأربعينات – الذي توهج معه في ما يمكن عده أول فيلم نوار أمريكي حقيقي الطائر المالطي لهيوستن أيضا" – ثوب البطل الكلاسيكي أو ثوب العاشق الذي أسر القلوب في كازبلانكا ليظهره بشخصية بعيدة عن البطولة النمطية، شخصية فيها الكثير من السوداوية والسلبية والتناقضات والتحولات، يقدم الانهيار الأخلاقي والنفسي بطريقة بديعة تستحق التأمل، درس ناضج جداً في رسم هذه الشخصيات وبطريقة تقديمها على الشاشة.
على هامش قصة المغامرة التي يقدمها هيوستن هناك ملامح رائعة لصورة حضارة تخوض مخاض عسيراً لتلد، مقولة إن أمريكا ولدت على عرق ودم المهاجرين تبدو واضحة جداً بأصدق صورها، التمازج بين الأعراق المختلفة مستوطنين وأصليين مهجنين، هنود حمر على الهامش يعيشون آخر أيام حضارتهم، حفارات النفط، بداية تشكل القانون وسيطرته وامتداده، السكة الحديدية والقطار، انتشار قوانين تقييد الاكتشاف والحفريات التي أعاقت عمل المستكشفين، تبلور القيم الأمريكية المادية و السعي الحثيث للثراء والتنافسية والفردانية، مشاهد وتفاصيل أعطاها هيوستن مساحتها الكافية لتشكل لنا الجو العام، هذا الجو الذي يحمل الكثير من الهجاء المبطن الذكي، لن تستطيع أن تمنع نفسك من المقارنة بين الانحدار والحالة المزرية التي وصلها السكان الأصليين المندمجين بالحضارة الحديثة من فقر وشحاذة ولصوصية وعمل بالأجرة شبيه بالاسترقاق، وبين المشاهد القليلة التي بها ملامح فردوسية للسكان الأصليين المحافظين على عاداتهم والمقيمين بقبائلهم، فيه كسر للنمط من تصوير الهنود الحمر كجزارين ولصوص وسلاخي رؤوس، هيوستن يبتعد عن هذه الصورة، يخرج الهنود الحمر منها، وينسب التهم إلى السكان الأصليين المندمجين بالحضارة الغربية الذين حولتهم إلى لصوص، كل ما نعرفه وشاهدناه بأفلام الغرب عن الهنود الحمر السفاحين قساة الملامح الغدارين المغيرين على القطارات الذين لا يحفظون عهداً موجود ولكن فقط لدى هنود خلعوا عن نفسهم تقاليد أجدادهم وملابسهم وألوانهم وقوسهم وسهمهم وارتدوا الملابس الغربية وتكلموا بلغة المستوطنين الأسبان الأوائل أو أحفاد المستعمرين الإنكليز اللاحقيين وحملوا البنادق النارية، مع تلميحات لا يمكن إغفالها في حوارات مطولة تتحدث عن الطبيعة، معاملتها ككائن حي واعي، وأن لها سلطة ونفوذ وانتقام، تعطي كنوزها وخيراتها كاختبار وستعاقب المتجاوزين، نص ينصف الحضارة الأمريكية الأصلية وفيه الكثير من روحها وقيمها، بل إن الكثير من مفاصل العمل المحورية منسوبة للصدفة والقدرية، الرحلة بأكملها وبدايتها تبدو كترتيب قدري، وكأن الطبيعة استدعت أولئك الثلاثة ليخوضوا امتحان خاص ظاهره الذهب ولكن باطنه أعمق وأهم من ذلك بكثير، شيء من الأمثولة الدينية في الديانات السماوية ولكن بالكثير من الروح الطبيعية الأصلية بعيداً عن التوراتية.
10/10


….. And Your Mother too – 2001
أنجح فيلم لتروفو ليس مخرجه تروفو، المكسيكي ألفونسو كوارون في الفيلم الذي أكسبه اعترافاً عالمياً حقيقياً بعد فيلم أول مكسيكي ناجح واثنان أمريكيان متوسطا القبول قدم هويته وهواجسه بهذا العمل، حقق بعده النقلة الأهم بمسيرته حين أخرج الجزء الثالث من هاري بوتير - الجزء الأهم - ثم عمله الأهم أطفال الرجال، والأوسكاري جاذبية، ونال مؤخراً أسد فينيسيا عن شريطه المكسيكي الثالث روما.
بهذا العمل نفخ الروح بالموجة الفرنسية - فرع فرانسوا تروفو - وأعطاها هوية مكسيكية، صوت الراوي، مثلث الحب، الجرأة الجنسية، أبعاد المكان والهم الاجتماعي، التأويل والدلالات المنبعثة من العلاقة وإسقاطاتها على مشاكل المجتمع، البساطة البصرية، دراسة القصص من زاوية ورؤية الشخصيات الثلاث، السهولة والانسيابية بالتأسيس للحدث وتقديمه ودراسة نتائجه والاعتماد على ذكاء المشاهد لفهم الدلالة وراء الحدث.
ألفونسو - بالتعاون مع أخيه كارلوس بكتابة النص المرشح للأوسكار - قدم ربما الفيلم الأهم بشرح واقع الحياة المكسيكية على مشارف القرن الحديث، صراع الهوية الخفي الذي يتضخم في هذا المجتمع، اندثار التقاليد والأعراف أو كما يسميه الشباب بثورتهم غير المعلنة (موت الأخلاق) ليحل بدل عنها فوضى غير معروف إلى أين ستذهب، كوارون قدم جرأة بالغة جداً بفيلمه هذا وتعمق بتفاصيل الجنسية للعلاقة بين شخوصه وعبر عن الثورة من خلال الجنس، ولكن بنفس الوقت كان محافظاً جداً بالمضمون الفكري لعمله، هو يصور هذه الجرأة الجنسية من منطلق ضياع وفراغ الشخصيات وتعبير عن فوضى لا تعرف حدود ستطيح بالنهاية، تبدو بالنسبة لشخصية لوسي تعبير عن ثورة غضب على قمع مفرط يمارس ضدها منذ صغرها ومحاولة لتعيش الحياة وتشعر بها دون أن تعرف طريقة لصحيحة هذا، تخوض رحلة مع المراهقين (خوليو) و (تينشو) اللذان أنهيا الدراسة الثانوية وعلى اعتاب الجامعة، رحلة عبث ولكن هامة جداً بالنسبة لهما لتكوين شخصيتهما وطرح خيارات حقيقية أمامهما واكتشاف جوانب بنفسيهما لا يعرفانها، يلتقيان بالرحلة بالكثير من الشخصيات، يكتشفان المكسيك على حقيقتها بعيداً عن الحياة الهادئة والمرفهة التي يعيشانها، من خلال صوت الراوي نلمس مآسي وانهيار اجتماعي واقتصادي يعيشه العامة، ولكن مع ذلك فالشخصيات لا يريان هذا، لا يهتمان له بالأحرى، يعرفانه مسبقاً ربما ومتعايشان معه وبأنانية مطلقة لا يكترثان به وهدفهما ينحصر بإشباع غرائزهما الجنسية، مؤكداً كوارون على حالة الفوضى والتهديد بالضياع الذي يحيط بالمكسيك حين لا يعي الشباب مشاكل مجتمعه بل متصالح معها وماض بها.
ينفجر الخلاف بين الشخصيات خلال الرحلة، في عمق الخلاف هناك ماض قديم تفجر، ليست الخيانة هي السبب، ماضي الشخصيات، تركيبة علاقتهما، البيئة التي جاءوا منها، الفروق الطبقية بينهما، خلفية الأول الريفية ووالد الثاني المسؤول الحكومي الفاسد، التركيبة الهشة والمتداعية لمجتمع المكسيك بأكمله، كلها تراكمت فوق بعضها لتنفجر بين الشخصيات، في النهاية لا تحدث مصالحة، بل مهادنة، يستمرون بالكذب وارتداء الأقنعة لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحقيقية ويتصالحون أكثر مع إخفاقهم وزيفهم ودونيتهم، وتنحدر علاقتهم نحو مستويات مجهولة داكنة فوضوية عشوائية تقتلها بالنهاية، كوارون يركز على حالة الكذب، والادعاء، والخيانة، والتقنع، والنظرة المبالغة للذات، أسلوب تهرب به الشخصيات من ماضيها، وهزائمها الخاصة، وضعفها، وعجزها، ومجتمعها، تهرب نحو مكان وهمي تختلقه هرباً من مصير مجهول لا يطمأن بالخير.
في هذا العمل نص عظيم، لغة عفوية وحوار قريب للارتجال ومليء بما بين السطور ومدروس ومحسوب بعناية ودقة بالغة، افتتان كوارون بالكاميرا المحمولة والزاوية الواحدة والسحبات الطويلة بلا قطع بان ملامحه هنا، وبهذا العمل – الذي أدار تصويره إيمانويل لابوزكي في ثاني تعاون بينه وبين كوارون قبل أن يقدم معه أهم إنجازاته في أطفال الرجال وينالان الأوسكارات عن جاذبية- أعطت حيوية وواقعية مفيدة جداً، بالأخص مع الألوان الطبيعية الأقرب لتسجيلات الفيديو المنزلية، وسرقة لحظات بصرية خلابة كمشهد السباحة أو مشهد الشاطئ ودعم عمله بأداءات مبهرة من نجم المكسيك الأول غايل غارسيا بيرنل بعد عام واحد على تألق ذاك مع الأسطورة المكسيكية الأخرى إليخاندرو كونزاليس في (اموغز بيغوس) وتبعه بأداءات هامة في مذكرات سائق الدراجة وبابل وعميان وNO والسلسلة التلفزيونية الأمريكية موزارت في الغابة التي أكسبته الغولدن غلوب ومؤخراً الفيلم الفائز بدب برلين كسيناريو (Museo)، ومعه دييغو لونا بأداء ممتاز أيضاً والامتياز الحقيقي كان من ماربيل فيغدو بأداء صعب وبغاية الجرأة والإبهار والتفجر.


Taxi Tahran - 2015
في إحدى مشاهد العمل يلتقي جعفر بنهاهي (صانع العمل) بشاب شغوف بالسينما وبصنع فيلم قصير ولكن ينقصه الموضوع، يخبره بناهي أنه لن يعثر على الموضوع في الكتب والأفلام عليه الخروج للشارع، ويبدو إن الشاب لم تقنعه النصيحة دون أن يدري أنه شخصية في فيلم يجري تصويره عفويا" بكاميرا بناهي التي ثبتها على تابلو سيارة الأجرة التي يقودها بشوارع طهران.
فيلم بناهي هذا الحائز على دب برلين الذهبي ديكو دراما يمزج بين الوثائقي والروائي، كان لبناهي الرغبة بتصويره وثائقي عفوي بالكامل ولكن عدم تجاوب الركاب مع وجود الكاميرا بالسيارة والخوف من المسؤولية القانونية جعله يلجأ للاستعانة بممثلين مغمورين وأشخاص حقيقيين رضوا بالتجرية ليصنع فيلم روائي بروح الوثائقي، استقى موضوعه من التجارب التي واجهها أثناء عمله كسائق تكسي محاولا" صنع الوثائقي، حبك الموضوع بأسلوب روائي دون الخروج عن روح عشوائية الفيلم الوثائقي العفوي.
بناهي الذي صنع عمله بطريقة غير قانونية يعالج بالدرجة الأولى موضوع القانون والفضيلة والثواب والعقاب منذ المشهد الأول وحوار بين راكبين حول ضرورة صرامة العقوبات أو العودة للبحث بجذور الجريمة، وخلال هذا النقاش يطرح بناهي بأسلوب مستتر أفكاره حول فراغ القوانين من مضمونها وعدم فهم غايتها في مجتمع صارم مما يدفع الناس لتخالف القوانين للعيش بطريقة أسهل
يتعمق بناهي كثيرا" بهذه الجزئية بالاستعانة بشخصيات بسيطة طارحا" سؤال هل الجريمة هي الفعل الذي نعت بهذا الوصف بكتب القانون أم هي الأفعال التي تصنفها المفاهيم العامة للفضيلة بهذه الخانة؟ هل الناس متقبليين للقيود القانونية أم أنهم بطبيعتهم ميالون للاستقلالية؟ كل الشخصيات التي قابلناها تكسر قانونا" ما وجميعهم لهم مبرراتهم سواء لتسهيل حياة الناس أو لصنع الفن أو لتحدي الفوارق الاجتماعية أو لنيل حق لا يمكن نيله بالقانون، بل حتى أننا نرى إمرأتان تحاولان خداع الموت وكسر قوانين الطبيعة.
من ناحية أخرى هو فيلم ذاتي عن بناهي نفسه، عن همومه الخاصة وهموم صناعة السينما في إيران، عن أحلامه والأماكن والأشخاص التي يستقي منها إلهامه، عن إحساسه بالمسؤولية اتجاه الناس ومحاولة إيصال صوتهم، عن الضريبة التي دفعها والكوابيس التي تطارده جراء سباحته عكس التيار.
رحلته في شوارع طهران حيوية جدا"، كما كان الراحل كيورستامي يحول الريف وشخوصه إلى أبطال لأعماله كذلك يفعل بناهي مع طهران، يعطي صورة حية حقيقية لبلد محكوم بالنمطية والأحكام المسبقة، يصور لنا مجتمع حي وطموح جدا" يسبح للأمام والتطور بأيدي مقيدة
9/10


Jules and Jim – 1962
لا أظن إن تروفو كان ليتخيل بأفضل حالاته المزاجية إن صورة من مشهد لا يستمر دقيقة ستصبح رمز لحقبة سينمائية بالغة التآثير، صورة جولز وجيم وكاثرين وهم يركضون على الجسر لها تأثير عميق في الوعي السينمائي الجمعي يقارن مع مشرد شابلين وشطرنج بيرغمان و قبلة بيرو المجنون و وجه روكي المدمة وطفلة سبلبيرغ بالرداء الأحمر وفستان مونرو المتطاير وسغائر بوغارت، سر عجيب بهذا المشهد وهذه الصورة، ربما لأنها تختزل الكثير مما قاله تروفو، العاشقان اللذان يلهثان وراء فتاة تتلاعب بهما، روح الشباب وبراءة العواطف المعلقة بين السماء والأرض والمتجهة نحو المجهول الذي يخفي الكثير من الصدمات، شغف الحرية الحارق الذي يكوي الإنسان ويحوله من حر إلى عبد لفكرة الحرية.
تروفو وفي ذروة انطلاقة سينما الموجة الفرنسية قدم هذا الفيلم الذي يجعلنا نفهم لماذا هذه الموجة عظيمة، منطوق الفيلم يبدو جريئاً جداً حتى هذا اليوم وكاسراً لكل الأعراف والتقاليد السينمائية والمجتمعية، مثلث العلاقات العاطفية الذي أصبح يعرف بمثلث تروفو لا أذكر إن شاهدته يوماً بهذا التعقيد، تروفو الذي يبدو أنه يلجأ للمباشرة في تقديم فيلمه وشخصياته وبعض مفاصل أحداثه من خلال الحوار أو صوت الرواي هو في الحقيقة إيحائي جداً وغامض، مباشرته لا تلامس سوى قشور السطح، يعطينا مفاتيح لنفتح أبواب متاهته المحيرة جداً، لغة الصورة تتحدث أكثر مما يقوله الحوار، توزيع الكادر بين الشخصيات الثلاث له قدر كبير من التعبير، كاثرين في أغلب المشاهد تتوسط بين جولز وجيم وتسبقهما بخطوة، طوال العمل وهما يطاردانهما ولا يستطيعان الإمساك بها كشبح أو خيال أو حلم هلامي، حتى عندما تبدو في الظاهر قريبة لهما أو مع أحدهما تكون أبعد مما سبق، فيلم يكسر المعتاد والمألوف سينمائياً ومجتمعياً عن فكرة العلاقات المتداخلة، الشخصيات الثلاث جميعها لها وجهة نظر خاصة، مساحتها الخاصة، تصوراتها الخاصة، طموحاتها الخاصة، الجميع يسعى لفكرة مثالية، لحلم رومانسي لا يمكن أن يتحقق في عالم مبالغ بواقعيته لدرجة الصدمة، الحب والصداقة والزواج والعائلة والحرية، كيف يمكن أن نجمع كل تلك الأمور معاً من خلال شخص واحد، هو عن صعوبة أن يختزل الشخص طموحاته وحياته كلها من خلال شخص له أيضاً عالمه وطموحاته الخاصة.
بين ألمانيا وفرنسا مطلع القرن وبين حربين كونيتين وتغيرات لا يمكن استيعابها يدرس تروفو كيف بدأ العالم الحديث يتشكل من خلال ولادة عسيرة انتجت مخلوق مشوه وانتهى بحلم هوا واحترق وضاعت آثاره، هل هو مجرد دراسة لصدمة قسوة الواقع مع الخيال الرومانسي؟ هل هو دراسة لمفهوم الحرية وكسر النمط وصعوبة أن يعيش الإنسان على حقيقته في ظل وجود عالم يتوقع منه أن يكون بقالب معين؟ هل هو أعمق من ذلك ورمزي جداً عن أوروبا بين الحربين، ألمانيا المنكسرة وفرنسا المضطربة وغزو الشيوعية الصاعدة التي انتهت بأوروبا منهكة قابلة للانهيار والتفجر؟ تروفو لم يكن أبداً مباشراً، أدخلنا بدوامة من العلاقات ودوامة من الرموز ودوامة من فضول التأويل دون إجابة شافية عن شيء وناجحاً ككل أفلامه التي سبق وشاهدتها بجعلنا نفكر بما قدمه وبمدى تشابهه مع ذاتنا وعالمنا والتاريخ والمجتمع.



Fitzcarraldo - 1982
بعد عشر سنوات على رائعته أغيري غضب الرب، قدم الألماني فرنر هرتزو ما عده البعض استكمالا لتحفته تلك، صعود حضارة وأفول أخرى على خلفية صراع دونكيشوتي، المقارنة طبعا" لن تنصف فيتزجرالدو رغم إمتيازه، فيتزجرالدو ابتعد عن جزئية الصراع ضد طواحين الهواء في أغيري ليذهب إلى منطقة هووس الإنسان بحلمه، الأمر إيجابي بعدم رغبة هرتزو بتكرير نفسه ولكن النتيجة ليست بثقل أغيري وهذا بكل الأحوال لا يعني إنها لم تكن ممتازة.
بناء شخصية فيتزجرالدو ورسم ملامح هووسه ممتاز منذ المشهد الأول ومؤسس له بعناية، هرتزو لا يرمي الحمل بالكامل على الاستثنائي كلاوس كينسكي بل يدعمه بتكثيف بصري - صوتي مبهر لمشهد الأوبرا، يكمله برسم لا يقل امتيازا" لمحيط فيتزجرالدو وبيئته وسخرية من حوله من حلمه الذي يتحول لقضية تحدي واثبات ذات وتحقيق إنجاز ما في حياته.
في رحلته يصل لشيء لم يكن يتخيله، يتحول العمل إلى إسقاط لرحلة كريستوف كولومبس واكتشاف أمريكا، المغامر الإيطالي الذي تملكه هووس الوصول إلى الهند عن طريق الغرب فاكتشف شيء آخر لم يدر ما هو، فيتزجرالدو أراد بناء دار أوبرا وسط أدغال أمريكا الجنوبية فتحول لآله بين السكان الأصليين.
إسقاط هرتزو على كولومبس وعلاقته بالسكان الأصليين يتعزز هنا أكثر، من حيث استغلال فيتزجرالدو لجهلهم وضعفهم ومعتقداتهم ليمارس دور الرب عليهم ويستعملهم لتحقيق حلمه، يذهب بالأمر إلى أقصاه وكأنه يختبر نفسه إلى أين سيصل بلعب دور الرب، ليقدم لنا هرتزو دراسة جيدة لنفسية الإنسان الذي يجد نفسه في هذا الموقع.
هذه الدراسة يدعمها هرتزو بتصوير ممتاز لصعود حضارة على حساب آفول أخرى، أسئلة ممتازة حول معنى الانتماء وعلاقة الإنسان بالوطن والأرض، والذهاب بجزئية الحلم إلى مكان آخر غير الهووس، بل الحلم الذي يدمر صاحبه، السكان الأصليون عاشوا عقودا" مؤمنين بفكرة المخلص الذي سيحررهم من الأرواح الملعونة، وعندما اتى استعبدهم، ليتحول العمل إلى تشريح لعقلية الغازي والمكتشف، سبق له وقدمها في أغيري من الناحية الدينية وهنا يذهب إلى الجانب الحضاري أكثر، هنا لدينا غازي يحمل مشروع حضاري ومهووس بالفن والموسيقى، ولكن تحت هذا القناع هناك شكل بربري أناني وحشي لا يرحم.
بصريا" هو عمل بديع، تحد آخر خاضه هرتزو بالتصوير بالبيئة الحقيقية وكسبه، هو أضخم وأعقد انتاجيا" من سابقه، مشهد صعود السفينة للجبل جبار جدا" منفذ بالطريقة اليدوية التقليدية رغم أن العمل صنع بزمن ثورة المؤثرات البصرية بعد حرب النجوم وغيره، في العمل ظهور جميل للإيقونة الإيطالية كلوديا كاردينالي ، الفيلم نال جائزة مهرجان كان كأفضل مخرج وترشيح للبافتا، عظيم بمفرده مظلوم بمقارنته بأخيه الأكبر.
10/10

tag


tag






tag





0 التعليقات:

إرسال تعليق