RSS

Rocoo & His Brothers – 1960



فيلم لوشيانو فيسكونتي هذا هو ربما الإنجاز السينمائي الأفضل بقدرته على تشريح الروابط الأسرية وربطها بمشاعر ومشاكل الانتماء والاغتراب والتأقلم وصراع الأجيال، قصة عائلة مهاجرة من صقلية إلى ميلان هرباً من الفقر والحياة الريفية المتعبة والصراعات السياسية والاضطرابات الأمنية، طمعاً بحياة أكثر راحة وهدوءً في المدينة المنطلقة في درب الحداثة والتطور، يشقون طريقهم بصعوبة بالغة، بعضهم يسقط في الرحلة وبعضهم ينجو، يحققون ذاتهم بعد أن يخسروا أهم ما كان يربطهم ويمدهم بالقوة.


أهمية إنجاز فيسكونتي باعتنائه البالغ بعوالم شخصياته وصراعاتها الخاصة والعامة على نفس الدرجة دون تمييز شخصية على أخرى، يجعلك تتعامل مع الفيلم على أنه قصة العائلة عامةً ويمكن لك أن تنظر له على أنه قصة أي فرد من أفرادها على حدة، بإمكانك أن تتعامل معه على أنه عن فينيشزو (فيني) وصراعه الرومانسي ونضاله لتأسيس عائلة خاصة به، أو عن سيمون وانهياره، روكو وصعوده ومشاكل الاغتراب، تشيرو الذي نسي الريف وتتطبع بطباع المدينة، لوكا الصغير الذي يكبر وتتشكل شخصياته على هامش صراع أخوته، أمهم وكفاحها لتحقيق ذاتها من خلال أولادها، حتى الشخصيات الثانوية الخارجة عن عائلة لها عالمها الخاص الذي تشعر به والمعنى ببنائه وتقديمه على أفضل وجه.

الشخصية الرئيسية الحقيقية بالعمل والأهم فيه هي العائلة بحد ذاتها، فيسكونتي اهتم بالانطلاق من بناء شخصياته من نقطة ارتباطها بعائلته وتأثيرها بها - لأجل ذلك كان روكو هو الشخصية الأهم بالعمل كونه الأكثر ارتباطاً بعائلته وحرصاً على تلاحمها - فيسكونتي كان يسلط الضوء على شخصيات عمله حين يكون ارتباطها بها أهم وأقوى،  تنتقل الشخصية من الضوء للظل حين يخف تأثيرها وتفاعلها  مع العائلة دون أن نلحظ بوجود خلل بمسيرتها الدرامية لذلك كان من المبرر جداً أن تهيمن شخصية فيني على العمل ببدايته كونه الأخ الأكبر الذي سبقهم إلى ميلان وخبر الحياة فيها ثم لحقوه هم وعمل لهم مرشداً ليشقوا طريقهم ثم بدأ بالابتعاد رويداً عنهم ليمشي بطريقه الخاص ويؤسس عائلته، وكلما أوغل فيني برحلته الخاصة وصراعه كلما خف الضوء عنه وانتقل إلى شخصيات الأخوة الأصغر منهم سيمون وروكو التي بدأت بالتشكل والتبلور بظله والخروج إلى الضوء أكثر فأكثر.
سيمون وروكو يبدوان على طرفي النقيض، سيمون الذي سرقته المدينة وأنغمس بها حتى الضياع، وروكو الذي بقي متمسكاً بعائلته ويحن لأرضه وجذوره، الصراع في العائلة بين هذين الشخصيتين لا يختلف عن الصراع بين الأخوة في أي عائلة نعرفها، الأخوة الأصغر الذي كبروا بالسن وتشكلت لديهم رغبة فطرية بالسطوع والخروج عن سلطة الأخ الأكبر وإثبات وجودهم، مع لمسة من أنانية الأخ الأكبر ورغبته بالاستحواذ على كل شيء لصالحه، فيسكونتي ينطلق من هنا ليقدم لنا الصراع بين سيمون روكو بطريقة تستحق التأمل، شخصية روكو تتبلور على حساب زلات سيمون وعثراته، تبدأ الأضواء تنحسر عنه نحو روكو، حتى بمساحة الظهور بالعمل يصبح روكو هو الطاغي تدريجياً على حساب انحسار سيمون الذي هيمن على وقت العرض بفترة ما، أسلوب يبدع فيسكونتي استخدامه ليشعرنا بحجم الصراع ونبرره ولندرك إن صراع سيمون مع روكو ليس مجرد صراع مع بيئة خرج منها ويريد التحرر عنها أو صراع روكو مع بيئة تريد ابتلاعه - يمكن قراءته هكذا – ولكن هو بالأحرى صراع وجود والهيمنة وسيطرة.

فيسكونتي يدخل شخصية ناديا ليشعل الصراع بين روكو وسيمون، ويعطي للشخصية مساحة وعمق درامي مهم جداً ليجعلها وجه آخر من وجوه انعكاسات الهجرة على العائلات الريفية، هي بالنسبة لسيمون كل ما تمثله المدينة من حرية وصخب وجمال مبهرج، مختلفة عن النساء اللواتي عرفهن بالريف أو نساء الريف المهاجرات إلى المدينة – لاحظ تناقضها مع شخصية جينيتا زوجة فيني – من ناحية ثانية هي تمثله ومرآة له، هي ضائعة مثله، نشأت في ظل عائلة من المهاجرين التي تعيش بتقاليد مختلفة عن التقاليد التي تراها في المدينة فلم تعرف ما هي ابنة ريف أم ابنة مدينة، ونضجت قبل أقرانها فلم تعد تعرف هل هي طفلة أم امرأة، وخسرت كل ذلك، لم تستطع أن تكون ابنة ريف أو ابنة مدينة، لم تستطع أن تكون طفلة أو امرأة فضاعت مبكراً، واختيارها لروكو على سيمون جاء بالوقت المناسب لتشعل حالة المنافسة والغيرة الأخوية، سيمون حين فشل بالملاكمة صعد روكو، وحين أضاع ناديا تلقاها روكو وذهبت معه، اختارت روكو لأنها وجدت فيه وجعها الحقيقي، الشخص الذي يعيش مثلها آلام الاغتراب ويحن للريف ولا يخجل من قول هذا، سيمون يشبهها بضياعها وروكو يشبهها بألمها ومعه يمكن لها أن تعثر على طريق للغفران والخروج من الضياع، روكو فهم هذا ورأى حقيقتها الضائعة المعذبة تحت الثوب المنحل الذي ترتديه، ولكن حين تدخل سيمون واصطدم معه اختار روكو سيمون (العائلة ورباطها) وتخلى عن حبه، ضحى لأجله – كعادته بالتضحية بكل شيء من أجل أخوته – اعتقد إن هذا ربما يعيد أخيه للصواب ولكن زاده ضياعاً وزاد نفسه ألماً، بات يشعر بغضب وعنف وقسوة – تأثير وحشية المدينة – يتعاظم بداخله ويفرغه بالملاكمة التي برع بها دون أن يختارها أو يحبها أو تكون يوماً طموحه، بل حتى أنه لينقذ سيمون من السجن يرهن نفسه لمدربه ويرغم نفسه على أن يصبح نجماً، يحدد حياته كاملةً من خلال أخطاء عائلته دون أن يكون له الاختيار.
الصراع بين سيمون وروكو يفسح المجال لشخصية أخرى للظهور وأخذ دورها، شخصية الأخ الرابع تشيرو الذي كان صغيراً حين الهجرة وكبر في المدينة، هو لا يذكر الكثير عن أرضه وهذا ساعده ليكون دخوله بحياة المدينة أكثر هدوءً واتزاناً وسلمية من أخوته الأكبر، لذلك نراه هو الوحيد الذي استطاع إكمال تعليمه والحصول على عمل ثابت ومحترم ولم يهمل حياته الخاصة، كان طوال نصف العمل على هامش الحدث جداً يقوم بما هو مطلوب منه ولا يتدخل بقصص الأكبر منه، ولكن حين يصيب الشرخ العائلة ويتخلى الجميع عن مسؤولياته يحملها هو .
ما بين سيمون وروكو وتشيرو ينجح فيسكونتي بتصوير أزمة الانتماء لدى العائلات المهاجرة من الريف للمدينة، سيمون وروكو جذورهما قوية وتخنقهما بطرق مختلفة وتقييد حركتهما، تشيرو جذوره أضعف لذلك حركته أسهل ونظرته للأمور مختلفة، سيمون يضيع حين يعجز أن يكون ابن ريف أو ابن مدينة، روكو يحمل الذنب نحوه بأنه هو سبب ضياعه وارتباطه العائلي القوي يدفعه ليهرع دوماً بإنقاذه، تشيرو أكثر قسوة منه بعد أن تطبع تبطباع المدينة، حنانه مع أخوته أقل، نظرته للأمور واقعية ولكن أكثر حدية وبعداً عن عاطفة أخوه الريفية، وأحكامه أكثر قسوة، لذلك فيلح على إخراج سيمون من العائلة ونبذه وإجباره على دفع ثمن أخطائه ويرفض أن يتحملها الجميع، أمر لا يقبله روكو ولا يفهمه، ربما يكون الأصح، ولكن طبيعة روكو الريفية الملتزمة بالعائلة لا تجعله قادر على فهم هذا فيمضي لحمل ذنوب سيمون التي تقيده وتحدد شكل حياته، وسيمون لا يتحسن حاله بأسلوب روكو ويضيع أكثر حتى ينهار نهائياً محققاً نبوءة تشيرو، أمر يشبه انتصار حياة المدينة على الريف، مهما حاول الريف بتقاليده وعاداته الصمود في المدينة سيهزم بالنهاية، كقطعة جليد نزعت من جبل جليدي ورمي تحت الشمس، مهما كانت كبيرة وصلبة ستذوب لابتعادها عن جذورها، وهذا ما جرى في تلك العائلة، انفصالها عن جذورها جعلها ضعيفة وقتل الريف فيهم حتى نسوه وذابوا في المدينة.

على هامش هذه الصراعات تتبلور شخصية الأصغر لوكا، الذي شهد ابتعاد فيني، انهيار سيمون، قسوة تشيرو، وصعود روكو المنهك المعبد بالتضحيات، يستمع لحديث روكو عن الريف وحياتهم فيه وقوتهم هناك، ويحن مثله للعودة ويعاهد نفسه على ذلك حين يكبر ويعيش القوة والأمان المفتقد في المدينة، ولكن تشيرو الشخص الوحيد الذي سيخبره في الحقيقة يقول له إن نظرة روكو حالمة جداً، الريف الذي يتحدث عنه لم يعد موجود  وتغيير أيضاً وبقي فقط بذاكرة روكو، لم يكن يوماً أفضل من المدينة ولكن إحساس روكو وشوقه له يجعله على هذه الصورة الفنتازية، لوكا يتابع طريقه نحو منزله، خلفه معمل سيارات ألفاروميو (رمز الحداثة) حيث يعمل تشيرو، ويتأمل على الجدران بوسترات عليها صورة روكو بطل الملاكمة وقد غطت المكان (رمز الفخر)، تصوير من فيسكونتي لإيطاليا المعاصرة، إيطاليا المبنية على اكتاف المهاجرين وتعبهم، إيطاليا الحالمة بأمجاد الماضي الذي لن يعود، إيطاليا التي تعبر الحياة على ظلال إنجازات الجيل السابق وإرهاقهم وتضحياتهم، إيطاليا التي تتخلى عن قيم العائلة والجذور وتصبح أكثر حداثة مع الأيام ولكن أكثر هشاشة، إيطاليا الماضية للأمام بتخوف نحو المجهول الذي لا تعرف كيف ستكون وما هو ضريبته وغير القادرة على العودة إلى الماضي. 
خلال رحلة فسكونتي مع الأخوة الخمسة صعوداً وهبوطاً  وتناوبهم على الضوء والظل، هناك شخصية واحدة منحها مساحتها الخاصة المحددة منذ البداية إلى النهاية، لم يزد عليها أو ينقص، هي شخصية الأم، وككل الشخصيات فإن حدود شخصية الأم بمدى ارتباطها بعائلتها وتأثيرها بها، منحها مساحتها الخاصة وعالمها الخاص، الأم هي قبل كل شيء إنسانة لها أحلامها وطموحاتها بالعيش الكريم والأمان والقيمة، وكونها أماً فإن أحلامها وطموحاتها مرتبطة بأولادها، هي تشعر بالأمان حين يكون أولادها بخير، تشعر بالقيمة والأهمية حين يكون أولادها ناجحين، هي ككل الأمهات مزيج من الصرامة والحب والعطف اللامتناهي والشكوى والتذمر والغضب الدائمين، تصرفاتها دوماً غير مفهومة بالنسبة لأولادها ومتزمتة فيها ولها دوافعها الخاصة المنطلقة من حبها لأولادها وحرصها على أن يكونوا بخير وأمان حسب منظورها للخير والأمان، لذلك عارضت في البداية زواج فيني خوفاً من أن يسرقه الزواج منها ومن عائلته، وكانت تتذمر دوماً من ناديا وإقامتها عندهم لأنها تعتقد أنها تسبب ضياع سيمون وتجلب العار للعائلة، ولكن تمسكت بها وترجتها لتبقى حرصاً على مشاعر سيمون وخوفاً من ذهابه ورائها وأن تخسره هو الأخر.

فسكونتي صور يوميات العائلة بطريقة بعيدة عن المبالغة الدرامية، مثل الحياة، مزيج من الفرح والحزن المتداخلين والمتكاملين، صور العلاقة الأخوية بحقيقتها وفطريتها، حب وتلاحم ومنافسة وغيرة وتشاحن وسلطوية، بل إن العاطفة الأخوية والحب الأخوي هو كثير من الأحيان سبب هذا الصدام حين يسعى الجميع لتحقيق الأفضل من وجهة نظره الخاصة التي لا تتفق مع نظر الأخرين.
فيسكونتي هو أحد أفضل المخرجين بالتاريخ من حيث الشكل البصري لأفلامه وتكوين الكوادر البصرية والاهتمام بالأزياء والإخراج الفني والألوان والمكياج، ما قدمه في الفهد و موت في فينيسيا والخاطئون شواهد على هذا، في روكو الصورة هنا مختلفة، بيضاء وسوداء، أماكن واقعية بعيداً عن البهرجة ولكن بنفس القوة البصرية، يجعل من ميلان بتفاصيلها وبرودها وقسوتها وشحوبها وصناعيتها وجمودها بطلاً للعمل، واستخدام الأبيض والأسود مفيد جداً ليعطي هذه الحالة من البرود والقسوة التي تقتل الروح، ويسرق صور بصرية خلابة هنا وهناك، المونتاج بالعمل هو أحد أفضل الإنجازات بالتحرير، التوازن بين الشخصيات السبعة الرئيسية، ويكفي القطع الرهيب بين مشهد مباراة روكو (الصعود) وجريمة سيمون (السقوط)، ألحان الموسيقار الإيطالي الأعظم نينو روتا ساحرة جداً تسيطر على الذاكرة فيها الكثير من العاطفة والحزن لدرجة الشجن، الأداءات الجماعية ممتازة، نظرات آلان ديلون (روكو) وصمته، وقاحة آني جيراردوت (ناديا) وألمها الخفي، جاذبية كلوديا كاردينالي (جينيتا)، طيش ريناتو سالفاتوري (سيمون) وانهياره التدريجي، نضوج ماكس كارتر (تشيرو)  و الأعظم كاتينا باكسينو بدور الأم بعفويتها وصلابتها وحنانها.
هذا ربما أحد أفضل الأفلام الواقعية الإيطالية وأكثرها تأثيراً، إنجاز فيسكونتي الأعظم بنظري والواضح تأثيره على كل أفلام العائلات والأخوة بعده، لمساته حاضرة جداً بعراب كوبولا الذي شاهد الفيلم أكثر من 20 مرة وجلب نينو روتا ليلحن أعجوبته، رغم إن فيلم فسكونتي عن العائلة وفيلم كوبولا عن المافيا ولكن اعتناء كوبولا بشخصية الأخوة وعلاقاتهم وتوزيع الأهمية بينهم وصعودهم وأفولهم وهيمنتهم على المشهد وغيابهم وتحديد مساحة أهميتهم بالنسبة للحدث والعائلة كله يعود فضله لفسكونتي، وودي آلين قولب أسلوبية فيسكونتي وعالمه بأسلوبيته الأمريكية الخاصة في Hanna and her sisters  ، حتى الدراما العربية استلهمت جداً من عمل فسكونتي ونزاعات الأخوة وصراعاتهم بالأخص رائعة حاتم علي التلفزيونية أحلام كبيرة.
في مرحلة معينة يصل المشاهد إلى مرحلة يصعب معها تحديد أفضل فيلم شاهده أو فيلمه المفضل، بالنسبة لي أجد نفسي مرتاحاً لأسماء أفلام عودة الملك وأوديسا الفضاء والعراب2 وعناقيد الغضب وثلاثية الألوان ووداعاً خليلتي وسائق التكسي ومافيستو والمواطن كين وعجلات الخوف، ومعهم بالتأكيد تحفة فيسكونتي هذه.
10/10



0 التعليقات:

إرسال تعليق