RSS

Hiroshima Mon Amour – 1959


قصيدة آلان رينيه السينمائية، محاولة بغاية الشاعرية لمواجهة الندوب التي خلفتها الحرب العالمية الثانية على جيل كامل حول كرة الأرضية قاطبةً على أمل التصالح معها ونسيانها، يحول المكان الذي ارتبط بالنصر الأبشع والأكثر وحشية بالتاريخ هيروشيما إلى عش عاشقين من طرفي العالم يبحثان عن السلام، عاشقين يمثلان الفائز والخاسر بالحرب، ولكن يبتعدان بحديثهما عن النصر والهزيمة، لأن تلك الحرب لم يكن بها أحد منتصر سوى إرادة الحياة، أما الأطراف فكانت جميعها خاسرة.


رينيه يفتتح فيلمه بصورة لجسدين عاشقين يتقلبان ويبدو جسديهما مكسي بالغبار الذري، لتنقشع الصورة رويداً رويداً ونرى عناق وقبل مطولة وصوت إيمانويلا ريفا تتحدث عن هيروشيما وعن ما شاهدته فيها بالتفاصيل معطيةً صورة واضحة عن الجحيم الذي خلفته كارثة السلاح الذري، مهما كنت تعرف عن هيروشيما قبل الفيلم فستكتشف بعد حوار ريفا وعشيقها والمشاهد الوحشية التي يعرضها رينيه على خلفية حوارها إنك فعلاً لا تعرف شيء، ولكن مع هذا يقاطعها عشيقها الياباني من هيروشيما مراراً ليقول لها : (أنت لا تعرفين هيروشيما)، مع استمرار العمل نفهم ما يعنيه، ليس المقصود مستويات أخرى من الكارثة لا نراها، وإنما المقصود إن ما شاهدته ليست هيروشيما لأن هيروشيما ذهبت بها الحرب، هيروشيما الحقيقية قبل عام 1945 مدينة أخرى لا نعرفها، ولم يتحدث عنها الياباني، رينيه تركنا لنكتشفها من خلال إرادة الحياة فيها التي جسدها بالنبات الذي ظهر بين الصخور، بالديدان التي زحفت بعد انقراض كل شيء، بملامح مدينة وأشخاص يبدو فيهم إصراراً عميقاً على تجاوز الماضي والنهوض مجدداً وتحويل مصيبتهم إلى درس يتعلمه العالم، مدينة قادرة على أن تكون ملجأ للهاربين من وحشية العالم و احتضان قصة حب بغاية العذوبة.

العاشق يسأل معشوقته عن كيف تلقوا خبر القنبلة الذرية على طرف العالم الآخر، أجابته : (كانت تعني النصر) قال لها : (أقمتم الاحتفالات) جملة تهز الأعماق حين نتخيل كيف يمكن للعالم أن يحتفلوا على أنقاض المدن وأشلاء البشر، كيف تحول الحرب كوارث شعوب ومآتمهم إلى أعراس واحتفالات شعوب آخرى، ولكن بعيداً عن هذه الجزئية فجوابها يذهب إلى مكان آخر لا يدركه الياباني المشغول بإحصاء خسائره، شيء من كسر نمطية الصورة المسبقة لدى الأخر حين تقول له (كنا نشعر بالخوف) والذي يعني بالنسبة للغرب في تلك المرحلة الخوف من دخول العصر الذري، من حصول البشر أخيراً على سلاح فتاك وإدراكهم إنهم يحملون كمية هائلة من اللامسؤولية واللامبالاة واللاأخلاقية تجعلهم غير مؤهلين إطلاقاً له ومع ذلك حصلوا عليه، حسم الحرب بواسطة السلاح الذري لم يكن يعني النصر بالنسبة للغرب بقدر ما كان يعني خطوة متقدمة نحو الفناء.
يستغرق رينيه وكاتبة فيلمه مارغريت دوغاس بتصوير أبعاد كارثة الحرب الكونية من خلال هيروشيما في النصف الأول من الفيلم، في النصف الثاني يتجهون إلى مكان آخر، إلى نصف الكرة الأخر، إلى الفريق الأخر، إلى المنتصر، الذي لم يخرج من الحرب معافة، خرج أيضاً بجروح وندوب وكوارث نفسية ومادية عديدة ربما هي من قادته إلى مجزرة هيروشيما، حديث العاشقة عن مدينة نوفير في فرنسا فيه الكثير من الهجوم، تصفها دوماً عكس الصورة الشهيرة عنها المرتبطة بجمال الطبيعة والأنهار وغيرها، تعطيها ملامح وحشية بشعة، مثل هيروشيما لها وجه آخر لا نعرفه، ولها أيضاً وجعها الآخر، نوفير المدينة الرقيقة حولت الحرب ساكنيها إلى كائنات وحشية صبوا غضبهم وعار هزيمتهم الأولى واحتلالهم على رأس تلك الفتاة المراهقة التي أحبت مجند ألماني، ارادوا تصفية الحسابات من خلالها، العاشقة لا تذكر شيء من تفاصيل قصة الحب، تذكر فقط الاحساس الذي زرعه الحب بداخله، والذي يغلب عليه إحساس حسرة الفقد، ولكن التفاصيل الحقيقية التي تذكرها هي تفاصيل العذاب الذي تعرضت له حين اكتشف أهالي مدينتها قصة حبها.
تلك الذكريات حبستها في أعماقها لسنين طويلة لم تجرأ على البوح بها، أما بالنسبة لعشيقها الياباني فإن البوح عن الآلم الذي خلفته كارثة بلاده يبدو أسهل لأنه الطرف المهزوم والضحية الأشهر عالمياً، أما بالنسبة للفرنسيين فإختلاط الهزيمة والنصر عندهم وانضمامهم للحلفاء الذين تلوثت يدهم بنصر بطعم العار يجعل الحديث عن مآسيهم أصعب وغير منطقي بالأخص أمام شخص نجا من هيروشيما، ولكنه مع ذلك يصر عليها أن تتكلم أن تبوح له، ويتعمد إسكارها لذلك، البوح ليس فقط مفيد بالنسبة لها حتى تتحرر من الماضي وتضعه خلفها وتمضي للأمام بل ربما مفيد بالنسبة له حتى يعثر على العزاء إنهم لم يكونوا الوحيدين من دفعوا ضريبة جنون وجهل البشرية في تلك المرحلة الصعبة.

الفيلم يتعامل مع النصر والهزيمة بعيداً عن التصنيفات الأخلاقية والسياسية والتاريخية، تلك الحرب – وأي حرب – ليس فيها أبطال أو منتصرين، بل وحوش و مهزومين بنسب مختلفة، يهتم بفتح الجروح الإنسانية للتعامل معها وإعادة تضميضها بالشكل الصحيح، يواجه معضلة معقدة وهي رغبة النسيان وضرورة التذكر وصوابية كلاهما وضريبتهما، هل يجب على الإنسان أن ينسى الكارثة حتى يستطيع تجاوزها مع ما يفرضه النسيان من مخاطر تكرار المصيبة مجدداً وعدم تعلم شيئاً منها، أم يجب عليه أن يتذكرها دوماً حتى لا يكررها ولو فرض عليه التذكر آلام جروح لا تندمل، لا يحسم رينيه ولا دوغاس رأيهما، يقفزان بين التذكر والنسيان، ولكن يتفقان وينتصران لفكرة الحياة والصعود من تحت الركام ومن الأقبية العاتمة نحو النور ومواجهة الموت والجروح والندوب والحروق والدمار والوقوع بالحب مجدداً واعتناق الحياة مجدداً، يرثيان لحال شخوصهما اللذين قتلتهما الحرب ودمرتهما كما دمرت مدنهما وأعادت تشكيلهما من جديد بتشوهات ونفسيات معطوبة، اصبحا ركام ومدن ناشئة على أنقاض ونصر مبني على مجزرة، هما جزء من المكان والمكان بداخلهما، أصبحوا شخصية واحدة، مدينة منكوبة وذاكرة عطنة تمشيان على الأرض، مدينتان يجمعهما ما يفرقهما المآساة التي لم تميز جنسية أو فريق سياسي، وإدراكهما لحقيقة ما يجمعهما هو ما يجعلهما يصعدان على حطام ذاتهما ليمضوا بالحياة مجدداً رغم جروحهما النازفة.
مارغريت دوغاس قدمت نص مبهر وصعب جداً، بعيداً عن التحولات والتطورات والأحداث، عبارة عن حوارات مطولة ذكية جداً شاعرية جداً مليئة بالمكاشفة والآلم والعلاج، مع ذلك فبنية النص لم تعق آلان رينيه بل وظفها ليقدم صورة عظيمة، مزج اللقطات الوثائقية والتمثيلية بخصوص هيروشيما عظيم جداً وقدم أحد أكثر الافتتاحيات آلماً بالنسبة لي، وابتعاده التدريجي عن مكان الكارثة نحو هيروشيما الجديدة، الاهتمام بتفاصيلها وإلتقاط ملامح الحياة فيها وتحويلها إلى بطله الأسير، ثم انتقاله إلى فرنسا وتصويره نوفير بملامح أقل بشكل متعمد وتركيزه أثناء تلك المرحلة على مشاهد القبو والسجن الإجباري التي أقامت به البطلة واهتمامه أكثر بملامح ريفا وإعطائها مساحتها الكاملة لتقدم أحد أعظم الأداءات النسائية بالتاريخ كله كان اختيارات ذكية متعمدة، فحين كان البطلة تتحدث عن هيروشيما كنا نرى الدمار والخراب والكارثة لأن هذا ما تعرفه عن هيروشيما أما حين يتحدث الياباني عن هيروشيما فكان رينيه يعرض المدينة الناشئة النابضة بالحياة والمتحدية الموت لأن هذه هي شخصية الياباني بعد الحرب وهذه هي هيروشيما التي كان يعرفها، في مرحلة فرنسا كان التركيز على مرحلة الاعتقال بالقبو لأن هذه هي الذكرى الوحيدة التي بقيت مع البطلة من بلدها أما المدينة وأهلها وعشيقها وقصة حبهما فكلها ذكريات ضبابية غير واضحة لم يبقى منها سوى الآلم والعار الذي يكسو ملامحها ويصبغ صوتها، رينيه قدم مونتاج وتصوير وإضاءة وموسيقى وصوت على أعلى مستوى منسجم من نص دوغاس العظيم لتحويل فيلمهما إلى شعر سينمائي، توجته إمانويلا ريفا بأداء يصعب الحديث عنه حمل ثقل الفيلم وذاكرة جيل كامل عاش أسوء حرب بالقرن الماضي، طغى على الأداء الاستثنائي الهادئ العميق من إيجي أوكادا الذي مزج بين آلم الهزيمة ووجع الكارثة وإصرار الحياة.

هيروشيما حبيبتي أحد أغرب قصص الحب السينمائية، أكثرها آلماً، ترتقي عن أن تكون قصة حب رجل وإمرأة لتصبح قصة وجع وعار البشرية بأكملها، قصة عن صراع النسيان والذاكرة، صراع الحياة والموت، قصة عن قوة الإنسان الذي لا تقهر وإرادة الحب والعيش القادرة على تجاوز أصعب الكوارث، قصة عن ما يوحد البشر ويجمعهم، فيلم يحول أكبر مقبرة بالتاريخ إلى عش عشاق ويحول أحد أجمل الأماكن على الأرض إلى أبشع المعتقلات، فيلم واقعي جداً مع لمحة من السريالية والجنون التي فرضتها أصداء كارثة الحرب الكونية ورغبة بالمزيد من الجنون بعيداً عن جنون العنف والدم حتى تعثر الحياة على شيء من اتزانها وعقلانيتها، فيلم لكل البشرية عن كل الحروب وكل الانتصارات وكل الهزائم وكل الكوارث.
10/10     

0 التعليقات:

إرسال تعليق