RSS

مشاهدات 2017


قراءة لمجموعة من إصدارات عام 2017 السينمائية




بضعة أمور ما زالت عالقة برأسي منذ البارحة لليوم حول الفيلم السوري حرائق للأستاذ الكبير محمد عبد العزيز أحب أن أكتبها على عجل :
1- أنا أحب عباس كيورستامي، أحب الريف ومفارقات الحياة الريفية التي قدمها وبراءة الشخصيات واستعمال أناس حقيقين بأدوار تمثيلية صعبة، محمد عبد العزيز أشبع لدي هذا الحب بمشاهد الريف والمدجنة، سينما بريئة وحقيقة وعظيمة رغم بساطة هذا المحور، ولكن حقيقية هذا المحور وبساطته أرتقت به إلى مستويات عالية حميمية جميلة، كنت ابتسم بنشوة في جميع مشاهد الريف.
2- تمنيت لو كان الفيلم بالكامل داخل عالم سينما السفراء الذي قدمه عبد العزيز، لدي استعداد أن أشاهد فيلم كامل عشر ساعات عن سينما السفراء التي تحولت لملجأ لبعض المهجرين، مزيج من الكوميدية السوداء، السريالية، شيء من عالم كوستاريكا السفلي، كوادر ساحرة، تفاصيل مبهرة، حوارات عظيمة، خيال خصب يستحق مساحة أوسع، تصوير عظيم، لغة إخراجية مبهرة، استخدام رمزي جميل لبوسترات الأفلام، مرحلة السينما هي مرحلتي المفضلة في العمل.
3- هنا يوجد إنجاز عظيم على صعيد التصوير، المشاهد الخارجية ضمن شوارع دمشق المزدحمة بالأخص في المناطق الخانقة فيها التي تجعل حتى المشي مستحيلاً فكيف تصوير فيلم - أهل مكة أدرى بشعابها - ومع ذلك قدم عبد العزيز مشاهد سريعة لاهثة حقيقية جعلتني طوال الوقت مدهوشاً من قوة هذا التصوير، عبد العزيز لم يكسر فقط التحدي هنا، كان هناك تنويع باللغة البصرية بين المدينة والريف وداخل السينما، كل مرحلة لها لغتها البصرية الخاصة الممتازة ولم يطغى قسم على أخر.
4- الفيلم ليس عن الأزمة والحرب، هو فيلم عن العنف الذي تتعرض له المرأة السورية في سبيل أبسط حقوقها الحب وتشكيل عائلة والأمومة، الحرب فقط جعلت الأمور أصعب، ولكن العنف موجود من قبل الحرب وسيبقى بعدها، هو شيء لن ينتهي ولا يتوقف عند طبقة معينة أو مستوى اجتماعي معين، أي فتاة سورية معرضة للعنف الذي يأخذ أشكال مختلفة، محمد عبد العزيز نجح بإيصال تلك الفكرة، ربما شعرت إن العمل في النهاية عانة بعض العشوائية والنهاية غير مكتملة، ولكن الآن حين أفكر أدرك إن هذا مقصود ومفيد للعمل، هنا لا يوجد قصة لتروة، لا يوجد بطل سينتصر بالنهاية، الأمور لا تجري هكذا بالحياة، ما تعانيه المرأة لا يمكن اختصاره بساعتين عرض سينمائي ، هو بدء قبل العمل وللأسف سيستمر بعده، العنف متوارث، السكين تنتقل من أخ لأخر، الإرهاب هزم بجولة ولكنه لم ينتهي ومتواري أسفل منا، الابنة المقهورة تجلس إلى جانب أمها المسحوقة تقاسمها الفاجعة وترثها عنها، المرأة لا خيار أمامها سوى الكفاح، لا سند لها، البطولة والرجولة مشوهة (عامل السينما السوبرمان الضعيف عقلياً) ، لن تنجدها سوى معجزة، هذه المعجزة هي أمومتها هي التي تمدها بالقوة وتجعلها تحارب العالم وتصمد.
5- أحببت جداً ما قدمته رنا ريشة وأماني إبراهيم وإلى حد ما نانسي خوري، ولكن جفرا يونس وشريكها الذي قام بدور الرسام كانا نقطة ضعف بالفيلم، جفرا يونس كان لديها المهمة الأصعب، شخصيتها تعيش صراعات داخلية معقدة ولكن جفرا لم تدعم هذه الصراعات بأداء داخلي، وخطها الدرامي كان يضعف إيقاع العمل المتصاعد دوماً، شعرت أنه زائد على العمل وغير مهم ويعيقه ودخيل عليه لم أحبه أبداً.
6 - في العمل صورة مؤلمة للحرب لم يتطرق لها الكثيرون، ليس فقط البيوت المهدمة والأشلاء والشهداء وغيرها، تحول المدرسة والسينما لملجئ هذا جانب خطير جداً من جوانب الحرب، التعليم توقف الفن والثقافة والحضارة معطلة، أحد الشخصيات يبحث في الخريطة على مكان يلجأ إليه وهو عاري وخريطة العالم تغطي عورته، مشهد أخر الكرة الأرضية تحولت إلى طبق يأكل منه الأطفال طعام المعونات، هذه هي كارثتنا وهكذا يتعامل معنا العالم، هناك فايروس يكتسح المدجنة فتقوم الأمم المتحدة بإحراق الدجاج ويتركون العوائل بلا حول ولا قوة لمصيرهم.
7- أحببت الموسيقى واختيار المقطوعات، أحببت التعامل الجدي والجريء مع شخصية الإرهابي وتقديمه كإنسان مشوه من الداخل ولا يمكن إصلاحه - ولو إن هذا المحور مقدم على عجل - أحببت الفيلم بالكامل، في ظروف غير مثالية شاهدنا فيلماً قريب جداً للمثالية، شكراً محمد عبد العزيز.

فيلم اليوناني يورغوس لانثيموس ليس رعب ولكنه مرعب جداً على عادة أفلام الرجل، جو من عدم الارتياح قادر على خلقه منذ اللحظة الأولى، منذ تقديمه الأولي لعائلة الجراح ستيفن المثالية، يشعرك إن هناك شيء غير حقيقي ومختلق ومركب ضمن هذه المثالية المفرطة التي تغطي على هشاشة تنتظر هبة ريح لتقوضها، كقصر من الرمال مصيره معلق بمد البحر، هذا المد يأتي على شكل مارتن، الشاب اللطيف جداً بشكل مثالي، لطافته المبالغ فيها مرعبة أيضاً ومريبة، ومنذ ظهوره الأول لن ترتاح له ومع دخوله لمنزل العائلة ستشعر إن لعنة حلت بها وهذا ما يحصل فعلاً.
أحببت وصف ألمودفار للفيلم إنه (كوبركي) وهو كذلك جداً، وجود نيكول كيدمان يعزز هذا وكأنها تؤدي شخصيتها بأخر أفلام الأسطورة مجدداً بعد 18 سنة، روح كوبريك تفيض بالعمل، دقة الميزاستين واستخدام الموسيقى الأوبرالية، فخامة الإخراج الفني وأناقة الصورة وزواية التصوير والإضاءة، وخصوصية الأداء وجرأة النص وقسوة الهجاء الاجتماع وسوداوية التنبوء، أثناء متابعتي للفيلم كنت استعيد Eyes Wide Shut بذاكرتي وعندما قرأت وصف ألمودفار عنه ابتسمت.
لانثيموس فعلاً يثبت بزمن قياسي أنه ربما من أهم خمسة صناع أفلام اليوم، يعرف ما يريد تقديمه ويعرف كيف يقدمه بأسلوبية لا تخطر على بال، لم اتوقع من مخرج Dogtooth و The Lobster شيء أقل من هذا، أسلوبه بالحوارات له خصوصية عالية، حوارات مريبة جداً غريبة تكسر بروتوكولات اللياقة الاجتماعية والشخصيات تنطقها بطريقة بغاية البراءة وتتحدث برسمية كلاسيكيات سينما الأربعينات، مارتن على سببل المثال كلما ازداد تهذيباً ازداد رعباً، ستيفن وزوجته مثاليان بطريقة آلية خالية من المشاعر كعادة شخصيات لانثيموس، جمل حوارية وتفاصيل وتحولات بالنص بغاية الذكاء وأداءات على أعلى مستوى من كولين فاريل (تعاونه الثاني مع لانثيموس بعد السلطعون) ونيكول كيدمان (لقائها الثاني مع فاريل في فيلم كرم بمهرجان كان بالإضافة إلى مفتون لسوفي كوبولا) والمفاجأة المذهلة غير المقدرة الإيرلندي الشاب باري كيوغان.
هذا هجاء قاسي جداً لنمط الحياة الغربي وتركيبة مجتمعات العالم الأول، الرجل القادم من اليونان إلى غرب أوروبا في فترة عاشت فيها بلاده أزمة اقتصادية خانقة بسبب سياسات الاتحاد الأوروبي وقبلها قضى شبابه في مرحلة التحولات الأخطر بعد انهيار المنظومة الاشتراكية من الواضح إن لديه إحساس عالي من الغبن وعدم الإعجاب بشكل المدنية الغربية، نقده هنا عنيف جداً وتنبؤي بشكل سوداوي، يعتمد كعادته أغرب أساليب الرمز ويقدمها بذكاء ضمن قصة قد تكون من بعيد غير منطقية ولكن بصناعته المتقنة يجعلها مقبولة جداً للمشاهد، لانثيموس يصور لنا مدى هشاشة المجتمع الغربي رغم مثاليته الزائفة، ينتقد تعامله مع المجتمعات والحضارات الأدنى درجة، كيف يتسبب بخرابها وينجو ثم ينعم عليها بالفتات كنوع من تطهير الضمير بأسلوب ذر الرماد بالعيون، غير مكترث إن أفعاله ستنقلب عليه يوماً ما ولعنة جرائمه ستعود وتضربه ، ولكن حتى عندما يحصد الغرب نتائج أفعاله (الإرهاب مثلاً وأزمة اللجائين) يبقى مصر إنه غير مسؤول، لا يتحمل مسؤولية ما قام به وينقلب بكل حضاريته لوحش ويمعن أكثر بإجرامه ضد غيره من الحضارات - التي ربما ليست هي من تضرب الغرب ولكنها الشماعة التي يحمل عليها جرائمه - حتى ينهار عليه عالمه، ضمن هذه الرمزيات هناك تساؤلات عن مفهوم العدالة، الانتقام، الحقيقة الإنسانية الوحشية وراء الثوب الاجتماعي والمظاهر الراقية، وخيارات مؤلمة جداً وصعبة تقع فيها الشخصيات، ربما شعرت إن النهاية لم تكن على مستوى الفكرة والرمز بالأخص إن لانثيموس أغلق كل الأبواب أمام الشخصيات للإصلاح وتركها بحالة تلقي العقاب من خلال الامتحان المجنون الذي وقعت فيه، ربما الأمر متعمد من لانثيموس أن يكون قاسياً بعقابه للغرب بعد أن فقد الأمل فيه وأن تدفع الأجيال القادمة ضريبة ما بنته الحضارة ولكن مع ذلك شعرت بشيء منقوص بالنهاية، شعرت بإحساس مؤلم سوداوي من فقدان الأمل بأن تصبح العلاقات أفضل في هذا العالم وربما للأسف هذا الشيء حقيقي جداً بعالم اليوم ولا يمكن أن يتغير.


فيلم جوردان بيل هذا خليط متوازن ودقيق جداً ومدروس من كل شيء تبرع السينما الأمريكية بتقديمه تشويق هيتشكوكي ، رعب الأماكن المغلقة، روح سريالية، كوميدية سوداء، قصة بطولة وتعويض، خيال علمي، عنف إنفجاري، تويست قوي وممهد له بطريقة ممتازة، نقد ذكي لطبيعة المجتمع الأمريكي وأزمة الأعراق، فيلم ممتع جداً أشبه بريميك سوداوي لكلاسيكية ستانلي كريمر Guess Who's Coming to Dinner ولكن بطريقة عصرية وبهوية مخرجه الخاصة القوية جداً.
جوردان بيل ضبط إيقاع فيلمه بطريقة تستحق الثناء ، مزج الصنوف السينمائية المختلفة والمتناقضة أحياناً بأسلوب يستحق الإعجاب حيث كل شيء موضوع بمكانه الصحيح دون أن يطغى جانب على آخر، تشعر أحياناً إن هناك مغامرة مجنونة من بيل بتكوين شخصية صديق البطل كريس (رودي) وإنها غريبة عن جو العمل السوداوي ولكن بإعادتي للعمل شعرت إن الشخصية أعطت روح مختلفة ونكهة خاصة ومشاهده مستخدمة بوقتها المناسب (بالأخص مشهد إبلاغه عن إختفاء كريس الهستيري)، وتعليقاته مضحكة رغم إبتذالها، ولا استغرب أن تكون قوة هذه الشخصية ومواقفها هي السبب وراء اعتبار الفيلم كوميدي في ترشيحات الغولدن غلوب. 
بعيداً عن الكوميدية هناك ذكاء لا يمكن إنكاره بنسج الحبكة والأجواء والتمهيد لكشف اللغز، حوارات جميلة جداً، أداء جيد جداً من الطاقم تحديداً دانيال كالويا الذي عثر على لحظات تألق بها ونجح بتقديم نفسه كوجه سينمائي واعد.
رغم إن قيمة الفيلم الحقيقية بالنسبة لي هي (بحرفيته كسينما) ولكن لا يمكن التغاضي عن أهميته كنقد اجتماعي للعنصرية الأمريكية الحديثة بطريقة كسر بها النمطية المعتادة، ليست تصوير معاملة البيض للسود كعرق أدنى بل معاملتهم بشكل مميز وكأنهم تحفة أو سلعة ترويجية مما ينكر عليهم إنسانيتهم، وإشارات رمزية لدور الإعلام بالسيطرة على عقلية الشعوب ونسج لا وعي جمعي متطرف ( إستخدام التلفاز بكثرة في العمل) تلميحات لفكرة أمريكا القديمة البيضاء العنصرية التي تحاول الاستمرار بدماء جديدة ولون بشرة جديدة ولكن بنفس العقلية العنصرية القديمة واستخدام السود للتسويق لها، الفيلم شاهدته في العام الماضي عند عرضه بعد المديح الكبير له وكان انطباعي عنه هو المكتوب بالأعلى فيلم ذكي وممتع ومهم، أستغربت المديح الهائل والاهتمام الذي حاز عليه بموسم الجوائز، لم اشعر إنه يحوي الثقل و القوة التي تؤهله ليكون فيلم العام إلا إذا كنا أمام سنة ضعيفة الانتاج، فرغم جودته فيه شيء من خفة الفيلم التجاري التي لم يستطع تجاوزها وثلثه الأخير بعد كشف التويست يصبح متوقعاً ونمطياً لدرجة السهولة، أعدت مشاهدته محاولاً اكتشافه مرة أخرى فلم يتغير رأي الأولي عنه، نعم استمتعت به كالمشاهدة الأولى، جيد ولكن مبالغ بتقديره.


صدمة العام ، بالنسبة لفيلم فاز بأسد فينيسيا الذهبي و الأوسكار ويقف وراءه المبدع غيليرمو ديل تورو توقعت شيء أهم مما شاهدته، ليس لأن الفيلم ليس بالجودة المطلوبة، بل لأنه في الكثير من النواحي متوسط المستوى وأحياناً ضعيف، مليء بالاستسهال، مليء بالكليشيهات، مليء بالتبسيط لدرجة التسطيح والطفولية حتى برسم الشخصيات ودوافعها، اعتمد على أكثر الحلول سهولة لدرجة الضعف، مثلاً كان من الممكن للشخصيات بعد إنقاذ الكائن أن يطلقوه فوراً بالبحر، لماذا أخفوه في المنزل بانتظار الطوفان؟ السبب ليحشروا المشاهد نحو المكان الذي يريده ديل تورو، متوقع جداً ومن السهل تخمينه حتى أدق مفاصل الحبكة، لا يوجد شيء يمكن أن يصدم المشاهد أو يثير مخيلته، مزعج جداً بسهولته لدرجة أنه أصابني الملل منه.الفيلم يلعب على الوتر الدارج حالياً عن تقبل الاختلاف ونبذ العنصرية والتفريق، والحب الذي يطهرنا ويزيدنا انسانية ولا يعرف الفوارق، وقليل من الحرب الباردة وسباق الفضاء وبطولة أنثوية، ويقول ما يريد قوله بطريقة مباشرة جداً لدرجة الوعظية، ويعيد ديل تورو استخدام عناصر تحفته السابقة (متاهة فون)، قصة إمرأة وحيدة مضطهدة تخوض مغامرة فنتازية تحولها لبطلة وتنشلها من واقعها، ووحش بداخله إنسان وإنسان بداخله وحش، يعتمد على الإبهار البصري ويزاوج بين الشاعرية والفنتازية بكثافة ليغطي بساطة نصه ويعطيه قالب مبهرج وينجح بذلك وهو فعلاً تجربة مبهجة للعين، وللأمانة هناك صناعة جيدة لشخصية إليسا، وتمهيد ممتاز وذكي لعلاقتها بالوحش من خلال التركيز على ارتباطها بالماء ووحدتها واضطهادها منذ بداية العمل، ولكنه لا يستمر على نفس الذكاء والجودة، سالي هوكينز ممتازة بالدور، ولكن باقي الممثلين لم يكونوا على نفس الامتياز، يؤدون نفس الأدوار التي سبق لهم أداءها، مايكل شانون رجل القانون الصارم المتزمت البغيض، أوكتافيا سبنسر المرأة السوداء الثرثارة القوية، ريتشارد جينكس العجوز الودود البسيط، مايكل ستيهلبيرغ رجل العلم صاحب التناقضات الأخلاقية، جميع الممثلين لم تشكل أدوارهم تحدي بالنسبة له وكانت اختيارات سهلة في فيلم الحلول السهلة لدرجة إنعدام الذكاء.


هذا شريط بسيط جداً في ظاهرة، يستعمل كل كليشيهات أفلام الثانوية، يتعمد ألا يكسر النمط أو يقدم شيء غريب عن المألوف، ولكن ما يجعل من عمل غريتا غرويغ هذا مميزاً هو تعاملها الجاد مع موضوع فيلمها وتحويله من قصة محببة عن أيام الثانوية إلى قصة عن النضوج وتنجح بذلك بطريقة ممتازة.
الفيلم تدور أحداثه عام 2002 وحسب ما صرحت غريتا يستند إلى الكثير من ذكريات حياتها الخاصة وهذا جعل للعمل روح خصوصية وذاتية صادقة وجميلة وشيء من النستلوجية المحببة، هو أشبه إلى نظرة مصالحة واعية تطلقها غريتا نحو عائلتها ومراهقتها بكثير من الحب حتى للحظات الصدمة فيها، جميل جداً بتقديمه قصة فتاة تواجه الواقع وتصدم بمدى صدقه وقسوته وتكتشف ذاتها جسدها الحب والجنس والصداقة والمظاهر وقدراتها و خيارات الحياة وآمال المستقبل والرغبة بالخروج من قوقعة أهلها لمواجهة العالم.
كون الفيلم يدور في زمن ماض يجعله الفيلم فيه مليء بالحنين والحب بالأخص للعائلة وروابطها القوية، علاقة كريستين أو ليدي بيرد بوالدتها مصنوعة باتقان، فيها الكثير من الشجار والمصالحة والحب غير المحدود، لا تحصر غريتا فيه نفسها بشكل تقليدي عن قصة فتاة تريد التحرر من سطوة والدتها ثم تكتشف إنها نسخة عنها (هي تقدم ذلك بشكل ممتاز) بل تجعل من صراع كريستين مع والدتها صراع بين فتاة تصرخ رفضاً بواقعها الصادم الذي تمثله والدتها بصراحتها وصدقها مع ابنتها.
الفيلم مصنوع بشيء من الكوميدية السوداء المتقنة بعيداً عن الابتذال أو المبالغات الدرامية، غريتا تصنعه بشكل عذب ورقيق ومحبب وبسيط بصرياً ولكن شفاف وجميل جداً النص ذكي جداً وأداءات ممتازة من سيرشي رونان بأفضل أداءاتها و لوري ميتكلف و حضور جميل للوكاس هايغز وتيموثي شامالات ، عمل يمس كل مشاهد ويجبره على استعادة ذكريات حميمة رغم قسوتها، أحببته جداً.


فيلم شون بيكر هذا هو أحد أكثر التجارب السينمائية إنسانية وجمالية، قصة عظيمة ومنفذة باتقان عن براءة الطفولة وقوتها التي تتحدى أصعب الظروف، دون أن تدرك تلك الظروف حتى، حي سكني فقير مبني على ضواحي ديزني لاند ولكن موني وصديقيها يستغلون مخيليتهم وبراءتهم لخلق البهجة والحياة في أشد المكان بؤساً - دون حتى أن يدركوا ذلك - تعامل ذكي جداً من بيكر مع موضوع براءة الطفولة وقوتها إنها شيء فطري جداً وقوي جداً، موني وصديقيها يعيشون بتخيلهم الحياة المثالية لا يريدون - بل لا يدركون - شيء أفضل من هذا الواقع، همومهم بسيطة جداً أقل من يومية بل لحظية تتلخص بالحصول على آيس كريم وتناوله بكل بساطة.
عظمة إنجاز بيكر هو ليس فقط من ذكاء تعامله مع الطفولة، بل بتصوير العمل كاملاً من منظور موني، أنت لأكثر من نصف العمل لن تشعر إن هناك شيء يحدث مجرد تصوير ليوميات موني في عطلتها الصفية في النزل الرخيص الذي تقيم فيه، ولكن في الخلفية هناك حدث وصراع يجري وإلا أنه غير محسوس أو تشعر أنه غير موجود لأنه بكل بساطة غير منظور بالنسبة لموني، نحن ندرك الصراع ولكن غير مهتمين به لأن موني لا تراه، ورغم حالة الجمود الظاهرية التي يضعنا بها بيكر ولكنه ناجح جداً بمنع السآم من التسلل للمشاهد، يراهن على براءة وعفوية (بروكلين برينس) - التي تقدم باعتقادي بعمر ال8 سنين ربما الأداء النسائي الأفضل لعام 2017 بمزجها بين الشقاوية العفوية والتلقائية البريئة ولحظات التمثيل المتقنة الحقيقية في نهاية العمل - ويراهن كذلك على القوة البصرية لعمله الألون والكوادر والمونتاج التي تصنع مزيج من أجواء السحر الطفولي مع واقعية المكان التي لا يجملها بقدر ما يطوعها لجعلها جميلة من منظور طفلة بعمر الـ7 سنين تقضي العطلة الصيفية، وهو يكسب الرهانين، وفي الوقت المناسب يبدأ الحدث بالطغيان والتأثير وتصدر واجهة الصورة عندما يصبح منظوراً وملموساً بالنسبة لموني ويؤثر بها بشكل مباشر ويهدد عالمها.
رغم إن قسوة الحياة هزمت براءة الطفولة ولكن بيكر يبقى منحاز لها، يجمل الختام جداً ويجعله سحرياً ومؤثراً، يجعل من موني إحدى أميرات ديزني ويصر على إن قصتها وقصة ملايين الأطفال مثلها والعالم الذي أخترعته مخيلتها أكثر سحرية وجمالاً من كل القصص الخيالية، هو عمل ينتصر لبراءة الطفولة، لقدرتها على صنع الجمال والبهجة والحياة في أكثر الأماكن بؤساً، فيلم يدور بهامش دزني لاند، في جيوب الحضارة الأمريكية المخفية، ولكن حركة الأطفال وصخبهم وضوضائهم خلق به الحياة وجعله سحرياً على الأقل بنظرهم، توزيع مذهل بين بؤس عالم الكبار و سحر عالم الصغار، سيناريو مبهر جداً، أداء استثنائي وغريب من وليام دافو يجعل من شخصية عادية جداً حية وفاعلة وذا حضور مؤثر دون أن يطغى بحضوره ليسرق العرض من بروكلين ولكن لا يجعل من نفسه هامشياً ويتفاعل معها بطريقة عفويةً جداً وبغاية العطف، كنت أتمنى ممثلة على مستوى وعي بري لارسن بدور هالي والدة موني صغيرة السن وغير الناضجة، رغم إن شخصيتها الأكثر تناقضاً وإضطراباً بالعمل ولكن بريا فاينات لا تستطيع ملئ الدور بالثقل المطلوب رغم اجتهادها، تحصر نفسها بكاريكتار الشخصية دون القدرة على الغوص بأعماقها ولكن لا تقدم أداء سيء وتنجح بالمشهد الأخير بالخروج بطريقة جيدة إلى حد ما وبأقل الخسائر ، فيلم رائع جداً ربما هو أكثر أفلام 2017 ظلماً كان يستحق تكريم أكبر واهتمام أكثر من المؤسف التعامل معه بموسم الجوائز بهذه الطريقة القريبة للتجاهل وتسليط الضوء على أعمال أضعف منه، أحد مفضلاتي لعام 2017


تحاول دي ريز بهذا العمل أن تحاكي أسلوب تيرانس ميلك، لدينا عدة شخصيات و كاميرا تلاحقها، لحظات تأمل وصوت راوي ومونولوج داخلي ونفس روحاني وعلاقة وطيدة بين الإنسان والأرض، كل هذه الأمور (الشكلية) تنجح بها ولكنها تبقى محصورة ضمن (الشكل) فقط، في عمق العمل هناك تشتت مزعج جداً، محاور عديدة فارغة ومبتورة، جمع كل البيوض بسلة واحدة ثم خفقها، خلطة من دراسة لأمريكا الأربعينات، العنصرية، النشوء الحضاري، المرأة التي تريد التحرر، علاقة الأخوة، مسيرة عائلتان بيضاء وسوداء في ظل عنصرية مسيسبي، حال الجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية، بداية تشكل وعي الحقوق المدنية، محاور عديدة كانت دي ريز (تقفز) من أحدها لآخر دون أن تعطي أي محور إشباعه المستحق ، مجرد (ملامح) مواضيع دون تكامل، يبدأ عن إمرأة تتزوج لتتحرر وترى العالم فتقع بفخ سجن الزواج، علاقة مريبة مع شقيق زوجها، هذا الموضوع يبتر حين يذهب الأخ للحرب وتنتقل العائلة لتعمل بالزراعة ثم خلاف على بيانو لا نراه بقية العمل، وتصوير صعوبات العمل بالزراعة دون أن نشعر بخطورتها، ويقفز العمل ليصبح دراسة العلاقة بين عائلة البيض والسود ويأخذ وقت طويل وهو يصور حالة الجنود العائدين من الحرب الكونية، ويرمي المحاور السابقة ويغرق بموضوع العنصرية ثم يعيد إحياء تلك المحاور بطريقة خجولة وغير ضرورية ويكثف في النهاية الضوء على قصة حب عبر البحار لم نشعر بها طوال العمل.
معالجة ضعيفة جداً لمواضيع العمل، محاولات غير وافية للربط بينها، محاولة الاتكاء على الشكل البصرية لجعل العمل جذاباً وبالمقابل هناك اختيار سيء جداً للممثلين وأداءات باهتة، حتى كاري موليغان لم تكن بتألقها المعهود، وماري بيلغ المرشحة للأوسكار لم تقدم شيء مميز ويعلق بالذهن، دي ريز يحسب لها إنها لم تتكأ فقط على الموضوع لتسوق فيلمها حاولت أن تقدم شكلاً جديداً ولكن الشكلن الجيد لم ينجح بالتغطية على ضعف المعالجة، ورغم بهتان العمل ولكن لقى حظوظه من التكريم المبالغ فيه كأغلب أفلام العام الهامة.


الفيلم الفائز بجائزة السعفة الذهبية في الدورة الأخيرة لمهرجان كان عبارة عن كوميدية سوداء باردة مرعبة تنبوئية تحذيرية تشاؤمية وإلى حد ما سريالية، السويدي روبن اوستلاوند يقتحم عالم نفاق الطبقات المثقفة والمخملية بشكل أكثر فتكاً مما قام به بيجلان في تحفته الفائزة بكان أيضاً بيات شتوي، يتتبع يوميات مدير متحف ستوكهولم للفن المعاصر كرستيان (أداء ممتاز من كليز بانغ) والصعوبات المادية و الشخصية التي تعترضه وهو يحاول تنظيم عرض فني لجمع التبرعات لمتحفه، وخلال هذا التصوير المليء بروح السخرية الباردة يسلط الضوء على المستويات المريعة التي وصلت لها حالة النفاق الاجتماعي وتسليع الفن والقضايا الإنسانية وانهيار الروابط الاجتماعية وروح التكافل واتساع الشرخ بين طبقات المجتمع.
يحفل العمل بكادرات نظيفة أنيقة راقية مريحة للعين تغزوها حيوانات الغابة تتناوب مع تصوير مريب لحالات من نوبات الجنون والهستيرية التي تقع بها العديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية، ويتعامل العمل مع هذه الأحداث والمشاهد بشيء من التفاصيل اليومية الاعتيادية، اوستلاوند ينجح بجعلنا منذ المشهد نعيش حالة غير مريحة رغم كل الراحة والرفاهية التي تصبغ أجواء فيلمه، عمله ليس سريالياً ولكن فيه روح سريالية مقلقة، العالم من وجهة نظره عبارة عن مشفى مجانين كبير لا تدرك الشخصيات حجم جنونه أو تدركه وتتجاهله وأحياناً تستفيد منه، الطابع التنبؤي فيه يأخذ شكل الإنذار الديني بإنفجار يوشك أن يطيح بالجميع، الرعب الحقيقي كامن بصورة ساخرة حين تعي أن الدولة والمدينة التي تتصدر التصنيف العالمي بمعدلات الأمان و الرفاهية والرقي هي عبارة عن غابة حقيقية وهؤلاء المهندمين المثقفين هم عبارة عن وحوش بملابس أنيقة تحركهم غرائز وطباع حيوانية أصيلة من الضراوة والوحشية والبقاء وإشباع اللذات وحب الهيمنة والتفاخر وعدم الثقة والعداوة وغياب الإحساس بالأمان والتكافل، والمميز بهذه الوحوش إنها لا تعمل كقطيع واحد، كل وحش هو صياد منعزل يحارب الجميع تجتمع فقط حين تحاول تلك الفرائس أن تتمرد و تهدد أمنها واستقرار عالمها الهش وهيمنتها، ولا تكتفي فقط بالفتك بالفريسة بل تصورها كوحش يشكل خطر عليها، وعلى التوازي تلكبها وترثيها وتتاجر بقضيتها.
أناقة المكان يصر عليها اوستلاوند ليس من باب الاحتفاء بل التخويف، في أغلب الأحيان لن ترى عنفاً صريحاً ولن تفهم حقيقة ما يجري، ولكن ستشعر إن هذا العنف يضربك بالصميم وإنك معرض له بأي لحظة ولن يستثنيك، كرستيان في لحظة صحوة ضمير نادرة يبرر إنه وغيره ( لا يتحملون مسؤولية هذا الخلل الاجتماعي، هي مفاهيم ورثوها، هي تقاليد وأسس بني عليها مجتمعهم ولا يمكن لشخص واحد أن يغيرها) ويبدو إن الجميع راض بهذا المجتمع ويتقبله بل ومستعد أن يمضي به إلى النهاية على أمل الخروج منتصراً بصراع البقاء المجنون هذا ولو بقي وحيداً.



هذا Pure cinama حقيقية، أمر اقتنعت به منذ انتصاف وقت الفيلم، عمل لم يثر عندي أي حماس ولم انتظره أبداً ولكن فاجأني بمستواه الفني الذي فاق الممتاز، بعد أن شاهدت 7 أفلام من أصل 9 مرشحين للأوسكار هذا العام وأغلبها دون المستوى جاء أخيراً هذا الفيلم الذي فعلاً لا يستحق فقط الترشيح وإنما الفوز أيضاً، من المؤسف أن يقتصر ترشيحه على أربع فئات ويتم تجاهله في قوائم الإخراج والتصوير والمونتاج والملابس والصوت والموسيقى والتمثيل المساعد وتصميم المشاهد.
هذه تجربة سينمائية تستهدف قلب وعين المشاهد بأكثر الوسائط السينمائية أصالة وكلاسيكية، منذ مشاهد الافتتاح وعرض صور لتماثيل رومانية آثرية عارية ثم اقتحام الكاميرا لتلك القرية شبه المعزولة في شمال إيطاليا الثمانينيات تفهم إن العمل يقوم على الربط بين الافتتان الجسدي وبراءة الطبيعة ونقائها، يعامل غواداغانينو المشاهد كزائر على تلك القرية يأخذ وقت طويل بجعله يتعشقها، هذه القرية الهاربة من الجنة هي بطل العمل الحقيقي، كاميرا غواداغانينو تتحرك بتأني وهوس بتفاصيل المكان، يجعلك تشعر به وتعيشه، الألوان والكوادر والأماكن الطبيعية والآثرية تخطف العين تشعرك بجمال إيطاليا كما لم تراها من قبل بالأفلام، ويمزجها مع تصاميم أنيقة للملابس وموسيقى مبكية واستخدام عظيم للأغاني وخلفية صوتية وافية من حفيف أشجار وضحكات الكومبارس وأصواتهم ودبيب الحشرات تعطي للمكان إحساس بالحياة، كله يتداخل ليجعلك تعيش تجربة المكان تشعر بحرارته وتكاد تشتم رائحته.
في أحد المشاهد يسأل أوليفر أليو (كيف تقضون الوقت هنا؟) يجيبه (ننتظر إنتهاء الصيف) هذه الجزئية يتعامل معا جيمس إيفوري كنص ومايكل غواداغانينو كإخراج بطريقة مبهرة، الفراغ والروتين اليومي ولحظات الصمت والأحاديث الاعتيادية وعدم فعل شيء يأخدون وقت طويل من العمل، أغلب الوقت لن ترى شيء مهم يحدث على صعيد الحدث، ولكن بين السطور و خلال هذا الفراغ والروتين والعزلة يحدث كل شيء، العلاقة تطور من وحي العزلة و الفراغ والروتين والمكان والجسد وتتصاعد وتنضج بهدوء لذيذ جداً، النظرات المسروقة والغيرة الرجولية والصداقة المذبذبة تدفع الحدث نحو الأمام حتى يشتعل للذروة، وغواداغانينو يستعمل لغة إخراجية عظيمة يجعل كاميرته تنتطق بالكثير مما لم يقله النص، كحالة جيمس إيفوري وجهابفالا بروائعهم في الثمانينات والتسعينات، هناك انسجام مبهر بين إيفوري (الذي أثبت نفسه إنه ككاتب لا يقل عظمة عن كونه مخرج) وغواداغانينو الذي سبق له وصدمنا بأسلوبيته الشاعرية وأسر قلوبنا ب(I am Love ) يصل هنا بأسلوبيته للقمة وينجح باختراق قلوب المشاهدين ودغدغة عواطفهم واحاسيسهم.
رغم إن لدي مشكلة في صميم العمل مع قضية العلاقة بين رجل بالغ ومراهق، لم أكن مرتاحاً أبداً مع هذه الجزئية، ولكن غواداغانينو وإيفوري يستغلناها بطريقة ذكية ويلعبان بها بطريقة تجعلها مقبولة للمشاهد، فأليو بسن السابعة عشر بنهاية المراهقة وناضج عقلياً عن أقرانه وهو الذي أختار هذه العلاقة وطارد أوليفر الذي تمنع عنه لفترة طويلة، وحتى حين أصبحوا سويةً لم يكن هناك أي استغلال من طرف أوليفر لأليو بقدر ما كان أوليو هو من يرمي نفسه على أوليفر ويطلب المزيد، وغواداغانينو وإيفوري يأخذان العمل من علاقة شاذة ونزوة مراهقة إلى تصوير للحب الأول وفرحته وألمه التي تبقى مع الشخص حتى وفاته، يبدو عملاً عظيماً عن ألم الحب الأول وتقبله وعدم نكرانه فألمه يقود إلى ذكرى سعادة كبرى تغذي روح الإنسان وتبقيه حياً.
تيموثي شالاما وآرمي هامر يقدمان أداءات جبارة، شالاما متفهم جداً للدور وناضج به وواعي يتنقل بين طفولية المراهق ونضج العاشق بطريقة عظيمة وسلسة جداً، يعبر عن جنون الحب الأول وشغفه ونهمه واضطرابه وألمه وصدقه وعفويته بطريقة مذهلة، مشهده الأخير من أصدق المشاهد العاطفية التي قدمتها السينما، أرمي هامر يقدم كاريزما رائعة حنان الصديق وأحياناً الأخ الأكبر الذي ينقلب لفوران عاشق صادق وحنون، يبدو ممتازاً بتقديمه صراع الرغبة مع الرفض الأخلاقي وسطوة الضمير وإدراكه لعدم صوابية هذه العلاقة واستمراريتها ولكن عدم قدرته على لجمها، مايكل ستيوهلبيرغ مبهر جداً بكل مشاهده ليس فقط بمشهد مونولوجه الرائع نهاية العمل، مشهد حديثه الأخير على الهاتف مع أوليفر وسماعه إنه سيتزوج مذهل رغم عدم نطقه بكلمة نظراته تعبر بصدق عن أب حزين على آلم ولده ومتعاطف معه مع عدم قدرته على فعل شيء.
هذا واحد من أكثر الأفلام شاعرية وحزناً، سينما حقيقية لوحة بصرية موسيقية تمثيلية متكاملة مؤثر في عمق مشاعر المشاهد وأحاسيسه من نخبة أفلام العام.


تجربة جيمس فرانكو الإخراجية الثانية انتجت عملاً بغاية النضج والمتانة، كوميدية سوداء من نوع خاص تتحرى قصة العقلية غريبة الأطوار وراء صناعة أشهر فيلم سيء عالمياً، لا يدخل في مجال السخرية والاستهزاء الجارح في كوميدياه - المضحكة فعلاً - بل جعله فيلم يحتفي بالطموح، يحتفي بإيمان الإنسان بذاته وفردانيته واستقلاليته مهما نبذه الجميع، يحتفي بالصداقة والإخلاص، ويصور إن صناعة فيلم The Room كانت انجازاً من نوع خاص، نجاح مختلف، فيلم حقق مع السنين شعبية وجدل لم تحققه أهم الأفلام وأكثرها جودة، في مشهد العرض الافتتاحي للعمل رغم جنون كوميدياه ولكن فيه الكثير من الرثاء والآلم حول شخص يرى طموحه وحلمه وإنجازه الذي أمن به وربما أكثر تفاصيل حياته السرية الخاصة آلماً وهي تتحول لسخرية وأضحوكة، هذه الموازنة في مشهد واحد بين الكوميدية والرثاء يستحق فرانكو عليها الثناء والتقدير.
أكثر شيء أحببته في عمل فرانكو هو محاولته حل أحجية جوني وايزو الغامضة، من هو ؟ وما السر وراءه؟ يستفيد من سمعة جوني كشخمص غامض غريب الأطوار لا أحد يعرف شيء عن عالمه الخاص ليضمن جاذبيتها و فضول الجمهور حوله دون أن يرمي كل الحمل على ما يعرفه الجمهور، بل يزيده غموضاً وغرابة، يجعل له ظهور أولى آسر، يقدم شخصيته بطريقة جذابة، يصدمنا بحجم ثراءه، لا يآخذ وقت طويل لتقديم شيء يعرفه الجمهور مسبقاً بل يعطيه وقته الكافي المستحق، ينتقل ليركز على علاقة جوني بكريغ مزيج من الصداقة والوصولية والإنبهار والاستحواذ والغيرة والحسد، ثم ينتقل بسلاسة لكواليس صناعة The Room، ويستغل هذه التنقلات الثلاثة لمحاولة حل غموض شخصية لا يعرف أدنى المقربون شيئاً عنها وعن عقليتها وعن ماضيها وحقيقتها، يستفيد فرانكو من الثغرات القليلة جداً ليقتحم عالم وايسو ونحاول أن نفهمه ونتفهمه، يقدم لنا صورة عنه أنه شخص بغاية الثراء ووحيد وضعيف الخبرات اجتماعياً ومضطهد من المقربين له لم يصنع إنجاز بحياته ولم يبادله أحد الحب يوماً يريد أن يكون نجم سينمائي حتى ينال التقدير والحب الذي يراه مستحقين له، مزيج من تشارلز فوستر كين و هاورد هيوز و مارك زوكربيرغ وشخصية ستيف كاريل من فوكس كاتشر مع طموح إيد وود وإيمانه بذاته وافتقاره لموهبته، ويبدو إن فيلم (الغرفة) لم يكن مجرد محاولة ليكون أهم إنجازاته بل ربما رغبة وايسو الأولى والأخيرة للانفتاح على ماضيه والتصالح معه، ربما كانت الأحداث التراجيدية - التي قدمها بطريقة سيئة - بفيلم الغرفة هي أحداث حقيقية حصلت معه.
جيمس فرانكو وصل بهذا العمل لأهم نجاحاته سينمائية، عمله متقن جداً كمخرج وناضج، وأداءه لشخصية وايزو ممتاز جداً جداً بالمزج بين التجسيد الكاريكتري والغوص بعوالم الشخصية الخفية ومحاولة قول ما لا تريده الشخصية قوله من خلال العيون والصمت، هو أهم أداءته في مسيرة تنوعت بين الأدوار الدرامية الجيدة كتأديته لشخصية جيمس دين في فيلم تلفزيوني نال عنه الغولدن غلوب ومشاركته في فيلم ميلك وأداءه الممتاز بفيلم داني بويل 127 ساعة الذي أكسبه ترشيح للأوسكار بالإضافة إلى الأدوار التجارية الممدوحة نقدياً وشعبياً سواءً في سبايدرمان لسام ريمي أو بأفلام سيث روغان الكوميدية (نهاية العالم - المقابلة) - روغان منتج هذا العمل وله ظهور جميل فيه - فاز فرانكو بالغولدن غلوب عن الدور وكان يستحق ترشيح للأوسكار، ولكن مع وصوله لذروة النجاح تلقى الضربة الأكثر قسوة بمسيرته بدعايات التحرش ضده التي أدت لحرمانه من الترشح ولا نعرف ما انعكاساتها على مستقبله.
شقيق فرانكو الأصغر ديف يؤدي دور كريغ وينجح باقتناص الفرصة ليعبر عن موهبة ممتازة كانت خفية بالأدوار التجارية، ظهور جميل لزاك ايفرون وبراين كرانستون وجاكلين وينفر وجوني وايسو نفسه، فيلم جميل جداً يتمنى أي صانع أفلام - ليس فقط وايسو نفسه - أن يكون هذا فيلمه الأول أو الثاني


أفضل ما يقدمه مارتن ماكدونا بعمله هذا هو تفكيكه لقصة نمطية وشخصيات تقليدية وإعادة تركيبها بطريقة جديدة، يبدأ الفيلم بقصة أم تريد تحقيق العدالة لابنتها القتيلة ولكن يتجاوز جزئية التحقيق والبحث ليصبح دراسة ممتازة لشخصية لا تملك شيء لتخسره وتخوض حرب شعواء ضد الجميع من حولها، ويقدم لك فرضية إلى حد قد يصل الإنسان بسعيه لتحقيق العدالة في ظل غياب القانون والنظام، ويتعمق ماكدونا بهذه الدراسة والفرضية بطريقة تعطي الفيلم مزيج من روح الإثارة والكوميدية المتقنة، فيه شيء من روح كوينتن تارانتينو والكوينز بأسلوبيته الساخرة التي أحببناها بفيلمه in bruges 2008.
ماكدونا ينتقل بعمله إلى مستوى آخر حين لا يجعل الأضواء مسلطة فقط على ميلدريد، يعطي الشخصيات الثانوية مساحة مناسبة لها ويدعمها بدراسة سلوكية ممتازة بالأخص شخصية ديكسون الضابط العنصري الطفولي السكير المشكوك بميوله الجنسية الذي يعتبر سعي ميلدريد للحقيقة تحدي شخصي له بالأخص إنها تمس الشخص الوحيد الذي يحترمه ويكترث له مأمور الشرطة ويلبي الذي يعاني من سرطان البنكرياس وتبدو أيامه معدودة ولا يستحق هذا التشهير بأيامه الأخيرة، الاهتمام بشخصية ديكسون على التوازي مع شخصية ميلدريد نجح بجعل العمل يلعب ضمن المنطقة الرمادية للنفس البشرية، عن الطبيعة الإنسانية المزيجة بين الأسود والأبيض، عن الدوافع والوسائل وتناقضها كثيراً من الأحيان، عن مفهوم العدالة والقانون وهل تكون نبيلة حين تكون وسائل تحقيقها غير عادلة وقانونية.
فيلم جميل جداً بدراسة سلوكيات الشخصيات وعلاقاتها مبني على سيناريو متين جداً وممتع وذكي ومشوق بحواراته، ممتع جداً ومهم وصادق، سائني فيه اللجوء لبعض الوسائل الدرامية التي شابها الافتعال غير الضروري، مشهد الفلاش باك يوم مقتل ابنة ميلدريد غير ضروري أبداً وليس مفيد، الدافع الأمومي الفطري لتحقيق العدالة يكفي لوحده ليحرك الشخصية دون الحاجة لافتعال عقدة ذنب، والاعتماد على الرسائل التي تركها ويلبي بعد انتحاره للشخصيات لتحدث انقلاب درامي فيها - إدراك ميلدريد إنها تغالي بحقدها على الشرطة وإن هناك خير فيهم و إيقاظ دافع البطولة لدى ديكسون لينقلب ويصبح بصف ميلدريد - كان حركة درامية ضعيفة.
الفيلم جذاب جداً بصرياً رغم بساطته وطبعاً الاداءات الجماعة فوق الممتاز فرانسيس ماكدورماند تقدم أفضل أداءاتها منذ فارغو وتستحق الأوسكار بمزيج القوة والوحشية والتصميم الذي تقدمه وتخفي تحته ضعف أم مكسورة وفقدت إيمانها بالعالم ولم يعد لديها شيء لتخسره، سام راكويل مذهل ويعطي الشخصية طابعها الطفولي اللذيذ رغم سلوكياتها الطائشة، هو يبدو كطفل عابث لا كشرطي عنصري سكير، وودي هاريلسون يعطي الثقل المطلوب لشخصية ويلبي ويحافظ على أهميتها حتى بعد انتحاره، بنجح بكسب محبة الجمهور ويجعل للحظة انتحاره وصوته بتلاوة الرسائل الثلاث بعد عاطفي مؤثر جداً، أحببت جداً الممثلة التي قامت بدور والدة ديكسون وتمنيت لها مساحة أكبر، لوكاس هيدغز و بيتر ديكلانغ لهم حضور ممتاز جداً في فيلم كان قريب جداً ليكون أفضل أفلام عامه.


فيلم الساعات الحالكة لجو رايت لا يقدم شيء لا يعرفه أدنى مطلع على التاريخ، يتناول شخصية وينستون تشرشل وأيامه الأولى من رئاسة الحكومة البريطانية عشية الحرب العالمية الثانية بطريقة شديدة السطحية والتقليدية دون أدنى تعمق، لا يوجد شيء جديد ومفاجئ، لا يوجد أي غوص تحت سطح الحدث، فيلم لم ينصف شخصية تشرشل ويعالجها بالطريقة التي تستحقها، مجرد رسم كاركيتري وتقديم كلاسيكي تقليدي للحدث دون أي شيء مفاجئ أو مميز أو جديد، شخصيات ثانوية عديدة موزعة هنا وهناك مهمتها مليء المشهد فقط دون أن تقوم بأي تفعيل للصراع أو الحدث فيلم أعرج جداً كنص، ممتاز كصورة، جميل كموسيقى، فيه كوميدية جميلة، وبعض الحركات الإخراجية الجميلة هنا وهناك من جو رايت، أداء مميز من غاري أولدمان بأفضل أدواره يغطي كثيراً على عيوب رسم الشخصية ويرتقي بها ويعطي حياة للعمل ولكن للأسف أداء مهدور وجهد بصري ممتاز ضائع بفيلم بغاية الضحالة.


فيلم أندريه زيفيغينتسف الأخير هذا يعطي صورة مغايرة عن روسيا التي نعرفها، ليست روسيا ذات الموروث الشيوعي أو الماضي الأرثذوكسي أو الطابع الشرقي، روسيا في هذا الفيلم غربية جداً علمانية جداً متجردة تماماً عن هويتها القديمة نحو إنعدام تام للهوية، ضائعة كأليوشيا متجردة عن ماضيها - باستثناء المظاهر كشخصية الأب - وغير مقبولة في الثقافة الغربية الحديثة - كشخصية الأم - وهنا تبدو أهميته، القصة ليست عن ولد منبوذ من أهله وضائع القصة عن بلد كامل تتهاوى علاقاته ومبادئه وقيمه وروابطه ويتجه نحو المجهول، الفيلم لا يحصر القصة بعائلة أليوشا يلمح إلى أن الأزمة عامة موجودة ومنتشرة بشكل مخيف وبأشكال متعددة وأليوشا ليس الضحية الوحيدة بل هو نموذج واحد من عدة نماذج تعرفها الدولة الروسية وتتجاهلها ولا تعرف كيف تتعامل معها.
في فيلمه الأهم Return قدم لنا زيفيغينتسف سلسلة من اللوحات البصرية الخلابة والدراما التشويقية المتصاعدة بحذر دون إفراط و موسيقى خلابة وأداءات نخبوية (هذه العناصر موجودة بإمتياز في هذا الفيلم) وتحدث ضمنها عن الروابط الأسرية الفطرية والمتينة والتي تبقى مهما تراكمت الخلافات وصعوبات التواصل وتنتصر بالنهاية وتحدث عن الأشياء التي لا نعرف قيمتها إلا بعد فواتها وإن ذهبت لا تعوض، هنا هو يرثي كل تلك الأشياء، طوال العمل الأهل يتعاملان مع ابنهما على إنه عبئ وغلطة وشيء غير مرغوب فيه، وإختفاءه لا يحرك أي مشاعر بدواخلهما، يتعاملان مع اختفاءه على أنه عبئ ومشكلة أخرى سببها لهما، ووسيلة لتصفية الحسابات بين بعضهما ويرميان مسؤوليته فيما بينهما دون إقرار بأخطائهما بل بإصرار على إنهما الضحية، وفي العمق يتعاملان مع الإختفاء على أنه ربما فرصة للتحرر من الإلتزام والمضي بحياتهما.
يختم الفيلم قصة أليوشا بنهاية شبه مفتوحة ولكن كل الاحتمالات بها مآساوية ويستمر الوالدان بحياتهم التي لم تختلف عما سبق الكارثة بل الأمر أشبه بدائرة تعاد دورتها المآساوية مجدداً.


مشكلة ستيفن سبيلبرغ الأزلية هي بتناقضه، الرجل الذي يمكننا أن نعتبره كأحد أجرأ وأذكى صناع السينما في التاريخ من حيث التصدي للمشاريع الضخمة والابتكارات التقنية والحلول البصرية والتلاعب بطرق سرد القصة يبدو جباناً جداً من ناحية معالجة المواضيع، لم يكن جدلياً وجريئاً بتاريخه سوى مرة واحدة بفيلم ميونخ، باقي أعماله كلها تلعب بالمنطقة الأمنة، ضمن توقعات الجمهور، يأتي بالصور النمطية ويعيد تكرارها، يتجه لإرضاء المشاهد الأمريكي لدرجة البروباغندا بعض الأحيان، لا يجرح حياء الجمهور ولا يخدش معتقداته ولا يزعجه، ولكنه ذكي بوضع ذلك بسياق سردي مشوق، صورة بصرية خلابة، تلاعب بعواطف الجمهور دون ابتذال، إدارة ممتازة للممثلين، ينتج أفلام ذكية جداً ومتينة رغم نمطيتها، بهذه الخطة صنع تحف بمجالي التشويق والخيال العلمي، وانتج ملاحم تاريخية كلاسيكية، ولكن بأعماله التاريخية الأبسط والأقل إبهاراً مثل إمبراطورية الشمس وامستاد وحصان الحرب و جسر الجواسيس لم تنجح لعبته وكشفت حيلته، هي حرفياً أعمال ممتازة ولكن أقل بريقاً وفخامة وغير قادرة على الرسوخ بالذاكرة وفيلمه الأخير (بوست) ينتمي لها.
أثناء المشاهدة كنت اتخيل لو كان أوليفر ستون هو مخرج العمل، تخيلت حجم الجرأة والصدمة والعمق الذي سيقدمه، تبرير الفيلم لسبب إخفاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة لحقائق حرب فيتنام غير مقبول، أن تكون الحجة إن الحكومات الأمريكية المتعاقبة أرادت الحفاظ على سمعة الجيش الأمريكي أمر لا يصدقه منطق، بالأخص إن العالم كله يعلم مدى تأثير شركات السلاح وتجار المخدرات والدعارة على قرار استمرار حرب فيتنام، حتى السينما الأمريكية نفسها عالجت الموضوع من هذا الجانب، في البداية شعرت إن سبيلبرغ سيكون أجرأ حين طرح صورة جديدة غير منمقة لجون كينيدي ولكنه عاد ولطفها وانشغل بالنهج النمطي بشيطنة نيكسون.
الفيلم فيه عدة محاور دون أن يتعمق بأحدها تحت السطح، الرجل الذي صدمته حقيقة صديقه وقدوته، المرأة التي تريد تحقيق ذاتها وأصبحت قدوة بين النساء، محور أهمية الصحافة والإعلام ودورهما بتعزيز الديمقراطية والحرية تم معالجته بطريقة مليئة بالخطابة والشعارات.
الفيلم قام ببطولته توم هانكس وميرل ستريب، اثنان من أفضل الممثلين وأكثرهما موهبة بالتاريخ ولكن منغمسان - كمديرهما هنا - بالمنطقة الأمنة فنياً بعيداً عن التحديات وهذا الشيء يؤثر على مكانتهما بين الجمهور، ظهورهما مبهر على الشاشة بأقل جهد وبعفوية تامة فكيف حين يكونان بمشهد واحد، حضورهما براق والكيمياء بينهما عالية وأداءائيهما مبهر حتى بأقل التفاصيل.
الفيلم رغم سطحيته ولكن فيه أدائين ممتازين، وميزات بصرية رائعة من طاقم عمل سبيلبرغ الاعتيادي (كيمينزكي في التصوير، كان في المونتاج، ويليامز في الموسيقى) يقدمون ما اعتدنا على توقعه منهم، حركة الكاميرا الرشيقة الصورة الأنيقة المونتاج القادر على خلق روح الإثارة بقصة جامدة، عالي الموسيقى الملحمية المدغدغة للعواطف، هو فيلم ممتع ولكن غير قادر على الحفر بذاكرة المشاهد والتأثير به، الموضوع يحتاج لعمق وجرأة أكثر لم يملكها سبيلبرغ، تأثير فيلم سبوتلايت واضح عليه وهذا أمر معيب بحق مخرج بحجم سبيلبرغ، تجربة غير مرضية بالنسبة لي نظراً للاسماء التي تصدت للعمل - رغم أني كنت أتوقع ذلك ولكن ليس لهذه الدرجة - لحسن الحظ إن سبيلبرغ عاد لسينما الخيال العلمي ربما نرى بفيلمه الأخير Ready Player One المخرج الأسطوري صانع التحف.


كاثرين بيغالو تكتفي بإعادة تجسيد الحدث ولا تتكلف أدنى جهد بالغوص بعمقه ، لا تخدش السطح حتى، أنت لن ترى طوال الفيلم سوى جماعات سود يقومون بإعمال شغب و رجال الشرطة البيض يتعاملون معهم بعنف تحت أعين الجيش وحرس ولاية ميتشيغن المتجاهل لكل التجاوزات التي تجري، نعم هناك جهد بصري مقدر بإعادة أحياء الواقعة ولكنه مجرد قالب فارغ، ما شاهدته في الفيلم يمكن مشاهدته بأي عمل وثائقي أو قراءته بكتاب دون أن تخرج بشيء جديد، بالأخص إن الموضوع يحتمل الكثير من المعالجة الدرامية والفكرية التي لم تكلف بيغالو وكاتبها الأثير مارك باول (تعاونهما الثالث بعد الرائعتين Hurt locker و Zero Dark Thirty) نفسهما أي جهد أو جرأة لخوضها وهو أمر مستغرب عنهما.قد يقارن البعض بين هذا الفيلم وباكورة أعمال نولان Dunkirk حيث إن كلاهما أكتفى بتجسيد الحدث دون الخوض بصلبه، الأمر مختلف هنا، نولان صنع بعمله حس (معايشة) للحدث وكان موفق إلى حد ولو إن النتيجة لم تكن مثالية بالنسبة لي، بيغالو صنعت حس (توثيقي) للحدث لم يكن كافياً لحمل العمل، بالأخص إن الحدث بديترويت أكثر تعقيداً، كان يحتاج لدراسة للبيئة وتناقضاتها وموروث العبودية وتأثير حرب فيتنام التي ولدت تلك الفوضى، كلها رمتها بيغالو واكتفت بعبارات بسيطة مع مقدمة كوميكسية (شبيهة بتمهيد الحدث في فيلم غريمها بين أفليك آرغو) بالأخص إن هناك وقت طويل قبل الدخول بمجزرة فندق الغيرز الحدث الرئيسي (ساعة من وقت العمل) تهدره بتصوير أحداث الشغب قبيل المجزرة دون أن يفيد دراما العمل الضائعة،استغلتها فقط باستعراض عضلاتها الإخراجية والتقنية الصلبة، كما إنه هناك العديد من الشخصيات الغنية والخصبة درامياً التي لم تستثمرها أبداً، شخصية المغني الذي كان يعتقد إن الفن والحب يمكن أن يحدث تغيير زمن الكره والخوف وكيف غيرته الأزمة، شخصية رجل الأمن الأسود الذي يعمل مع الشرطة البيض وضياعه بين عنصرية البيض اتجاهه ووسمه بالخيانة من السود رغم إن غرضه فقط حماية الحي من الشغب ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، شخصية الجندي الأسود الذي يعود من حرب فيتنام ليجد نفسه في أتون حرب أسوء، شخصيات الشرطة البيض وفلسفتها تجاه العنف وشعورهم بنقص الرجولة حين يجدون فتيات بيض مع أسود، شخصية الفتاة البيضاء التي جاءت من أوهايو وصدمتها عنصرية البيض تجاه السود، تفاصيل المحكمة، أمور لو اهتمت بها بيغالو أو ركزت على شخصية واحدة منها كانت تكفي لحمل العمل ومنحه الثقل والعمق الذي يحتاجه ولكنها اكتفت بالسطح فانتجت فيلماً سطحياً


عودة الهنغارية ألديكو أنايداي للأفلام الروائية بعد 18 سنة على الانقطاع أكسبتها دب برلين الذهبي في دورتها الأخيرة وربما توصلها لترشيح الأوسكار، الفيلم يقدم حالة رومانسية غريبة ولكن شديدة الشاعرية، تتمرد على الصنف بكل أشكاله بالمكان والشخوص بل حتى بمفهوم الحب والعلاقة وتقلباتها وأساليب التعبير عنها.
أندريه يعمل مديراً في مسلخ للأبقار والعجول ودود ومحبوب مع من حوله ويعاني من إعاقة بيده، يعجب بماريا مشرفة الصحة فائقة الجمال والتي تعاني من نوع منخفض من التوحد وصعوبة التواصل الاجتماعي، يمثلان النقيض والتكامل بين إعاقة جسدية وانفتاح اجتماعي واعاقة نفسية وصعوبة التواصل وكمال جسماني.
كل شيء يوحي أنه من المستحيل أن يلتقي هذين الشخصين ولكن أنايدي تلجأ إلى وسيلة غريبة لذلك، تذهب نحو السريالية ولكن لا تنخرط بها للأخر تتركها كحالة جميلة خفيفة توقظ شرارة الحب بين الشخصيات، ليس خيارها للسريالية استسهالاً وإنما متعمداً لترينا إن سلطان الحب لا يعرف قوانين يفرض نفسه على الشخوص دون أذنهم أو أرادتهم ويغير حياتهم للأفضل - على عكس ما تجري عليه عوايد الأفلام الرومانسية بتصوير عذاب الحب وضريبته - الحب في علاقة أندريه وماريا علاجي يكمل نقص الشخصيات، ماريا ضحكت مرة وحيدة في العمل بعد علاقتها بأندرية وأندرية لم يعد يشعر بإعاقته.
حتى أختيار مكان الأحداث ذكياً جداً، مسلخ أبقار وعجول يفيض بالدم والوحشية ولكن اقتحمه الحب، بل تعطينا المخرجة صورة مغايرة للمكان أن شخوصه ليست وحوش وإنما يجب أن يتحلوا بنوع معين من الحب والعطف بالحيوان حتى يعاملوهم بأقصى أنواع الرحمة بأخر أيامهم، بل إن المخرجة تقارن بين أزدحام المكان والحياة الاجتماعية بضمنه وبين العزلة الخاصة التي تعيشها الشخصيتان خارج عملهما.
الفيلم ذكي جداً وجميل بحواراته ورسم سلوكيات شخوصه وتفاصيلهم، رغم بروده وعدم اعتماده على الموسيقى والرومانسية المعهودة ولكنه يتوقد بالشاعرية ويثير بنسق تصاعدي يتوهج بالنهاية ويضع المشاهد على حافة الكرسي كأنه فيلم لميشيل هانيكيه ولكن أكثر شاعرية.
إلكساندرا بوربيلي بدور ماريا تقدم أداء محكم جداً وقوي وصعب ومؤثر تمثل بملامحها وعيونها وجمودها، تبدو كبركان يوشك على الانفجار وتكبح نفسها بقسوة، رغم البرود الظاهري ولكن بأعماقها تخوض صراعات عنيفة جداً توصلها بنظرات عيونها وكذلك غيزا مورسيساني الممتاز بدور أندريه.


فيلم أندي ميوسيتشي هذا (الثاني في مسيرته بعد فيلم الرعب الناجح Mama 2012) لا يحاول أن يكسر قواعد الصنف، يتمسك بها جداً ويخلص للرواية الشهيرة لكاتب الرعب الأشهر ستيفن كينغ، بل يحاول أن يستفيد من الصنف ومن الأصل الروائي ويستغله بشكل ذكي جداً ليصنع فيلم رعب مهم وغير تقليدي.
من حيث التكتيك كفيلم رعب الفيلم مشوق جداً وفيه لحظات تحبس الأنفاس، هو يتجاوز ما يعيب أفلام الرعب المعاصرة من الإفراط السيء باستخدام الغرافيكس لدرجة الكرتونية والابتذال، نعم هناك استخدام كبير للغرافيكس ولكن استخدام متقن ومفيد للعمل ومستخدم بموقعه الصحيح، ومدعوم بتصوير ومونتاج وإضاءة جيدين واداءات رفيعة من طاقم العمل الطفولي، وأذكى ما قام به ميوسيتشي أنه لم يلجأ للغرافيكس لتصميم شخصية المهرج القاتل بينيويز بل رمى الحمل على الممثل بيل سكارسغارد وطاقم المكياج الذين أدوا عملهم بشكل ممتاز جداً وصنعوا فيلم رعب ربما هو الأفضل منذ سنين .
أهمية الفيلم الحقيقية بنجاحه بالموازنة بين خط التشويق والرعب وبين استغلال ذلك لصنع فيلم جميل عن النضوج عن الصداقة وعن الخوف، يوجد براءة جميلة بالعمل يوجد خط رومانسي متقن جداً، والأهم استغلال كامل عناصر الفيلم لصنع عمل يتحدث عن المخاطر التي تواجهها الطفولة، فيه رسالة مبطنة نجح بايصالها بشكل رمزي عن جرائم العنف والتحرش والاضطهاد التي يتعرض لها الأطفال وتبقى كثيراً من الأحيان مخفية وبرأي هذه الأهمية الحقيقية للعمل.
في حقبة تشهد ولادة العديد من أفلام الرعب ذات الطرح الجديد والممدوحة جداً مثل It Follows و The Witch في العامين السابقين كان من المتوقع أن نسمع عن وجود فيلم رعب يصل لترشيحات موسم الجوائز النهائية، الكفة مالت لصالح الفيلم الهام والجيد Get out - رغم إحساسي بالمبالغة تجاه الاحتفاء به - ولكن بصراحة كنت اتمنى أن يكون هذا المديح لصالح It ، أحببته جداً


أحد أعظم الإنجازات الفنية في العصر الحديث بلا مبالغة، عمل فريد لا مثيل له، أتذكرون إنجاز بيكسار عام 1995 بفيلم حكاية لعبة حين صنع فيلم أنيميشن كامل بواسطة الكمبيوتر أو ما قام به استديو لايكا العام الماضي بفيلم كوبو حين قدمو فيلم أنيميشن ستوب موشن ؟ ، انجاز دوروتا كوبايلا و هيو ويلشمان بهذا العمل البولندي - الإنكليزي لا يقل أهمية وربما يتجاوزهما.
هنا نحن أمام فيلم طويل كامل انيميشن عن حياة أبو الرسم الحديث الهولندي فينسينت فان غوغ مرسوم بالكامل يدوياً بأسلوبية فان غوغ بالألوان الزيتية، - بلا تقنيات حاسوبية - العمل احتاج ل100 رسام محترف لينجزوا الفيلم عبر 65000 لوحة بمعدل 835 لوحة مختلفة لكل لقطة (تخيلوا فقط الجهد العظيم الذي بذله المونتاج هنا).
النتيجة عمل أشبه بالسحر، فيلم كامل وكأنه مرسوم بريشة فان غوغ (وهذه الجزئية بحد ذاتها تستحق التقدير ومجهدة جداً كونها محاكاة لأحد أعظم الرساميين على مر العصور) تحولت فيه الرسومات والألوان إلى كائنات حية، عمل يشعرك بأنك تتجول داخل لوحات فان غوغ وتعيشها، عالم متكامل بلا ثغرات صنعه مخرجا العمل وطاقمهما المبدع، العديد من اللقطات تجعلك تستغرب كيف تم انجازها، التعبير عن ملامح الشخصيات وانفعالاتها بالرسم موفق إلى حد بعيد، أداءات صوتية ممتازة و تفاصيل إخراجية جيدة وذكية وموسيقى من أجمل ما لحنه كلينت مارشال (موسيقار أفلام قداس حلم والنافورة) فيلم عبارة عن السحر بحد ذاته لا تتمناه أن تنتهي ولا تكتفي منه أحد المنجزات السينمائية الأكثر صعوبة وإبداعية في زمننا الحالي، أفضل تكريم ربما يحلم أن يحصل عليه فنان. 

بعيداً عن الإنجاز التقني الثوري والجبار والفريد من نوعه هنا يوجد سينما حقيقية تستحق التقدير، مطاردة لغز انتحار فينسنت فان غوغ بأسلوبية التحقيق من المواطن كين، والسير ما وراء اللغز نحو محاولة فهم التناقضات والشغف والجنون والألم وعدم التقدير الذي عاشت فيه هذه الشخصية المحيرة، فيلم لا يكتفي فقط أن يكون تكريماً ودراسة لفان غوغ بل هو عمل رائع عن شغف الفنان وعن الآلم الذي تخلقه العبقرية، عن وجع احتقار العبقرية وعدم تقديرها، عن العوالم الخاصة التي يعيش فيها ولا أحد يفهمها حتى هو، عن الرغبة المجنونة لدى الفنان بالتواصل بأسلوبه والعثور على التقدير وتغيير العالم، عن الشغف والعاطفة الهائجة التي يحملها الفنان بداخله وتقوده للهاوية، أحد مفضلاتي السينمائية الحديثة جداً.


نولان نجح بأن يضعنا بجو الحرب ويجعلنا نعيشها، شريط الصوت جبار جداً، التصوير وإدارة الحشود ممتازين، الموسيقى عظيمة وتزيد من كابوسية العمل، نولان ينتصر لفكرة إن الفيلم هو تجربة نعيشها، نحن هنا داخل الحرب، داخل كماشة الموت لا نعرف متى تطبق علينا وحين تطبق يكون وقعها صادماً ومرعباً، نحن لن نرى العدو أبداً في العمل، هو كالشبح أو ملاك الموت الذي يترصد بنا ويضربنا على غفلة، هو أقرب لفيلم رعب منه لفيلم حرب، سنعيش مشاعر الإحباط واليأس والخوف والتوتر لدرجة الجنون والإنهيار الذي يرافق أشخاص في سباق خاسر مع الموت، من هذه الزاوية الفيلم ممتاز، ولو أبقاه نولان هكذا لكان زاد تقديري له ، ولكن محاولته تسليط الضوء ولو بشكل عابر على نوازع فردية بطولية خاصة للشخصيات عكرت صفو هذه الحالة، الحوار الذي يدور داخل المركب بين الشاب المصاب وصديقه قبل موته وطموحه أن يكون شيئاً مهماً ليس له داع أبداً وأشبه بالعورة، وحوار مارك لارنس مع كيليان ميرف عن دوافعه لإنقاذ الجنود العالقين ليس له ضرورة أبداً، الموقف العالق به الشخصيات يكفي لوحده لشرح دوافعها، سواء رغبة النجاة أو دوافع وطنية، لسنا هنا بحاجة لحوارات تشرح لماذا يريد الجنود العودة ولماذا يريد المدنيون الاندفاع لإنقاذهم، ولحسن الحظ إن نولان ضبط هذه الحالة ولم يمضي بها للنهاية.
ما أضر العمل من وجهة نظري هو ما صنع سمعته وشهرته، كسر قواعد الأسلوب السردي برواية الفيلم من ثلاث زاوية الأولى على البحر على مدى أسبوع، والثانية في البحر على مدى يوم، والثالثة في الجو على مدى ساعة، التوزيع والتنسيق بينهم كان ممتاز جداً بفضل مونتاج صعب يستحق التدريس، ولكن مشكلة التوزيع جاءت من النص نفسه، فترة البحر والجو كانت موفقة ولكن فترة الشاطئ ليس كذلك، لم أشعر إن الأحداث تدور بأسبوع ربما يومين أو ثلاثة بالأكثر، هذه ليست المشكلة، المشكلة إنني شعرت أن هذا الأسلوب بالسرد غايته التجريب لغرض التجريب فقط دون أن يفيد العمل درامياً، بل أحياناً كثيرة كان معيقاً للدراما، أنت كمشاهد ستنشغل بمراقبة وملاحظة توزيع الأحداث على المحاور الثلاث والربط بينهما وستنقطع الرابطة العاطفية بينك وبين الحدث وتخرج من جو العمل ومعايشة حالته.
مشكلتي مع العمل هي في الدقائق العشر أو الربع ساعة الأخيرة، ليت نولان ألغاها، دخول المجنديين بعد نجاتهم بحالة من تأنيب الضمير واحتقار الذات كان دخيل على العمل وغير منسجم معه وقتل فكرة الاحتفاء بالنجاة، حالة عذاب الضمير بين الواجب الوطني وغريزة البقاء الإنسانية يجب أن يتم التمهيد لها خلال العمل لنصل إليها في النهاية، نعم ربما هذا سيكون كليشيهاً ولكن حين تختار أن تختم فيلمك بهذا الشكل فيجب أن تمهد له من البداية، أما أن يتولد شعور الذنب فور أن تطئ أقدام الجنود أرض الوطن قبل حتى أن يركنوا للراحة وينفضوا عنهم غبار المعركة فهذا أمر غير منطقي، وهذا الصراع يحدث عادةً بعد زوال الصدمة والركون، بالأخص إن الوطن كله أندفع لإنقاذهم واستقبلاهم، الربع الساعة الأخيرة أنزلت من قيمة العمل عندي.
آخر أفلام كريستوفر نولان عبارة عن منجز جبار جداً على الصعيد التقني وعلى صعيد الحالة النفسية مما مكنه من تغطية عيوبه الدرامية بشكل أفضل بكثير من فيلمه السابق أنترستلار، ولكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة لي بالأخص حين يصدر من رجل صنع دارك نايت وانسبشن، هو ليس فيلم سيء ولكن ليس ذروة أعماله كما وصف، أو أحد أفضل الأفلام الحربية بالتاريخ، هو أحد أفضل أفلام الصنف في الفترة المعاصرة هذا أكيد، أفضل من War Horse و American Sniper و Hacksaw Ridge ، جميل جداً ومؤلم بمعالجة وحشية الحرب وإيصال الإحساس بكابوسيتها للمشاهد وتمجيد لغريزة البقاء ومليء باللحظات المؤثرة الحقيقية، ولكن ليس مثالي وكان من الممكن أن يكون أفضل.


فيلم إدواردو كازانوفا هذا هو ربما أكثر التجارب السينمائية التي شاهدتها غرابة وقسوة، عمل في يبدو في ظاهره منفر جداً ومريب وصادم، ولكن مع الأنغماس فيه تعتاده وتلمس الجماليات منه، عمل يدافع عن الاختلاف والتنوع بأكثر الوسائل صدمة ونفوراً، يضعك وجهاً لوجه وعمداً وبلا تجميل أو رتوشات مع مجموعة من المشوهيين خلقياً ويجبرك على التحديق بهم ، يصدمك بأشكالهم ويجبرك أن تتقبلها ويدخلك بعوالمهم لتكتشف جمالهم الداخلي، تشابهم الإنساني معك، يجعلك ترثي لحالهم -وحال كل الناس أصحاب الأحكام المسبقة- وتحبهم وتتعاطف معهم وتتقبلهم، ويوازي مع فكرة تقبل الأخر للغريب والمختلف فكرة تقبل الإنسان لذاته والتصالح معها والافتخار بها، فيلم يسمو فوق المادي والشكلي ليغوص بالروحي، مرثية لكل الأرواح المعذبة بسبب مصائر وأقدار لم تختارها .
الفيلم رغم صدمته بالأشكال التي يقدمها ولكنه يمزجها مع نقيضها من جماليات فنية، فيلم يحتفي بالجمال من مكان وأزياء رغم أنه يناقش قضية القبح، دون أن تشعر بوجود أي تناقض، يجعلك تشعر إن وجود تلك الأشكال القبيحة والمنفرة عادي جداً ومنسجم مع جمال المكان ولا يعكره، والقضية فقط هي بعدم اعتيادنا على تلك الأشكال.
ربما يشعر المشاهد إن كازانوفا بالغ بتقبيح الشخصيات وجعلها منفرة وكان من الممكن أن يكون أكثر لطفاً، نعم هو بالغ ولكن تعمد بذلك، تعمد أن يضعك أمام أكثر الشخصيات في العالم قبحاً وإنفاراً ويدخلك بتجربة مواجهتها ويتحداك ألا تعتاد عليها وتتقبلها وتحبها، نعم المشاهد في البداية سيشيح نظره عن الوجوه التي تصدمه، ولكن مع استمرار مشاهدتها بالعمل سيعتادها ويناصر أصحابها وحين يتعرف على أصحابها من الداخل سيحبها.
الفيلم هو محصلة لعدة أفلام قصيرة عمل عليها المخرج الشاب (26 عاماً) انتاج إسباني نافس في دورة مهرجان برلين الماضية، عمل جميل جداً عن معنى الجمال والقباحة، عن الاختلاف وضريبته ومعناه، عن الأحكام المسبقة على الأخر، عن التصالح مع الذات، تجربة صادمة ولكن إنسانية جداً وموجعة وبغاية الشاعرية.


من الباكر جداً الحديث عن فيلم ما أنه أفضل فيلم لعام 2017، ولكن سأنجرف مع حماسي وأقول إن رائعة ديفيد لوري هذه ضمنت لنفسها مكان بين أفضل 10 أعمال، أحد أعظم الأفلام التي قدمت علاقة الحب بين الإنسان والمكان، عن مشاعر الحب الحقيقية التي لا تموت، عن الحياة التي يضفيها بعض الأشخاص على المكان وكيف يصبح ميتاً بغيابهم وموحشاً، عن الحب الذي يعشعش ضمن جدران المكان وصبح جزءاً منها، عن غربةالإنسان الروحية في الزمن الحديث، عن عبثية الأقدار، عن الطموح للخلود، عن مخاوف الإنسان الأصلية وسعيه الحثيث لفهم معنى وجوده وماهيته وغايته وما بعده.
النص في العمل عظيم يعطي الأرضية للغة بصرية مبهرة، لوري يخرج روح النص من خلال الصورة ويعبر عنه وعن ما يريده من خلال الصمت والتأمل والمكان والإضاءة والتصوير وحركة الكاميرا، هو عمل بطيء جداً هاديء جداً، ربما يكون ممل للبعض أو صعب الوصول، ولكنه من النوعية التي تنسل للمشاهد، تتعمق فيه بالداخل وتجعله يكسر الحواجز بينه وبين ما يشاهده ليعيشه.
أختيار شكل الشبح غريب جداً ولكن أداء كيسي أفليك الإيمائي الصعب جداً وكاميرا لوري ومونتاجه يجعلانه حي وغريب وقريب للمشاهد ومريب وأحياناً مرعب ولكن في نفس الوقت يفيض بالأحاسيس الأحقيقية، هو فييلم حسي جداً، مليء بالمشاعر ولديه قدرة على التأثير بدواخل المشاهد، وبعض المشاهد تعلق في ذاكرة المشاهد وتثير أحاسيسه ولا تفارقه، كمشهد تناول روني مارا للفطيرة ، أو مشهد استماعها للأغنية وتقطيعها بفضل المونتاج المذهل مع لحظات من الذاكرة وكلمات الأغنية ولحنها وأداء أفليك الغنائي لها، وفي كلا المشهدين وغيرها من المشاهد روني مارا - كعادتها - تستولي على المشاهد، وفي هذا العمل تمارس لعبتها التي تتقنها بالتعبير بملامح الوجه واختلاجاته وأختناقات الصدر ودموع العيون ونظراتها والبكاء المخفوت والألم الداخلي.
الفيلم قطعة فنية متكاملة من الإبهار على صعيد التصوير والمونتاج والموسيقى، أسلوب سردي غريب عن المعروف في السينما الأمريكية (باستثناء أعمال تيرانس ماليك) مليء بالتأمل والحسية والشاعرية، شيء قريب من سينما كيشلوفسكي وتاروفسكي ولم يعد له مثيل حتى في أوروبا كثيراً، وهذا الشيء يجعلني أتفائل جداً بلوري وسينماه التي أعلن عن ولادتها بفيلمه الروائي الثاني هذا، هو عمل يحتاج لعدة مشاهدات ويحتمل الكثير من القراءات والتحليل والتفسير، وجبة روحية وسينمائية صافية وأصيلة وكلاسيكية حقيقية معاصرة، تعيش بالمشاهد وتلتصق به وترفض أن تغادره.


ضمن فعاليات بيت السينما برعاية وزارة الثقافة المؤسسة العامة للسينما تم عرض فيلم مطر حمص يوم الخميس 12/4 في صالة سينما الكندي في دمشق، اتبعه نقاش مع مخرج ومؤلف الفيلم الأستاذ جود سعيد بإدارة المخرج والناقد الأستاذ فراس محمد.
الفيلم فيه احتفاء حقيقي بقوة الإنسان وتمسكه بالعيش والصمود بوجه أعتى المآسي، قصص عديدة سمعناها في سورية عن معاناة وأعاجيب السكان المحاصرين في مختلف المناطق على الخارطة السورية نقلها جود إلى فيلمه الذي تحولت فيه (حمص) من مدينة أكبر من مسرح للحدث إلى الحدث بحد ذاته، ليس لأنها حمص بل لأنها من منظور جود اختصار لكل المدن والمناطق المنكوبة في سورية.
الفيلم أصر جود على جعله - محاكاة - للقصة الحقيقية عن العوائل المسيحية التي لم تغادر حمص القديمة عام 2014 وليس توثيق أو تجسيد للحكاية، حين سألته عن السبب خلال النقاش عقب العرض أجاب ( إن وظيفة السينما ليس تجسيد الواقع بقدر ما هو إعادة خلقه وروايته من خلال عيني صانع العمل ورؤياه عنه، وتقديم تلك الرؤية على الشاشة).
رغم قوة موضوع الفيلم وحساسيته ولكن جود لم يختر الجانب السهل بتقديمه من استفزاز للعواطف واستبكاء وصور نمطية ومزاودات وطنية وشعارات وخطابات، بل لجأ إلى أساليب سرد غارقة بعشق السينما تجعل الفيلم قريباً من كل المشاهدين حول العالم ومؤثراً فيهم، فيلم يهاجم الحرب وينتقدها وينتصر للإنسان بالكثير من الكوميدية السوداء التي وصلت للسريالية كتجسيد هو الأفضل للحالة الهستيرية التي خلفها موسم الجنون الذي عصف بالبلد، فيه شيء من محاكاة أفلام الهروب من السجن وشيء من التحية للسباغيتي ويسترن ببعض المشاهد، والكثير من سينما النجاة في الأماكن المعزولة ضمن قصة حب ناعمة بين الاضداد مبنية بشكل جيد بعض الشيء عابتها بعض المواجهات الحوارية التي شابها الكثير من المباشرة والخطابية ولكن خلال مسيرة العمل عادت للتوازن بعض الشيء.
قد يظن البعض إن الفيلم كان منحازاً لجانب أو رؤية معينة للواقع السوري ولكن ما لحظته إن الفيلم لم ينحز سوى للإنسان الذي لم تعد انتمائته أو موافقه تعني شيئاً في ظل موقف كالذي عاشت به الشخصيات، جود لم يبقي نفسه ضمن المنطقة الأمنة رقابياً وإنما اتجه إلى الهوامش الرقابية واستغلها إلى اقصاها ليجعل الفيلم على مسافة واحدة قدر الإمكان من جميع الأطراف المتعارضة دون أن يطرح رؤية سياسية، بل طرح رؤية إنسانية عن التمسك بالأرض وإرادة العيش والعثور على بصيص أمل وشيء من الحب وأسباب للبقاء على قيد الحياة في مكان يستوطن فيه الموت ويلعب به مع شخوصه، هو ليس عن طرف يصارع طرف هو عن الحياة وهي في سباق لاهث مع الموت، مصنوع ضمن تقنية عالية جداً، انتاج سوري ضخم مستثمر بطريقة صحيحة، استغلال موفق للمكان الذي شهد الأحداث الحقيقية وتوثيق لحجم الدمار الذي عاشه، أداءات جيدة من محمد الأحمد و لمى الحكيم، فيلم سوري كان يستحق تسويق عالمي أفضل لولا الظروف السياسية. 


من خلال مشاهدتي لأربعة من أفلام الإنكليزي إيدغار رايت من أصل خمسة طويلة أخرجها منذ عام2004 فإن الشيء الذي لا يمكنني إنكاره إن تلميذ تارانتينو النجيب لم يستطع فقط الحفاظ على مستوى واحد من الجودة في تقديم إعماله، بل إنه مع كل عمل يزداد نضجاً ويطور أدواته ويعزز أسلوبيته الخاصة حتى أصبح له هويته الخاصة المميزة في كل أعماله، يلعن بنجاح بزاوية تقديم أفلام كوميدية وحركية فيها الكثير من التحية والوفاء والأحياء لكلاسيكيات النوع دون أن يقع بفخ السطحية والإبتذال والتكرار بل أفلامه دوماً لها هويتها وطابعها الخاص وقوتها التي تفرض نفسه على المشاهد.
رايت نجح من خلال Baby Driver أن يقدم أنضج أعماله، فيلمه الأقل كوميدية والأكثر درامية ولكن بنفس روح البهجة والسرعة التي اعتدناها وأحببناها، يعلن منذ المشهد الأول عن هوية فيلمه، تحية لأفلام السيارات والسرعة والعصابات (وتحديداً أفلام مارتن سكورسيزي) ولموسيقى الروك الكلاسيكية، النسخة الأكثر بهجة من فيلم نيكولاس وايد ريفين (Drive) ، يصنع من خلال بيبي (أنسل ألغورت) شخصية متينة ومميزة جداً، شاب أنحرف في دروب الجريمة بعد كارثة عائلية كنوع من التعويض والعثور على عالم يحتويه ويقدره ووصل الآن لمرحلة يريد الإنسحاب وتغير نمط حياته ولكنه لم يعثر على العالم البديل حتى دخلت بحياته ديبورا (ليلي جيمز) وأعطته تصور عن مستقبل أخر بعيداً عن الجريمة، مستقبل لن يكون من السهل أبداً أن يحصل عليه.
أنسل ألغورت الذي سبق له وأن شارك شايلي وود بالفيلم الرومانسي الجميل (Fault in our Stars) يقدم هنا أداء ممتاز جداً حركي ودرامي ويعطي شخصية بيبي عمقها الدرامي المطلوب ويجعلها حية على الشاشة سواءً من هدوءه وسيطرته وراء المقود أو إنجرافه مع الموسيقى وإنفجاره بالحياة معها وإظهار حزنه العميق الدفين على والدته ورغبته بالانعتاق وانفتانه بديبورا وصنعه كيمياء ممتازة مع الساندرلا ليلي جيمز. 
إيدغار رايت مبدع ومبهج جداً بصنع عوالم الشخصية وبرسم الشخصيات الثانوية من حوله، يستعين بطاقم تمثيلي قدير (كيفين سبيسي، جيمي فوكس، جون بيرنثال، والنجم التلفزيوني جون هام) ويعطي لكل شخصية مساحتها الخاصة ويصنع لها عالمها الخاص وخلفية مهمة للعمل وينجحون بتعزيز عوالم الشخصية الرئيسية ودفع الحبكة للأمام وتصعيد الصراع، الصراع في الفيلم لا يهدء ويتصاعد للأمام وصولاً لذروة ممتازة على صعيد الدراما وعلى صعيد مشاهد الحركة ممتازة الصنع جداً والممتعة، ويرافقه حوارات جميلة جداً وذكية. 


واحد من الأسرار التي ستبقى عصية على الفهم هي كيف يصنع تيرانس ماليك أفلامه؟، كيف يجعلها منبثقة من دواخل الشخصيات وأفكارها ومخاوفها وهواجسها وأحلامها؟ ، كيف يجعل أفلامه جزء من الحياة الواقعية كأنك تتابع تسجيلات منزلية يدوية لحياة الشخصيات وتسمع تعليقهم الداخلي؟ ، كأنك شخص إضافي كنت معهم تراقبهم أو كأنك تجول ضمن ذاكرتهم تلاحق صور من ماضيهم ونسمع حكمهم عليها.
لم أتوقع شيء اقل من هذا من ماليك في فيلمه الجديد song to song ، كل ما نحبه في سينما الرجل سنراه هنا، الروحانية المفرطة، نبذ العدوانية والوحشية البشرية، التمسك بالأرض والطبيعة، السمة الصوفية الإنسانية التي تصبغ أفلامه، حب الحياة والتمسك بها دون إفراط يحولها إلى سم يفقدنا مذاقها.
ماليك لا ينتقد المدينة وحياة الموسيقى ويهاجمها، يصورها جميلة وساحرة بشكل خاص، ولكنه يهاجم الإنغماس بها، التعلق بها ونبذ أي شيء عداها، يهاجم الغرائزية والحيوانية الإنسانية التي تحيل أي شيء إلى جحيم مهما كان جميلاً وساحراً.
الدور الذي يلعبه مايكل فاسبندر كمنتج موسيقي غارق بالشهوات هو تعبير من ماليك عن تلك الحيوانية التي تحيل الإنسان إلى شيطان يدمر نفسه ومن حوله ويحول أحلام الجميع إلى كوابيس، طوال الفيلم وشخصية فاسبندر تنحدر وتسحب من حولها معها، يلعب بالجميع وبمشاعرهم وأحلامهم وعواطفهم ومخاوفهم بلا شفقة، ككائن طفيلي يتغذى على بواطن الأخرين، يستنزفهم و نفسه، وخسارته هو الأكبر، باقي الشخصيات تعاني حتى بعد أن تبتعد عنه، تبقى تحمل ندوبها منه، تخوض رحلتها الخاصة من المعاناة لتتحرر وتتطهر من الآلم الذي سببها له، تعود إلى جذورها وأصولها، تستلهم القوى من ماضيها وأرضها، لتكتشف أن النعيم ليس بأضواء الشهرة بل بضوء أشعة الشمس على العشب المصفر في يوم صيف.
الاداءات بالعمل جبارة، روني مارا ورايان غوسلينغ ومايكل فاسبندر ونتالي بورتمان يسحرون العين ويأسرون القلب، حضور جميل لكيت بلانشيت، استخدام رائع للموسيقى والأغاني، تصوير يخطف الأبصار.
قد يعاب على الفيلم إنه في القسم الثاني أصابه بعض التشتت وسوء بتوزيع المشاهد بين الشخصيات بعد افتراقها مما سبب بالغياب الطويل لبعض الشخصيات ولكن الفيلم خرج متماسكاً، قد لا تعجب أفلام ماليك الجميع وهذا سبب الإنقسام النقدي الدائم حولها، البعض يعيب عليها روحانيتها ووعظيتها ولا يتقبلون ما يسموه تنظير المخرج عليهم، لأجل هؤلاء أقول جميع المخرجين الكبار يصنعون الفيلم كما يريدون له أن يكون هو رسالته للجمهور، لا يصنع الفيلم حسب توصيات الجمهور، مالك ليس من مخرجي القوالب الجاهزة الفارغة التي ترضي الجميع وتتصدر البوكس أوفس ثم ينساها الزمن، أفلامه للزمن، يصنعها كبوح ذاتي ورسالة فنية أو فكرية يريد تقديمها للعالم وتقبلها من عدمه أمر يعود للمشاهد.


للوهلة الأولى يبدو إن فيلم زياد دويري هذا غارق بالهوية والواقع اللبناني و فوضاه السياسي وإرث الدم والحقد الذي خلفته سنوات الحرب الأهلية، ولكن بظرة أعمق نجد إن الفيلم قادر على التعبير عن حالة الشرق الأوسط ككل، المنطقة التي يتوارث أهلها الزعامات والسياسات والانقسامات والصراعات، شخصيتا طوني و ياسر نتاجا حقب كاملة من إستغلال الزعامات العربية وصراعات دولية ضمن المنطقة كان ضحيتها الإنسان العربي البسيط الذي لم تنصفه السياسة لأنها بالأصل لم تعمل من أجله وما زالت حتى هذه اللحظة وبالمستقبل ساعية لاستغلاله، فيلم جريء جداً بطرحه دون ابتذال، هل الحرب فعلاً انتهت في لبنان أم ما زالت داخل النفوس؟ هل من الممكن أن نعيش بسلام لمجرد أننا ندعي أننا نحب بعض؟ هل فعلاً النفوس العربية قادرة على تقبل اختلاف عناصرها لمجرد إن ذلك ما قاله السياسيون أنه يجب أن يكون؟ وهل من الممكن أن ننهي حقبة لمجرد أن القادة قالوا أنه يجب أن نطوي الصفحة دون أن نعالج النتائج الحقيقية؟ هل يوجد أبطال وأشرار في الحرب أم مجرد مهزومون وفائزون؟ هل السلم والحرب وليدة الظروف والحاجات أم نتيجة إرادات السياسيين؟ إيهما أفضل واقع أمن أم واقع عادل ولماذا لا يمكن تحقيق كلاهما؟ ما الذي يفرقنا حقيقةً وما الذي يجمعنا؟ كم من المآسي يوجد في الواقع العربي غير مآساة الفلسطيين التي لم يسلط عليها الإعلام الضوء لمجرد إنها بضاعة لا يمكن للسياسيين تسويقها؟ فيلم فيه الكثير من الأفكار والطروحات التي يحتاج المجتمع العربي لطرحها، فيه الكثير من الأمور التي يدركها ويعيشها كل عربي ولكن لا يجرأ على قولها رغم إنها تشير على أمراض خفية في دواخل مجتماعتنا و نار تستعر تحت الرماد اشتعلت فجأة في لبنان وبعدها في سورية وغيرها بشكل يظن البعض أنه مفاجئ ولكنه ليس سوى نتاج عوامل طويلة من الصراعات والتصفيات والجهل والطائفية والعنصرية والكره الخفي التي لم يكن أحد يجرأ على الحديث عنها لمجرد أن السياسيين كانوا يظهرون على الشاشات ويقولون أن الأمور بخير.
الفيلم ممتاز جداً كسينما بالأخص من رسم شخصية توني بشكل نمطي وشيطنته ثم كشف حجم الظلم الذي تعرض له، فيه إنحياز من هذه الجزئية لمسيحي لبنان ولكن ليس على حساب فلسطيني النزوح، دوماً شخصية ياسر كانت تظهر كبريء ثم كشيطان ثم يتم إعادة تبرأتها، حتى القصة التي رأيناها على الشاشة والتي من أجلها حصل النزاع تم روايتها وتحويرها بعدة طرق، طريقة ممتازة ليعبر بها دويري عن نسبية الحقيقية، رمادية البشر، وكيف إن السياسة والإعلام تتلاعب بهذه النسبية وهذه الرمادية لتصنع وقائعها الخاص وأبطالها وشياطينها الخاصيين وتقود من خلالها المنطقة والناس لتحقيق مصالحها.
زوجة طوني حامل في بداية العمل ومولدته التي عانت من مضاعفات القيصرية في فترة صراع والدها مع ياسر هي تعبير عن لبنان الذي ولد زمن الصراع ولا أحد يعرف مصيره، في تلك المرحلة كان ياسر يريد إنهاء الحرب مع طوني ولكن الأمور عادت لتتأجج بين كل من طوني و ياسر لأن محاميهما أرادوا ذلك، والذين هم عبارة عن عائلة واحدة ابن وابنته يريدان تصفية نزاعات أسرية قديمة من خلال قضية هذين الرجلين وواضح هنا إلى أين يذهب الرمز، شخصية طوني لم تعي الحرب بشكل صحيح ولكن الحرب غيرت من حياته وتبدو كجرح قديم لم يتهي عنده ويريد معالجته لأن النتيجة لم تنصفه بل عومل كمجرم في حرب الكل فيها مجرمين، لذلك يخوض هذا الصراع ويكرر نحن في حرب، ياسر شخصية نشأت في واقع كله حروب وعايشت كل الخيبات العربية لدرجة أنه لم يعد يقوى على خوض حرب جديدة، ولكن ترسبات الواقع العربي لم ينتهي منه وكونه فلسطيني يحب عليه أن يتحمل أن يكون سبباً و نتيجة ومبرر وسلاح في كل الصراعات العربية التي لم تقدم له شيء سوى تعاطف كاذب يبيض به السياسيون وجوههم، الشخصيتان توحدهما المآساة ويفرقهما المستغل ويتبعهما حشود من الشباب الذين ولدوا بعد الحرب ولكن ورثت أحقادها، شخصية المحامي وابنته تدوران في نفس الدائرة، الأب المحسوب على فريق سياسي ومن القيادين فيه الذي يريد من خلال هذه القضية تحقيق نصر يعوض فيه هزيمة سابقة خاصة، بل يصفي حساباته السياسية القديمة ويحولها إلى قضية يحارب فيها، وابنته التي لم تعي الحرب ولكنها لا تريد أن ترثها، تريد من القضية أن تكون وسيلة لطوي هذه الصفحة وتصحيح المعايير وإنهاء حقبة كاملة دموية وولادة لبنان جديد، القضية تضخمت ووصلت لأعلى المستويات الحكومية العاجزة عن ضبط الأمور وتحولت إلى قضية رأي عام وأوقعت ضحايا واستغلها الكثيرون وتشعبت حتى ضاع معناها الأصلي ولم يعد أحد يذكر لماذا كان هذا الصراع وما فجره، ولم يتمكن أحد أو يشيء أن ينتج حل فقط أن يصعد وأن يأخذ حصة له، بينما الشخصيتان حلتا الخلاف بين بعضهما بالخفاء، وحكم المحكمة إن كلاهما بالتساوي مذنبيين وبريئيين وابتسامات ياسر وطوني لبعضهما في النهاية ربما تحمل شيء من التفاؤل بمستقبل أفضل يمكن بنائه حين أن ندرك أن الأخر ليس عبارة عن خصم سياسي بل هو إنسان ويعاني نفس المعاناة التي نعانينها.


من الواضح إن المخرج تشاد ستاليسكي يطمح أن يكون كوينتن تارانتينو جديد، هو ينقصه الكثير لذلك ولكنه في فيلمه الثاني هذا يضع نفسه على الطريق الصحيح ويفرض نفسه كمنافس شرس لغاي ريتشي وإدغار رايت على لقب خليفة معلمهم الكبير.
فيلمه هذا مبهر جدا" كفيلم أكشن يهدف لإمتاع المشاهد بتقديم التقليدي بصورة غير تقليدية، أحببت جدا" العمل المقدم على صعيد الإضاءة والتصوير و الكوادر، هناك جماليات حقيقة بتقديم الأماكن بالأخص روما وتحويلها بشوارعها وآثارها ومتاحفها إلى حمام دم حقيقي، أحببت جدا" الصورة الجديدة التي لم نسبق أن شاهدناها لنيويورك والتي ابتعدت عن شكلها التقليدي سواء كمدينة تحوي أزقتها قاع الجريمة كما عند سكورسيزي أو مدينة المثقفين والعشاق اليائسين كما عند وودي الين، هنا نيويورك المدينة الحديثة تبدو بعراقة وجمالية وأناقة روما، هناك شغف حقيقي بالأماكن ولكن هذا لا يمنع ستاليسكي من ان يغرقه بالدم، حتى الدم هنا والعنف يبدو إضافة جمالية للمكان لا تشوهه.
هناك صناعة رائعة شبه فنتازية لعالم الجريمة السفلي، رسم جميل واستثنائي للشخصيات، مشاهد أكشن ممتازة ويجعل العمل مشوقا" حتى اللحظة الأخيرة، ولكن الفيلم حتى كأكشن ينقصه الكثير من العمق، مبسط أكثر من اللازم رغم جدية صناعه، لأجل ذلك قلت أن المخرج ينقصه الكثير ليكون تارانتينو الجديد ولكن مع ذلك تبدو النتيجة مقبولة، يعوض خواء القصة وتقليديتها بتسلسل أكشن جميل جدا" لا يتوقف وبناء مبسط مقبول لشخصية جون ويك.
الفيلم مصنوع بروح الفنان السينمائي الشغوف بالسينما، هذا الشغف واضح جدا" هنا ويعطي هوية خاصة لفيلمه وجمالية رائعة، هناك استعارات واضحة لا يمكن انكارها من أفلام جيسون بورن وجيمس بوند والناقل وأنا أسطورة و ماكس المجنون وأقتل بيل (سينما تارانتينو كلها بشكل عام حاضرة هنا) وسناتش وسينما الحركة الأسيوية وتحديدا" افلام الصيني جون وو والفيلم الكوري أولد بوي (مشهد القتال الشهير بلقطة واحدة ستراه هنا عدة مرات) ومدخل التنين لبروس لي (مشهد قتالي كامل في قصر المرايا)، حتى انه استعار من العراب، و يمزج هذا كله بروح ألعاب الفيديو وسينما الوسترن والكوميكس مع روح فكاهة سوداء مبطن، تركيبة عجيبة من الثقافة الشعبية للجيل المعاصر ولجيل السينمائين الذي ترعرع بالثمانينات ممزوجة هنا ليكون الفيلم محببا" للجيلين.
أحببت الفيلم جدا" رغم ملاحظاتي عليه وأكثر ما أحببته هو أنه سيشكل عودة للأسطورة كيانو ريفز، ستاليسكي يستفيد لأقصى حد من بنية ريفز الضخمة وملامحه الدرامية الحزينة الصامتة ( لحسن الحظ أن الشخصية حواراتها قليلة حتى لا يعاني الجمهور من صوت كيانو المزعج ولهجته الغريبة) كيانو شغوف جدا" بهذه النوعية من الأعمال الحركية المنتمية لعالم ألعاب الفيديو والكوميكس أكثر من انتمائها للسينما منذ ما قبل تقديمه لتحفة الخيال العلمي ماتركس، شغفه هنا واضح جدا" ويعطي الشخصية الثقل الذي تحتاجه ويشعرنا بملامحه وصمته بألمها ورغبتها للانعتاق وينجح بجعلها أيقونية به كشخصيته الأشهر نيو ، أحد أفضل أفلام الأكشن التي شاهدتها مؤخرا" ويجعلني اشتاق لمشاهدة أجزاء جديدة منها.


0 التعليقات:

إرسال تعليق