RSS

The AVIATOR - 2004

              



فيلم الطيار لمارتن سكورسيزي ليس مجرد سيرة هاورد هيوز الذاتية بل هو دراسة من نوع جديد لأمريكا فهاورد هيوز كان تجسيداً لأمريكا مغامرة قوية صلبة مع نزوع قوي للتحرر فوق أي عرف أو تقليد، شديدة المخاوف والعقد كهيوز ولها أيضاً جراثيمها الخاصة التي أرقت عيشها وكما كان هاورد يتخلص من جراثيمه الخاصة بالنظافة المبالغ فيها وبالصابونة التي لم ترافقه فقد كان لأمريكا أيضاً صابوتنها الخاصة وكانت تلك الصابونة هي الترسان العسكرية الهائلة من طائرات وغواصات وحاملات طائرات وبوارج وتلك الترسانة كانت تتطور باستمرار ويزداد عددها بشدة دون مبرر سوى الرعب والخوف من جراثيمها الداخلية والخارجية، وكان لأمريكا أيضاً هوسها الخاص بالنساء فالعروض السينمائية الأمريكية والحفلات الراقصة وأي حفل أمريكي يجب عليه أن يمتلئ بملكات الجمال والساحرات فلا يجوز لفيلم سينمائي أن يظهر بدون حسناء شقراء، وكما أصبح هيوز مشهوراً بعلاقاته المتعددة مع حسناوات العالم فإن السينما الكلاسيكية الأمريكية هي أيضاً مشهورة بفاتناتها وجميلاتها فلا أظن أن هناك حداً بهذا العالم لم يسمع عن مارلين مونرو على الأقل، وإلى حد الآن فمن لا يهتم بالسينما الأمريكية ولا يتابعها فلا بد أنه يعرف أنجلينا جولي وكيت وينسلت وغيرهن من حسناوات هوليوود، هكذا هي أمريكا بفيلم الطيار، وهذه هي نظرة لسكورسيزي لأمريكا معقدة غريبة الأطوار لا يمكن لأحد أن يفهمها تتعب نفسها ومن حولها لإرضاء غرورها وطموحاتها الغير محدودة، سكورسيزي كان دوماً يحاول أن يقدم هذه النظرة من خلال أفلامه السابقة ولكن هذه المرة هي الأفضل و الأنجح.


وهو لم يكتف فقط بتقديم هذه الدراسة الغريبة من خلال فليمه وإنما قدم لنا شرحاً وافياً وممتعاً عن حالة أمريكا في الزمن الكلاسيكي قدم لنا صناعة السينما وبوادر تطورها وهوليوود وقوانين الحياة فيها والنجوم وأسلوب عيشهم وقدم لنا العقلية الرأسمالية الأمريكية وتحكمها بالسياسة الأمريكية، قدم لنا اضطراب الأوضاع السياسية وفوضتها بعد الحرب العالمية الثانية قدم لنا اتجاهات الشارع السياسية والخوف الذي صنعه الإعلام من الشيوعية، قدم لنا الاهتمام المرعب من الجانب الأمريكي بالأسلحة وضرورة تصنيعها وتطويرها، وقدم لنا أحد أشهر فصص الحب بتاريخ السينما الأمريكية قصة حب سبينسر تريسي والممثلة كاثرين هيبورن، كل تلك الأشياء قدمها لنا من خلال عيني شخص مريض وغريب الأطوار هو هاورد هيوز الذي ما فتئ سكورسيزي يحلل طلاسم شخصيته المعقدة ويدرس مخاوفها وأمراضها وقد وضع بها كل خبرته بعالم السينما حتى نجح بأن يصل إلى هذه النتيجة السينمائية الرائعة التي يميزها عن غيرها من أفلام سكورسيزي هو نقل أحداثها من نيويورك إلى أقصى غربها إلى هوليوود ولكن لهجة خطابه لهوليوود لم تختلف عن لهجة خطابه لنيويورك فراح يحاكمها ويظهر حساناتها وسيئاتها فالحياة الهوليودية المليئة بالصخب والشهرة والمال والنساء تسحر القاطن فيها وتحوله إلى عبيد لها ولسياستها وإذا حاول أحد ما المقاومة فإنها ستحاربه بضراوة وقد تدمره.

هذه هي النظريات والأفكار التي قدمها سكورسيزي بفيلم الطيار الذي يتحدث كما هو معروف عن المنتج السينمائي المعروف هاورد هيوز الذي هو من أعقد وأصعب الشخصيات السينمائية على أي مخرج كان باستثناء سكورسيزي الذي بدا مرتاحاً بالعمل على هذه الشخصية وعلى تحليلها وشرحها الشرح الوافي ليبرر للجمهور كل صفاته وأفعاله الغريبة، سكورسيزي قدم شخصية هاورد على ثلاث محاور المحور الأول هو محور الخوف من الجراثيم والمحور الثاني الهوس بصناعة الطائرات والمحور الثالث الهوس بالنساء وفي حال دمجنا المحورين الثاني والثالث فسنحصل على الهوس بالسينما، والموازنة بين هذه المحاور هي شديدة الصعوبة بالأخص أن فيلم الطيار تجري بين عامي 1927 و1947 إي منذ دخوله إلى عالم السينما وحتى انتصاره على الإدارة الأمريكية وبناءه لطائرته العملاقة هرقل أما باقي مراحل حياة هاورد وتحديداً مرحلة طفولته وتربيته فقد تجاهلها سكورسيزي ولم يظهر منها سوى مشهد واحد فقط ولكنه شديد التعبير عندما كانت والدته تغسله بصغره ومن خلال حديثها معه مخاوفها من الجراثيم و هوسها بالنظافة، ورغم بساطة هذا المشهد إلا أنه كان بداية ممتازة تمهد لنا طبيعة هاورد الذي ورث الخوف من الجراثيم من والدته فأصبح يستحم سبع مرات باليوم الواحد ولا يلمس أي شيء أو يصافح أي أحد إلا بواسطة منديل ورقي ويرفض أن يشرب من كأس عليه بصمات أصابع بالإضافة إلى الصابونة التي كانت تلازمه بكل حياته وبكل مكان يذهب إليه والتي كان خلال التوتر يغسل يديه بها بقسوة لدرجة وصلت في أحد الأحيان إلى جرح يده، أما المحورين الثانيين الطائرات والنساء فقد وازن بينهما سكورسيزي بطريقة غير معقولة فحب هاورد للطائرات هو الذي دفعه نحو الإبداع ونحو العمل بالسينما وهو يعشق الطائرات ويبذخ عليها بشدة حتى يصل إلى النموذج الأفضل والطائرة الأكبر وحبه للطائرات جعله يتميز بهذه الصناعة وتستعين به الحكومة لصنع الطائرات بالحرب العالمية الثانية وقد جعل منه هذا الهوس عرضةً لحرب عنيفة من ملاك شركات الطائرات الذين شعروا بأن المليونير الشاب جاء ليسحب البساط من تحتهم، أما الهوس بالنساء فقد كان واضحاً من خلال علاقات هاورد الغير محدودة بالنساء لدرجة أن لديه عنبراً بفندق مليء بالنساء المخصصات لراحة هاورد وكذلك فلا يمكن لأي ممثلة أن تحقق نجاح إلا إذا مرت ولاطفت السيد هاورد والذي سيكون بالمقابل كريماً معها، وكان سكورسيزي كما ذكرت بارع بالدمج والموازنة بين هاذين الهوسين بطريقة فريدة تظهر كيف كان هاورد قد قسم حياته بين النساء والطائرات ففي بداية الفيلم نرى هاورد يحلق بطائرته ثم يهبط في موقع تصوير فيلمه ملائكة الجحيم ويتجول بين أساطيل الطائرات وحشود الفنيين الذين يعملون على تصوير فيلمه هذا الذي صنعه لتمجيد الطائرات والمعارك الجوية بالحرب العالمية الأولى، ثم ينتقل بينا المخرج إلى مشهد أخر حيث يدخل هاورد إلى أحد الحفلات المليئة بالنساء فنراه يحدث هذه ويلاطف تلك ويهمس بعبارات الغزل لكل امرأة تقع عليها عنه، وأفضل المشاهد التي دمجت بين هاذين الهوسين مشهد ملاطفة هاورد لعشيقته النجمة كاثرين هيبرن حيث يقوم بتمرير يده عليها بحنان ورقة ولكن ينقطع المشهد بصورة مفاجئة لينقلنا إلى مشهد اختبار هاورد لطائرته العملاقة (هرقل) فيمرر يده عليها بنفس الرقة التي كان يمررها على جسد صديقته، تصوير حياة هيوز الفنية وصراعاته في السينما كان شديد المتعة فقد كان هاورد بعصره ذاك من أكثر المنتجين إثارةً للجدل ولم ينتج فيلماً إلا وأثيرة حوله عشرات إشارات الاستفهام ففيلمه الأول ملائكة الجحيم الذي أستمر بتصويره لخمس سنوات وكان أضخم إنتاج بتاريخ السينما بذلك الوقت راهن الكثيرين على فشله ونصحوا هاورد بالابتعاد عن العمل السينمائي والعودة إلى عمله بالتنقيب عن النفط وراح الصحفيون يسخرون منه بشدة فبعد المدى الطويلة التي أخذها بصنع فيلمه راح أحد النقاد يقول (سيد هاورد هل تريد أن ترينا فيلمك بأحد الأيام ؟!) وبعد الإفصاح عن ميزانية الفيلم والتي كانت خيالية بذلك الوقت (8 مليون دولار) فقد كتب أحد الصحفيين (إذا اشترى كل شخص حي وميت بأمريكة تذكرة لحضور فيلم هاورد فمن الممكن أن يغطي الميزانية) ولكن المفاجأة إن الفيلم ينجح نجاحاً لا مثيل له وتتحول الأقلام التي راحت تنقده إلى أقلام تمدحه، وبمشهد افتتاح الفيلم يتحول سكورسيزي إلى منجم يتنبأ لهاورد بصعوبات عديدة ستعترضه بمجال الأفلام ولكنه سينجح بتجاوزها، فبذلك المشهد وبينما كان هاورد يدخل إلى صالح العرض وأضواء الكاميرات تشرق عليه يتكسر بعض زجاج مصابيح الكاميرات تلك ويتعثر بها هاورد ولكنه يقف مجدداً ويمش بقوة ويتابع نحو صالح العرض حيث سيحقق أكبر نجاح بتاريخ السينما، ويستمر هاورد بإثارة الجدل من خلال فيلمه القادم سكارفيس والذي انتقد بسبب العنف المفرط الذي فيه ولكنه تحول إلى أفضل فيلم حول العصابات يظهر بالحقبة الكلاسيكية، وتستمر أفلامه القادمة بالتعرض للنقد بسبب الإباحية الشديدة التي ظهرت به بالزمن ذاك ولكن هاورد لا يكترث ويتابع بمجال السينما ليصبح فيما بعد رمز لحرية السينما وواحد من الذين نجحوا بصنع للسينما استقلاليتها ومن خلال معارك هاورد السينمائية يقدم لنا سكورسيزي هوليوود بكل تفاصيلها خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي فحاول جاهداً ألا يخفي إي عنصر من عناصر هوليوود وينقدها بشدة بسبب محاولتها الدائمة لفرض القيود على الإبداع اتجاه أشخاص معينين ليسوا مفضلين من الإدارة الهوليوودية وبذلك يرد سكورسيزي الاعتبار لنفسه بعد أن كان هو الأخر من المنبوذين والمحاربين في بداية السبعينات والثمانينات بسبب المواضيع الحارة التي أثارتها أفلامه كسائق التكسي والإغراء الأخير للسيد المسيح، ويسخر هنا سكورسيزي كذلك من هوليوود التي تطورت تقنياً وفنياً بدرجة كبيرة ولكنها ما زالت تتبع الأساليب البيروقراطية البائدة في تعاملها مع صناع الإبداع فيها، إبداع سكورسيزي الإخراجي ظهر بمجالات عديدة حيث حاول سكورسيزي بهذا العامل الاستفادة أكثر من التقنيات الضخمة المتاحة بصنع أسطورته هذه بالحفاظ على سحر التي تضيفه كاميرته الكلاسيكية واللقطات الإيحائية العديدة والرائعة، وكون الفيلم هو عن رائد صناعة الطائرات فلا بد أن يكون الاهتمام كبيراً بلقطات المتخصصة بالطائرات وتحديداً لقطات الإقلاع والهبوط ووضع الكاميرا بحجرة الطيار وتصوير مشهد الحادث الذي يتعرض له هاورد وتصوير صناعة هاورد لفيلمه ملائكة لجحيم وأفضل مشاهد العمل هو مشهد النهاية حيث كان تتمة لمشهد البداية عندما كانت والدة هاورد تغسله حيث راح هاورد الصغير يحدث أمه عن طموحاته المستقبلية عن صنع الطائرات وتصوير الأفلام هنا كان سكورسيزي يسخر من بطله الذي كان يمجده طوال أحداث الفيلم فهاورد حقق كل أحلامه بنا الطائرات وصنع الأفلام وحصد الأموال وأجتذب أجمل نساء العامل وأنتصر على هوليوود وعلى سيادتها ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد ضريبة باهظة وهي الخوف والريبة وتعب الأعصاب والوحدة والعزلة من أي شيء عدى وساوسه القاتلة بالنظافة ، لقد تمكن هاورد من فرض رأيه على هوليوود ولكنه سيعيش وحيداً مع مخاوفه وكوابيسه، شخصية هاورد هيوز تقمصها إبداع النجم الشاب ليوناردو دي كابريو الذي أثبت أنه ممثل من طينة الكبار بأدائه المتمكن لتلك الشخصية الصعبة والمركبة ، كيت بلانشيت أدت شخصية الممثلة كاثرين هيبورن بشكل حساس ورائع أما ألان ألدا فرغم ظهوره القصير بالعمل بشخصية السيناتور الذي يقود الحرب ضد هاورد إلا أن الدور كان متمكناً ومؤثراً على أحداث الفيلم..

0 التعليقات:

إرسال تعليق