RSS

The Constant Gardener - 2005


يكاد يكون المخرج البرازيلي فرناندو ميرليس من أفضل من يقدم القضايا السياسية تعرفنا عليه عام 2003 بفلم (مدينة الله) الذي يسلط الضوء على عالم الجريمة في البرازيل وفي عام 2005 عاد ميليس من حيث بدأ في أفريقيا ليقدم أهم عمل له لحد الآن (The Constant Gardener – البستاني الدائم) الفيلم المصنوع بأموال بريطانية والذي يسلط الضوء على جانب مهم جداً ومعتم عليه من جوانب المشكلة الأفريقية الكبيرة جداًَ وهي مشكلة فساد شركات صناعة الأدوية الغربية في أفريقيا، لا أعرف هل سبب التفات شركات الإنتاج البريطانية بصنع أفلامها نحو القارة الأفريقية سببه شعور بذنب تاريخي كون أن معظم المشاكل التي تعاني منها أفريقية هي بسبب سياسة بريطانية الاستعمارية فيها في القرن الماضي أم أنه استغلال لنجاح هذا النوع بعد الشعبية والنجاح الكبيرين التي حققهما فيلما مدينة الله وفندق رواندا، أم السبب هو توجيه سياسة النقد للسياسية الخارجية البريطانية (والغربية بشكل عام) من خلال الحديث عن أداء البعثات الدبلوماسية الغربية والشركات التجارية والصناعة المستثمرة أموالها في القارة السوداء.
توقيت عرض فيلم البستاني الدائم عام 2005 كان يشكل تحدياً كبيراً فذاك العام هو ربما من أكثر الأعوام التي ناقشت القضايا السياسية الحالية، من مشكلة نزاع في الشرق الأوسط في فيلما ميونخ والجنة الآن أم أخطاء السياسية الخارجية الأمريكية والأوروبية وحقيقة الحرب على الإرهاب في سيريانا والطريق إلى غوانتنامو ثم ظهر الوافد البريطاني البستاني الدائم كرقم صعب في المنافسة على كونه أهم وأفضل فيلم لعام 2005، وإن لم يكن البستاني الدائم أضل فيلم للعام المذكور فهو وبلا أي شك أفضل عمل يقدمه ميرليس لحد الآن فهو لا يقف عند حد معين هو توليفة ذكية جداً بين الإثارة والدراما الرومانسية المفرطة وناقد بشكل لاذع، هو عمل مكتمل فكرياً يخاطب العقل ومكتمل فنياً يمتع العين، البستاني الدائم يطرح قضيته السياسية بشكل ليس تقليدي على الإطلاق فيكشف عنها تدريجياً بأسلوب التحقيق وذلك كله بفضل بناء الفلم على قصة بوليسية وهي اغتيال (تيسا كوالي) زوجة (جستن كوالي) المبعوث الدبلوماسي من بريطانيا في أفريقيا ليسير الفلم على نهج فيلم السبعينات العبقري الحي الصيني لنكتشف أن القصة ليست مجرد جريمة قتل عادية بل هناك شيء أكبر وأخطر يختفي وراءها .فرناندو ميرليس يطرح فيلمه المذكور المقتبس عن رواية جون لي كار التي تحمل نفس الاسم بأسلوب شديد التشويق والجاذبية هو يصدمك بالبداية بجريمة قتل شنيعة ولكنه لا يجعل نقطة انطلاق الفلم من هذه النقطة بل يعود بنا عدة سنوات للوراء ليرينا كيف تم تعرف جستن على زوجته في أحد المؤتمرات الصحفية عن حرب العراق حيث تظهر له تيسا وتبدأ بكيل الاتهامات على السياسة الخارجية البريطانية ويكون هذا الموقف بداية لعلاقة حب بينهما تطور بسرعة جداً حين تعرض تيسا على جستن الزواج من أجل أن ترافقه إلى أفريقيا لتطلع على الوضع هناك، ويتابع لنا الفيلم عرضه للأحداث من لحظة زواجهما حتى لحظة اغتيال تيسا ويكون ذلك العرض من وجهة نظر أحادية هي وجهة نظر جستن ، فنكون نشعر كشعوره بأننا نعرف كل تفاصيل نشاطات تيسا ولكن ومع سير التحقيق سنكتشف بأننا لن نكون نعرف سوى أكثر من 10% ونبدأ مع جستن رحلة اكتشاف جديدة ليتعرف على حقيقة زوجته والجانب المجهول من حياتها ويتعرف أيضاً على الوضع المآساوي الحقيقي في أفريقيا الذي كان غافلاًً عنه أغلب الوقت.
جمالية عرض البستاني الدائم هو أنه لم يكن جامداً صارماً فقط ستشعر بعنصر إنساني طاغي عليه سترا تطور علاقة تيسا وجستن من علاقة زواج مصلحة إلى علاقة حب حقيقية، سترى تغير جستن من شخص غير مكترث بما يدور حوله إلى مناضل من أجل الحقوق المدنية، والأهم من ذلك ستلمس ذلك الحب الكبير الذي كان يشعر به فينز نحو زوجته وستلمس أيضاً الألم الكبير الذي عاناه لحظة فقدها، وسنلمس أيضاً (وهذا الأهم) الشعور الكبير بالخسارة الذي عاناه عندما تعرف على حقيقة زوجته، هو كان يحبها جداً في البداية ولكن وعندما تعرف على الجانب الأخر بحياته الجانب الأكثر نبلاً وتضحية وأدرك كم كانت تحبه بعد موتها أدرك حجم الخسارة الكبيرة التي خسرها، لذلك رأيناه خلال أحداث العمل وبعد أن تعرف على حقيقة زوجته ينتحب عليها أكثر من اللحظة التي وصله بها خبر موتها، فيرناندو ميرليس أخذ وقته كاملاً بعرض حالة الانهيار التي كان يعاني منها جستن ليقنعنا بحجم الآلم الكبير الذي عانا منه وليبرر لنا بالتالي كل الخطوات القادمة التي سيخوضها جستن بحثاً عن حقيقة مقتل زوجته ليكتشف معها حقيقة ما يدور حوله من مشاكل ومآسي تعاني منها القارة السوداء، ومن هنا كان اختيار الممثل البريطاني الكبير رالف فينيز ليقوم ببطولة العمل اختيار موفق جداً فملامح فينيز البريئة وشكله المهيوب سيقنعك بأنه مناسب جداً لدور الدبلوماسي العاشق البعيد عن الخبث، وكذلك فقد كان ميرليس ذكياً حين وضع ثقته براشيل ويز لتؤدي ذلك الدور والصعب جداً دور المرأة الضائعة بين القضية التي تدافع عنها وبين حبها لزوجها وحياتها الأسرية ، ولكن أنجح خيارات ميرليس وأذكاها هو اختياره لمواقع تصوير العمل حيث لم يدخل إستديو ولم يجلب كومبارس بل نقل طاقمه وعدته إلى أفريقيا الحقيقية وتحديداً في كينيا ليصور لنا بصورة واقعية ومجردة وحقيقة المشكلة الأفريقية وتلك المآساة الإنسانية الفظيعة بلا رتوش أو افتعال أو تقليد بل صورة حقيقية وتوثيقية وواقعية جداً فشاهدنا معه الفقر التخلف العرقية الجريمة المرض الجهل الذي تعاني منه أفريقيا وكأن ميرليس يريد أن يقول أن هذه المشاكل هي المشاكل الظاهرة ولكن هناك مشاكل أعظم مخفية الكشف عنها سبب مشاكل عديدة، ومن هذا المنطلق كان اختيار فرناندو ميرليس لرواية البستاني الثابت أفضل اختيار له من بين كل اختياراته السابقة فقد تعامل معها بشكل ذكي جداً استفاد منها ونجح بتقديمها أفضل وجه قدم ما أراده الكاتب منها وما أراده ميرليس نفسه عرف كيف يحولها إلى عمل مشوق ورومانسي وسياسي بحت لا عجب أن يكون اقتباسه لهذا الرواية من أهم الاقتباسات في عام 2005 وأهم ما فعله ميرليس باقتباسه هذا هو عودته به إلى موقعه كواحد من أهم المخرجين المعاصرين بعد الكبوة التي كباها بإخراجه لفيلم الرعب الفاشل تجارياً الماء المظلم، ولكن الأهم من ذلك أن فرناندو ميرليس لم يشأ من عمله أن يكون مجرد عمل فني ضخم بل أراده أن يكون صرخة ضد الانتهاكات التي تقع بإفريقيا وقصيدة رثاء حقيقية للقارة التعيسة فمع تقديم ميرليس للصور الشنيعة في أفريقيا كان هناك أيضاً تقديم لصور طبيعية شديدة الجمال عن أفريقيا والطبيعة الأفريقية الرائعة، مشاهد عديدة أخذت لتصوير الطبيعة الأفريقية الغابات الطيور البحيرات الصحارى لوحات طبيعية حقيقية شديدة الجمال، لقد أراد ميرليس أن يرينا كم كانت أفريقيا جميلة قبل أن تدخلها الشركات الغربية بنية الأعمار فأحلت الهدم فيها، وكأن ميرليس من هنا يرسم لنا توقعاً لمستقبل العراق التي دخلتها الجيوش الأنغلو – أمريكيا بنية أحلال السلام والديموقراطية ولكن لم نرى شيئاً من هذا ومن هنا فقد كان مشهد تعرف تيسا على جستن ليس بغاية عبثية أو لمجرد تعرف البطلان بل كانت رسالة أخرى أراد ميرليس تقديمها.بالإضافة إلى أبداع ميرليس بتقديم الصور الواقعية الطبيعية فقد كان متفنناً ورائعاً باستعمال الكاميرا وتحريكها، ميرليس استعمل أسلوب الكاميرا المحمولة وراح يحرك الكاميرا بسرعة كبيرة صانعاً شعوراً بالتوتر والارتباك واكبت أحداث العمل المربكة والخطيرة والمثيرة جداً في العمل، ومع لقطات الفلاش باك وتصوير لحظات الضعف والانهيار لدى أبطاله وأدارته الموفقة لنجومه نرى بأن ميرليس قد قدم اكتمالاً إخراجية مذهلاً جداً لم يلقى للأسف التقدير الذي يستحقه في زحمة المهرجانات ، ولكن مع ذلك فقد لقي الفلم تقديراً خاصاً للناحية التمثيلية تمثلت بفوز بطلته راشيل ويز بجائزتي غولدن غلوب وأوسكار أفضل ممثلة مساعدة، راشيل ويز فازت بالجائزتين عن استحقاق هي قدمت فعلاً الدور الثانوي الأنثوي الأفضل لعام 2005 نجاحها بالانتقال المستمر بين ثوب المرأة الرومانسية العاشقة الرقيقة وبين ثوب المرأة المناضلة، ظهورها بمظهر القوة خلال تحديها للسفير البريطاني ولرئيس الوزراء الأفريقي ثم انهيارها وضعفها عندما علمت أنها مستهدفة وهناك من ينوي التخلص منها، وداعها الأخير لجستن قبل قتلها ومحاورتها التعبير عن حبها له من خلال نظرة العيون وبدون قول أي كلمة أو الإفصاح عن الخوف الكبير الذي يعتريها، نظراتها المملوءة حنان عندما تقوم باحتضان طفل أفريقي مريض، ونظرات الغضب والحنق العميقة التي ترتسم على وجهها عندما ترى فتاة أفريقيا مريضة لا تحصل على العلاج اللازم، قد يكون من الغريب أن أقوم سابقاً باختيار ويز كأسوأ ممثلة مساعدة عن فيلم كونستانتين الرديء جداً ثم أعود وأختارها كأفضل ممثلة مساعدة عن فيلمنا الحالي !! .رالف فينيز قدم أداء جيداً جداً من خلال دور الدبلوماسي البريطاني جستن، هذا الدور برأي شكل عودة قوية له بعد غيابه لسنوات طويلة عن ساحة الأدوار المهمة ، أداءه بهذا الدور هادئ ومتزن وعاطفي جداً ، رالف فينز ناجح بدرجة ممتازة جداً بتقديم أوجاع الشخصية وآلامها والانتقال بالشخصية بعدة حالات بين لحظات السعادة المفرطة عندما يكون بجانب تيسا نظرات الخوف العميقة عندما ينتظرها أثناء تأخرها ثمة نظرة الصدمة المذهلة التي ترتسم على وجهه عندما يصله خبر موتها وعندما يشاهد جثتها محترقة بذلك الشكل المقرف، صحيح بأن رالف فينيز لم يقدم الأداء الأفضل بالعام الماضي بوجود فيليب سيموري هوفمان وديفيد ستراثيرن وترينسي هاورد وراسل كرو وجاكون فونيكس ولكن أداءه يدخل بين قائمة أفضل الممثلين لعام 2005 .
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق