فيلم خطاب الملك للمخرج توم هوبر ليس فيلمي المفضل لعام 2010 ولكن كلما أعدت مشاهدته شعرت إن الفيلم لا يستحق فقط الترشيحات الإثنا عشر الأوسكارية التي نالها بل يستحق الفوز بها جميعاً، فيلم عظيم كلاسيكي فريد من نوعه هارب من زمن التحف الخالدة ومستقر بزماننا ليعيد الثقة – حسب قول أحد النقاد – بسينما اليوم، هو من نوعية هاورد أند وبقايا النهار وأماديوس وذهب مع الريح ورقص مع الذئاب وقائمة تشاندلار ولورانس العرب أحد تلك الأعمال التي تلامس الروح الإنسانية وتهزها بشدة وتنعشها إلى أقصى حد وتبهر المشاهد بكل تفصيل دقيق فيها من ملابس الكومبارس وحتى الصورة العامة كاملةً.
مع التسويق لهذا العمل لم ابني عليه آمال كبيرة قبل مشاهدته، القصة لم تجذبني أبداً علاقة بين الملك جورج السادس وطبيب لعثمته في زمن الحرب العالمية الثانية زمن هتلر وتشرشل !!، تجاهل كل ما في تلك الحقبة من أمور أهم وأكثر جاذبية وشخوص أكثر تعقيداً والاتجاه نحو قصة مغمورة لم يهتم بها أحد من قبل، ثم كان اختيار الممثلين كولين فيرث بالدور الرئيسي وهو الشهير بظهوره بأدوار ثانوية بأفلام شهيرة (شكسبير عاشقاً المريض الإنكليزي) و لم يقدم دوراً رئيسياً مهماً سوى عام 2009 كشاذ كسير القلب، لماذا لم يتم اختيار رالف فينز للدور؟ الآمال تحسنت قليلاً مع وجود جيفري راش و هيلينا بونان كارتر ولكن المخرج لم يدفعني للحماس توم هوبر اسم طازج جداً حقق نجاحاً استثنائياً في التلفزيون مع بول جيماتي وتمويل توم هانكس بموضوع سياسي وسيرة ذاتية ولكن ليس له تاريخ في السينما، هذه العوامل كلها جعلتني لا أتوقع إن يكون لهذا العمل وجود مع أعمال داني بويل ونولان وارنوفسكي و فينشر والكوينز والكثير توقع ذلك ولكنني مع الجميع غيرنا نظرنا بعد المشاهدة، العمل نجح بتجاوز تلك الأعمال جميعاً تقريباً دخل ضمن جميع ترشيحات الجوائز الهامة واستحوذ نجمه فيرث على أغلب جوائز التمثيل، نال اعتراف النقابات الأمريكية الأهم (ممثلين مخرجين منتجين) نال تكريم استثنائي في بلده بريطانيا مع اكتساحه جوائز البافتا بشكل لم تحققه الروائع البريطانية الأهم في السنوات السابقة (الملكة ، التكفير ، المليونير ) ثم صدارة ترشيحات الأوسكار برقم قارب به أرقام سيد الخواتم و التايتنك رغم إنه ليس فيلم مؤثرات بصرية.
قد يستغرب المشاهد حول سبب كل هذا الاحتفاء العجيب بهذا العمل رغم عدم أهمية قصته، حالة تشبه ذلك الفتور ثم الإعجاب الجارف بفيلم الملكة عام 2006 فلم تكون الخطوط الرئيسية للعمل يومها (تعامل الملكة اليزابيث مع مقتل مطلقة ابنها الليدي ديانا) تغري المشاهد ولكن بعد عرض العمل تبوء مقعده كأهم أفلام عامه، والسبب الذي جعل فيلم اليزابيث يرتقي بهذا الشكل تكرر مع فيلم والدها جورج السادس ولكن بشكل أكثر عظمة، فحالة البحث عن الشخصية الإنسانية وراء الثوب الأيقوني للشخصية التاريخية وتقديم التعقيد البشري للعلاقات بين الشخصيات وصل هنا إلى شكل ربما لم تتخيل السينما إنها قد تصل إليه يوماً، عمل مبهر كيف تحولت مشكلة جورج السادس بلفظ الكلمات إلى نافذة للدخول بعمق نحو مشاكل الطفولة ، العلاقات الأسرية بمساوئها و إيجابيتها ، الصداقة الحقيقية ، تحقيق الإنجاز، معاني البطولة ، ولمس مدى المسؤولية المعلقة على حمل لفظ ملك .
العمل يحمل بداية شديدة الجمالية مع تحضيرات دوق يورك البيرت – جورج السادس لاحقاً - (كولين فيرث) لإلقاء كلمة نيابة عن والده جورج الخامس ، تصوير – بشيء من الكوميديا السوداء المحببة والممتازة التي يمتلئ بها العمل– لمدى أهمية المذياع وخطورته والرعب الذي يثيره بقلب البيرت الذي يستعد لخوض أصعب تجربة عليه وهو المصاب باللعثة، زوجته (هيلينا بونان كارتر) واقفة إلى جانبه تحاول شد أزره وحين يفشل بخطابه فشلاً ذريعاً وينظر له الجميع نظرة مخيبة للظن تنظر له زوجته نظرة إشفاق وعطف، وبعد فشل كل الوسائل تلجأ إلى ليونال لوك (جيفري راش) الممثل المسرحي الفاشل وطبيب النطق الذي يتحمل مسؤولية علاج البيرت.
العلاقة بين ليونال وبيرتي هي ربما من أجمل علاقات الصداقة السينمائية على الإطلاق وأفضلها بناءً مع خجل بيرت الزائد وخوفه من التعبير عن نفسه واستفزازية ليونال المستمرة له لينطلق معدنه الحقيقي للخارج يدخل العمل ضمن جو من الكوميدية الإنسانية الرائعة و المضبوطة حين يعري توم هوبر الشخصية السياسية البطولية ليظهرها إنسانية بشكل بحت تغضب وتحزن وتشتم وتنهار وتصرخ تقوم بحركات وأمور مضحكة حتى بالنسبة للعامة ولكنها بنفس الوقت ليس مهللة أو مثيرة للسخرية، توم هوبر يدخل إلى أعماق جورج السادس وبلامس أضعف مناطقه وأكثرها حساسية ويقدمها للمشاهد بشكل لا يجبرنا فيه على الإشفاق عليه أو الرثاء له بل التعاطف معه بشكل يليق بشخصية ملك محبوب وله تاريخ بطولي مشهود.
هذا التوازن الدقيق والعجيب الذي قدمه هوبر بين أهمية احترام شخصية الملك وتقديمه بأضعف حالاته بنفس الوقت يزيد من تقديري للعمل وإعجابي به ولكن تقديري يزداد حين أراقب كيف تعامل هوبر مع جميع شخوص العائلة الملكية بنفس الطريقة، تشعر بأنه حين قام بصنع عمله المبهر هذا لم يكن ينظر إلى العائلة المالكة البريطانية بل يتعامل مع عائلة عادية جداً كتبت سيرتها بقلم شكسبيري وروح بريغمانية ولكن بعيداً عن التراجيدية والكآبة فكل ما تعرفه بالعائلات موجود ضمن قصر بينغهام الخلافات الأخوية المشاحنات بين الأب وابنه احتضان الأبناء التقرب للفتيات الشجارات الطفولية ملاطفة الزوجات بطريقة عامية، هوبر لم يترك أي حاجز بين رهبة اسم العائلة المالكة وبين المشاهد يعمل بجرأة شديدة – دون إهانة أو تجريح – ليرينا كم هم بشريين بشكل لا أذكر إنني شاهدته بعمل سيرة ذاتية سياسي من قبل ، وأكثر ما يبرع فيه هوبر هو الدخول إلى عمق الخلافات الأخوية المتسربة بين ديفيد (غاي برينس) و جورج السادس يصنعها ويقدمها بعبقرية لا تقل عن عبقرية صنعه لعلاقة الصداقة بين جورج و ليونيل، يشرح حقيقة فكرة الأخ الثاني الذي يعيش دوماً بظل أخيه الأكبر المهمش غير المسموع صوته وغير المبني عليه أي أمل مستقبلي، بل أكثر من ذلك هو متعرض دوماً للهجوم الممدوح من أخيه وأبيه علّه ينجح بأن يتخلص من ضعفه ويثور ويصبح أقوى ولا يبقى مصدر عار لعائلته واسمها العريق.
شخص عاش بتلك الظروف وتحت تلك الضغوط يرى نفسه مختاراً فجأة ليكون هو الملك وفي أحد أكثر الأوقات صعوبة بالتاريخ هوبر ومعه فيرث بأدائه الراقي يجعلان المشاهد يلمس بعمق مشاعر الخوف والخشية التي تجتاح الملك جورج حين علم بذلك النبأ الصاعق الذي يفترض أن يكون مفرحاً لغيره فهو لا يعرف كيف ينطق خطابه بشكل صحيح فيكف سيحكم إمبراطورية تعاني من تهديدات بالفناء، هوبر لعب على تلك النقطة بشكل شديد الجمال هو فعلاً يركز على تلك النقطة يرينا الخوف والتردد بعين جورج السادس وبعين كل من حوله ولكنه وضمن إشارات خفية يرينا لماذا جورج جدير بالعرش وقادر على تحمل أعبائه فحين وفاة والده جورج الخامس ينهار ديفيد الملك الجديد ولكن جورج يحافظ على صلابته بل إنه في أقرب فرصة يتابع دروس التلعثم الخاصة وحتى تلك الدروس يظهرها هوبر بشكل بطولي تعبير عن جرأة جورج ورغبته بأن يصبح أفضل ويتجاوز إعاقته ليكون جديراً بالعائلة، ثم تعامل جورج مع أزمة شقيقه السياسية و رهبته من أن يكون ملك وتقديره لمعنى تلك الكلمة أكثر من أخيه بما تحمله تلك الكلمة من تحديات وأعباء صعبة يشعر بها حين ينظر إلى صورة أسلافه الملوك العظام محاولاً البحث عن موقع له بينهم، هذه العوامل مع تصوير سلوك ديفيد غير العابئ بمنصب الملك والتركيز على أخطائه ليس فقط زواجه بل تعامله السياسي بشكل عام يعطي كله مبررات مقنعة ليكون جورج هو الملك الأجدر.
لحظة إلقاء خطاب المعركة ضد هتلر يصوره هوبر بشكل عظيم ليس فقط لحظة ملهمة بحياة أمة بل أيضاً لحظة بطولية خاصة لا يستطيع المشاهد أن يمنع ذلك الشعور بالحماس والشغف أن ينتابه مع ألقاء جورج لخطابه، نفس الشعور الذي ينتاب المشاهد مع تدريبات روكي بين أبناء حيه قبل مباراته المنتظرة سينتاب المشاهد هنا رغم إننا لا نتحدث عن مباراة رياضية بل عن إلقاء خطاب ولكن هوبر مع بنائه الممتاز لتلك اللحظة طوال العمل جعلنا ندرك مدة صعوبة تلك اللحظة وأهميتها بحياة جورج السادس بل إنه يتجاوز جورج السادس ليجعلها لحظة قومية هامة جداً، قد يتسائل المشاهد ما أهمية دور جورج المقتصر على إلقاء خطابات في المعركة في حين إنه لا يقوم بدور سياسي أو عسكري فعال كتشرشل أو باتون ، لحسن الحظ إن هوبر سأل نفسه هذا السؤال أيضاً وأجاب عليه مركزاً على أهمية الخطابات كمعركة إعلامية في الحرب تصوير خطابات هتلر وانفعاله وتأثيره بجيشه وتحميسه للمعركة وتصوير مشاهدة جورج له بشيء من الإعجاب و الخوف ألا يستطيع أن يقوم بنفس هذا الدور بالمعركة أن لا يستطيع أن يظهر تعاطفه مع شعبه والتحامه معه بل أن يتحول إلى أضحوكة ومصدر خزي لشعب يمر بامتحان صعب، إن قدرة جورج على تجاوز لعثمته أثناء إلقاء الخطاب صنع لحظة وطنية هامة بالتاريخ و لحظة درامية هامة بالعمل فذلك الملك الذي كان مصدر سخرية بسبب لعثمته تجاوز تلك الإعاقة وظهر قوياً ليواجه تلك الظروف ملهماً شعبه ليتجاوز ضعفه والتحديات التي تواجهه لخوض المعركة الأهم، ويستطيع هوبر من هذه اللحظة أن يقدم لحظة كلاسيكية في تاريخ السينما لحظة فعلاً ملهمة ومؤثرة لكل مشاهد عن الإمكانيات الداخلية الدفينة عن تحدي الخوف والعجز عن القدرة على تجاوز التوقعات والثقة بالنفس وإمكانياتها وما يمكن أن تحققه لا للشخص بل لكل من حوله وربما لأمة كاملة.
كان من الممكن لهوبر أن يقتصر في عمله على بحث جورج عن ذاته وتجاوز مشكلته وعلاقته مع شقيقه ليصنع عملاً رائعاً ولكنه يصر على التركيز على الصداقة والتفاعل بين جورج وليونيل بشكل يجعلها محور العمل ويزيده حيوية ورقة، ليونيل الذي يدرك إن مشكلة جورج ليست جسدية بل نفسية وحين يعاشره يؤمن بهذا الشخص أكثر من إيمانه بنفسه ويحاول جاهداً أن يكشف حقيقة جورج له أن يريه مقدراته والإمكانيات التي يتحلى بها ولكن تبقى صعوبات عدم ثقة جورج بنفسه تمنعه، ليونيل يحاول جاهداً طوال العمل كسر الحاجز بينه وبين الملك أن يكون صديقاً له ليستطيع الوصول إليه وتحريره مما يعانيه يحاول تارةً مسايرته كطفل ثم استفزازه يقدم له ما يريده من ولاء لينجح بكسب ثقته وإطلاعه على أعمق أسراره التي لا يعرفها أحد حتى ينقذه منها، هوبر بتصويره العميق والراقي لتلك العلاقة الرائعة يتجرأ ويدخل وراء دوافع ليونيل التي تجعله يصر على إلهام جورج بقوته، هو يشرح بشكل مقتضب ووافي دون أن يشتت العمل مشاكل ليونيل الخاصة أيضاً التي يخلصه منها وصول الملك إلى حقيقته، فليونيل الممثل المسرحي الفاشل الذي يستغل مهاراته الإلقائية لمساعدة الناس بعد أن خذلته على المسرح، هو الأخر يعاني من ذلك الرهاب الذي يعانيه جورج ولكن على المسرح ولم يجد أحد ينقذه منه وبنفس الوقت يصر على إنه ممثل مسرحي مهم ولكنه لم يجد فرصته بالأخص بين عائلته نراه بين ولديه الأول يحبه جداً ولكن الثاني وهو المميز لدى والده الطفل العبقري غير مكترث له ولمسرحه مما يجعل من إنقاذ جورج فرصة لليونيل ليظهر بشكل هام أمام أولاده بالأخص الذكي بينهما.
العمل يجعل من مهمة شرح جوانب عظمته الفنية أمر صعب ، هو لم ينل 12 ترشيح للأوسكار من فراغ فكل ما فيه متقن تفاصيل الأماكن الأزياء التسريحات المونتاج العظيم التصوير الأنيق الموسيقى الفاخرة لا يمكن أن تعثر في العمل على ثغرة فنية وروح العمل تزداد مع عظمة الأداءات التمثيلية فيه، كولين فيرث بدور الملك جورج عبقري جداً، ربما لا أحب هذا الممثل ولا أفضله ليكون أفضل ممثل لهذا العام بوجود خافيير بارديم ولكنني سأصفق له حين ينال الأوسكار على الجهد الجبار الذي يبذله بعمله هذا هو لا يتمسك فقط بالشكل الخارجي الصعب للشخصية بل يغوص إلى أعماق الشخصية يظهر لنا الضعف والحيرة والتضارب الذي يعيشه يرينا كيف أن الكلمات العالقة بحلقه تريد أن تخرج ولكن لا تستطيع، حفاظه على ذلك الكاريكتر الصعب المشدود دائماً يجعلك فعلاً تقدر هذا الممثل فهو يشعرك إن العالق بحلقه ليست كلماته فقط بل شخصيته كاملةً مربوطة وتريد التحرر.
جيفري راش في أفضل حالاته منذ أدائه الأوسكاري في شاين ، حيويته المعهودة ولطافته المعتادة وإتقانه الاستثنائي حاضراً بهذا العمل بتوهج لا تستطيع ألا تلاحظه تشعر أن الدور خلق له ومرسوم لأجله، قد تتخيل رالف فينز أو دي لويس أو هيو غرانت بدور جورج السادس وقد يبدعون أكثر من فيرث ولكنك لن تستطيع تخيل أحد آخر بدور ليونيل سوى جيفري راش أو يبدع بالدور مثل جيفري راش.
إحدى ممثلاتي المفضلات هيلينا بونان كارتر تقدم أداء مسيرتها الرائعة في دور زوجة جورج السادس، هيلينا المتألقة بالعديد من الأدوار سابقاً (غرفة مع اطلالة ، هاورد اند ، نادي القتال ، سويني تود) تقدم هنا أحد أكثر أدوارها متانة وقوة وعفوية ذلك الظل الدائم للملك والحامية له والوحيدة المقدرة لصعوبة الحالة التي يعيشها والمتعاطفة معه لا المخذولة به، ربما لم تأخذ شخصيتها تلك المساحة المستحقة ولكن هيلينا أعطتها ما تستحقه من أداء شديد الجمال، في العمل هناك غاي برينس بدور جيد لدور الملك ديفيد رغم إنه غير مناسب للدور وصغر سنه واضح ولكنه يضيف للممثل مشاركة جديدة جيدة ولو قصيرة إلى جانب أعمال هامة أخرى (سري لوس انجلوس ، ممينتو ، هرت لاكر، مملكة الحيوانات).
0 التعليقات:
إرسال تعليق