RSS

doubt - 2008


منذ بداية عام 2008 وعينيّ كانتا مسلطتين على فيلم واحد هو ( الشك – Doubt ) فهو الوجبة السينمائية الأكثر إغراءً بالنسبة لي كما كان فروست نيكسون، فيلم مسرحي الهوية كونه مأخوذ عن مسرحية ناجحة يقوم ببطولته طاقم تمثيلي مبهر، الأسطورة ميرل ستريب والرائع فيليب سيموري هوفمان و الموهوبة إيمي آدمز وفيولا ديفيز بأداء ممدوح من الجميع والإخراج تولاه كاتب المسرحية ومخرجها جون باتريك شانلاي وهو يعالج موضوع هام ومفضل بالنسبة لي فلسفة الشك وآثاره النفسية على الإنسان وتجسيد للصراع بين التجديد والتقليدية، ولكن مع ذلك كان لدي (شك) بأن الفيلم ربما يكون كغيره من أفلام العام محتفاً به إعلامياً بشكل مبالغ فيه ولكن وبعد المشاهدة وجدت إن الفيلم (رغم كل النجاح الكبير الذي حققه) إلا إنه لم يلقى المديح والنجاح المستحق هو عن جدارة من الأفلام الكبيرة جداً لهذا العام وأحد روائع هذا العقد عن جدارة، عمل مبهر بكل جوانبه متماسك قوي عميق فلسفي إنساني ومتقن جداً، النص من أفضل النصوص التي حوتها الأفلام الإخراج يطول الحديث عن أمجاده والأداء التمثيلي أكبر من التعليق يكفي أن نتذكر أن البطولة لميرل ستريب الممثلة التي عرفناها أسطورة منذ بداياتها في صيد الغزلان وكريمر يواجه كريمر الفائزان بأوسكار أفضل فيلم في نهاية السبعينات والذي أتبعته بالعديد من الروائع منهاتن أختيار صوفي سكالوود إمرأة الملازم الفرنسي خارج أفريقيا جسور مقاطعة مدسن واقتباس والساعات ومازالت حتى اليوم مستمرة بنفس الطاقة التي بدأت بها قبل ثلاثين سنة بعد أن خبا نجم كل أبناء جيلها الذهبي تقريباً، وإلى جانبها فيليب سيموري هوفمان الرائع البعيد عن كل التقاليد الهوليودية من حيث الشكل والمسيرة فهو ليس النجم البهي الطليعة الذي يجذب الجمهور للشاشة وليس الممثل الشره للربح المادي رغم بدانته مما قد يدفعه بقبول أي دور هو ممثل قدير عن جدارة رغم صغر سنه يعرف أين الدور المهم وأين الفيلم المهم فعلى طوال 13 سنة كان يقوم بأدوار ثانوية هامة ومتنوعة في أفلام هامة وكبيرة فنياً وليس تجارياً وبدأ أروع بداية حين قام بدور الشاب الثري المتعجرف في عطر إمرأة وشارك بفيلمي بول توماس أندرسون (بوغي نايت وماغنوليا) وبفيلمي توني مانغيلا (السيد ربلاي الموهوب وجبل بارد) وشارك بفيلم الكوينز (لابوسكي الكبير) وبفيلم كاميرون كرو (تقريباً مشهورين) وبفيلم ريدلي سكوت (التنين الأحمر) حتى حاز بعد صبر على الدور الأروع والأهم لهذه المرحلة وهو دور ترومان كابوتي الذي أكسبه أوسكاراً مستحقاً لم يتوقف بعده بل اتبعه بالأدوار الرئيسية الهامة فقام ببطولة فيلم سيدني لوميت (قبل أن يعرف الشيطان إنك مت) و (السافاج) وفيلم مايك نيكولز (حرب تشارلي ويلسون) الذي أكسبه ترشيحه الثاني للأوسكار، وربما بعد أن نراجع مسيرة هذين النجمين سيكون علينا أن ندرك طبيعة الفيلم المقبلين على مشاهدته وأن نخمن المستوى الذي سيظهر به دون أدنى (شك).


 
الفيلم يدور في الستينات في مدرسة دينية تديرها العجوز الصارمة الأخت ألوشيوس (ستريب) والتي تواجه إدارتها للمدرسة تحد خطير من قبل الأب الشاب المتحمس فلين (هوفمان) المحمل بطموح الشباب الجامح للتغير والذي تقف دوماً بوجهه ألوشيوس التي تنجح بزرع الشك في صدر الأخت جيمز (أدامز) لتوجه اتهام خطير لفلين دون أن تكون متأكدة من صواب ما تقوم به إلا ألوشيوس تصر على ذلك الاتهام وتجعله يقيناً بالنسبة لها ولا تسمح للشك أن يعكر قناعتها بأن الأب (فلين) خطر على المدرسة ، ووراء هذا النزاع يقدم شانلاي فلسفته حول الصراع الأزلي بين التقليدية والتجديد بأسلوب رمزي في غاية الإبداع حيث كل العناصر تقود هذا التجسيد العبقري الاختيار الزمني للأحداث في الستينات عصر الثورة والتغير والحقوق المدنية، المكان وهو المدرسة الدينية رمز التقليدية والصرامة الشخوص المتمثلة با لأخت ألوشيوس العجوز التقليدية الصارمة الأب فلين الشاب المرح المتحمس، موضوع النزاع وهو (ميلر) الشاب الأسود الذي آثار دخوله للمدرسة جدلاً كبيراً وساحة النزاع الحقيقية وهي الأخت جيمز الشابة البريئة المتحمسة الضائعة بين طموحها أن تكون كقدوتها الأخت ألوشيوس قوية وصارمة وبين قناعتها ورغبتها الحقيقية بأن تكون كـالأب فلين حنونة ومتحمسة.

الفيلم مبني بإتقان وتماسك عجيبان الصراع الدرامي المذهل بين الشخصيات يذكرني برائعة كازان (عربة ت
 دعى الرغبة) صراع مكتوب على الورق بعناية شديدة وضمن خطوات تطور مذهلة منذ اللحظة الأولى لا يتوقف فقط على القوة المسرحية المكتوبة بل إن شانلاي بعبقريته يستفيد من كل الامتيازات التي توفرها السينما ليعبر عن النزاع بصرياً دون إهمال الجانب المسرحي ، توازن رائع جداً يجعل الفيلم محبباً ومفضلاً لمحبي المسرح الجاد أو لمحبي السينما الجادة لنراقب مشهد البداية وافتتاح العمل بخطبة الأب فلين القوية والمؤثرة حيث جميع أعين الحاضرين في الكنيسة متعلقة به وتستمع له بخشوع بينا ( الأخت ألوشيوس ) تدور بين المقاعد كوحش وتؤنب الأطفال الغافلين عن الخطبة بأسلوب قاسي مقدماً لنا أفضل تقديم لشخصية في فيلم هذا العام، وتستمر أسلوبية شانلاي البصرية – المسرحية المذهلة بالتدفق عبر عرض متوازن بواسطة مونتاجه الآسر بين أسلوبية ونفسية الأب فلين وبين أسلوبية ونفسية الأخت ألوشيوس ومشهد العشاء خير دليل على ذلك، سيناريو الفيلم هو السبب الرئيسي وراء نجاحه شانلاي الذي أقتبس نصه المسرحي بذكاء وأعاد تصنيعه سينمائياً مقدماً الكثير من خلال هذا النص رغم المعيقات التي يقدمها من خلال محدودية عدد الشخوص وانحصار مكان الأحداث، فعدا قوة الرموز التي يضعها وانسجامها مع الأحداث هناك بناء نفسي متين جداً للشخصيات جميعها فالشخصيات الأربعة الرئيسية لها مساحتها الكاملة بالعمل التي لم يتم إهمالها والتي تضافرت جميعها لصنع قوة العمل، هناك اهتمام كبير بالبعد الزمني للأحداث وتركيز على اتساع الفاصل الزمني بين الأحداث التي تقع في العمل للتأكيد على أن الخيارات التي تتخذها الشخصيات ليست وليدة لحظتها بل هي حصيلة تفكير واختمار وصراع نفسي طويل، هناك عمق كبير وناضج وذكي يتبعه شانلاي بتقديم أفكار عمله الهامة وغير السطحية، هناك روعة بالحوارات لا تنسى، حوارات مزجت بين الشاعرية والفلسفة والإسقاط والرمزية ، الخطب التي يلقيها فلين وارتباطها بالأحداث، الجدلين اللذيين تخوضهما ألوشيوس وفلين وكيف تتحول المواضيع وتتبدل وتتغير مواقف الشخصيات أثناء الحوار، اعتراف والدة ميلر، لحظة نجاح ألوشيوس بجعل جيمز تشك بفلين لحظات حوارية في غاية المتانة والجمال تشعرنا إننا أمام فيلم كلاسيكي عظيم، كلمات كـ (حتى الراهبات يقعن) و (حتى لو كنت تشعرين باليقين فهذا شعور وليس حقيقة) و (حتى الريح تتغير) عبارات خدمت العمل جداً ليس على صعيد الجمالية الحوارية بل على صعيد البناء النفسي للأحداث والشخصيات .
 


بالإضافة إلى قوة السيناريو هناك قوة بصرية سينمائية واضحة في الفيلم من تصوير كلاسيكي أنيق ومونتاج مبهر وموسيقى جميلة لهاورد شو واضع موسيقى سيد الخواتم ، ورغم امتياز الفيلم في كل العناصر إلا إن نقطة القوة الحقيقية هي في الأداء التمثيلي التي يعبر عن كل أفكار العمل حيث قدم الرباعي (ستريب، هوفمان، أدمز، ديفز) إبهار تمثيلي حقيقي يجعلهم أفضل طاقم تمثيلي منذ عام 2003 ، ستريب تعطي درساً بالتمثيل متوحشة صارمة وقاسية بشكل غير تقليدي هذا أحد أفضل أدوارها على الإطلاق وأفضل أداء نسائي لهذا العام عن جدارة تتحكم بحركات جسدها وملامح وجهها ونبرة صوتها بشكل عجيب ورائع لتصنع دوراً عظيماً وغير تقليدي سيبقى بالذاكرة طويلاً، هوفمان كاد للحظات يقنعني إن أداؤه هنا هو أفضل أداء ثانوي لهذا العام ولكن في النهاية عاد صوتي ليؤيد ليدجر، يحير المشاهد بين التعاطف معه وحبه وبين الشك فيه والارتياب منه هو محبوب ومريب في نفس الوقت، إيمي أدمز خارقة ممسكة بالدور بعناية شديدة وخصم قوي للممثلين القويين الذين يقوما ببطولة الفيلم تنجح بتقديم صراعها الشخصي بين احترامها للأخت ألوشيوس وبين إعجابها بفلين والذي ينتج صراع داخلي رغبتها بأن تكون كـ ( الأخت ألوشيوس ) وقناعتها بصواب الأب فلين والنزاع الذي تعيشه بسبب الشعور بالذنب والندم على الخطيئة التي ارتكبتها، فيولا ديفز والتي لم تظهر سوى بمشهد واحد ولكنها كانت خارقة جداً ومبهرة بشكل غير معقول.

 

الفيلم يحوي كل الميزات الفنية التي تجعله مؤهلاً ليكون عظيماً وكلاسيكياً نص وإدارة وتمثيل وتصوير ومونتاج وأزياء وإخراج فني وموسيقى في القمة مع تعمق عبقري بفلسفة الشك وآثاره وكيف يمكن للشك أن يمحي اليقين ويصبح حقيقة ضمن تجسيد مذهل للنزاع بين الشك واليقين والآثار التي يخلفها، فكرة الشك هي محور العمل الحقيقي ولم يخرج شانلاي عنها ولم يهملها يقدم شيئاً هتشكوكياً بزرع الشك لدى المشاهد وإثارته يقدم الإحداثيات عن القضية من وجهة نظر الطرفين بموضوعية شديدة الإدعاءات والدفوع كانت متكاملة لم يتم إهمال أي تفصيل يترك المشاهد يتخبط في الشك ويضيع فيه بعد أن يبدع بزرع تلك الفكرة داخله بطريقة منطقية جداً مستفيداً من كل عناصر العمل من تصوير وبناء نفسي وتمثيل مما يساعد في خلق الإثارة بالعمل وعدم إشع
 ار المشاهد بالملل الذي قد يتسلل له حين يشاهد مثل هذا النوعية من الأعمال، شانلاي جعلني أقدره جداً حين ختم فيلمه بطريقة لم يصدر فيها الحكم النهائي على المتهم في الفيلم تاركاً المشاهد في بحر الشك وهنا كان ذكاؤه هو لا يريد تقديم فيلماً تجارياً أو تقديم قصة تقليدية يريد تقديم فكرة وفلسفة والرائع إن هذه الفلسفة ليست فارغة فشخوص هذه التحفة الأخت ألوشيوس والأب فلين والأخت جيمز ووالدة ميللر نراها في كل مكان والصراع حول السيادة والمكانة المغلف بالصراع بين الصواب والخطأ نراه في كل مكان وأحياناً للأسف يصبح سياسة دول ويحكم على مصير شعوب بأكملها،هذا العمل يبعث على التساؤل هل ما أنادي به هو الصواب وهل الصواب والحق هو ما يبدو لي صواباً وحقاً والخطأ هو ما يبدو لي خطأً وما المعيار الحقيقي للصواب والحق، ربما نحن في العالم الإسلامي لا نعاني من هذه المشكلة لدينا مرجعيتنا الحقيقية المحقة للصواب والخطأ ولكن في المجتمع الغربي الصواب والخطأ يبدو له معاني مبهمة وغامضة وشانلاي أبدع بتجسيد هذه القضية الأخلاقية الفلسفية التي يعاني منها مجتمعه، ربما لا تكون هذه هي المرة الأولى التي تناقش بها السينما قضية الحق والخطأ ولكن هذه المرة يوجد معالجة جديدة رائعة اختيار الكنيسة لتكون مسرحاً للإحداث لا يحمل هجوماً للمؤسسة الدينية بل أرانا إنه حتى القسسيسين ورجال الدين يخطئون ويرتكبون الذنب ليس بسبب الدين بل إنسانيتهم ودوافعهم البشرية هي ما تجعلهم يخطئون ويرتكبون المعاصي وأحياناً – مثلهم مثل كل الناس – لا يكونون مقتنعين إنهم يرتكبون الخطأ بل يقومون بالصواب، والسبب الرئيسي لنجاح شانلاي بتقديم تلك الأفكار هو اعتنائه بالبناء النفسي لشخصية الأخت ألوشيوس ، فهذه الشخصية الصار
 مة الجافة لم يعالجها شانلاي بطريقة تقليدية مجرد عجوز نكدة ومتعصبة بل اهتم بالتبحر بنفسيتها وتوضيح فكرها هو يصورها كعجوز اعتمدت سياسة معينة وأسلوب معين بالحياة والعمل تراه إنه ناجح وترى فيه الصلاح للمدرسة والطلاب، هي لا تكره طلابها بل تهتم لأمرهم وتسعى لمساعدتهم ولكن أسلوبيتها فظة وغريبة إلا إنها تراها ناجحة، هذه السياسة التي تتبعها توشك أن تتداعى بدخول فلين ذا الفكر التجديدي على المدرسة والتي ترى بسياسته خطر على هذه المدرسة التي لا تستقيم برأيها إلا بإتباع السياسة التقليدية القاسية التي نشأت عليها ولكنها تحتاج إلى دليل لتثبت إن سياسة فلين خاطئة وإن نواياه ليست سليمة للطلاب ففسرت موقف تقليدي عادي إلى تهمة خطيرة لصقتها بفلين وراحت تسعى إلى تأكيدها حمايةً للمدرسة ولسياستها فيها، من خلال شخصية الأخت ألوشيوس وسياستها يكون من السهل علينا ملاحظة فلسفة الخطأ والصواب ففي مشهد تقوم به الأخت جيمز بإعطاء درس بالتاريخ عن تحدي الخوف تدور الأخت ألوشيوس بين الطلاب زارعةً الرعب بينهم وقاطعة الصلة بين الطلاب والدرس فهذا المشهد من السهل أن نرى إن الصواب هو تركيز الطلاب على الدرس ولكن بنظر الأخت ألوشيوس فإن الصواب هو القبض على المخالفات حتى لو كان المخالف طالباً واحداً ولو أدى ذلك إلى قطع صلة بقية الطلاب مع الدرس، تقديم رائع لفكرة الخطيئة والذنب وكيف إن الجميع يخطأ حتى القسيسين ولكن المهم تجاوز هذه الخطيئة والتكفير عنها حتى ولو كان ذلك مستحيلاً، هو فيلم مبهر بصرياً ملحمي رغم بساطته فلسفي غني ممتلئ جداً مغري بأسماء نجومه وقوة الأداء التي يقدمونه وممتع بنفس الوقت هو من نوعية أفلام عربة تدعى الرغبة أسد في الشتاء وأماديوس وبقايا النهار ومؤخراً فروست نيكسون حيث البناء النفسي المبهر لشخصيات العمل ومنافسة تمثيلية ساخنة بينهم وإدارة ممتازة وفنيات رائعة وحكمة وفلسفة عميقة جداً، ومن أعجبته تلك الأفلام سيكون هذا الفيلم مغر له جداً ولن يندم على مشاهدته فهو ليس فقط من نوعية تلك الأفلام بل بمستواها أيضاً.

قراءة تفاصيل

0 التعليقات:

إرسال تعليق