RSS

Pan's Labyrinth - 2006


عام 2006 لم يفرض الفيلم الأسباني متاهة بان للمخرج المكسيكي غاليرمو ديل تورو نفسه كأحد أفضل الأفلام الأجنبية للعام بل فرض نفسه كأحد أفضل الأفلام للعام وأفضل فيلم مؤثرات درامي منذ رائعة جاكسون عودة الملك وكأفضل فيلم ناطق بلغة غير إنكليزية منذ تحفة إنغ لي النمر الرابض، الفيلم اكتسح تقييمات النقاد بشكل غير معقول ونال عشرات الجوائز من مختلف النقابات السينمائية ونال ثلاث جوائز أوسكار ورغم خسارته الجائزة الأهم التي رشح لها أفضل فيلم أجنبي لصالح الفيلم الألماني (حياة الآخرين) دون أن تأثر تلك الخسارة على قيمته السينمائية . .

رغم قوة المؤثرات بالعمل ولكنها لم تكن هي السبب الرئيسي بنجاح العمل ومن المستحيل أن تكون المؤثرات لوحدها هي فيصل نجاح العمل وفشله بل تسخّيرها لصنع الدراما هي فيصل نجاحه وبهذا العمل كانت المؤثرات مستخدمة بشكل ذكي وممتاز لا لمجرد صنع بهرجة بصرية تجذب المشاهد بل لتكون وسيلة للتعبير عن الحالة الدرامية بالعمل وعن فكرته، ومن هنا تأتي أهمية متاهة بان حيث الفكرة ممزوجة بالمؤثرات ، الفكرة تحرّض على صناعة مؤثرات ممتازة والمؤثرات الممتازة تعبر عن أفكار كان من الصعب على النص لوحده إظهارها، إن المؤثرات والفكرة بهذا العمل تحقق المعادلة التي تعجز الكثير من أفلام المؤثرات على صنعها (الحديقة الجوراسية على سبيل المثال) وهي أن تنصهر المؤثرات والفكرة معاً لتصنع عملاً مبهر على نطاق الفكرة ومبهراً على نطاق المؤثرات، عملاً وصفه بالممتاز لا يعطيه حقه .
جميع الفتيات يحلمن بأن يكن ساندرلا، جميع الفتيان يحلمون بأن يكونوا سليل عائلة ملكية، فيلم متاهة بان يدخل بنا إلى عالم أحلام الأطفال ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد بل يرينا لماذا قد يحلم الأطفال بهذه الأحلام، ليدخلنا ديل تورو ضمن رحلة عميقة ومذهلة في عالم قذر موحش مخيف في قرية إسبانيا نائية في الأربعينات ، في منزل هو عبارة عن طاحونة يقطن بها الكابتن الديكتاتوري فيدال وزوجته الحبلى المريضة المهددة بالموت وأبنتها أوفيليا الحالمة التي فقدت أباها الحقيقي بالحرب وظهر فيدال ليحلّ محله وليملئ حياتها شقاءً بقسوته وساديته وديكتاتوريته، أوفيليا راحت تقرأ القصص الخيالية لتسلّي نفسها وتهرب إلى عالم أخر جميل بعيد عن عالمها المكون من أمها المريضة الموشكة على الموت وزوجها الطاغية والحرب الدموية، ولكن حالة الانتقال والهرب تصبح كاملة ، إذ تصبح أوفيليا منتقلة بكل حواسها إلى عالم الخيال حتى لا تفرق بينه وبين العالم الحقيقي حين تقرأ هذه العبارة في أحد قصصها :
(منذ زمن بعيد .. في مملكة ما تحت الأرض .. لم يكن هناك ألم أوكذب .. عاشت أميرة حلمت بعالم البشر .. حلمت بالسماوات الزرق .. والنسيم العليل .. و شروق الشمس .. وفي أحد الأيام .. هربت الأميرة بعد أن تخلصت من حراسها .. و عندما خرجت .. أعماها الضوء الباهر .. و محى كل أثر للماضي من ذاكرتها .. نسيت من كانت .. و من أين أتت .. و عانت من البرد و المرض و الألم .. وفي النهاية .. ماتت ..
أبوها .. الملك .. كان متأكداً أن روح الأميرة ستعود .. ربما في جسد آخر .. في مكان آخر .. في زمان آخر .. وسيظل ينتظرها حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة .. وحتى يتوقف العالم عن الدوران) هذه العبارة التي تتحدث عن أب فقد أبنته وعن عالم البشر المرعب والمخيف وعن عالم أخر جميل لا آلم فيه ولا كذب لم يكن من الغريب أن تكون اللبنة الأولى في بناء عالم أوفيليا الخيالي، ومع تجميع عالم أوفيليا الحقيقي تجتمع لنا صورة العالم الخيالي الذي صنعته مخيلتها، القصة الثانية التي تحكيها لأخيها في بطن أمها : (في زمن سحيق .. في أرض حزينة و بعيدة .. كان هناك جبل ضخم من حجارة سوداء خشنة .. عند الغروب .. وعند قمة الجبل .. تتفتح زهرة كل ليلة .. تجع لأي شخص يقطفها يصبح خالداً .. ولكن لا أحد جرؤ على الإقتراب منها .. لأن شوكها كان مليئاً بسم مميت .. تحدث الرجال فيما بينهم عن خوفهم من الموت و الألم .. لكنهم لم يتحدثوا عن الأمل بحياة أبدية .. وهكذا ذبلت الوردة .. عاجزة عن منح هبتها لأحد .. منسية عند قمة الجبل المظلم البارد .. وحيدة للأبد .. إلى نهاية الزمان ) هي من عوامل صنع عالمها الخيالي لدينا الحلم بالخلود الذي لم تصل إليه سوى بعد رحلة الألم التي يجب تجاوزها بالأمل ، لتتشكل لنا طقوس مغامرة أوفيليا عوالم مرعبة ومؤلمة ولكن يمكن تجاوزها بالأمل والصمود، هذه العوالم المرعبة التي تصنعها أوفيليا من خلال شخصية لفيدال فهو الرعب الحقيقي بحياتها والتي يظهر بعالمها بصورة الوحش البشع الذي يضع عينيه في كفه ويقتل الأطفال بالسكين (فيدال كان يعذب ضحاياها بسكين) ومهمة أوفيليا للوصول إلى مملكتها هي سرقة سكين الوحش، وتترك أوفيليا الباقي لفطرتها وطفولتها لتشكل بقايا هذا العالم من خلال صنع ثلاث تحديات بسيطة منسجمة مع مخيلة الطفلة ولكن واقعية ومنطقية ويمكن تجاوزها، تحديات مستوحاة من نقاط ضعف الفطرة الإنسانية الكبرى (الخوف – الرغبة – التضحية) ويجب تجاوزها للوصول إلى الخلود ، يجب تجاوز هذه المخاوف للوصول إلى الخلود، ومن هنا يقدم ديل تورو فلسفة دينية من وحي الدين المسيحي، آدم هبط من الجنة عالم الخلود والرفاهية إلى عالم الفناء والعذاب الأرض بسبب التفاحة، والعودة إلى الجنة يكون بالتضحية وإراقة الدماء للتكفير عن الخطيئة الأولى، أوفيليا تخسر فرصتها بالعودة إلى مملكتها بسبب حبتي الكرز اللتان تأكلهما ولن تستطيع العودة إلا إن ضحت بدم بريء ليتحمل خطيئته

مع صنع عالم أوفيليا الخيالي ديل تورو يقدم عالماً موازياً له، عالماً بشرياً واقعياً مليئاً بالقسوة والعذاب والكذب والخيانة والوحشية والرعب، فيلم متاهة بان رغم طبيعته الطفولة إلا أنه لا يصلح ليشاهده الأطفال، هو عمل مليء بالعنف، العنف المقزز جداً بشكل لا يوصف، هناك تقطيع تفجيرات رصاص تشويه تعذيب، عدا وجود فيدال بحضور شرير واقعي غير مريح، هو ليس كأي أشرار أفلام الأطفال المضحكين كليكس لوثر سوبرمان أو كابتن هوك بيتر بان، الأطفال لن يكونوا مرتاحين لمشاهدة العمل، ديل تورو تعمد هذه السادية بصنع عالم البشر ليرينا هذا الوقع الذي ينشأ فيه الأطفال والذي يجبرهم على عدم الاعتراف بواقعهم والهرب إلى عالم خيالي الذي أيضاً هو مليء بالوحوش المرعبة، يرينا الواقع الذي شوه عالم الطفولة وجعل خيالهم مسمماً لا يخلو من الوحوش المرعبة والمقرفة، هذه الوحوش التي لم تكن سوى عبارة عن تخيلات أوفيليا للأشخاص من واقعها ، الضفدعة المنتفخة التي تفجرت أمعائها هي بالحقيقة والدة أوفيليا الحامل بطفل سيقضي عليها، الوحش المقرف صاحب العيون بالكف هو ليس سوى تجسيد لفيدال الديكتاتوري حسن الشكل من الخارج ولكنه مقزز من الداخل .
غاليرمو ديل تورو قدم نص يستحق الاحترام يرسم بالتفصيل عالمان متباينان، القوة الحقيقية بالنص تكمن بصنع عالم أوفيليا ومغامراتها بعقلية أوفيليا ذاتها عقلية طفلة لا تملك سوى الأمل والخيال لتواجه قذارة الواقع، فيقدم لنا عالماً خيالياً بسيطاً طفولياً ولكن بين طياته هناك تحليل لمشاكل الأطفال النفسية تشريح للفطرة الإنسانية وتقديم فلسفة دينية، النص مملوء بلحظات درامية شاعرية وحزينة ولكنها ليست دخيلة على العمل وإنما بموقعها، يقدم لنا رسماً عنيفاً لعالم البشر وصناعة درامية مرعبة لشخصية فيدال مع العديد من الحوارات الساحرة الرقيقة، النص ينجح بأن يكون محرضاً لجميع الفنيين على العمل بأقصى طاقاتهم وتسخير كامل خبراتهم لتقديم إنجازات بصرية مبهرة جعلت العمل يستحق عن جدارة لقب أفض فيلم مؤثرات منذ تحفة بيتر جاكسون عودة الملك، فرغم وجود إنجازات رائعة بهذا المجال من قبيل ألفونسو كوران (سجين أزكابين وأطفال الرجال) سبلبيرغ (حرب العوالم) بيتر جاكسون (كينغ كونغ) ولكن ديل تورو يتفوق عليهم جميعاً.
  الانجاز الإخراجي الذي قدمه ديل تورو كبير جداً يكفي تلاعبه بالمشاهد منذ مشهد البداية حيث يوهمه إن ما تراه أوفيليا حقيقياً وليس خيال، وتجاوزه تحدي تصوير العمل من عقلية الطفلة ومحاكاته لديفيد كرونبيرغ ومغازلته لطفل روزماري بولانسكي وشعاع كوبريك بالأخص بمشهد المتاهة الأخير، هل أتحدث عن الإخراج الفني العبقري برسم منزل فيدال الموحش وقصور أوفيليا الخيالية والمتاهة السحرية، هل أتحدث عن الملابس الممتازة للحقبة والإضاءة الموحشة، ربما أتحدث بالتفصيل عن التصوير المتأني الذي الساحر الاحترافي المتأني المهتم بتصوير جمالية الصورة وإظهار لقطات بصرية رائعة ، مع حركات بصرية ممتازة بالخص مشهد حلاقة فيدال لذقنه، جمال مونتاج متاهة بان ليس فقط بمزجه العبقري بين عالمين متباينين بل بإظهار كيف إن كل عالم يؤثر على الأخر، يكفي مشهد عبور أوفيليا للغابة لتنفيذ مهمتها مع صوت الراوي يتحدث عن غابة جميلة يعبث بها الوحوش والجن وقطع المشهد لعرض مشهد اقتحام الجنود للغابة بحثاً عن الثوار، المكياج رائع ويكفي الجرح على وجه فيدال، أما المؤثرات البصرية فأنا لست مضطراً للحديث عنها يكفي مشهد تحول الجرادة إلى الجنية وطريقة طيرانها أو صناعة فون وحش من الطبيعة ممزوج بين النباتات والحيوانات وانفجار الضفدعة العملاقة أو صناعة الوحش صاحب الأعين بالكف وصناعة مشهد القتل والمعارك المتوحشة لندرك المؤثرات المبهرة التي قدمها فيلم متاهة بان، المؤثرات الصوتية لا تشعر بقوتها إلا مع سماع صوت الوحش صاحب الأعين بالكف يصرح وصوت اهتزاز السكين والمفتاح، الموسيقى أسطورية هي أحد أفضل الموسيقى التصويرية التي سمعتها على الإطلاق ، موسيقى مناسبة جداً للعمل بريئة هادئة حزينة تدخلنا بالأجواء بسهولة وتجعلنا على صلة وثيقة بالشخصيات والأحداث .
إيفانا بوكيرو من خلال أوفيليا تقدم أداءً طفولياً بارزاً جداً وجميل جداً تتجاوز تحدي إنها لا تشاهد أي شيء من المخلوقات الخيالية لتعطي أحساس شديد الصدق والبراءة ، مع مشاهد مؤثرة جداً بالأخص حين تتحدث مع شقيقها في بطن أمه وتطلب منه أن لا يؤذي أمها تراها تتفجر صدقاًَ وإبداعاً وتأثيراً .
سيرجي لوبيز رائع بإظهار ذوبان شخصية الإنسان بالسلطة وإظهار كيف يكون ضابط الجيش ديكتاتورياً وسادياً ، هناك أداء ثانوي قوي من ماربيل فيرادو

0 التعليقات:

إرسال تعليق