RSS

Up in the air - 2009


فيلم (عالياً في السماء - Up in the air) للمخرج الشاب جيسون رايتمان الذي يناقش فيه عالم الشركات الضخمة هو تأكيد على نهج المخرج بمزج الكوميدية بالدراما لصنع فكرة اجتماعية هامة و يكمل به سلسلة نجاحاته الكوميدية السوداء بعد شكراً على التدخين عام 2006 المنتقض لسياسة شركات التبغ الأمريكية و جونو عام 2007 الذي ناقش فيه قضية حمل المراهقات و أكسبه أول ترشيح له للأوسكار ويبدو إنه سيضاعف الرقم هذا العام ففيلمه الجديد عالياً في السماء حاز على إعجاب النقاد والجمهور بشكل واسع وتصدر ترشيحات الغولدن غلوب بـست ترشيحات.
الفيلم ليس مجرد عمل تقليدي ينتقد الشركات العملاقة وسياستها وليس فقط فيلم رومانسي ممزوج بروح الفكاهة عن قصة حب غريبة، وليس فيلم طرقات تقليدي يقدم علاقات وأزمات نفسية وإنسانية على قارعة الطريق، هو حوى كل تلك العناصر بالإضافة إلى تقديم نظرة جديدة للموظف الأمريكي الناجح وتقديم من خلاله إنعكاسات الوظيفة والروتين اليومي عليه ودراسة تأثيرات النظام الرأسمالي الأمريكي على نفسيته وتداعيات آلية عمل ذلك النظام على المجتمع الأمريكي بالكامل.
العمل يسير ضمن نسق وأسلوبية سرد غير تقليدية يعتمد على الخدع والتحايل، يبدأ العمل بعرض يوميات رايان (جورج كلوني) الموظف في شركة مختصة بإبلاغ الموظفين في الشركات الأخرى قرار طردهم ومحاولة امتصاص صدمتهم، رايان رجل يقترب من مرحلة منتصف العمر ذكي ولبق وسيم وأنيق وناجح بعمله يقضي حياته منتقلاً بين الطائرات والمطارات والفنادق وبين إبلاغ أخبار الطرد والمحاضرات حول كتابه الناجح حتى إنه لا يقضي أكثر من 24 يوم في منزله ، رايان مثال للشخص العملي الناجح بحياته ، مثال للحلم الأمريكي ، مثال لحلم أي شخص بالنجاح ، هذا ما نراه في البداية ولكن لاحقاً يتعمق رايتمان بتلك الشخصية لنكتشف مدى فراغها وسطحيتها، رايان ليس متزوج ، علاقته بعائلته مقطوعه ، يخشى الارتباط بأي شخص حتى لا يقيده عن نجاحه وعن حلمه السخيف بأن يصبح ترتيبه السابع بين أكثر الرجال استعمالاً للخطوط الجوية في العالم، هو شخص عنصري ، بارد ، لا تهزه العواطف ، شخص راشد ولكن عقليته طفولية يركض وراء أحلام سخيفة كإشارة إلى آلية الإعلام الأمريكي التي تصنع من أي شيء بسيط هدف بعد أن تزركشه و تزينه ليصبح غاية قسوة في حياة الإنسان الأمريكي الفارغة الذي يخترع المبررات ليحافظ على ركضه اللاهث وراء المادة، رايان ذاك الذي لا يملك أصدقاء سوى عاملات المطار اللواتي يقطع له التذكرة ومديره بالعمل (جيسون بيتمان) المبتسم دائم والذي يعتبر رايان عنده مجرد نبع من المال يحاول استغلاله حتى أخر قطرة ولا يمانع من أن يحول ابتسامته إلى تكشيرة حين يعترض على سياسته، رايان صاحب الحياة المزيفة سيدخل تجربة استثنائية حين يضطر أن يصطحب معه الموظفة الجديدة ناتالي (أني كندريك) في أحد جولاته ليريها حقيقة عمله ويعطيها درس في المهنة.
خلال تلك الرحلة ستتغير الكثير من المفاهيم لدى رايان وناتالي، رايان الذي سيفيده الاحتكاك المباشر والطويل بشخص ما سيدرك مدى فراغ حياته رغم إنه يبقى للحظة الأخيرة يحافظ على فكرته بينما ناتالي سترى من خلال رايان ومن ثم صديقته ألكس (فيرا فارميغا) - التي تمارس أيضاً وظيفة تجبرها على السفر المستمر - تجسيد للحلم الذي تسعى إليه، كيف ستصبح إن استمرت بهذا الخط حيث ستدمر كل شيء وتتخلى عن كل شيء تحلم به عن الزواج والأطفال والعائلة مقابل أن تتزوج من وظيفتها وتبدأ بوادر فشلها الاجتماعي حين يتخلى عنها صديقها برسالة الكترونية بعد أن كان يريد أن يتقدم لخطبتها مما سيقودها إلى إعادة حساباتها بحياتها وموازنة بين طموحاتها وبين أحلامها.
العمل يحمل انتقاد شديد لأسلوب الحياة الأمريكي وللرأسمالية الأمريكية فمن خلال شخصية رايان التي كانت تجسيد لجمال تلك الحياة يحولها رايتمان بحركات بسيطة إلى مثال للتعاسة التي سببتها الحضارة على الإنسان، فمنذ مشهد البداية ورايان يستعد لسفره نشعر به كرجل آلي يقوم بأوامر برمج على تنفيذها بالأخص مع المونتاج الجيد الذي يصنع تلك المشاهد بصورة متسارعة كالحياة العملية السريعة، رايان لا يملك أصدقاء أو حياة اجتماعية يعمل في وظيفة غريبة هي تجسيد السعي الأمريكي للمال والاستهلاك لدرجة إنه أصبح لطرد الموظفين شركة خاصة وهو بالتالي إشارة أخرى إلى شيوع حالات الطرد وتخفيض النفقات في الشركات الكبرى التي تقود إلى عدم استقرار نفسية الموظف الأمريكي.
وفي أحد المشاهد نرى رايان يجلس مسترحياً في مقهى أحد الفنادق يتعرف سريعاً على فتاة موظفة هناك يبدأ الحوار بينهما حول بطاقات (الفيزا كارد) وبعد لحظات ينتقلان لممارسة الجنس ثم يودعان بعضهما ويعود كل منهما لحياته الطبيعية ويستمر التواصل بينهما بلحظات الملل من خلال الدردشة الالكترونية كتعبير عن سهولة العلاقات في أمريكا وفراغها من العاطفة وإلى هيمنة التقنية الحديثة على كل شيء حتى على العلاقات العاطفية، خلال متابعتنا لعمل رايان ووظيفة يلقي رايتمان الضوء على قسوة النظام من خلال مقابلة مجموعة من الموظفيين الذين يتم فصلهم وإلى المعاناة التي سيسببها لهم الفصل حيث يخرب حياتهم بالكامل دون أن يجدوا معيناً لهم بعد أن تستهلكم آلية النظام الرأسمالي ثم ترميهم بلا رحمة كآلة صدئة وكان من الواضح بتلك المشاهد اهتمام رايتمان بشكل الكومبارس ليبدو واقعياً بأكبر درجة ممكنة وبعيداً عن الوسامة الهوليودية وبتصوير تلك المقابلات بأسلوب وثائقي إخباري، ويسلط العمل الضوء على شخصية المرأة العاملة التي تحاول تحقيق ذاتها وتدور حول العالم وراء حلمها تاركةً عائلتها تقيم علاقات بعشوائية بلا عاطفة وتنتحل شخصية أخرى مغايرة لها وتتبنى مبادئ لا تؤمن بها من باب الهروب من واقعها ومن عذاب الضمير الذي تعيشه بسبب خيانة زوجها وإهمالها لأطفالها، وبالمقابل يركز العمل على أهمية العائلة وإنها في النهاية هي الشيء الذي يبقى للإنسان وهي الشيء الذي يدفعه دوماً للنهوض ومتابعة حياته.
العمل في بعض أحيانه يشعرنا إنه كوميدي أو رومانسي كأعمال هوليوود التقليدية ولكنه في لحظات المناسبة يثبت لك العكس وإنه منتم للواقع بالكامل رغم كل الأناقة والرقي التي تميزت بها أجوائه ولكن المضمون واقعي بالكامل ويظهر لنا إن الحياة قاسية ليست فيلم رومانسي كلاسيكي يحرك المشاعر وتلك الأناقة التي صنعت بها أجوائه ليست سوى صدى لبرود الحياة الأمريكية التي تتلخص بمجتمع الشركات أنيق وفخم من الخارج ولكنه فارغ من الداخل.
العميل مليء بالحوارات الجذابة الذكية والمليئة بروح الدعابة التي تصنع كوميدية سوداء مميزة وتمتزج مع دراما متوازنة لتقدم عالم مخيف جداً، وخلاله هناك من الأداءات التمثيلية المميزة جداً بالأخص من جورج كلوني بشخصية رايان الذي قدم أفضل أداء له على الاطلاق وكان اختيار حكيم جداً من رايتمان أسناد الدور إليه كون كلوني يشبه جداً شخصية رايان هو العازب الأكثر شهرة بهوليوود وبحكم عمله كستار يقضي أغلب أيامه بالسفر و التسويق وهذا التشابه ساعد كلوني ليقدم تلك الشخصية بعفوية مطلقة وانسيابية عالية يجعل لها هوية خاصة مميزة مع روح دعابة جذابة مستوحاة من جيمس ستيورات وتوم هانكس ولحظات درامية مؤثرة متقنة جداً بنهاية العمل، مع كلوني هناك الشابة اني كاندريك (شاركت بفيلم الرعب الشهير توايلايت) بدور ناتالي الشابة الطموحة التي تواجه خيارات الحياة أمامها من خلال الرحلة وتتعرض لأقسى وأهم اختبار لها على الاطلاق، هي تبرع بإظهار القوة والصرامة والطموح والصلابة بنكهة طفولية بحتة، وبظهور قصير فيرا فارميغا (سبق لها المشاركة بالفيلم الحائز على الأوسكار الراحل) بدور ألكس تقدم أداء رفيع جداً تظهر شخصية متقنة للمرأة العاملة الصلبة القوية الجادة مع شيء من تأنيب الضمير الضمني غير الواضح ، جيسون بيتمان بظهور قصير جداً بدور مدير رايان جيد هو الأخر ويستحق الثناء .       

0 التعليقات:

إرسال تعليق