RSS

The Tree Of Life - 2011


ماذا كان قبل الحياة وماذا سيكون بعدها ؟ من نحن وما دورنا بهذا العالم وما حجمنا فيه ؟ السعادة، كيف نحصل عليها ؟ كيف نحققها؟ وما هي بالحقيقة ؟ أسئلة عديدة طرحها تيرانس ميلك وأجاب عليها في تحفته هذه المتوجة بجائزة كان والحائزة جوراً على ثلاث ترشيحات أوسكارية فقط (أفضل فيلم ومخرج وتصوير) وكان نجميه براد بيت وجيسكا شاستين قد حازا على ترشيحين عن أفلام أخرى دون تجاهل المديح الكبير الذي نالوه عن عملهم المميز هذا.
الفيلم فلسفي بحت، إنساني بحت، لم نرى الكثير من هذه المواضيع في الانتاجات الأمريكية، كوبريك في أوديسا الفضاء بحث عن حجم الإنسان في هذا الكون المتسع، وسكورسيزي تحدث عن علاقة الإنسان بالربّ ووظيفته بهذا العالم ودوره فيه في الإغواء الأخير للمسيح، وسام منديز هاجم المادية الحديثة في جمال أمريكي، ويأتي اليوم تيرانس ميللك بعمل مميز جداً لا يقل جمال عن تلك الكلاسيكيات ولن يقل أهمية عنها مع الأيام القادمة، هو بحث عن علاقة الإنسان بربّه وبالكون من حوله بصورة شديدة الرمزية والعناية، هو ليس كما تم تصويره عن خلافات الأبناء والأباء ، ما شاهدناه عن علاقة جاك بوالده ووالدته ليس سوى صورة رمزية عن علاقة الإنسان بربّه وبالكون.
 
يبدأ العمل مع وصول خبر وفاة جاك (شون بين) لوالديه السيد والسيدة أوبراين كل منها يتقبل الخبر بطريقته، الأب (براد بيت) يعبّر عن ندمه عن أساءته معاملته لأبنه وقسوته معه، الأم (جيسكا شاستين) تبدو أكثر جلداً وتقبلاً للخبر تدرك إنه من الصالحين الذاهبين للفردوس، مؤمنة إنه بين يديّ الرّب وعنايته وإنه دوماً كان كذلك، تعود الصورة لـ(جاك) قبل دقائق من وفاته وتصوير حالة التخبط والضياع الذي يعيشه في عالمه رغم كل الرفاهية والقوة والثراء الذي يعيش ضمنه ويكلم والده ويعتذر عمّا قام به في السابق وعن الكلمات القاسية التي وجهها له، ثم يعود العمل إلى البداية ليروي لنا سيرة جاك يرويها لنا منذ القدم جداً منذ بدأ الخليقة، لأن العمل بكل بساطة هو سيرة ذاتية للإنسان لأي إنسان، كل مشاهد سيشعر بهذا العمل عن شيء يخصه، عن شيء يربطه به، سيشعر إنه بشكل أو بأخر يتحدث عنه، هو لا يقدم شخصيات استثنائية، لا يقدم أحداث غريبة، هو يقدم شخصيات واقعية وأحداث واقعية ولكنه يتبحر ويتعمق بالأسئلة التي تخاطر الإنسان وتتعارك بداخله عن حجمه في هذا العالم ودوره فيه.
العمل يقدم حوالي الثلاثين دقيقة المبهرة عن بداية الخليقة على خلفية موسيقى أوبرالية كنائسية مبهرة نتابع نشأة الكون من الإنفجار العظيم إلى تشكل المجرات والكواكب ثم نشأة كوكب الأرض، تكون الجبال والبحار ثم ظهور الكائنات الحيّة الأعشاب ثم اللافقريات ثم المائيات والبرمائيات والزواحف والدينصورات ثم الإنسان، حين يصل ماليك لنشأة الإنسان لا يعرض لنا آدم وحواء ولا يهتم بذلك بل يقدم لنا جاك تمثيل ماليك المفضل للإنسان بكل زمان ومكان، لقطات التعارف السريع لوالديه ثم الزواج وولادته، مشهد ولادة جاك هو من المشاهد العظيمة السريعة التي تكاد لا تلاحظها العين، جاك يسبح من غرفته الغارقة إلى الأعلى يفتح الباب المعلق بالسقف ويخرج للعالم، وتتقاطع الصورة مع جاك العجوز يعبر باباً ضمن الصحراء من عالمه الفاني الجاف ويلاحق أمه إلى عالم الفردوس، وبحركة مبهرة مكررة من مونتاج أنيق جداً يمزج فيه ماليك بين عدّة عوالم بين البداية والنهاية ما قبل الحياة وما بعدها وكأنه يقول إن حياتنا الفانية هذه ليست سوى محطة نحو الرحلة الأخيرة بين يديّ الربّ وإلى فردوسه الأبدي.
في العمل وتحديداً نصفه الأول نرى لقطات عديدة لجاك ضمن العالم المدني المعاصر، ماليك يصور هذا العالم بارداً جافاً يحاول بطول ناطحات سحابه وعلو مبانيه أن ينازع الأشجار ولكنه ميت بالحقيقية وجامد، المساحات الخضراء قليلة جداً كإشارة لروح الإنسان المتضائلة أمام طغيان المادة الميتة وجاك يحاول تحريها وملاحقتها، ماليك (الذي يبدع بلغة إخراجية متمكنة) يصور لنا جاك ضمن المصعد المطل على المدينة يرتقي للأعلى مبتعداً ولكنه سجين روحه أسيرة لا يعرف الراحة والسعادة، وبأشبه استعراض فلاش باك طويل يستعيد جاك ذكرياته عن طفولته وعلاقته بعائلته والعالم والطبيعة والرّب.
رغم إن العمل من كتابة وإخراج تيرانس ماليك ولكنه بالحقيقة من بطولته كاملاً أيضاً، هو النجم ولو لم يظهر أمام الشاشة ، فكل شيء بالعمل هي أدوات ووسائل يستعملها ليمرر رسالته العظيمة، ما يصوره عن علاقة جاك بوالديه هو بصراحة تصوير لعلاقة الإنسان بالطبيعة والربّ، الإنسان لا ينشئ وحيداً لا يتربى وحيداً يحتاج إلى الأرشاد والحبّ، الأب والأم هما تجسيد للطبيعة التي ترعى الإنسان تقدم له كل الحنان والعطف والحب بسخاء (الأم) ولكنها بنفس الوقت تعلمه الانضباط والحدود والقوانين وبشكل صارم (الاب) تكامل هذين العنصرين وتكاملهما هما وسيلة إنشاء إنسان قوي وقادر على الصمود بهذا العالم وفعلاً هذا ما شهدناه في جاك شخص قوي وثري وناجح بحياته وما يعانيه من ضياع هو بكل بساطة سببه لنفسه كما سببه والده لنفسه في السابق، ومن الممكن أن نرى لهما رمزية أخرى الأم تمثل الطبيعة التي تعطي بلا سؤال وبلا مقابل وتقدم كل خير وحب وحنان، الأب يمثل المادية القاسية المتطلبة الجلفة التي لا يرضيها شيء ولا يعجبها شيء ، ومع ذلك يميل الإنسان إلى طريق المادية بكل سيئاته ويحاول أن يحذو حذوها وأن يرضيها دون أن يستطيع ويهمل الطبيعة ويرفض كل عطاياها.
ماليك صنع ملحمة إخراجية العمل يحتاج صفحات طويلة للحديث عن الجمالية والرمزية التي قدمها بصورته، ما تم تقديمه من أحداث يصوره بشكل مستوحى من ذكريات بطله، هو اشبه بعرض تلك الذكريات صور متداخلة وسريعة، ماليك طوال فيلمه لم يقدم لقطة ثابتة الكاميرا كانت دوماً تهتز ولكن ليس بشكل فوضوي ومزعج والمونتاج مليء بالقطع والصور المتداخلة ولكن بشكل شديد الأناقة والجمال، وأغلب المشاهد التي نراها هي ليست أحداث محورية أو فاصلة هي تصوير عفوي ارتجالي لحياة تلك العائلة ومعه عرض تطور الشخصية الرئيسية، وبهذا الشكل طوع ماليك ممثليه لينسجموا مع خطته بأداءات عفوية والابتعاد عن المشاهد الحوارية الطويلة والحساسة وعن لحظات الذروة والانفجار الدرامية التقليدية، ما تراه ستشعر به ملتقط بكاميرا منزلية تصور أحداث عادية وواقعية جداً بعيداً عن مسرحية الدراما والاصطدمات والمكاشفات والثورات المشهدية الأدائية، ورغم ذلك يبهرني كيف استطاع ماليك أن يقحم الرمزية ضمن تلك الواقعية بشكل بعيد عن القسرية والإدخال بل ظهرت شديدة الإنتماء والإنسجام مع اسلوبية ماليك المشهدية.
الرمزية تبدأ من التصوير، أغلب اللقطات تعمد ماليك أن تكون من أعلى لتصوير العين الساهرة التي تراقب الإنسان بكل تحركاته وتعمد بأحيان أخرى إظهار صغر حجم الإنسان بهذا العالم وبين الطبيعة، الرمزية نراها بلغة الحوارات الذاتية والمناجات الربانية (وهي فعلاً من أجمل ما كتب للسينما) وعرض صورة تتناسب مع ما يتحدث عنه ماليك، كتصوير الأب في الكنيسة وصوت الراهب في القداس يتحدث عن الرجل الوحيد الضائع بهذا العالم الذي يحاول النجاة به، ثم التركيز على الطبيعة على الزراعة، على إعمار الأرض بالجمال هي الرسالة التي يريد ماليك إيصالها عن وظيفة الإنسان بالعالم فمنذ نعومة أظفار جاك يبدأ والده تعليمه الزراعة والشجرة التي يزرعها تزهر بشكل جميل في نهاية العمل حين يصل جاك لسن الرشد وكأنها روحه التي يتولى العناية بها وتربيتها وهو المسئول عن إزهارها أو ذبولها، هي أشبه بروحه التي زرعها والتي يجب أن تنمو بجمال ولكن الإنسان يشوهها بممارسته الخاطئة بإبتعاده عن النهج الحقيقي للسعادة الذي رسمه له الله.
تيرانس ماليك بلقطاته العفوية السريعة الارتجالية يقدم صورة كاملة لمسيرة جاك وعائلته وعلاقته معهم، حصوله على الحب من والديه في طفولته علاقته بأخوته الصغار وغيرته منهم، اكتشافه لهذا العالم مهمته فيه للإعمار ثم وقائع هذا العالم السوداء الجريمة المرض الموت والأسئلة المبكرة عن سبب كل هذا، اكتشاف الحب الطفولي البريء ، اكتشاف الرجولة مع دخول سنوات المراهقة ، الشهوة الجنسية لمرأة أكبر سناً، والقدرة الإنسانية على التدمير، ولكنه يكتشف كذلك محبته الحقيقة لأخيه الصغير صديقه الوحيد، بسن المراهقة تبدأ عوامل الثورة والتمرد تتكون عند جاك كوسيلة ليصنع شخصيته الخاصة دون أن يدرك إن شخصيته ليست سوى تكرير عن شخصية والده الذي كان دوماً يراه كعدو له وكأن ماليك يقول إنه مهما ابتعد عن ربّه وحاربه فبالنهاية لن يمشي إلا بالصورة وضمن الخطة التي رسمها له.
علاقة جاك بوالديه هي من أهم محاور العمل، الحنان والعطف والمحبة من الأم ومقارنتها بقسوة وصلابة الأب (مشهد الأستيقاظ الصباحي مثلاً) ماليك لا يتحامل على شخصية الأب ولا يهاجمه هو يظهر فيه حباً وعطفاً على أولاده أكثر مما تكنه الأم أحياناً، هو حب ينشأ منذ اللحظة الأولى لحمله ولده للمسه جلده، ولكنه كأب لا يستطيع سوى أن يكون قاسياً صلباً جلفاً لأنه يريد لأبنه أن يكون قوياً ولو كرهه، هو منذ البداية يعلمه كيف يكون فعالاً بالعالم يعلمه القتال ليدافع عن نفسه، يعلمه أهمية المال والعمل ويدخل برأسه أن السعادة لن تكون سوى بالمال بإشارة رمزية إلى المادية التي شوهت شخصية الإنسان ولم تجعله سعيداً وكيف إن الوالد بتعاليمه الخاطئة منذ الصغر شوه مسيرة أبنه، فالوالد كان شخصاً لديه آمال وطموحات بأن يكون موسيقي ولم يحققها وحلم أن يحققها أبنه الذي يحثه دوماً أن يكون أفضل منه، الأب يعمل بمهنة شاقة لا يحبها يشعر بأنه أسير فيها من أجل عائلته، يتحمل ضغوطات كثيرة تجعله دائم الغضب والاحتقان بالمنزل ، ومع استمرار إحباطاته المادية يزداد غضبه الذي يفجره بعائلته ويدمر علاقته معهم رغم محبته الشديدة لهم ويخسر السعادة الحقيقية، أما الابن الذي استطاع عكس والده جمع المال فلا يشعر أيضاً بالسعادة، يشعر بضياعه وحيرته وتشتته بهذا العالم وفقدان روحه، أما الأم التي ألتزمت بإيمانها وبمعاملتها الحسنة وبملاحقة الجمال الحقيقي وصبرها على كل شيء فهي بالنهاية من استحق الحب من اكتشف سر الحياة وزيفها وإن الثروة الحقيقية فيها ليست بالمال وإنما بالمحبة والخلود الأبدي بالفردوس الرباني.
العمل ينتهي باستعراض رائع فنتازي سيريالي للحياة البرزخية وللطريق للفردوس، التشتت والضياع الذي عاشه جاك طوال عمره ينتهي، هو في الفردوس الذي ليس سوى عبارة عن شاطئ وبحر صافي بعيد عن أي مظاهر مدنية فقط طبيعة ربانية وعائلته القديمة وجيرانه، هناك يعثر جاك على الراحة مجدداً يعثر على انتمائه وحقيقته يعثر على السلام الذي لطالما طاق إليه، وماليك يقدم رسالته الخالدة حياة الإنسان ليست سوى محطة بطريق الخلود الأبدي بين يدي الرّب، الله خلق المحبة منذ البداية ولكن الإنسان يشوهها بجنونه، خلق الجمال والسعادة منذ البداية بصفاء ونقاء ولكن الإنسان أضاعها بطمعه، الماديات هي الشيطان الذي يدمر حياة الإنسان ولطالما كانت المادة والسعي إليها وطموح بالسعادة بها هي الخدعة الكبيرة التي حولت حياة الإنسان لتعاسة بينما جمال الطبيعة الربّانية الصافية والمحبة الإنسانية الصادقة هي الفردوس الحقيقي، هذه الأمور التي نراها دائماً ولا نقدرها هي درب السعادة الحقيقية.
أتمنى أن استطيع العثور على سيناريو العمل وأقرأه لأعرف كيف كتبه ماليك، فعمل يحتوي أغلبه على الارتجالية لا بد إنه مدعوم بورق قوي ، النص فعلاً ممتاز – رغم إن جمالية العمل هي من الإخراج – تسلسل الأحداث والحوارات القصيرة فيه وخطب المناجات والحوارات الدينية الرائعة تصنع أحد أجمل النصوص وأكثرها عمقاً رغم بساطتها، التصوير تولاه بإتقان المكسيكي إيمانويل ليبوزكي (مرشح خمس مرات للأوسكار منها عن عمله الرائع في فيلم الفونسو كوران أطفال الرجال) وهو إعجازي بكل بساطة، ليس فقط اللغة التعبيرية المبهرة التي يقدمها بل أيضاً لجمال الصورة وإبهارها البصري وإظهارها الجمال الطبيعي النقي الذي يبحث عنه ماليك مع البرود المادي لعالمنا الحالي، المونتاج من هانك كوراين مبهر جداً يحافظ على قوة العرض السريالي للحدث بطريقة بعيدة عن التشويش وينقلنا باستمرار بين الماضي والمستقبل والحاضر بصورة متناسبة مع المشهد وبعيداً عن الإضاعة والتشتيت، موسيقى الرائع ألكساندر ديسابليت (مرشح أربع مرات للأوسكار عن خطاب الملك والملكة والسيد فوكس المذهل وبنجامين بوتون عدا تلحينه لأفلام هاري بوتير) كانت حاضرة دوماً من خلال مقطوعة شديدة التمييز وضعها بين مجموعة مميزة من الألحان والسمفونيات الأوبرالية والكنائسية، أداءات العمل عظيمة جداً براد بيت يقدم أداء عالي القيمة مبهر على بساطته هو يقنعنا بأنسيابية وعفوية بصورة الأب الأمريكي القاسي الجلف القادم من خمسينات القرن الماضي ويمزج بإبداع النقيضين بين المحبة والحنية والقسوة والصلابة والأمال العديدة المحطمة وخيبات الأمل المتتالية، المبدعة جيسكا شاستين تقدم دوراً بغاية القوة والصعوبة وأنا بصراحة أفضله عن دورها المرشح للأوسكار في help، مشاهدها أغلبها خالية من الحوارات ولكنها تستعمل بعبقرية لغة العيون وملامح الوجه وعفوية مطلقة وأسرة لتعطي صورة الشخصية وتقدم أداء مبهر بغاية الإقناع تجعل من صمتها ينطق لتتحدث عن ما تعانيه شخصيتها من نزاعات ومخاوف ومشاعر متضاربة، الصغير هنريت مكاركين يقدم على صغر سنة دوراً صعباً ومبهراً جداً على التوازي مع نجمي العمل والمخضرم شون بين رغم حضوره القصير ولكنه يعطي الصورة المطلوبة لشخص تائه ضائع يبحث عن ذاته بين عالم غارق بالمادية والمظاهر الكاذبة .
العمل من الأفلام التي يندر أن نشاهد مثلها وبنفس قيمتها وأفكارها، هو عمل بغاية الأصالة والفرادة والجمالية، مبهر على صعيد الفكرة والصورة والنتيجة، هو ليس عمل يخاطب القلب ويحرك المشاعر ، ليس عمل يخاطب العقل و يثير ذكاء المشاهد بأفكار وقضايا معقدة، هو عمل يخاطب الروح يذكرها بحقيقتها بوظيفتها بأصلها وبنهايتها، حين شاهدته للمرة الأولى منذ أشهر شعرت إنه العمل الذي ربما يكون تحفة العام، وبعد المشاهدة الثانية البارحة وبينها شاهدت أغلب أفلام العام الهامة ما زلت عند شعوري إنه فعلاً تحفة عام 2011 .

0 التعليقات:

إرسال تعليق