RSS

Million Dollar Baby - 2004


بعد أن أبهر المتابعين بروعة فيلم النهر الغامض هاهو المخرج والممثل العجوز صاحب الشباب المتجدد كلينت إيستوود الذي يعيش مرحلة ازدهاره الفني مع دخوله العقد السبعين من عمره يعود ليفاجئ الجماهير والنقاد بفيلم حبيبة بمليون دولار ، الذي قرع من خلاله باب المنافسة على الشرف السينمائي الأكبر مرة أخرى بهذا الفيلم المختلف كلياً عن فيلمه السابق النهر الغامض فهو ليس إجرامي بوليسي بل رومانسي درامي والشيء الوحيد الذي يجمع بين الفيلمين هو المخرج وكون الفيلمان مستوحيان عن قصص قصيرة ناجحة حيث كتب قصة الفيلم الحالي الملاكم المعتزل جيري بويد.

حبيبة بمليون دولار ليس فيلم عن الملاكمة كما يتخيله البعض بل إنه من جعل من الملاكمة نافذة ليقدم من خلالها جملة من العواطف والأحاسيس المتناقضة بين مشاعر الهزيمة واليأس والندم والوحدة والحسرة واستحقار الذات إلى الطموح والأمل والنضال والسعي ، وعدا ذلك فقد كان الفيلم دخولاً موفقاً إلى حياة الأشخاص المنسيين من قبل رفاهية الحياة الأمريكية والذين يقضون حياتهم على هامش هذا المجتمع، فراح يهتم بسرد أحاسيسهم الداخلية وكيف يفكرون وكيف يشعرون باتجاه طريقة حياتهم وذلك من خلال طرح عدة قصص لعدة أناس يربطهم فيما بينهم بؤس الحياة والطموح وعدم تقبل الهزيمة والسعي لإثبات الوجود وخلق حياة كريمة يرضى عنها صاحبها ولا تجعله مضطراً ليعيش تحت وطأة الذل والهوان، إنه قصة رائعة وتحفة نادرة أكرم المرأة حيث جعلها محركة لأحداث العمل ويد ملائكية دبت الحياة بقلوب مجموعة من الملاكمين الفاشلين وجعلتهم عن دون قصد يقاتلون تحت لواءها في معركة عادلة لأجل صنع حياة كريمة واستعادة كرامتها واحترامها لذاتها التي قضى عليها الفقر والذل.
لقد كانت جميع شخصيات العمل الرئيسية منها والثانوية أمثلة عن بؤس الحياة وتعاستها وبدايةً من الشخصية الرئيسية شخصية فرانكي الملاكم عجوز قارع بشبابه كبار لاعبي الملاكمة وكان له أمجاده وبطولاته ولكن دولاب الزمن دار به فأصبح مدرباً بنادي ملاكمة رخيص وقد تركه كل الملاكمين الذين دربهم ليشقوا طريقهم بمفردهم بعيداً عنه مما جعله يشعر بنقمة نحو الحياة والقدر الذي لم ينصفه ويغلق بابه بوجه كل إنسان يحاول دخول حياته فيفرض على نفسه عزلةً ويرفض الخروج منها إلا عندما تعود أبنته الجافية التي تركته منذ زمن والتي راح يرسل لها نداءاته الحزينة بواسطة رسائله التي كانت تعود جميعها بلا جواب، ولكن فرانكي يخرج من عزلته مجبراً بعد أن تقتحم عليه الشابة اليائسة ماغي حياته وهي التي كانت أيضاً تعيش أيضاً مع آلام الوحدة ومع أحساس يهمس لها بأنها نكرة ولا شيء وذلك الإحساس المؤلم بتحقير الذات راح يشتد ويكبر حتى أصبح جبلاً يثقل كاهلها بعد أن دخلت في العقد الثالث من العمر دون أن تحقق أي تقدم بحياتها لذلك ودون أن تجد أي معين لها بالأخص بعد أن توفي والدها والذي كان مثلها الأعلى ومرضت والدتها بينما أخيها مقيم بالسجن وأختها الصغيرة هجرها زوجها وترك لها أبناً لترعاه وحيدة فتقرر أن تدخل مجال الملاكمة علها تستطيع أن تجد احترام الذات الذي فقدته منذ أن كان عمرها 13 سنة، ومع تصاعد خط الأحداث في الفيلم نرى بأن العلاقة بين فرانكي وماغي هي علاقة منفعة متبادلة فكلاهما كان يحتاج للأخر حتى يعثر على نافذة الأمل التي توصله إلى الحياة التي يسعى إليها وتخرجه من عزلته القاتلة ومن بؤس حياته التعيسة ففرانكي وجد بماغي الابنة التي يبحث عنها وماغي وجدت به الأب الذي تفتقده، ولكن حب فرانكي يكبر حتى يتجاوز حب الابنة إذ أنه يصبح خليطاً بين الحب الأبوي والحب العذري فقد أصبحت ماغي له كل شيء أصبحت هي الهواء الذي يتنفسه والذي يدفعه على إكمال حياته بعد أن يأس ولكنه يبقي مصراً على عدم الإفصاح بعواطفه حتى يبقى ذلك المدرب الصارم الذي يقود ماغي إلى النصر بعالم الملاكمة وهذا هو الشيء الذي كانت ماغي تحتاجه أكثر من أي شيء أخر رغم أنها كانت هي أيضاً تشعر بهذه العواطف المختلطة نحو فرانكي الذي أوصلها إلى شاطئ الحياة وحقق لها أحلامها بعد أن كانت تتخبط طوال حياتها بين أمواج التعاسة والبؤس، كلينت إيستوود أدى دور فرانكي بأداء مميز أعترف له جميع النقاد بأنه أفضل أداء قدمه طوال حياته الفنية الطويلة فقد نجح بتجسيد تلك الشخصية المركبة بين ثلاث عناصر المدرب الصارم والأب الحنون والعاشق الولهان، أما هيلاري سوانك فقد أدت دور ماغي ببراعة شديدة وحساسية عالية وشفافية مفرطة حيث شعرنا جميعنا بالصدق أثناء تأديتها لهذه الشخصية التي هي تجسيد لكل الشخصيات المسحوقة في كل المجتمعات فهي الفتاة اليائسة والطموحة بنفس الوقت والعنيدة والمرحة الرقيقة خارج الحلبة والمتوحشة بداخلها البارة لوالدتها والصابرة عليها رغم كل ما عانته بسببها لقد كانت شخصية ماغي بحق من أفضل الشخصيات النسائية التي قدمتها السينما العالمية على مدى التاريخ حيث أبرزت الجانبين الذين تتحلى بهما المرأة الجانب الرقيق والأنثوي والجانب القوي والشديد والمضحي والمناضل وكانت أيضاً من أعظم الشخصيات التي صورت الكرامة والطموح والنضال بكل مجالاته فقد ناضلت ماغي طوال حياتها لتثبت أنها موجودة ولتنعم بالحياة الكريمة ثم راحت تناضل لأجل أن تموت بعد أن هزمتها الحياة حتى لا تكون عالةً على أحد ولا تضطر لأن تستجدي شفقة ولا معونة من أي إنسان كان .
ومن الشخصيات الهامة بالعمل شخصية أيدي سكراب التي أداها بحساسية القدير مورغان فريمان وشخصيته كانت تجسيداً للشخصية البائسة والمهزومة الذي لم يستطع أن تصمد بالمعركة ضد الحياة، سكراب كان في شبابه ملاكماً هاماً وعلى بعد خطوة واحدة من الفوز بلقب بطل العالم بالملاكمة ولكن خسارته بمباراة اللقب جعلته يخسر حياته كلها فرضي أن يعيش بداخل نادي الملاكمة يعمل بتنظيفه ويراقب الأبطال تصعد وتهوي وهو يساعدهم بحكمته وخبرته بعالم الملاكمة والحياة، كما يتضح بالعمل فإن خسارة سكراب بمباراة اللقب تلك وخسارته لعينه معها كانت بسبب سوء تقدير مدربه فرانكي (كلينت إيستوود) الذي خسر بهذه المباراة أيضاً مركزه كمدرب ملاكمة ضخم ورضي أن يبقى مدرباً ومديراً بذلك النادي التعيس، ورغم خسارة سكراب لماضيه الزاهر إلا أنه ليس نادماً على شيء فهو شديد الرضى بعمله ذاك ولكن الشيء الوحيد الذي يندم عليه هو عدم فوزه بمائة مباراة والاقتصار على 99 مباراة، وكما أن فرانكي يحاول الخروج من واقعه المؤلم عن طريق تدريب الأبطال الذين يتخلون عنه فإن سكراب يحاول أيضاً الخروج من بؤسه من خلال صب اهتمامه على الشخصيات الضعيفة والمهزومة التي يراها إنها أكثر براءة وطيبة من أبطال فرانكي الجاحدين فنراه يصبر على أنغر الأبله ويستحمل أسئلته السخيفة ويرد عنه سخرية المتبارين ويحاول تعليمه قواعد الملاكمة، ونراه أيضاً يساعد ماغي الشابة البائسة ويحاول إقناع فرانكي ليدربها وهو يساعدها أيضاً من خلال خبرته وتجربته السابقة مع فرانكي، حتى أنه يحاول مساعدة فرانكي صديقه ومدربه السابق ويقنعه ليدرب ماغي ليخرج بها من عزلته وهو يصبر عليه ويتحمل إهاناته المتكررة له ويتناقش هو وإياه بأمور كثيرة وقد كانت حواراتهما هي من أجمل الحوارات السينمائية التي شاهدتها ، في الفلم دلالات كثيرة على صفات سكراب ، فجوربيه المثقوبين يدلان على مدى زهده وبساطته أما إصراره على استعمال المنظمات الغالية لأنها تنظف أكثر فهو دليل على مدى اهتمامه بكمال العمل الذي يقوم به، وأكثر ما ميز شخصية سكراب بالعمل هو صوته الذي وصفه أحد النقاد بأنه متزن هادئ دافئة حنونة ومتكبر ومتمسك بماضيه البطولي .
أما سبب اختيار بويد للملاكمة كمحرك لأحداث عمله فالآن هذه اللعبة مثل الحياة يقاتل بها الإنسان لإثبات وجوده ويتلاقى ضربات كثيرة خلال كفاحه ويسقط مراراً وإن استطاع الوقوف في النهاية فهو الرابح، لم يكتفي كلينت إيستوود ببطولة العمل بل إنه انتجه وصمم موسيقاه وأخرجه مستمراً بأسلوبه المعتاد وهو هجر التقنيات والمؤثرات البصرية واستحضار الأساليب الكلاسيكية مع التأكيد على الأجواء السوداوية وإبراز الألوان القاتمة و استعماله بالتصوير لأسلوب الكاميرا المتلصصة وهناك من يصورها بالخفاء بكاميرا منزلية من خلال إظهاره لمشاهد العمل وكأنها مشاهد من الحياة الحقيقية و لأجل ذلك فكان يقلل من عدد الكاميرات والزواية خلال التصوير فلم يستخدم فراح تصوير كل مشاهد العمل بكاميرا أو اثنتين على الأكثر ومن زاوية واحدة أو اثنتين على الأكثر حتى خلال تصوير مشاهد مباريات الملاكمة التي كانت متقنة الصنع حيث نجحت كاميرته إيستوود بالدخول إلى الحلبة بين المتباريات والمتصارعات وأظهر كل ما تحويه رياضة الفن النبيل من جمال وحماسة ووحشية وعنف بنفس الوقت ومن أهم عوامل نجاح العمل هي اختياره لطاقم التمثيل فعمل صعب وحساس مثل هذا لابد أن يكون أبطاله على قدر كبير من الموهبة والإقناع وكما كانت عادة إيستوود فقد نجح باختيار طاقم التمثيل ابتداءً من نفسه حيث قدم واحداً من أفضل أدواره التمثيلية مثبتاً إنه يستطيع أن يبتعد عن المسدسات والأحصنة ليكون أكثر شفافية ورقة .

0 التعليقات:

إرسال تعليق