RSS

Inception - 2010



هل نحن أمام ولادة كوبريك جديد ؟.... هذا ما نطق به أغلب النقاد والمتابعين بعد خروجهم من رائعة الخيال العلمي الحديثة (Inception) فكريستوفر نولان الذي دوخ العالم قبل عشر سنين في متاهة ميمنتو وبهر الجمهور مع جوكره في فارس الظلام وبينهما صنع سينماه الخاصة وجمهوره الخاص المتزايد في الأرق وباتمان يبدأ والبرستيج أثبت إنه ليس صانع أفلام اعتيادي فعمله الجديد الضارب على شباك التذاكر ذهب بالجمهور إلى عوالم مختلفة ذهب إلى عالم الأحلام ولكنه صوره بطريقة مختلفة عن أي تصوير تقليدي صانعاً فيلم خيال لم ترى السينما بمثل جموحه منذ ماتركس 1999 فضمن العقل البشري قدم النولانز ملحمة الأكشن والخيال الخاصة به والبعيدة عن كل شيء تقليدي سبق وشاهده المشاهد بهذا المجال وضمن صناعة بصرية على أعلى درجات الرقي صانعاً متعة بكل ثانية تمر بالعمل وبنفس الوقت – وكما فعل في فارس الظلام – يسمح لأفكاره ودراماه بالمرور والانسياب ضمن الأجواء بل يجعلها هي المحرك الرئيسي لما يجري بالعمل.
العمل أشبه بمزيج بين (Mission Impossible و Ocean 11 و Matrix  و Bourne و Shutter Island و Memento  و Mulholland Dr و 8,5 ) ولكن ضمن رؤية نولان الخاصة والشديدة الامتياز أحداث تشعر بها أحياناً إنها تقليدية ولكن نولان بطريقة جذابة يجعلك تشعر إنها جديدة وأصيلة تماماً على الشاشة وإنك تراها لأول مرة، كما يجري مع مدمني الأفلام الذين يشاهدوا عشرات الأفلام أسبوعياً لدرجة أن أحلامهم تصبح مزيج مما شاهدوه وحين يعيشون الحلم ينسون أصله الواقعي ويعيشوه مجدداً نولان يأخذنا إلى تلك الأحلام ويحيّ فينا هذا الشعور ما يقدمه ليس على طريقة اقتباس كوينتن تارانتينو لأفلامه المفضلة فنولان لا يأخذ سوى الملامح العامة ويصنع منها هيكل فيلمه الجديد تماماً والبعيد عن التقليدية.
العمل يبدأ بافتتاحية غير تقليدية (كوب – دي كابريو) على شاطئ البحر ويقتاد أسيراً إلى عجوز ياباني خرف يقول له ذاك : (أنا اعرفك لقد اجتمعت بك في أحد أحلامي منذ وقت بعيد) (تأسيس) للعمل يصرح به نولان إنه سيذهب بالمشاهد (كما تقول شخصية الفزاعة في باتمان) إلى أماكن لن يتخيلها من قبل، (الفكرة هي أكثر أنواع الطفيليات خطورة متى علقت بالدماغ لا يمكن نزعها وتتكاثر بسرعة رهيبة حتى تسيطر على العقل) واحدة من العبارات الحوارية الرائعة التي يمتلئ بها هذا العمل والتي تقودنا إلى (الفكرة) التي يريد نولان تقديمها بعمله وهي عن (الفكرة) ماذا يمكن أن تفعل بحياة الإنسان كيف يمكن أن تغيره ، عملية غسيل العقل التي تمارسها وسائل الإعلام على الشعوب كيف يمكن أن لا أن تغير شخصياتهم فقط بل أن تبنيها مجدداً، أثناء سعي كوب وفريقه لزرع فكرة بعقل (روبيرت فيشر – كيليان ميرف) نعيش حالة غسيل عقلي تمارس على ذلك الشاب استغلال حاجاته العاطفية إدخاله بجو من الرعب والخوف إشعاره بالشك والريبة من كل ما يجري حوله تنكر العدو بشكل الصديق والحامي على عدة مستويات بل إنه ينتحل شخصية عقله الباطن ليجعله يؤمن بأن يزرع في عقله هي فكرة مولدة ذاتياً له ، استغلال الجنس لمحاولة تشويشه (الفتاة بالرداء الأحمر) استغلال ثغرات من ماضيه والتلاعب بها لقيادته نحو الهدف المنشود (كلمات الأب الأخيرة غير الواضحة) زرع عدم الثقة بالأشخاص المخلصين (عرّابه) نولان يرينا كيف تجري عملية التنويم المغنطيسي الإعلامية يرينا كيف تدخل بعقل المشاهد باحلامه عن طريق اللاشعور واللاوعي لتأثر به وتحوله نحو ما يريد والمبهر إن نولان يقدم تلك الفكرة بالذات بطريقة بعيدة جداً عن المباشرة – رغم إمتلاء فيلمه بالكثير من المباشرة بالنص بشكل مزعج إحياناً – يفعل فينا كما تفعل وسائل الإعلام يطلق تحذيره عن طريق اللاوعي عن طريق مخاطبة العقل الباطن يرينا إن زرع فكرة يمكن أن تأثر على حياة شعوب كاملة يمكن أن يبني مدن و صروح لم تكن موجودة ولا يمكن بنائها ويمكن أن يهدم إمبراطوريات لا يمكن المساس بها هو يحاول حين يقدم عملية الدخول إلى عقل فيشير أن يجعلها مبررة بأنه يجب هدم شركته التي ستصبح قوة عظمة جديدة بهدف زرع التعاطف مع أبطاله ولكنه بنفس الوقت يعمل في المحور الثاني لعمله المحور الخاص بكوب ونزاعه مع هواجسه وماضيه أن يرينا مدى خطورة عملية الزرع كيف يمكن أن تدمر عقل الإنسان حياته أن تجلب له البؤس ولكل من حوله.
نولان يحرص على أن يصنع فيلمه بصورة متداخلة من عدة أحلام والواقع بعد افتتاحيته المبهرة يدخلنا بلا مقدمات بأحد عمليات كوب وبصورة مشوشة بدخلنا نولان بين حلمين نرى كيف يعمل كوب مع فريقه الصعوبات التي تواجههم قوانين عالم الأحلام ثم نقطة الضعف التي يعيشها بسبب شبح زوجته معلومات وأحداث سريعة يقدمها نولان خلال تلك البداية المتداخلة تجعل المشاهد يدخل بأجواء العمل والتمهيد الذي يراه يفيده كثيراً في المراحل المتقدمة، نولان يلحق هذه المشاهد بتقديم مشاكل كوب الخاصة شوقه لولديه ومشكلته في أمريكا يجعل منها دافع خاص له ليرضى خوض تلك المهمة المجنونة زرع فكرة بعقل شخص وهي مهمة يصر نولان منذ البداية إنها مستحيلة ، تمهيد مشكلة كوب وعقده الداخلية لا يأتي من باب صنع دافع خاص لبطله بل أيضاً ليصنع محور عاطفي أخر شديد التماسك محور علاقة كوب الغامضة بزوجته الراحلة (مال – ماريون كوتيلارد) محور لا يقدمه نولان بشكل مباشر بل على دفعات يتصاعد مع أحداث العمل حتى الذروة ويقدمه وكأنه فيلم أخر تماماً ولكنه شديد الصلة بالفيلم الأول يترابطان معاً بشكل مبهر جداً دون أن نشعر بأي تداخل أو إفتعال .
كحال أوديسا الفضاء وبلايد رينر وماتركس و الناهي وغيره نولان صنع عملاً خيالياً غير تقليدي لن يحتاج للكثير من  الوقت ليصبح كلاسيكي نولان يقدم بذكار علم خاص جديد غير موجود ولكن متكامل بكل قوانينه وأدواته وأهدافه وميزاته وعيوبه قد تكون المشكلة بهذه الأفلام إن شرح تقنية هذا العمل وكيفية عمله تأخذ حيزاً كبيراً من وقت العمل وأحياناً الوسيلة المتبعة تكون المباشرة بالطرح ولكن نولان قام بما قام به الأخوان واشكوستي سابقاً في ماتركس زرع الفضول حول العلم والفكرة ثم إدخال عنصر جديد على هذا العالم (هذا العنصر كان المهندس ارديان – إلين بيج) وجعله يأخذ دور المشاهد باكتشاف ذلك العالم بمزياته وسلبياته ضمن استعراض بصري سريالي بغاية الإبهار .
في القسم الأول من العمل يحاول نولان على أن يجعل المشاهد يحيط بسرعة وبساطة بالكم الهائل من المعلومات الذي يقدمه عن عالم أحلامه يقدم لنا بشكل سريع ووافي عناصر المهمة المستحيلة ودور كل منهم بالخطة نعيش معهم مراحل رسم الخطة والاستعداد لها والخطوات التي سيسيروا عليها لتحقيق هدفهم حتى إذا ما بدأت المهمة يصدمنا نولان بالصعوبات التي ستواجههم صعوبات ليست متوقعة ولكن نولان غمز لها بالبداية ليسير العمل هنا برتم تصاعدي مليء بالتشويق والإثارة بالأخص مع تعقيد الأحداث والأحلام والصعوبات الجديدة المكتشفة ونقطة ضعف كوب التي تظهر على السطح وهنا يدخل العمل بقسمه الثاني يحافظ على الدراما ويشعرنا بها عن علاقة كوب بزوجته وروبيرت بولاده ويقدمها ضمن أجواء شديدة العنف والتشويق مشاهد مطاردات سيارات وإطلاق نار متقنة ولكن تقليدية عراك عنكبوتي مع إنعدام الجاذبية صراع ميليشيات على جبال الثلج وهذه المعارك تدور ضمن قوانين الأحلام الخاصة حيث كل تأثير يحصل يأثر على المستويات الأخرى ويخلق تحديات وصعوبات غير متوقعة أو منتظرة فكل القوانين من الممكن خرقها ولكن مع ذلك يحافظ نولان على اتزانه هنا ويبتعد عن جموح الماتركس في هذه الجزئية .
من المحاور الرائعة التي ركز عليها نولان بفيلمه هي فكرة تداخل الواقع بالحلم هروب الإنسان من واقعه ليعيش أحلامه ضغوط الحياة قوانينها التي تدفع الإنسان باستمرار ليبحث عن بديل عن شيء يرضيه ويرضي طموحاته كوب قال إنه في الحياة الحقيقية اضطر أن يعيش مع زوجته في منزل رغم إنهم كانوا يفضلون الشقق بالأبنية تعبير بسيط عن السبب الذي يدفع الإنسان للهرب إلى الأحلام والأهم هو التوسع بتلك الفكرة ليرينا أناس أدمنوا عليها أناس علقوا فيها حتى تدمرت حياتهم في هذه النقطة يغمز نولان (السينمائي الأصيل) إلى عالم مدمني الأفلام (وهو الذي كما قلت صنع فيلم كمزيج من ملامح وعوالم أفلام سابقة) ومدمني الانترنيت يرينا لماذا يهرب أولئك إلى عوالمهم الافتراضية لماذا يعيشون فيها حتى تصبح واقع بديل لهم وتصبح أحياناً سجن يؤثر على حياتهم بالكامل.
على الصعيد التقني من المستحيل أن تلاحظ ثغرة بفيلم نولان بل أن تلاحظ أي شيء تقليدي باستثناء بعض مشاهد المطاردات التقليدية هناك امتياز على كل الصعد المؤثرات البصرية التي لم تصنع عوالم جديدة بل تلاعبت بالعوالم الموجودة بطريقة رائعة المؤثرات البصرية القاسية المونتاج السريع بإناقة معهودة الإخراج الفني المتوازن بين السريالية والواقعية التصوير الأنيق الملحمي رغم تجاريته وشكله العام التقليدي الموسيقى الرائعة من هانز زيمر أفضل ما قدمه منذ المصارع ، وأجمل ما في العمل هو الأداءات التمثيلية المبهرة ليو دي كابريو نجم هذا العام بشخصيتين متشابهتا الملامح بفيلمين لكبار المخرجين وكلاهما إلى حد الآن أفضل فيلمين لعام 2010 يصنع لشخصية كوب شكل بعيد عن شخصية تيد في شتر ايلاند ولكن يحافظ على نفس الابداع هنا يتخلى عن الانفعالية المنضطبة الثائرة التي تطلبتها شخصية تيدي ليعتمد على النزاع الداخلي والشعور بالذنب الخفي والشوق العائلي والشعور بالمسؤولية حيال ما يجري مع الثقة المفرطة بالنفس أدائيه الرائعين بهذين الفيلمين يجعلني اتخيل بشكل شبه موقن دي كابريو متوج بأوسكاره المستحق عن كلا الدورين أو أحدهما.
ماريون كوتيلارد مبهرة فقط من الصعب العثور على كلمة أخرى تصف أدائها ومن الصعب وصف عظمة ما قدمته مثل ليدجر الجوكر نولان يقدم لنا شخصية غير تقليدية استثنائية تعبير عن الكابوس عن شبح أمرأة رائعة تحولت لوحش مزاجية ثائرة متحولة بين عدة حالات غير متوقعة بالمشهد الواحد، إلين بيج رائعة أيضاً أداء مثالي عفوية وطفولية مليئة بالحماس مع دخول ذلك العالم وشعور بالمسؤولية اتجاه الخطر الذي يحيط بهم تجعلني اتوقع أن أرى كلا الاسمين بين المتنافسين على مقعد أفضل ممثلة مساعدة بعد أن دخلا التنافس على مقعد أفضل ممثلة عام 2007 حين ذهبت الجائزة لماريون عن ادائها لدور المغنية اديث بيف التي صدح صوتها مراراً بهذا العمل.
الشاب الموهوب جوزيف جوردن ليفي (نجم مسلسل Third Rock From The Sun   و فيلم 500 يوم من سمر) يقدم أداء واثق محكم الشاب البريطاني الصاعد بقوة كيليان ميرف (مؤدي دور الفزاعة في فيلم نولان باتمان يبدأ وصاحب ظهور شرفي بنفس الشخصية في فارس الظلام و نجم فيلم العين الحمراء والفيلم الفائز بكان 2006 الريح تهز الشعير) يقدم هنا بتعاونه الثالث مع نولان أفضل أدواره على الاطلاق رغم قلة ظهوره ولكنه كان منافساً قوي لدي كابريو مؤثر ومحكم بالدور، الياباني القدير كين واتانابي (مرشح للأوسكار عن فيلم الساموراي الأخير ونجم أفلام راقصة الغيشا و رسائل من ايو جيما وشارك مع نولان بدور رأس الغول في باتمان يبدأ) يقدم بدور سانتو اداء جيد ومنضبط حاله حال توم هاردي وديليب راو، في الفيلم هناك ظهور لطيف وسريع لصاحب الأوسكارين مايكل كين أحد نجوم أفلام نولان السابقة باتمان يبدأ و البرستيج وفارس الظلام .
من أكثر الأمور المبهرة بفيلم (التأسيس) هي قدرة نولان على الامساك بمحاور عمله يجعل المشاهد مهتماً لكل ما يجري ومتشبثاً بكل المحاور مهمة زرع الفكرة صراع كوب مع أشباحه ضياع سانتو وإنقاذه ويجعل تلك المحاور مترابطة وذات تأثير متبادل ويصنعها كأنها ثلاث أفلام متقنة متداخلة ويجعل لكل فيلم نهاية خاصة به شديدة الإذهال (لقاء فيشر مع والده، تحرر كوب من أشباحه ، كلماته المنقذة مع سانتو وهذه النهايات الرائعة كلها لا تساوي شيء أمام النهاية الأهم النهاية المبهرة الشاعرية العظيمة التي تجعلك تنسى بعض الأمور المنغصة بالفيلم (السردية المباشرة في شرح العالم، تقليدية بعض مشاهد الأكشن وطولها، لحظات الغموض المشوش والمزعج فيه) لتدرك إنك فعلاً أمام فيلم يستحق التقدير.
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق