RSS

Shutter Island - 2010


لا يمكن تجاوز عرض أي فيلم جديد للمخرج القدير مارتن سكورسيزي دون اعتباره حدث سينمائي خاص، فالمخرج الستيني الذي يعتبر أفضل وأهم مخرج أمريكي في الوقت الحالي تشكل أفلامه كلها حالة سينمائية فريدة من نوعها وهو الذي عالج وعلى مدى حوالي أربعين سنة من العمل السينمائي مختلف حقب التاريخ الأمريكي منذ مرحلة الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر وحتى المرحلة الحالية يدخل يوم لأول مرحلة إلى مرحلة الخمسينات والحرب الباردة في فيلمه الجزيرة المغلقة – Shutter Island المقتبس عن رواية بنفس الاسم لدنيس ليهان مؤلف رواية نهر مستيك التي تحولت أيضاً لفيلم سينمائي ناجح من إخراج كلينت إيستوود يقوم سكورسيزي بتمرد على أساليبه السينمائية السردية القديمة والجنوح إلى أساليب أكثر تجريبية،  هو يعمل على صنع ما يمكن عدّه فيلم إثارة أو تشويق هوليوودي ولكن ضمن نظرته الخاصة وأسلوبه الخاص، شيء سبق له وقام به في الراحل و رأس الخوف ولكن هنا تبدو اللمسة التجريبية أكثر وضوحاً ويبدو هنا سكورسيزي في قمة ألقه ومختلفاً عمّا عرفه به جمهوره في السابق ولكنه من حيث المضمون الفني والفكري ما زال هو نفسه بل هنا يبدو أكثر شدّة وذكاءً بمناقشته للقضايا التي يعشقها عن العنف الإنساني والعقد النفسية وزيّف الإمبراطورية الأمريكية وأنهيارها وانعكاسات تناقض مفاهيمها على الفرد.

العمل يشكل التعاون الرابع بين مارتن سكورسيزي والنجم ليوناردو دي كابريو الذي يلعب بهذا العمل دور (تيدي دانيلز) المحقق الفديرالي وبطل الحرب السابق الذي يقوم مع شريكه تشاك (مارك رافيللو) بالنزول على جزيرة شتر المعزولة التي تستعمل كمصح تؤوي أخطر المجرميين المعقدين نفسياً، المحققان مهتمان بمتابعة التحقيق عن أختفاء مريضة متهمة بقتل أبنائها الثلاث بعد حالة اكتئاب أصابتها عقب فقدان زوجها عند نزول النورماندي ولكن مدير المصح الدكتور كونلي (بين كنزلي) وأحد أعضاء مجلس الإدارة العالم النفسي الألماني والنازي السابق الدكتور نارينغ (فون سيدوا) يبدوان غير متعاونيين بالشكل الكامل بل إنهما يحاولان تضليل التحقيق لإخفاء حقائق خطيرة ومخيفة جداً ليجعلا المحققان يدخلان بدائرة صرّاع تقودهما إلى دروب لم يتوقعا بحياتهما أن يدخلا فيها.
القصة على أعلى درجات الإثارة طوال فترة العمل الذي يسير ضمن نسق واحد لا يهدء ولا يفتر ومحبوك بشكل مبهر جداً يجعل من الصعب معه العثور على ثغرة تعكر نسيجه المتقن من المذهل والمفاجئ أن نهايته مفتوحة وتجعله يحمل عدّة تفسيرات والمذهل أكثر إنه حين المشاهدة الثانية للعمل ومحاولة فك رموز القصة تكتشف إن كل عوامل تقود إلى نهاية مفتوحة وإن كل أحداث العمل بل كل جملة فيه تحمل عدّة تفسيرات، متابعة العمل تشبه تركيب أحجية البازل أو محاولة حلّ لغز محير فهو مصنوع على أعلى درجات الذكاء والاتقان والإثارة ولكنه ليس رخيص أو سطحي يبدأ عند حادثة إختفاء تلك المريضة ولكن مع توالي الأحداث تصبح القضية أكبر من إختفاء وهناك ألغاز وجرائم أخطر تحدث وكلها مرتبطة ببعضها بشكل مخيف، ولكن وحتى بعد النهاية غير الواضحة والغامضة فإن المشاهد سيستنتج إن قيمة هذا العمل ليست بحبكته – المذهلة جداً - بقدر ما هي بالأفكار الهامة والقضايا التي يعالجها الفكرة الأساسية عن النظام ومحاولته إخضاع الفرد وإسكاته وتلينه وإلا فسوف تكون العواقب وخيمة وغير محمودة، أفكار عديدة منتقدة للنظام الأمريكي – الذي تعود سكورسيزي دوماً على مهاجمته – بالأخص بمرحلة الخمسينات حيث يصور إن النصر في الحرب العالمية الثانية لم يكن شريفاً وإنعكاساته لاحقت جيل أمريكي كامل أدى إلى إنحطاط نفسي وإخلاقي مخيف، ينتقد السياسة الأمريكية في الحرب الباردة وكيف إن تلك الإمبراطورية التي تدعي الحضارة والرقي أصبحت وجه جديد منمق للنازية وعن طريقها تستمر طموحات هتلر وأفكاره المجنونة وسكورسيزي عندما ينتقد تلك الحقبة فليس فقط من باب مراجعة قراءة للتاريخ – بالأخص إنه لا يقدم ما يمكن عدّه قصة حقيقية – بل في أغلب الأحيان ما نراه يمكن عدّه نقد للمرحلة الحالية ومحاولة ملاحقة أصل الداء الذي تعيشه أمريكا وتوصله لكل العالم، سكورسيزي بهذا العمل ينظر نظرة خوف للعالم الحديث ويطرح تساؤل ما فرق بين العاقل والمجنون في عالم تم إختراع فيه القنابل الهيدروجونية والذرية التي تدمر مدن بحالها ، وكما في روائعه الكلاسيكية السابقة يبحث عن غريزة العنف عند الإنسان عن التوحش بداخله ويحاول أن يلاحق أسبابه ويتابع نتائجه ولكن هذه المرة لا يدرس العنف عند نماذج فردية فقط بل يدرس العنف حين يسيطر على آلية نظام كاملة هو النظام الأقوى بالعالم.
الفيلم يعتبر أنجح أفلام سكورسيزي على شباك التذاكر مع أرباح تجاوزت 120 مليون دولار وحقق رضا جماهيري كبير ولكنه وبشكل فريد أقل أفلام سكورسيزي احتفاءً نقدياً، هو من نوعية الأفلام الجريئة والمزعجة التي تنال احترامها وقيمتها مع مرور الزمن لا مع عرضها الآني كفيلم نادي القتال لديفيد فينشر – الذي كان مرشحاً لإخراج هذا الفيلم – بهذا العمل لا يكتفي سكورسيزي بالجرءة والعمق الفكري بل يقدم بثورة بصرية سينمائية حقيقية حين يمزج بين تشويق هيتشكوك و فلسفة بريغمان وسريالية فلليني و غموض لينش و صدمة فينشر وعبثية كوبريك ولكن ضمن نظرته الخاصة وصورته الوحشية القاتمة هو خلاصة جهد عباقرة السينما وثوارها ومتمرديها، أساليبه وحيله البصرية مذهلة من حيث التصوير و المونتاج والإخراج الفني والأزياء والمكياج والموسيقى – التي لم تكن أصلية بالعمل بل ألحان أوبرالية كلاسيكية – الأداء التمثيلي يصل للقمة فطاقم الممثلين الذي يحوي ليوناردو دي كابرو ومارك رافيللو وبين كينزلي وميشيل ويليامز وماكس فون سيدوا وجاك ايرلي هايلي – جميعهم ممثلين مشهورين وحائزين على ترشيحات أوسكار – كانوا على نسق واحد من القوة والتآثير وعلى مستوى العمل المبهر .

0 التعليقات:

إرسال تعليق