RSS

The Terminator - 1984


لا يوجد قدر إلا الذي نصنعه لأنفسنا
حين بدأ مشروع (المبيد) يدخل حيّز التنفيذ كانت عينا جيمس كاميرون على ممثل واحد للعب دور كايل ريز هو بطل كمال الأجسام النمساوي والشهير بدور كونان البربري أرنولد شوارزنيغر، ولكن أرني – الذي أثبت خلال حياته السينمائية والرياضية و التجارية والسياسية إنه من أذكى الأشخاص بالعالم وأكثرهم صبراً- أراد الدور الذي يهرب منه كل الممثلين الصاعدين أراد الدور الثانوي وهي الشخصية الشريرة رغم إن أي ممثل صاعد يحلم بقيام دور البطولة الطيب، أرنولد كانت له حجّته وهي إن الشخصية لها حوارات كثيرة وعليها إظهار مشاعر معقدة وهو أولاً ليس ممثلاً محترفاً وثانياً لغته الإنكليزية ركيكة بعض الشيء ولهجته النمساوية غالبة على كلامه لذلك سيفشل بدور كايل ريز ويليق به دور المبيد أكثر، ومع إنه قام بالدور الثانوي الأقل أهمية بالعمل (مجرد شخص ضخم يحمل سلاحه ويطلق النار) ولكنه مع ذلك استطاع نقل الشخصية لتصبح رئيسية وتصبح العمل كله وعلامته التجارية المميزة والسبب الأول ليصبح العمل الكلاسيكي – مع وجود النص والإخراج المبهرين
ولكن بدون أرني لما كان العمل أصبح له تلك العظمة – فضخامة جسمه الحديدي المنحوت ونظرته الباردة الميتة ولهجته الآلية ومشيته العسكرية الهادئة تعطي للموت والرعب تجسيد حيّ أمام المشاهد بل إن أرني كذلك يبرع بإظهار الوحشية والشر وراء ذلك الجسم الميت البارد يجسد كيف إنه شخص لا يريد أن يتوقف بل لا يستطيع أن يتوقف ولا شيء يمكن أن يوقفه عن تحقيق هدفه المميت، أرني قدم أساسيات الأداء المبهر الذي سار عليه بارديم بشخصية توني شايغور في لا بلد للعجائز و صنع برأي أحد أعظم الأداءات السينمائية المتجاهلة، ما فعله أرنولد أبهر كاميرون قبل عرض العمل وكاميرون الذي أثبت أيضاً ذكاءه مبكراً أدرك الصدى الذي ستخله شخصية أرنولد بالعمل فجلع صورته وحدها تتفرد البوستر ووضع اسمه في مقدمة اسماء الممثلين بل إن الفيلم كله حمل اسم شخصيته The Terminator وفعلاً اصبح أرنولد قنبلة العمل وعبارة وحدها قالها بالعمل (I will be back) تحولت لأشهر العبارات السينمائية والكاريكتر الذي ظهر فيه النظارة الشمسية والوجه القاسي و السترة الجلدية الضيقة مع الدراجة النارية أصبحت رمزاً للثمانينات.
بداية العمل من أجمل البدايات السينمائية مشاهد مخيفة للحرب المستقبلية عام 2024 السواد الكئابة الحطام و ملايين الجماجم البشرية على الأرض والمصفحات الآلية تطحنها وهي تطلق جهاز الليزر الحارق، وعلى خلفية تلك البداية تظهر كلمات تروي شيء مما جرى : الحرب النووية وقعت الآلات أصبح لها وعيّ ذاتي وأعتبرت إن الإنسان عدو لها عليه تدميره، الإنسان قاوم بقيادة جون كونور وانتصروا ولكن ما زال هناك مواجهة أخيرة ليست في المستقبل بل في الماضي .
فكرة النزاع بين الإنسان والآلية لم يكن جيمس كاميرون أول من قدمها في السينما كوبريك سبقه إليها بتحفته أوديسا الفضاء و قدمها ريدلي سكوت مرتين الأولى بشكل ثانوي في رائعته Alien والثانية بشكل مفصل في Blade Runner  ولكن كاميرون الذي أعلن نفسه منذ أول عمل سينمائي إنه ليس تقليدي ولو كان يعتمد على أفكار يمكن عدّها تقليدية صنع عمله بثورية مبهرة جداً جعلته – بنظري على الأقل – أحد أفضل أفلام الإثارة على الاطلاق أحد أفضل أفلام الحركة على الاطلاق أحد أفضل أفلام الخيال العلمي على الاطلاق ومن أفضل عشر أفلام في الثمانينات، فبهذا العامل يتجه كاميرون اتجاه معاكس لمن سبقه لا يجعل النزاع الآلي والإنساني مستقبلي بل في الزمن الحاضر ويدخل فكرة العودة بالزمن بشكل ممتاز ومؤثر بالأحداث ضمن قصة محبوكة وذكية جداً ويضيف رؤيته السوداوية لذلك النزاع الذي لم يعد مجرد تمرد أو محاولة تمرد بل الآليين انتصروا وسيطروا على العالم وهم يزجون الناس بمعسكرات أبادة ويمزج تلك القصة  بالرواية الدينية الموجودة في جميع الديانات عن عودة المخلّص أخر الزمان بعد الحرب الكوينية العظيمة وبدون أن يصرح يجعل من جون كونور هذا المخلّص الشخص المولود بلا أب الذي سيعود بعد الحرب الكوينية لينقذ البشر ويخلصهم من تلك الكارثة بل يعلمهم كل شيء للنجاة بل حتى إن اسم الأم سارة يحمل أبعاداً دينية عديدة ولم يتم اختياره عبثاً .
التمهيد للأحداث والشخصيات على أعلى المستويات ظهور The Terminator المهيب وقوفه على سطح البناء مشرفاً على العالم كالخراب الذي ينتظره يقتل ثلاثة شبان ويأخذ ثيابهم ويبدأ برحلة البحث عن هدفه، على الجانب الآخر يعود كايل ريز من المستقبل ويركز كاميرون على إنسانيته يتعرض للمطاردة للتعب للإرهاق للإصابة ولكنه يتخلص منها بذكاء ويبدأ بمهمته.
كاميرون يركز على شخصية (المبيد) الذي لا يمكن إيقافه ولا يعرف التفاوض ويتجه نحو هدفه بوضوح وباستعداد كامل ويقتل بشكل مبرمج بلا رحمة ، كاميرون وقبل الدخول بالحبكة الرئيسية يدحل المبيد بعراك مع عدّة أشخاص جميعهم ببنية جسدية جيدة جداً ليظهر مدة قوته التي لا يمكن إيقافها ثم يقتل عجوز وسيدة منزل للتعبير عن مدى وحشيته وبعده عن الإشفاق ويهتم بتركيز المشاهد على الهرس يهرس بشاحنته لعبة أطفال يحطم تحت قدميه أي شيء موجود فهو شخص لا يفهم أي لغة سوى التدمير، بينما وعلى نفس الخط لا يكتفي كاميرون بتقديم كايل ريز بشكله الإنساني وحسب فمع عرض متاعب الإنسان الذي دخل تلك المتاهة هناك عرض لقسوة المستقبل الذي عاشه كايل ضمن مشاهد (فلاش باك ممتازة) قسوة ممزوجة بالأمل للنصر والنجاة في تلك المعركة التي يتعلق عليها مصير المستقبل ومن خلالها يمرر كاميرون تقديم لمدى ذكاء كايل وقوته كمحارب يجعله إلى حد ما كفؤ لمواجهة ذلك الآلي الذي لا يرحم.
مع التقديم السوداوي لتلك الشخصيات – التي ترمز للمستقبل الأسود – هناك تقديم زاهي الألوان لشخصية سارة كونور وتعريف بسيط ووافي عنها يجعلها قريبة لقلب الجمهور الذي يتعاطف مع متاعب حياة تلك الإنسانة التي لا تدرك مصيرها وقدرها، الأحداث تتصاعد حين تسمع سارة نبأ قتل إمرأة تدعى سارة كونور، والشرطة تضطرب حين يصبح عدد القتلى اثنتين كلاهما تحملان نفس الاسم سارة كونور وبدون أي رباط بينهما ، هناك ضحية ثالثة محتملة يجب الوصول إليها وإنقاذها قبل أن يصل إليها القتل الذي أصبح قريباً جداً لها.
الفيلم ليس فقط أكشن الثلاثين دقيقة الأولى تقريباً لا يوجد بها أي مشهد قتالي بل هناك إثارة وتوتر عاليين يصنعها كاميرون بشكل متقن وينجح بصنع فيلمه كمزيج بين الرعب والحركة (أسلوب أبتكره هو وأصبح ماركة مسجلة باسمه) فكاميرون يبقي هالة الغموض حول الحبكة العامة لا يفضحها مباشرةً ويجعلنا نشعر بريبة اتجاه كل من المبيد و كايل ريز وبتعاطف عالي مع سارة كونور ثم يحيط عمله بجو من الغموض والتوتر حيث الموت موجود بأي مكان ودون سبب مفهوم ويمارس بعض حيله ودعاباته المفزعة للمشاهد ثم يصبح الأمر جدياً مع وصول (المبيد) إلى سارة في الملهى الليلي صانعاً من خلاله كاميرون أحد أجمل مشاهد الثمانينات مع مشية أرنولد المخيفة ونظرته التي لا تحيد عن هدفه حتى وهو يحطم ذراع عامل الباب وعلى خلفية موسيقية ثمانينية صاخبة وأضواء حمراء كئيبة وتبطيء حركة الكاميرا دخلت السينما عصراً جديد عصر سينما الحركة والإثارة والتي لم يستطع سوى القلة اتقانها بشكل المبهر.
يستمر العمل بجو عالي الإثارة ضمن مشاهد حركة محبوكة جداً ومشوقة ومتقنة حتى اليوم ولكن بالمقابل كاميرون لا يغرق فيلمه بالحركة يوازن بين هذه الجوانب وجوانب الدراما والقصة العامة المحبوكة والذكية جداً يفضح بالتدريج عن ما يجري قصة الحرب النووية والاستعمار الآلي المقاومة وجون كونور ونمط الحرب ضدهم وهدف الآليين العودة بالزمن ، شكل ذلك الآلي وما هو وماهيته شكل الحياة في المستقبل ويقدم كاميرون استعراض جيد وسريع لنمط الحياة بالمستقبل بل إن تلك الدقائق المعدودة قدمت أسلوب الحياة بالمستقبل أفضل من فيلم Terminator 4 كاملاً ليجعل من عمله فيلم خيال علمي مثالي يحوي كل عوامل الاتقان والجمالية والذكاء المطلوبة بهذا الفن، ومع صناعة الحركة والخيال الممتازة هناك صناعة درامية مميزة وتدريجية للعلاقة العاطفية بين كايل وسارة ويوازن كاميرون بين العاطفة والإثارة بشكل عالي يجعله يقدم نفسه كمخرج ناجح للصنفين العاطفي الدرامي والإثارة والخيال العلمي بل إنه مع مرور السنوات صنع أفضل أفلام الخيال العلمي والحركة ونال الأوسكار عن فيلم هو أكثر الأفلام عاطفية بالتاريخ ثم كان أفضل من مزج بين الحركة والخيال والعاطفية في أفتار.
مع النص العظيم في المبيد هناك صناعة بصرية مبهرة جداً التصوير الممتاز المنتقل بين أجواء سوداوية وأخرى حيوية، تصوير مشاهد المطاردات الثوري والصعب المتقن يصنع مشاهد حركة ومطاردات رائعة جداً بل هي من أفضل ما جادت به السينما وإلى حد الآن ما زالت رائعة ومؤثرة رغم مرور حوالي خمس وعشرين سنة عليها، المونتاج ممتاز المتوازن بين حبكات القصة المختلفة، المكياج الرائع الذي أعطى للمبيد مع منحة آلية مع شكله الإنساني ومزجه بالمؤثرات البصرية لتقديم لحظات معالجة المبيد لنفسه، المؤثرات البصرية عظيمة ظهور The Terminator  بشكله الآلي الكامل ومطاردته لسارة بشكل مرعب ومتقن جداً ومبهر وثوري في الثمانينات مع فكرة تصوير الأحداث من عيني The Terminator المتقنة الصنع، تسريع الصورة أثناء مشاهد المطاردات كان ممتاز ومتوازن أفضل مما كنا نشاهده في أفلام بوند الكلاسيكية والمؤثرات الصوتية كانت جيدة ولكنها أضعف إلى حد ما مما هو مفروض ويمكن تبرير ذلك بضعف الميزانية والضعف التقنية في الثمانينات ولكن ذلك لم يمنع من صنع عملاً ثورياً أصبح أحد رموز حقبة الثمانينات وأحد الأعمال الهامة في التاريخ الشعبي للجمهور العالمي ومن أكثر الأعمال القادرة على امتاع المشاهد إلى اليوم وأضافت عليه الموسيقى التصويرية إبهار زائد فالمقطوعة الرائعة الممزوجة بين ضرب على الحديد وموسيقى آلية الكترونية مميزة تنتمي إلى جو العمل المخيف وتصنع إثارة وتوتر وسوداوية رائعة.
الفيلم لا يخلو من البعد الفلسفي الفكري حين ينظر كايل لتلك الآلات التي تقوم بإعمار الأرض وتتقاطع الصورة مع صورة للمستقبل التي تتحول فيه تلك الآلات لأسلحة تحطم البشر فيه تعبير عن الخوف الإنساني من الثورة التقنية التي لم تتوقف خوف فجره كوبريك ولم يهدأ لدى صناع السينما وعلى نفس الصعيد نظرة خوف من مستقبل الأرض بوجود السلاح النووي القادر على إبادة العالم وإزالته، وفكرة القدر والسير نحو المصير المحتوم كانت ظاهرة بهذا العمل ولكن بشكل مبسط وغير مباشر فعدّة مرات تنجو سارة باللحظة الاخيرة بفضل القدر لا غيره الذي يقودها لتحتل مكانتها بالمستقبل، كاميرون أثبت نفسه بهذا العمل ليس كمخرج خيال وحركة وتقنيات جيد فقط بل كمخرج دراما ذكي وماهر ليس فقط من صناعته الرائعة لعلاقة كايل وسارة بل وتركيزه على تطور شخصية سارة وبداية ظهور بوادر تحولها لأسطورة وأحد أسباب نجاة البشرية في المستقبل، قد يكون من المزعج بالعمل عدم التركيز على تفاعل كايل مع عالم جديد عليه لا يعرفه هو أجمل من عالمه بل هو الشيء الذي يطمح له وعدم إظهار ردّة فعله أمام كل شيء جديد يراه – كما في فيلم 12 قرد – ولكن يمكن تبرير ذلك بضيق فترة الأحداث، مع الإدارة البصرية الممتازة هناك إدارة رائعة للممثلين ليس أرنولد المبهر فقط بل أيضاً ليندا هامليتون ومايكل بايهن كانا رائعين جداً، جيمس كاميرون صنع عملاً عظيماً رغم محدودية الميزانية 6 مليون دولا وتأجيل موعد تصويره عدّة مرات لإنشغال جدول تصوير أرنولد ثم الرقابة المزعجة من الاستديو الذي أصر على عدم الإكثار من اللقطات المستقبلية مهدداً بإلغاء العمل إذا تضمن مشهد أخر زائد عن الموجود فيه خوفاً على مشاعر الجمهور وعدم إثارة مشاعر الاكتئاب لديه كما تم تعديل النهاية حيث ألغي مشهد يتحدث به كايل لسارة عن الشركة المصنعة لسكاي نيت (سباردين) وإلغاء مشهد أخر يعثر به عمال المصبغة على يد السايبورغ المحطم وعليه ختم شركة (سباردين) فالاستديو لم يكن مستعد لصنع جزء ثاني له ولم يكن يتأمل نجاح الجزء الأول ولكن النتيجة حطمت كل التوقعات واصبح الناهي أو المبيد أحد أفضل أعمال الخيال العلمي على الاطلاق ومن روائع الثمانينات وحقق أرباح تجاوزت 75 مليون دولار وهو رقم ممتاز نظراً للميزانية ولسنة الانتاج ونقل اسمي أرنولد وجيمس كاميرون ليصبحا من أهم الشخصيات في هوليوود.  
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق