RSS

Forrest Gump - 1994

 
بلا أي شك فإن عام 1994 هو أفضل أعوام التسعينات مع ثلاث تحف مختلفة اختلافاً جذرياً بولب فيكشين وإصلاحية شوشانك وفورست غومب، ثلاثة أفلام على نفس القدر من القوة والتجديد والجمالية الفنية والمتانة السينمائية والشعبية السينمائية ، كلاهم يتحدثون عن الزمن وتأثيره على الحياة والأشخاص ، أفلام تصدى لإخراجها مخرجين متمرسين أثنين منهم من كبار المجددين في عالم السينما وبطولة مجموعة من كبار نجوم التمثيل، من الصعب اختيار أي فيلم هو الأفضل بينها مما وضع الأوسكار هذا التمثال الأصفر الصغير بموقع شديد الصعوبة حيث عليه أن يكون الحكم لاختيار الفيلم الأفضل بسنة شديدة الصعوبة كهذه السنة بالأخص إنه مقيد بشروط صعبة وهي اختيار فيلم واحد فقط وأي فيلم يقع عليه الاختيار بين الأفلام الثلاثة تلك هو اختيار منطقي.
 
الفيلم صنعه خليفة ستيفن سبلبيرغ وربيبه وتلميذه النجيب روبيرت زيميكس العبقري الذي تصدى لصناعة مجموعة من أكثر الأفلام شعبية في التاريخ سلسلة عائد للمستقبل الخيالية الكوميدية وفيلم Who Framed Roger Rabbit   الذي يمزج فيه بين الرسوم المتحركة والمشاهد الحقيقية و كونتاكت و المقذوف بعيداً وفيلم الأنيميشين الرائع القطار القطبي السريع (وهذان الفيلمان الأخيران بطولة ممثله المفضل ونجم فيلمه هذا توم هانكس) ، هذا الفيلم يشبه إلى حد ما رائعته عائد للمستقبل حيث يرينا كيف يستطيع شخص عادي صنع الثقافة الأمريكية ففي عائد للمستقبل يرينا من خلال رحلة غريبة لفتى إلى الماضي كيف ألهم صناعة الزلاجات و أطلق أحد أكثر الصيحات شهرة في عالم الملابس صيحة كيفن كلاين و ألهم بفكرة فيلم حرب النجوم وموسيقى الروك وألفيس بريسلي ضمن قصة رومانسية مبتكرة، وهنا يعود ليقدم هذه التوليفة مجدداً ولكن بشكل أعم و أقرب للواقع والسحر في نفس الوقت يروي مسيرة التاريخ الأمريكي في القرن العشرين من خلال نظرة شخص أحمق عاش كل الحوادث وتفاعل معها وأثر فيها دون أن يدري ، شاهدت الفيلم للمرة الأولى قبل عشر سنين تقريباً وبهرني بشكل لا يصدق وخلال العقد الماضي تقريباً أعدت مشاهدته عدة مرات في كل مرة أعجب فيه أكثر وأكتشف فيه أشياء جديدة وفي كل مرة لم أكن أمانع من تسميته بالتحفة ، تحفة سينمائية ، تحفة بالصناعة والفنيات، تحفة بالتمثيل والنص ، تحفة بتقديم الفلسفة الإنسانية بكل بساطة عن الإنسان وقدرته على تغيير الأمة عن التاريخ والمستقبل والأجيال والسياسة والقدر وكان هذا الفيلم هو البداية بتحولي لمتابعة السينما الجادة.  

فيلم فورست غومب صاحب الأوسكارات الست وأحد أكثر الأفلام شعبية على الإطلاق وأكثرها تجديداً وفرادة، فيلم هارب من الزمن الكلاسيكي يقدم وردية وشاعرية وبراءة كلاسيكية صادقة رغم إنه يروي مسيرة حقبة هي أكثر الحقب الأمريكية سوداوية، يرينا جمال الحياة رغم كل الاغتيالات السياسية رغم سقوط القيم رغم الحرب الفيتنامية المجنونة رغم تفشي الفساد السياسي والأخلاقي رغم ظهور الإيدز، يرينا جمال الحياة بين كل تلك القذارة لأنه يروي الفيلم من خلال عينا شخص أحمق أو شخص معه طيبة مفرطة بالقلب أدت إلى اختلال المحاكمة العقلية عنده وجعلها في منتهى البساطة، هذه البساطة والطيبة التي تحلى بها غومب هي ما جعلته المحارب البطل والرياضي الناجح والمليونير الثري والشخص الملهم في الحياة الأمريكية، رغم إنه لا يدرك قيمة هذه الأشياء أو يدرك مدى أهميتها فبساطته تدفعه ليعود في النهار  إلى جز العشب في ملعب كرة القدم وفي الليل إلى التفكير بحبيبته الغائبة .
(الحياة كعلبة الشوكولا ... أنت لا تدري أي قطعة ستختار منها)
يبدأ الفيلم بهذه العبارة وفعلاً خلال الفيلم نرى كيف تلعب الحياة بالشخوص الخائضة فيها كريشة في مهب الريح نرى جميع الأناس حول غومب لديهم طموحات وأحلام لم يحققوها بينما غومب حققها كلها رغم تخلفه العقلي حقق الشهرة التي حلمت بها جيني والبطولة التي سعى لها دان والثروة التي أرادها بوبا ولكن في نفس الوقت هو لم يحقق حلمه بلقاء حبيبته جيني رغم كل السنوات الطويلة التي قضاياها تربطهما مشاعر الطفولة ولأن أسلوب حياتهما المختلف يجعلهما بعيدين فأسلوب حياة غومب البسيط يجعله يخوض بطيبة قلبه كل التجارب الدموية في أمريكا وينجح بالنجاة بينما أسلوب حياة جيني الجامح يجعلها تعيش كل التجارب الثورية وتتعرض لعشرات السقطات المدوية (تعري ، هبية ، إدمان على الكحول ، على المخدرات ، على الجنس ، على الفشل) ، من خلال استعراض زيميكس لهاتين الحياتين يرينا صورة للتاريخ الأمريكي في النصف الثاني للقرن العشرين ويرينا كل التحولات والصراعات التي حصلت بفترة قياسية جداً في أمريكا في تلك الفترة ألفيس بريسلي ، ثورة الحقوق المدنية للسود ، اغتيال جون وبوبي كيندي ، حرب فيتنام ، فضيحة واترغيت ، اغتيال جون لينون ، بداية انهيار الحرب الباردة ، ثورات السبعينات والستينات ، بداية تفشي الإيدز ،  وكأن ذلك الداء اللعين هو ليس سوى نتيجة لسياسة خاطئة خاضتها أمريكا وأسلوب حياة مريع منحط عاشه الشعب الأمريكي ، بينما الأشخاص البسطاء الذين حافظوا على التقاليد المحافظة وعلى صدقهم ولم ينجرفوا بمستنقع اللذات والمذاهب الفكرية والثورية الهدامة بقوا محافظين على نقائهم وبقوا هم الوحيدين القادرين على تحقيق النجاح .
إنه عمل مذهل بشكل لا يمكن تصوره زيميكس أبدع بشكل غير معقول بالتوازن بين البعد السياسي للفيلم والبعد الفلسفي والبعد الدرامي الرومانسي مع إضفاء بعض اللحظات الكوميدية التي تجعل الفيلم وجبة ممتعة لا يمكن تفويتها ودون أن يكون أي جانب طاغي على الآخر ، إنها قصة حياة استثنائية ولكن مروية بشكل شديد المنطقية وكل المبررات فيها موجودة لتكون واقعية دون أن نشعر بغرابتها، فغومب بالأصل مصاب بتقوص بالظهر بينما قدميه – كما وصفهما الطبيب – هما أقوى قدمين شاهدهما لذلك فليس من الغريب أن يكون سريعاً بالجري وأن يوصله ذاك إلى الدراسة الجامعية بفضل انتسابه لفريق كرة القدم رغم تخلفه العقلي، وسجله الرياضي البطولي يجعله مؤهلاً ليكون جندياً بالحرب، والبساطة والتلقائية التي يتميز بها تجعله جندياً ناجحاً فالحياة العسكرية تستوجب تنفيذ الأوامر العلية بلا تفكير لذلك فهو أسرع من يركب البندقية ويفكها لأنها بكل بساطة تحتاج إلى تركيز عقلي دون أن يشوش صاحبها شيء وغومب لا يوجد في عقله ما يشوشه ولذلك ينجح أيضاً في لعب البينغ بونغ ، وصفاء عقله وبعده عن التشويش يجعله مصغياً جيداً لكلام بوبا عن القريدس فينجح بالعمل بالقريدس ولكن يتأخر نجاحه لأنه لم يكن يدري إنه يصيد في المنطقة الخطأ بينما المنطقة المليئة بالقريدس تتعرض لعاصفة تضرب كل المراكب فيها ويبقى مركبه هو السليم فيصبح هو الصياد الأغنى في الشاطئ.
هذه القصة الاستثنائية يرويها زيميكس بشكل شديد الجمال بعيداً عن تقليدية أساليب السرد السينمائي وبشكل يجعل المشاهد متحداً بشكل رهيب مع الفيلم، هذا الفيلم أعاد تذكير الجمهور السينمائي بالقصص الساحرة الاستثنائية الرومانسية بعد عقدين من أفلام العصابات والأفلام النفسية هو من أكثر الأفلام إلهاماً بالفترة السابقة أفلام مبهرة عديدة ظهرت بعده تحمل نفس سحره وجماليته واستثنائيته حاولت مجاراته كأميلي و بينجامين بوتون والمليونير المتشرد – أكثر تلك الأمثلة برأي قرباً لغومب – ولكن يبقى لفيلمنا هذا سحره الخاص ، إنه بلا أي شك أفضل أعمال روبيرت زيميكس وأجملها يستحق أوسكار أفضل مخرج عن جدارة ليس فقد قدرته على الموازنة بين أبعاد فيلمه أو طرق السرد الاستثنائية التي استعملها بل عناصر تميزه كثيرة فهو كان أشبه بمن يصنع عشرة أفلام بوقت واحد ، ففي لحظات الطفولة يبدو كفيلم رومانسي طفولي شاعري، وفي لحظات فيتنام يبدو كفيلم حربي ملحمي بأمتياز، وبروايته لقصة جيني يتحول إلى أسلوب أخر سوداوي نفسي مذهل، بل حتى في اللحظات الحقيقية يبدو كفيلم وثائقي يؤرخ للتاريخ الأمريكي، زيميكس أبدع باستعادة أمريكا على مدى خمسين سنة وإظهار التغيرات التي يقدمها الزمن عليها من ناحية العمارة والملابس والأزياء بل حتى الموسيقى والأغاني حيث استعمل في كل مرحلة الأغنية الأشهر في ذلك الزمن ليعبر عنه ، الأساليب الفنية التي اتبعها كانت مذهلة المؤثرات المستخدمة وطرق إدخاله لفورست في الأحداث الوثائقية الأصلية كانت مبتكرة وممتازة، التصوير شديد الروعة والإذهال جمالية في الألوان وزواية التصوير مذهلة، المكياج رائع جداً أيضاً وكذلك الموسيقى مبهرة.
أحد نقاط القوة الرئيسية في الفيلم هو السيناريو العجيب الذي خطه إيريك روث كان آسراً بسيطاً ساحراً ضمن حوار قوي ومتين متلازم بشكل رهيب مع تلك الشخصية البلهاء ومعبراً عن فلسفتها بالحياة ومليء بعشرات العبارات السحرية (لقد كنت معي دائماً) (أنا غبي ولكني أعرف ما هو الحب) (الغبي الذي يتصرف كالأغبياء) ، أما الأداء التمثيلي فقد كان إعجازي توم هانكس ممثل ساحر جداً وأدائه لهذه الشخصيات الاستثنائية يكون دوماً استثنائي من الصعب أختيار الأداء الأفضل لهانكس بين مجموعة أدواره العديدة الرائعة وتحديداً هذا الدور وفيلادلفيا و المقذوف بعيداً ، هانكس أبدع بنظرات العينين ولهجة الكلام للتعبير عن هذه الشخصية البلهاء وتجاوز البلاهة للتعبير عن حب كبير صافي يحمله لجيني أفضل مشاهده برأي هو ذاك الذي يتحدث فيه بالطريق عن لقائه للرئيس نيكسون وكيف يبدو ذلك بالنسبة له أمر عادي جداً لقاء الرئيس – بل أصبح تقليد ممل بالنسبة له – روبين رايت ممتازة بدور جيني ومتحكمة أما غاري سينس  بدور دان فقد كان رائعاً جداً وفعلاً هو أفضل أداء له، سالي فيلد تظهر بدور صغير من خلال شخصية والدة غومب وكانت هي الآخر ممتازة تجعلنا نشتاق لها حين غيابها وأحد مصادر السحر في العمل ...

0 التعليقات:

إرسال تعليق