RSS

Farwell MyConcubine - 1993


يقول المعلم المسرحي : (قصة وداعاً خليلتي تتحث عن ملك شان ونزاعه مع ملوكهان وهزيمته وتخلي الجميع عنه حتى لم يبقى سوى محظيته التي قتلت نفسها أمامه حتى لاتراه يموت ... الحكمة من هذه القصة كل شخص مسؤول عنمصيره)
فيلم وداعاً محظيتي -Farwell MyConcubineللمخرج الصيني كانغ شين هو ليس أحد تلك الأفلام التقليدية التي تمربسهولة وتنسى هو ربما أحد الأعمال التي يصعب معرفة نقطة البداية بالحديث عنها من زخم الأفكار والمحاور التي يعالجها ضمن قوة فنية وبصرية عالية ومبهرة، هو أحد تلك الأعمال التي تعلو عن كونه مجرد إنجاز فني أو شريط سينمائي طويل بقدر ما هو رحلة فلسفية وتاريخية ونفسية ضمن حضارة وحقبة وتاريخ وشخوص من عاشوها، الفيلم يبدأ عام1977 مع دخول ممثلي المسرح الشهيران دوان ودانييه إلى أحد المسارح الصينية أماملجنة ثقافية يبدو من الواضح تمسك دانييه بدوان وتعلقه الشديد به يسأل مدير اللجنة منذ متى لم تقيما عرضاً مسرحياً يجيب دوان منذ أكثر من 10 سنين يصحح دانييه منذ 11سنة يقول دوان لم نلتقي منذ 9 سنين يصحح دانييه منذ عشرة وهذه البداية وهذا التقديموهذا الحوار يشرح الكثير عن الشخصيات ويقدم لها بداية وتعريفاً موجزاً ولكن كافياًووافياً يرينا تعلق دانييه غير الطبيعي بدوان والمسرح وعلاقة ذاك الاعتيادية معهمامما سيشكل الحبكة الرئيسية للعمل العظيم الذي يعود به المخرج بعد ذلك المشهد إلىعام 1924 وعلى مدى أكثر من خمسين سنة يروي شين قصة صداقة فريدة قصة صداقة مشوهة قصةحب مريضة قصة نجاح غير اعتيادية قصة نشأة إمبراطورية مشوهة .


مشهد عام 1924 وهو البدايةالحقيقية للعمل يتم تصويره بلون أبيض وأسود مائل للصفرة ولا يوجد ألوان واضحة سوى اللون الأحمر كإشارة من المخرج إلى بداية ظهور الشيوعية وانتشارها بين الشعب وإلى حمامات الدم التي ستسال في الصين في السنوات اللاحقة، في ذلك المشهد نرى أم حاملةولدها بحنان ولد صغير مدلل والدته تلبسه كالفتيات و تزينه مثلهن ذلك الولد هو دوزي- دانييه فيما بعد - الأم وولدها يراقبان عرض أوبرا صيني للأطفال عرض يبدع المخرج بتصويره بأسلوب براق مبهر جذاب للعين ويقطعه بمونتاجه الرائع مع نظرات دوزي وأمهالمنبهران بما يرينه وحينما يحاول أحد الفتية الهرب ويبدأ الجمهور بالغضب واضطهادمن تبقى من الصبية ومعلميهم ويطالبونهم بمالهم يتقدم فتىً غاضباً يحاول إنقاذ العرض حين يقوم بتحطيم حجر برأسه ذلك الفتى هو تشيزو - دوان لاحقاً - وهذه البداية يشرحبها المخرج الكثير عن نفسية بطليه الرئيسين دانييه و دوان، دانييه الذي منذ صغره يعامل كفتاة ومعتاد على الرعاية ودوان المعتاد على أن ينقذ صحبه ويضحي من أجلهم دوماً و هذا التعريف بالشخصيات يشكل أساس ناجح لعلاقتهما فكلاهما يكمل الآخر بشكلأو بأخر دانييه يرضي غريزة دوان بالاهتمام بالآخرين بالأخص بعد شعوره بالغربة فيالأوبرا ودوان يمنح دانييه الاهتمام الذي يحتاجه.
والدة دانييه يقدمها المخرج على إنها عاهرة ومهنتها هذه ليست مجرد مبرر لسببتخليها عن ابنها بل له بعد مهم جداً لاحقاً بتكوين شخصية دانييه وبعلاقته مع دوانفي مرحلة كبرهما، الأم تريد منح ابنها للأوبرا ليتعلم حرفة فنية راقية ولكي لا يضطرأن يراها تعمل كعاهرة ولكن هناك حاجز مهم وهو إنه يملك في إحدى يديه ستة أصابعفتغامر الأمر بقسوة بقطع الأصبع الزائد مما يجعل الأوبرا بالنسبة لدانييه منذ نشأتهمرتبط بالقسوة قصوة تخلي الأم و قسوة القطع لتصبح حياته فيما بعد سلسلة من الآلم في الأوبرا بحكم نمط الحياة القاسي المتعب كحياة الجندية والتدريبات المجهدة نمط حياة مناقض تماماً للرفاهية التي كان يعيشها دانييه مع أمه قسوة لا يخففها سوى عناية دوان به و لا ينهيها سوى الاتقان ليصبح هاجز دانييه منذ صغره اتقان الأوبرا لينهيحياته المتعبة لينهي الآلم الذي يعيشه والقسوة التي تحيط به.

في مدرسة الأوبرا يتدرب دانييه على أوبرا وداعاً محظيتي أوبرا تتحدث عن أحد ملوك هان الذي يهزم ولا يبقى لديه سوى محظيته المهووسة به والتي تقتل نفسها في النهاية قبل أن تراه ميتاً مهزوماً والفيلم ليس فقط عن الصعوبات والمعاناة التيواجهت فرقة الأوبرا لاتقان هذا العرض بل هو إعادة تجسيد ومقاربة لتلك المسرحية برواية جديدة عبقرية ومحكمة فدانييه يكلف بأداء دور المحظية بينما دوان يكلف بأداءدور الملك دوران يتناسبان مع طبيعة الشخصيات وعلاقتهما آثناء التدريب يبدو دوان متقناً بإبداع لدور الملك ومناسب له جداً - ومن لا يتمنى أن يكون ملك - بينما دانييه فيتكرر تعثره بالدور بالأخص بالمشهد الذي يتحدث به عن الشخصية عن كونها راهبأجبر بصغره على أن يتم تحويله لفتاة ليتم وهبه للملك ويصبح محظية عنده ، مشهد يتعمدبه دانييه الإخطاء كرفض داخلي لأن يكون إمرأة وإصرار كرامته الرجولية - بالأخص وهوفي مرحلة المراهقة - على أن يكون صبي ولكن التعذيب والآلم المستمر الذي يتعرض له يقتلان تلك الكرامة ويجبرانه على التحول لمحظية، مع ذلك المخرج لا يصر على جعلدانييه شهيداً بالكامل يعطيه عدة فرص للهرب والتخلص من ذلك المصير هو يتمكن منالهرب مع أحد الصبية ولكن يهرب من مدرسة الأوبرا ليدخل عرضاً أوبرالياً يدفعه ذلكالفضول ليكتشف ما هي الأوبرا التي يعانون لأجلها وحين يشاهدون ذلك العرض المبهريبكي صديق دانييه ويقول : (كم يجب أن يعاني المرأ ليصبح ممثلاً) وبين إبهار الأوبرا(والذي صوره المخرج بألوان ذهبية براقة وبأسلوب شديد الفخامة) ومحبة الجمهوروتقديرهم لذلك العرض الذي لا يعرف أحد من بينهم باستثناء دانييه وصديقه حجمالمعاناة التي خاضها الممثلين ليصل العرض إلى ذلك الاتقان يعطي الخيار لدانييهليختار فيختار أضواء الأوبرا عشق الجمهور وعندها لا يصبح بالنسبة له اتقان الأداءوسيلة بل غاية بحد ذاتها وحين يعود دانييه لمدرسة الأوبرا يغمز له صديقه إنه لايستطيع أن يكون بعيداً عن دوان، تلك الجزئية بخيار دانييه يجعلها المخرج عاملاًرئيسياً بفشل دانييه بمحاولة الهرب الثانية ولكن ليس الهرب من الأوبرا بل الهرب منمصيره حين يأتي ليان مكتشف المواهب ليرى من من التلاميذ مؤهلاً ليكون ممثل أوبرايقدمون له دانييه لأداء دور المحظية وخلال دخوله للقاءه تتقاطع الصورة مع صورة فارسيقطع رأسه المصير الذي ينتظر دانييه في حال استمر، دانييه في البداية يخطئ بالحوار ويتعثر به عمداً ولكن تعثره يعني استمرار المزيد من التدريب والانهاك لبقية الفرقةالمشتاقة أيضاً للعروض لذلك يتقدم دوان ويؤنب دانييه بعنف وهو يصرخ : (كم يجب عليناأن نعاني بسببك) يعاقبه وهو يبكي فالعقاب مؤلم له أكثر مما يكون مؤلم لدانييه،عندها يستسلم دانييه يتقن الدور إرضاءً لصديقه ولطموحهم وانهاءً لمرحلة العذاب التييعيشونها ويدخل دانييه مرحلة الهووس بالدور الذي يجعله لا يميز بين الأوبرا وغيرها بين التمثيل والواقع فيصبح أداءه دور المحظية هو حياته كلها يصبح المحظية فعلاًويجد بذلك تعبير مناسب أو تجسيد ناجح لعلاقته بدوان التي تصبح هي الأخرى هوس شاذليست مجرد تعلق صديق بصديقه.
و مع رواية قصة دوان ودانييه لا يهمل المخرج تقديم ذلك العرض الرائع ، خلال العمل نرى عرض وداعاً محظيتي كاملاً ولكن نراه مقطعاً على عدة مراحل خلال العمل وكل مرحلة مصورة بأسلوب معين يناسب المرحلة التي وصل إليها الفيلم وكل مرحلة تصلح كبداية فصل لمرحلة تعيشها الشخصيات ، فبعد فصل التدريب نرى الفصل الثاني يبدأ بعرض أوبرالي دانييه يؤدي به دور المحظية ويجسد المشهد الذي يتحدث به عن تحوله من شاب إلى فتاة - وقد أصبح متقناً للدور بل أحد أنجح نجوم الصين المسرحيين - هنا يبدو واضحاً إن دانييه استسلم لما فرض عليه أن يكون فتاة بل أصبح مستمتعاً به ولكن هناك الضريبة  آثناء العرض تنقطع الصورة مع مشاهد لعجوز نبيل صيني يراقب دانييه بشهوة ويطعوه لعنده ، دانييه يحاول الهرب منه ولكن لا مجال الآن للهرب أنت اخترت هذا المصير ورضيت به.
الفصل اللاحق يبدأ بعرض أوبرالي يتحدث به دانييه بدور المحظية عن إعجابها الشديد بملكها وحبها له، وفي هذا الفصل يعطي المخرج مساحة واسعة لتقديم تفاصيل علاقة دانييه ودوان علاقة بتعامل معها دوان كصداقة طبيعية وثيقة بينما هو يعيش حياة طبيعية بالكامل بينما دانييه - الذي فقد التمييز بين المسرح والحقيقة - يعيش كمحظية لدوان حتى إنه يقوم بتزينه بنفسه للعرض وخلال ذلك يوجد إيماءات جنسية عديدة من دانييه لدوان ولكن ذلك الآخير لا يستجيب لها بل لا يفهمها حتى لذلك يبقى مرحلة الأداء المسرحي هي الفصل الأهم بحياة دانييه ويومياته لأنه أثناء الأداء تكون فرصته الوحيدة ليكون إمرأة بالكامل وليعبر عن حبه الحقيقي لدوان وتكون لحظات الأداء بالنسبة له هي بديل عن ممارسة الجنس معه وهذه الجزئية تلعب دوراً هاماً مفصلياً فيما بعد، دانييه أصبح أفضل من يؤدي دور المحظية أصبح متمكناً من الدور لدرجة إنه ينجح بإيقاع الجمهور بحبه ومنهم يوان السياسي الصيني الثري الذي يتقرب من دانييه أمام دوان دون أن يعني ذاك له شيئاً أو يهتز له جفن بل هو يعبر عن حبه لفتاة أخرى لجوشيان عاهرة خان الزهرات ومع دخول تلك الشخصية تتصاعد وتيرة الدراما فيه والصراعات ليصبح أشبه بقصة حب ثلاثية ولكن غير تقليدية هذه المرة لا يوجد شابان يعشقان فتاة هناك فتاة وشاب يتنافسان على محبة شاب الذي يختار الفتاة .

ربما أكثر ما يتميز به هذا العمل هو قدرته على الحفاظ على سوية واحدة في عرض أحداثه لا يوجد فتور لا يوجد خفة هناك مستوى واحد من القوة والتصاعد يحرص العمل على تقديمه مع تزايد عدد الشخصيات الرئيسية وإدخالها المستمر والحرص على تقديم كل منها بصورة ممتازة وتقديم تآثيرها على الأحداث، شخصية جوشيان زوجة دوان تنجح أن تكون من أهم الشخصيات في العمل بعد دوان ودانييه سريعاً ويحرص العمل على عرض علاقتهما بكلاهما بشكل خاص متفرد ، جوشيان التي أدركت طبيعة دوان المندفعة للبطولية ومساعدة الآخرين جعلت من ذلك الطابع وسيلة لها للتخلص من واقعها كعاهرة وتصبح زوجة محترمة مشاعرها بالنسبة له تعتمد على إثارة إشفاقه المستمر نحوها أكثر من إثارة حبه حين تأتي إليه وهي حافية القدمين تترجاه ليتزوجها هناك تلعب على مزج حبه بالإشفاق لتسيطر عليه أثناء وصولها يتعاطف الجميع معها (وهم جميعاً رجال) إلا دانييه يأتي ويرمي لها بحذاء إنه الوحيد الذي يفهم عليها لأنه الوحيد الذي يفكر مثلها في ذلك المشهد يبدع المخرج بتقديم النزاع إنه فعلاً نزاع بين أمرأتين بل إنه يحرص في ذلك المشهد على إبقاء دانييه مرتدياً لباس المحظية وفي النهاية يختار دوان جوشيان وهو خيار يصر عليه حتى نهاية العمل وتذهب معه جوشيان وهي حافية متجاهلةً الحذاء الذي رماه دانييه، من المبهر مراقبة إنهيار العلاقة بين دوان ودانييه بعد زواجه مستعملاً المخرج الرمزية لذلك حيث يصور لنا كلاهما يعملان بجهة مستقلة في المكياج بعد أن كان دانييه هو من يزين دوان، وكيف رويداً رويداً تبدأ جوشيان بالهيمنة على دوان وقراره كيف يصبح هاجزها إبعاده عن دانييه - هي تتعامل مع دانييه على إنه إمرأة فعلاً دون أن تدرك ذلك بل مؤمنة إنه يوجد بينهما علاقة شاذة - ولكنها في كثير من الأحيان لا تستطيع سوى أن تلجأ له ليساعدها على إنقاذ دوان بالمقابل دانييه لا يوفر فرصة للتخلص من جوشيان ليس فقط لإبقاء دوان له بل إن جزئية الأم العاهرة تعود هنا، فأمه العاهرة التي رمته للأوبرا وقطعت أصبعه وتسببت له بكل ألم وعذاب هناك عادت بثوب جوشيان هذه المرة لتسرق منه  دوان وتشاركه بكل الاهتمام والرعاية التي يقدمها دوان له.
في هذا القسم بالذات يعطي المخرج لشخصية دوان مساحة كاملة لتعبر عن نفسها لا يعود التركيز فقط على دانييه ومع تقديمه لشخصية دوان يقدم معها المخرج عقدة الممثل المسرحي، هو   إنسان طبيعي يعيش حياة طبيعية ربما يكون جباناً ربما يكون منصاعاً لزوجته ولكن حين يرتدي ملابس الملك لا يستطيع سوى أن يكون ملكاً من المبهر كيف نرى تحوله حين يرتدي زي الملك كيف تتغير لهجته وقفته نظراته ملامحه كيف يتشرب القوة والثقة بالنفس لا يعد يهمه أحد لا الجنود اليابانيين لا المخابرات لا الهوجاء ولا أي شيء هو فعلاً ملك مهيوب قوي مؤثر.
مرحلة الإنهيار النفسي التي يعيشها دانييه يبدأ المخرج بتقديمها بمشهد أوبرالي تتحدث به المحظية عن بداية اعتيادها على الخمر ونرى دانييه مدمناً على المورفين تصوير تلك اللحظات وصل به المخرج للقمة جعل دانييه محجوباً وراء ستارة صفراء وهو يهلوس يكتب رسائل لوالدته ويمزقها ويدخن المورفين وتتقاطع تلك الصورة مع صور لحوض سمك قذر أصبح لون الماء فيه أصفر .
الفيلم لا يختلف كثيراً عن رائعة جيمس إيفوري بقايا النهار (الفيلم أيضاً من روائع 1993 ونال فيه عدة ترشيحات للأوسكار) فبالإضافة إلى المعالجة المتقنة للعلاقة المعقدة بين شخصيتين على مدة سنوات طويلة هناك نظرة للأحداث السياسية والتغييرات التي عصفت في العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، فيلم شين يبدو أعمق وأكثر شمولية واتساعاً في مناقشة البعد السياسية ومتصلاً أكثر مع خط الأحداث العام للعمل، البعد السياسي يصبح أكثر غناً مع دخول الأحداث مرحلة حكم الشيوعيين والثورة الثقافية وعصابة الأربعة يبدأ أيضاً بعرض مسرحي أوبرالي يغني فيه دانييه مع شياوسي الذي يؤدي أيضاً دور إمرأة وهو الأخر مهووس بالمسرح، والحضور هم من أعضاء الحزب الشيوعي الذي يطغون على المكان بينما خف البريق الأوبرالي والزخم المسرحي السابق وأصبح يتضائل أمام الشيوعين، هذا العرض لا يمهد فقط للعاصفة الشيوعية التي تهدد الصين بل أيضاً لوجود منافس شرس أيضاً لدانييه على عالمه المسرحي، شخصية شياوسي لا تدخل بشكل مفاجئ أو افتعالي هذه الشخصية هي أيضاً تقوم بدور هام جداً بالعمل وتساهم بتصعيد الأحداث وإغناء البعد السياسي فيه، هذه الشخصية التي عثر عليها دانييه و دوان في قصر النبيل الصيني العجوز الفاجر كنتاج مغامراته الجنسية الماجنة، ابن زنى لا حاجة له رمي في الطريق تم ايداعه في دار الأوبرا حيث نشأ فيها كإشارة من المخرج إلى فساد العهد الإمبراطوري الذي انتج هذه الشخصية وتلك الحقبة كلها فشياوسي كان أحد أكثر المخلصين للمسرح بل إنه يلتزم بتنفيذ عقوبة فرضها عليه مدربه حتى بعد موته ولكن مع بداية انتشار الشيوعية وما حملته من قوة ورهبة جذبت إليها ذلك الفتى دون أن يؤمن بها كحال أغلب المنتسبين لهم فنراه يمشي بينهم يهتف لهم ويرقص وحين يبتعد يتوقف عن الرقص ويمشي كشخص لا يكترث ثم يبدأ بالتمرد على المسرح وبتبتني أفكار الشيوعية كوسيلة للانتقام من القسوة التي كان يعامل بها من قبل معلميه الأوبراليين إشارة أخرى من المخرج إلى قسوة تلك المرحلة التي انتجت ذلك الشخص الانتهازي الوصولي الذي يرمز لحقبة شيوعية فاسدة كاملة ظهرت كردّة فعل على قسوة التقاليد التي تعرضت لهزة قوية بعد الغزو الياباني والحرب العالمية الثانية، شين يهتم بنقض مرحلة الفساد الامبراطوري وإنها بشكل أو بآخر هي وراء ما جرى في الصين وهي التي انتجت حقبة الشيوعيين فحين ينتحر أحد التلاميذ بعد هربه مع دانييه خوفاً من عقاب معلمه ينهار في نفس الوقت أحد جدران المسرح رمزية استعملها المخرج ليرينا كيف إن القسوة غير المفهومة أحياناً دفعت الشعب الصيني بلحظات الخوف لخيارات سيئة جداً ساهمت بإنهيار الامبراطورية العظيمة الراسخة، واثناء ممارسة دانييه للشذوذ مع يوان و زواج دوان من العاهرة تدخل القوات اليابانية بكين برمزية يجعل منها المخرج الفساد الأخلاقي هو من قسم ظهر الصين، ثم الجهل فنرى مظاهرة طلابية هوجاء تهاجم دانييه ودوان بسبب غنائهم لليابانيين يفرقها مدير الفرقة بهتافات سخيفة وكأن المخرج يتحدث عن الجهل في تلك المرحلة وكيف أضاع الصينين.

وبنفس الوقت الذي ينقض فيه المخرج الحقبة الإمبراطورية وفسادها فإنه يتفنن بالتهجم على الحقبة الشيوعية يبدع بتقديم تفاصيل عن فساد وهمجية تلك المرحلة، تلك المرحلة التي تميزت بقسوة وعنف يتجاوز قسوة وعنف مرحلة الامبراطورية قسوة غير مبررة ولا تهدف سوى لإذلال الإنسان وتحطيم كرامته ليست كقسوة الحكم الإمبراطوري أو قسوة التقاليد الصينية التي كانت رغم قسوتها إلا إنها كالألعاب الرياضية تهدف إلى زرع القوة والكرامة عند الإنسان الصيني لدرجة إنها انتجت وحوش أضاعهم الجهل والفساد ولم يفهموا القيم الصينية، الخوف في الحقبة الشيوعية والثورة الثقافية يصبح غذاء الناس فيها وطعامهم لدرجة إن الانسان لا يتردد بالتخلي عن عائلته و أصدقائه ومحبيه ورفاق دربه في سبيل النجاة ، شين يستعمل الرمزية في التعبير عن ما فعلته الثورة الثقافية بنفسية الإنسان الصيني فزمن الإمبراطورية كان دوان قادر على تحطيم الحجر برأسه رغم صغر سنه فالتقاليد الصينية كانت قادرة على صنع جبابرة ولكن حين تقدم بالسن وأصبح مكتمل الرجولة زمن الثورة الثقافية لم يستطع ذلك فالثورة الثقافية حطمت كرامته ونفسيته وجردته من كل قوة كان يملكها.
رغم إن المخرج ينقض بنفس الوقت العهد الإمبراطوري و العهد الشيوعي ولكنه يحافظ على تمجيده للحضارة الصينية وتقاليدها رغم قسوتها ويجسد ذلك في أحد مشاهد العمل العظيمة التي يمزج فيها بين البعد السياسي والبعد الدرامي للعمل، فبعد سنوات قطيعة يأتي دانييه لزيارة دوان في منزله يقف تحت المطر في الخارج يراقب دوان وجوشيان ينشغلان بإشعال النار وشرب الخمر وتدفئة نفسيهما وتقبيل بعضهما بل ويمارسان الجنس دون أن ينتبها له وتنتقل الكاميرا إلى عيني دانييه الغضبتان الحاسدتان وكأن المخرج يقول إن دوان الذي عاش حياة طبيعية نجح في الأيام الصعبة بالعثور على من يقف معه بينما دانييه الذي أصر على خياراته السيئة طوال حياته بقي وحيداً، تمجيد الحضارة الصينية بذلك المشهد يظهر حين تقدم جوشيان لدوان كؤوس من الزمن الامبراطوري تقول ساخرة إنها من العهد البائد وتدعوه لشرب الخمر فيها مرة أخيرة قبل أن تصادرهم قوة الأمن الشيوعية وبعد أن يشرب بهم دوان يحاول تحطيمهم ولكن الكأس لا ينكسر ويقول ساخراً : (إنه يرفض أن يتحطم) ولا يستطيع ذلك سوى بصعوبة وكأن المخرج يرمز للحضارة الصينية بتلك الكأس التي استعصت أمام الشيوعية، تمجيد المخرج للحضارة الصينية لا يتوقف عند هذا المشهد فخلال العمل كاملاً نرى الأوبرا الصينية تعرض في كل العهود وأمام كل الطبقات تعرض أمام نبلاء عهد الامبراطورية سياسي العهد الجمهوري ضباط الاحتلال الياباني وتلقى الإعجاب من الجميع وحتى حين يوقفها الشيوعين تعود للعرض مجدداً بعد نهاية الثورة الثقافية وحكم عصابة الأربعة وكأن المخرج يقول إن كل الفاسدين والطغاة سيذهبون وستبقى حضارات الشعوب موجودة وتبقى تحظى بالإعجاب والتقدير من الجميع بل وحتى حين ينتهي العمل يعرض المخرج سطر يقول فيه إنه أقيم لها سنة 1990 عرض تكريمي لها بمناسبة الذكرى الـ 200 لعرضها لأول مرة.
الفيلم الذي فاز بجائزة مهرجان كان عام 1993 مناصفة مع فيلم البيانو لجين كوبتين ونال جائزتي غولدن غلوب وبافتا كأفضل فيلم أجنبي وترشيح للأوسكار وسيزار في نفس الفئة هو أهم إنجازات المخرج الصيني الكبير كانغ شين الحاضر دوماً بمهرجان كان بعدة مناسبات منها عام 1996 مع نجمي هذا العمل ليزلي شاونغ (دانييه) ولي غونغ (جوشيان) بفيلم Temptress Moon وعام 1998 مع لي غونغ أيضاً في الامبراطور والقاتل و قد حصدت أعماله الأخيرى الوعد عام 2005 وسويةً عام 2002 إعجاباً جماهيرياً كبيراً وقدم في هوليوود مع جوزيف فينز و هيذر غراهام فيلم اقتلني بنعومة عام 2000 وكان عملاً رديئاً جداً وأسوء ما قدمه على الاطلاق، هذا العمل يصنعه شين كأنه أوبرا حقيقية الكوادر الضخمة الموسيقى الرائعة تعدد الألوان وتنوعها فخامة الديكورات أناقة الملابس عناصر بغاية الاتقان والجمالية والفخامة ولكن ليس فقط لصنع أجواء مزركشة بل معها يصنع شانغ تفاصيل بغاية الواقعية والصدق للبيئة الصينية، في العمل تحتار أين تبدأ بالحديث عن الجمالية فيه التصوير والمونتاج على أعلى درجات القوة والأهمية واستعمال الرمزية والربط بين المحاور في العمل وإشباع خصوصية كل شخصية وعلاقتها وتأثيرها لا يهمله شانغ ويقدمه بتأني وقوة.
هذا العمل يحوي أكثر طواقم التميل انسجاماً على الاطلاق وقوة فعدم إهمال شين لأي شخصية ساعد بجعلها تتقاسم البطولة والتألق التمثيلي بشكل مبهر، الممثل والمغني والكاتب والموسيقي الراحل ليزلي شاونغ (انتحر عام 2003 عن عمر 47 وكان شاذ جنسياً) يقدم أداءً عبقرياً بدور دانييه، شاونغ الذي يعتبر من أهم الممثلين الصينيين بالتاريخ يرتقي بأدائه بشكل غير معقول تعبيره عن نزاعات الشخصية هوسه بالمسرح تعلقه وحبه الصادق والمجنون لدوان غيرته وحقده القاتل من جوشيان شذوذه الذي لا يفهمه صرامته كأستاذ أنهياره كمدمن إبداعه كفنان كيف يتحول إلى شخصية أخرى حين يرتدي ثوب المحظية كيف يظهر ذلك الحب والتعلق الأعمى بدوان كيف يظهر نفسه وأنوثته تحارب للظهور دون أن تستطيع تفاصيل أدائه نظراته حركاته همسه أسلوبه بالكلام تعامله مع الجميع يقدم من خلاله لوحة أدائية رائعة جداً .
فاميغي زانغ بدور دوان يبدع هو الآخر ولا يترك لشاونغ فرصة ليخطف الأضواء يبدع بإظهار العاشق الولهان الصديق الوفي الممثل المتمكن الشخص المتحمس والمندفع ليكون بطلاً والإنسان العادي الذي يرزخ تحت وطئة ضغوط عديدة تجعله جباناً مهزوماً خائفاً وكيف يتحول حين يرتدي ثوب الملك ويصبح إنسان أخر قوي ومهيوب ومهيمن ومسيطر، الممثل الصينية الشهيرة والرائعة لاي غونغ تبدع بدور جوشيان تظهر أنوثة قوية طاغية تخطف الأضواء من منافسيه وتهيمن على العمل أحياناً كثيراً فقوتها وأنوثتها وذكائها وهيمنتها وغيرتها تشكل عناصر أداء اتقنته جوشيان ونقلته من دور ثانوي لدور مؤثر جداً بالعمل وهام، أوي لاوي بدور شياوسي رائع جداً ومتمكن بأدائه بشكل ممتاز جداً مانجاوي ما و زاي يان بدور دانييه في مرحلتي الطفولة والمراهقة و يانغ فاي و هاليونغ زاوي بدور دوان في نفس المرحلتين يبدعون أيضاً ويقدمون أداء لا يقل عن أداء الراشدين قوة وأهمية بالأخص بمرحلة المراهقة ومشهد أداء اختبارات التمثيل حيث تمكن يان وزاوي بمقارعة كبار ممثلين العالم بأدائهما الرائع الصعب و المعقد .
دوان : سأبقى أنا الملك وأنت محظيتي !!!
دانييه : لماذا يجب على المحظية دائماً أن تموت ؟
خاتمة العمل هي أعظم خاتمة سينمائية على الاطلاق فأثناء الأداء الأخير لدوان ودانييه لمسرحية وداعاً خليلتي بعد انقطاع 11 سنة يرددان المقطع القديم عن تحول الراهب إلى فتاة يتعثر دانييه مجدداً بهذا المشهد ومن خلاله يستعيدان وبسرعة حياتهما الماضية بكل أمجادها وعثراتها ونجاحاتها وإخفاقاتها ترتسم ابتسامة حنان على شفتي دوان بينما يردد دانييه المقطع مجدداً : (أنا بالأصل صبي ولست فتاة) يردده بأسلوب كأنه أدرك الحقيقة أخيراً أدرك إنه فعلاً صبي وليس فتاة وأدرك إن كل الخيارات الخاطئة التي اتخذها بحياته وسببت التعاسة له ولغيره كانت مبنية على اعتقادات غير منطقية ولكن فات الأوان على تصحيح ما جرى فلم يعد أمامه سوى قتل نفسه لمحي العار والذنب الذي يرافقه وعندما يفعل ذلك بختام عرضه الأهم والأفضل يصيح دوان : (دانييه) ثم يناديه بصوت منخفض باسمه الحقيقي : (دوزي) راثياً لطفل حطمت القسوة والجهل حياته وراثياً المخرج معه لأمة ولجيل كامل عاش بصورة مشوهة .

0 التعليقات:

إرسال تعليق