RSS

The Remains of the Day - 1993


من الأسباب التي تجعل فيلم بقايا يوم واحداً من أروع الأفلام الدراميا الرومانسية ليس فقط نضوجه وإتقانه بل أيضاً إنه كان له الفضل بإعطاء دفعة لهذا النوع ليعود إلى الظهور بعدة نماذج رائعة كأحاسيس ومشاعر ومعقولية لإنغ لي والمريض الإنكليزي لمانغيلا ، ولكن من ناحية أخرى فأنا لا استطيع أن أتحدث عن نضوج الميلودراما في بقايا يوم دون أن أتحدث عن نضوج مخرجه جيمس إيفوري الذي انتهج منذ بدايته الأولى النهج الميلودرامي حيث بدأ مشوار الإخراجي بإخراج الأفلام الوثائقية قبل أن يتحمل إلى إخراج الأفلام الروائية عام 1967 مع فلم The Householder والذي وضعت نصه الكاتبة الألمانية روث براور جهابفالا في أول تعاون بين الاثنين استمر فيما بعد بالعديد من الأعمال الناجحة جداً مثل Shakespeare Wallah عام 1965 الذي أكسبهما شهرة دولية وسمعة محترمة حافظا عليها مع أفلام Bombay Talkie عام 1970 و Heat and Dust عام 1983 ، من ناحية أخرى فقد نجح كلاً من إيفوري وجهابفالا بتقديم الاقتباسات لروايات الآدباء الأوروبيين الكلاسيكيين الناجحة وكانت البداية مع The Europeans عام 1979 و The Bostonians عام 1984 وعام 1986 دخل كلاً من إيفوري وجهابفالا ترشيحات الأوسكار مع إقتباس رواية الكاتب الإنكليزي الكبير هنري جيمس A Room with a View حيث وبالإضافة إلى النجاح التجاري الكبير الذي حققه الفلم فقد كسب عشر ترشيحات للأوسكار من ضمنها أفضل فلم ومخرج وممثلة مساعد لماغي سميث وإقتباس وكسبت أخيراً جهابفالا أوسكارها الأول لأفضل نص مقتبس، نجاح فلم A Room with a View تلاه نجاحات أخرى في أفلام Maurice عام 1987 و Slaves of New York عام 1989 و Mr. and Mrs. Bridge عام 1990 من بطولة الممثل الكبير بول نيومان ، وبعد عامين قدم كلاً من جهابفالا وإيفوري أحد أفضل أعمالهما منذ A Room with a View وهذا العمل هو الميلودراميا الراقية Howards End والذي دخلا من خلاله الأوسكار مرة أخرى في المجالات الرئيسية أفضل فلم ومخرج وممثلة (إيما تومبسون) وممثلة مساعدة فانيسا ريدغراف وإقتباس، وكسب الفلم أوسكاران هما أفضل ممثلة لتومبسون وأفضل إقتباس ثانيةً لجهابفالا .

و بعد تحفتهما الأخيرة بعامقدم أيفوري وجهابفالا أفضل أعمالهما على الإطلاق حيث أعادة لم شمل طاقم Howards End جيمس إيفوري للإخراج وروت براور جهابفالا للإقتباس وإيما تومبسون للبطولة النسائية وأنتوني هوبكنز بالدور الرئيسي باختيار فاجأ النقاد ليقدموا خمستهم أحد أفضل اقتباسات السينما على الإطلاق وروعة ميلودراميا رومانسية سياسية مستحيلة التكرار هي بقايا يوم، عملاً جمع به جهابفالا وإيفوري خبرة السنين الطويلة وقدم به تومبسون وهوبكنز قمة الإتقان التمثيلي فكان فلماً عصياً على التكرار وكارثة بالنسبة لإيفوري وجهابفالا اللذان عجزا بعد هذا الفلم أن يحققا أي نجاح يتجاوز روعة فلمهم المذكور بل وحتى هوبكنز لم يقدم أي عملاً منذ هذا أي عملاً بنفس المستوى في حين تومبسون نجحت بتجاوز الأزمة التي أحدثها بقايا يوم بفلم ميلودرامي أخر هو أحاسيس ومشاعر لإنغ لي الذي اكسبها الأوسكار الثاني كأفضل إقتباس .
الفلم يفتتح بصورة مرسومة لقصر دارلنغتون تبدأ الصورة تتلاشى لتذهب بنا الكاميرا إلى القصر البارد المعزول، افتتاحية تذكرنا بالعديد من الأفلام الإنكليزية والأمريكية في الأربعينات والخمسينات وتحديداً أفلام ألفريد هيتشكوك كـربيكا وسايكو حيث القصر البارد النائي الذي يحوي بين طياته أسرار وخفايا خرافية ومرعبة، نعم كان هناك العديد من الأسرار في طيات قصر دارلنغتون الكبير الموحش ولكنها أسرار عن السياسة والحرب العالمية الثانية وعن قصة حب رائعة وعن ماضي وأسرار وماضي العديد من الشخصيات وهذه التوليفة هي التي تزيد من جمالية العمل وروعته حيث بإمكانك أن تراه كفلم سياسي عن تغير موازين القوة السياسية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية أو فلم رومانسي عن قصة حب استثنائية أو فلم اجتماعي يصف البيئة الإنكليزية الارستقراطية في القرن الماضي أو فلم درامي عن ماضي الشخصيات وهمومها ومعتقداتها، هذه المحاور كلها التي قام عليها الفلم كانت جميع حبالها تقودنا إلى شخص واحد فقط هو السيد ستيفنز الذي اعتمدت حبكة الفلم بأكملها على بناء شخصيته والتي أحسنت جهابفالا بناءها ورسم ملامحها فكان السيد ستيفنز محرك العمل ومحوره وشاهداً على الكثير من أحداثه في نفس الوقت، والسيد ستيفنز هو الخادم الإنكليزي المتفاني المخلص العاشق لعمله والتي يرى نفسه محظوظاً لحصوله على منصب رئيس الخدم ويرى في خدمة النبلاء واللوردات مهنة كريمة وعريقة وشريفة حيث يختلط بهم ويساهم معهم بصنع مستقبل البلاد، السيد ستيفنز كرس نفسه لهذه المهنة ولم يعرف شيئاً غيرها رفض الزواج والارتباط حتى لا يشغله ذلك عن عمله، نراه في مشاهده المتقدمة بالعمر يصحو باكراً قبل الجميع ويبدأ يعد القصر لسيده ويجاوب على سؤال (ما أكثر ما تحبه ؟!) بجملة العودة إلى قصر دارلنغتون وحل مشاكل الخدم، وفي مشاهد شبابه اللاحقة نكتشف أن نشاطه الاستثنائي في كبره هو استمرارية لنشاطه المتوقد في شبابه فهو بقي محافظاً على نشاطه وتفانيه أكثر من عشرين عاماً ولم يختلف السيد ستيفنز العجوز عن السيد ستيفنز الشاب سوى بظهور بعض التجاعيد والثقل بالحركة نتيجة كبر السن، الرائع في بناء جهابفالا لشخصية السيد ستيفنز إنها لم تجعلها محصورة بهذا الإطار بل راح جعلنتا نغوص في أعماق هذه الشخصية ونتعرف على خفاياها وهمومها وأحزانه وأسباب تفانيها وذلك من خلال استعراض علاقة السيد ستيفنز مع أهم شخصين بحياته والده السيد ستيفنز الأب ومدبرة المنزل السيدة كنتن، منذ المشاهد الأولى لاجتماع السيد ستيفنز مع أبيه ستكتشف السر وراء افتتانه بمهنته لقد كان والده هو السبب بذلك فالسيد ستيفنز هو نسخة عن والده ورث حب هذه المهنة عنه وهو الذي تولى تدريبه وتعليمه إياها وتنويره بأسرارها حتى أصبح يماثله بالمشية وبالنشاط وطريقة الكلام فالسيد ستيفنز يرى في والده إنساناً عظيماً ومثله الأعلى ويريد أن يصبح مثله، ولكن ليس هذا كل شيء فعزوف ستيفنز عن الزواج والارتباط ليس بسبب عدم انشغاله عن عمله بل تلبيةً لنصائح والده الذي لا يريد لأبنه أن يعيش مثله تجربة زواج فاشلة كان من الواضح أن سبب فشلها موت العواطف في داخل السيد ستيفنز الأب نتيجة لغرقه بعمله، ولكن وفي استمرار الأحداث نجد إن تفاني السيد ستيفنز لا ينبع من مجرد عشقه لهذه المهنة بقدر ما هو تلبيةً لوصاية والده التي تشكل في بعض الأحيان عبئاً ثقيلاً عليه فهو رغم كل المجهود الذي قام به لم يستطع أن يكون مثله 100 % لم يستطع أن يقتل كل العواطف والإنسانية بداخله لذلك فنراه يعيش حالة اضطراب وصراع داخلي يحاول التنفيس عن عواطفه بقراءة الروايات الرومانسية سراً والمصيبة عندما يقع بغرام السيدة كينتن مدبرة المنزل والتي لا يجرأ على أن يبوح لها بعواطفه أو أن يأتي بأي حركة تفضح مشاعره حتى لا تدمر حياته وصورته التي عمل على صنعها على مدى سنوات طويلة وحتى لا يخذل والده الذي أقنع ولده بفكرة العزة الرجولة وإن على الرجل أن لا يسعى وراء المرأة وأن لا يجعلها تسيطر على عالمه وتشاركه حياته، ومن هنا فقد كانت صياغة جهابفالا للعلاقة الرومانسية الغريبة بين السيد ستيفنز والسيدة كينتن متقنةً فعلاً، هي يصوغها بطريقة لا تجعلها تتطور تضيع بين صد ورد دون ملل أو سأم، جهابفالا لا تبني العلاقة بناءً عادياً الحب بينهما لا يبدأ منذ اللحظة الأولى بل هو ينشئ نتيجة العشرة والاحتكاك المستمر بينهما نتيجة العمل سويةً لسنوات عديدة تحت سقف واحد، جهابفالا لا تجعل العلاقة متهورة أو جنونية أو تقليدية ولا تجعل البطل شاباً نبلاً والبطلة أميرةً حسناء، هي جلبت لنا نماذج من الحياة العامة لم تجعل التأثير بينهما يعتمد على الشكل بل تركت الأمر لشخصيتها وطريقة تفكيرهما هي التي تخلق تلك الألفة التي تتحول إلى صداقة ثم إلى حب متوقد راح السيد ستيفنز يطفئه مراراً حتى لا يحرقه ويخذل والده والعهود التي قطعها على نفسه ولكنها مع ذلك راحت تعود للظهور كلما انطفأت، جهابفالا ترينا المبررات التي تجعل كلاً من السيد ستيفنز والسيدة كينتن ينجذبان لبعض، جهابفالا راعت طبيعة السيد ستيفنز الفريدة والغريبة والتي تجعل من الصعب أن ينجذب لأي امرأة عادية فجعل من السيدة كينتن شخصية فريدة من نوعها محببة فعلاً تستطيع أن تأسر أي شخص يتقرب منها ويتعرف على حقيقتها وراء ثوب المرأة العاملة فهي ليست كأي امرأة عادية هي مرحة بأدب متحدية عطوفة متقنة لعملها ليست من النوع الذي يحب الخضوع لأوامر السيد تحب المجادلة والمناقشة، وأكثر ما لفت نظر السيد ستيفنز للسيدة كينتن هي عاطفتها وشفافيتها ورقيها التي غمرته بها دون أن يتوقع وهو الشخص الذي لم يتعود على الحنان من أحد. أما السيدة كينتن رأت بالسيد ستيفنز شخصاً فريداً من نوعه جذاب وآسر أحبت طريقته بالكلام ووقاره وهيبته وغموضه وسطوته وقوته وأفكاره وتفانيه بعمله، هي كانت تدرك أنه يحبها أو على الأقل يخفي لها بعض المشاعر ولكنه لا يريد الإفصاح عنها وهذا ما يجعلها تبقى مستمرةً بحبها له ولا تمل من محاولات ترويضه المستمرة والعمل جاهدةً على تمزيق ثوب العمل الأسود الذي يرتديه لتظهر الإنسان ذا المشاعر بداخله. علاقة الحب بين السيد ستيفنز والسيدة كينتن تبدأ عندما تقوم السيدة كينتن بوضع زهرية الورود في غرفة السيد ستيفنز الذي رفض وضع الزهور وحاول التهرب عن موضوع العواطف بالحديث عن العمل، ورغم تهربه فقد شعر بداخله بالغبطة لوجود إنسانة تهتم به هذه الغبطة التي تطورت إلى حب لم يظهره للسيدة كينتن وراح يحاول إنكاره هو بنفسه فعندما يسأله صديقه السيد بين رئيس خدم أحد اللوردات عنها يقول باللهجة حنونة تحوي حرقة: (إنها مثالية) ثم لا يلبث أن يحاول تدارك الموضوع والحديث عن أشياء أخرى، العلاقة بين كلاهما تأخذ شكل مشهد تقديم الزهرية فالسيدة كينتن تعمل دوماً على لفت نظر السيد ستيفنز ومحاولتها أن تجعله يشعر بعواطفها وهو يتجاهل ذلك باستمرار ويتهرب بالحديث عن العمل ولكنه في داخله يعيش حالة فرح كبيرة وحزن بنفس الوقت بسبب عدم قدرته الاستمرار معها والتطور بالعلاقة، ولكنه مع ذلك لا يمنع نفسه من رسم ابتسامة عندما تبدأ السيدة كينتن بمحادثته ولا يمنع نفسه من مراقبتها باستمرار وهي لا تنتبه لذلك مفوتةً على نفسها لحظات عديدة من نشوة الشعور بحب السيد ستيفنز وهي التي كانت تطرب لكلمة جميلة يقولها نادراً، كما في مشهد عندما تحاول السيدة كينتن سحب الكتاب من يد السيد ستيفنز الذي يقرأه بالسر لتعرف ماذا يقرأ تقوم بقوة بمحاولة إبعاد يده عن الكتاب ويصبح كل تركيزها متجه إلى يد ستيفنز القوية ولا تنتبه إلى أن ستيفنز كان يحدق بوجهها ولم يعد يعي لأي شيء بالعالم من حوله وبقي ممسكاً بالكتاب بقوة أكبر من قبل ليس لأنه لا يريدها أن تعرف ماذا يقرأ بل لأنه يريد أن تبقى السيدة كينتن قريبة منه أكبر قدر ممكن وأطول فترة ممكنة، ورغم أن جهابفالا جعلت من شخصية وطبيعة السيد ستيفنز هي الطاغية على العلاقة والمحرك لها ولكنها مع ذلك أعطت السيدة كينتن فرصةً للانتفاضة ولتقرر هي مصير العلاقة، فالسيدة كينتن كانت تطير فرحاً عندما تسمع كلمة عذبة من السيد ستيفنز ولكنها لاحقاً لم تعد الكلمة الجميلة التي نادراً ما ينطق بها ستيفنز تحدث ذلك التأثير عندها أصبحت تريد أكثر من ذلك، طبعاً فإن التحول لدى السيدة كينتن لم يكن وليد اللحظة كان سببه عدة مؤثرات مرت على السيدة كينتن منها مللها المستمر من صدود السيد ستيفنز الغير محتمل، ثم جاءت حادثة زواج أحد الخدم تشارلي من الخادمة الجديدة لتثير العديد من الشجون لدى السيدة كينتن حيث إنها حسدت الخادمة على جنون تشارلي بها وهو الشخص المهووس بأن يصبح كالسيد ستيفنز رئيساً للخدم ولكنه ترك كل أحلامه سعياً وراء حبه، لقد كانت كينتن تتمنى أن يكون ستيفنز جريئاً مثل تشارلي وهي تدرك أنه يحبها وحتى وإن لم يقول لها ذلك ولكن ستيفنز بعيداً كل البعد عن ذلك، لقد كان زواج تشارلي من الخادمة الضربة التي جعلت كينتن تنظر إلى نفسها وتفكر ما هي نهاية مصيرها وهي تنتظر ستيفنز، وبدأت أول إمارات التغير تظهر عليها عندما تحاشت الكلام مع ستيفنز وطلبت منه أن يتركها لوحدها عندها ثار السيد ستيفنز غضباً جراء تلك الصدمة المرعبة فهو لم يكن يتوقع على الإطلاق أن تصده السيدة كينتن وترفض الحديث معه وهي التي كانت دوماً المبادرة بالحديث معه وفتح المواضيع، وهذا الموقف يعني أن السيدة كينتن بدأت تفقد اهتمامها به أي إن ستيفنز سيخسر الإنسانة الوحيدة التي اهتمت به يوماً، ولكن ، ورغم كل ذلك فإن ستيفنز لم يكترث للإشارة ولم يتغير فهو غير قابل للتغير وليس مستعداً له هو شخص غريب ومتناقض يخدم الناس ويقضي لهم حاجاتهم ولكنه لا يخدم نفسه أو يساعدها، إنه يدرك إن كينتن قد تتركه وهو لا يريدها أن تتركه ولكن لا يفعل أي شيء ليمنع ذلك، إن هذا التعقيد الذي في نفس ستيفنز أدركته كينتن بالنهاية فأصبحت تفكر جدياً بالتخلي عنه، وبهذه الأثناء يظهر الشخص الثالث كالعادة ، ولكن ظهوره هذه المرة ليس ليغير الأحداث ويغير الأبطال بل إن ظهوره لا يعني سوى خاتمة ممتازة لمعاناة العاشقان التي يبدو إن لا نهاية لها سوى بالهجر، فستيفنز لا يريد التقدم ولا يريد الانسحاب مع أنه غير مستمتع هو أيضاً بهذا الوضع بكونه معلقاً مع كينتن معلقين بين السماء والأرض، وكينتن سئمت الوحدة وسئمت انتظار تغير طباع ستيفنز وأصبحت أكثر من أي وقت سابق تريد الحصول على أسرة لذلك فقد وافقت على طلب السيد بين للزواج منها وهي لم ترضاه بدافع الحب فمشاعرها كلها للسيد ستيفنز الذي يختلف عن (بين) اختلاف الليل والنهار ولكنها رضيت الزواج منه ليست فقط رغبةً منها للزواج ولكن رغبة منها في الانتقام من السيد ستيفنز وتحطيم عزته الرجولية وغروره، ولكنها مع ذلك لم تشأ سوى أن تمنح السيد ستيفنز فرصة أخيرة ليظهر حقيقة مشاعره نحوها ويبدي رغبة حقيقية في الارتباط منها ولكنه مع ذلك بقي مصراً على موقفه فهو لا يتخيل نفسه يناجي امرأة ويطلب ودها ويجري وراءها ويخون عهوده لوالده ولكن هذه المرة حسمت كينتن أمرها وقررت الدوس على مشاعرها حتى وإن حطمت نفسها وحطمت ستيفنز فتركته لوحده وذهبت وهو يموت صمت وشموخ، ستيفنز كان هادئاًَ طوال العمل لم يبدي ثورة حتى عند وفاة والده ولكن سنسمعه يصرخ لوحده عندما تتركه السيدة كينتن رغم أن صراخه لا يكون لأجلها مباشرةً ولكنه تنفيساً عن غضبه منها لأنها تركته ومن نفسه لأنه لم يعرف كيف يحافظ عليها، ورغم ما سببته هذه العلاقة من معاناة لكلا الطرفيين فإنهما لم ينسيا بعضهما وحافظا على التواصل والمراسلة وبقي السيد ستيفنز حتى عندما غزاه الشيب ينظر من نافذة باب المطبخ وهو يتخيل إن السيدة كينتن تتجه نحو المطبخ كما في الأيام الخوالي، واليوم الوحيد الذي يقرر أن يأخذ فيه إجازة ويغادر قصر دارلنغتون هو اليوم الذي يتفق فيه مع السيدة كينتن على اللقاء وهو يتأمل أن يصلح ما أفسده قبل عشرين سنة وهي تتأمل أن يحقق لها أمنيتها التي ترجوها منذ أكثر من عشرين سنة، ولكن وكما لم تتغير مشاعر الحب في صدر السيد ستيفنز لدى السيدة كينتن فإن طباعه هي الأخرى لم تتغير وبقي كما هو يعجز عن كسر قيود الماضي التي تقيده وتمنعه من السير خطوة أخرى نحوها فكان من المنطقي أن تقع السيدة كينتن أسيرة انهيار عاطفي أخر ليس فقط لأن السيد ستيفنز خيب أملها مجدداً بل لأنها ما زالت أسيرةً في حب الشخص الخطأ الذي لا يستطيع أن يقدم لها سوى جرح المشاعر بصورة دائمة.
جهابفالا لا تدع آثار تربية والد تسيفنز السيئة له تبرز فقط في فشل علاقته مع كينتن بل يرينا تأثيرها عليه في كل مناحي الحياة، فترينا كيف أن تعاليم والد ستيفنز دمرت حياته فرغم أنه ظاهرياً شخص ناجح بعمله كرئيس خدم ولكنه خارج هذا المكان هو ليس شيء على الإطلاق هو مجرد شخص أحمق ضعيف لا يستطيع أن يقوم بأسهل الأعمال، وهنا جهابفالا ترسم صورة جميلة جداً بل ورائعة حول كيف أن السعي وراء الحلم الخطأ قد يدمر الإنسان، فستيفنز خارج مجال عمله كرئيس للخدم ليست له أي قيمة وهو الذي كان يعتقد أن معاشرته للنبلاء ستكسبه للقيمة، فهو لم يخرج بحياته بمهنة محترمة أو حرفة تجعله يخلف أثراً مادياً حقيقياً وليس له قيمة معنوية أخرى فجعل ستيفنز حياته محصورة فقط في قصر دارلنغتون وفي مجال الخدمة فقط دون أن يكترث لأي شيء أخر جعله يجهل بالعديد من الأمور فلم يدرك تطور المجتمع وتغير النظم السياسية ولم يستطع أن يكون رأيه الخاص بالأحداث التي مرت عليه وعاصرها رغم أنه كان من أكثر الناس قرباً من مكان صنع القرار، فهو وكما كان شخصاً ثانوياً بين النبلاء أصبح شخصاً ثانوياً بين العامة أيضاً لا يستطيع أن يشارك بحديث أو أن يقدم معونة أو استشارة لأحد وبقي دوره يقتصر على كونه مستمعاً لأراء الغير دون أن يستطيع أن يكون لنفسه رأي خاص في تلك الآراء، لقد تحول ستيفنز بسبب هوسه بعمله إلى سمكة وتحول قصر دارلنغتون إلى البحر فلا يستطيع مغادرة لأنه سيموت خارجه وسيفقد كل المكانة والاحترام التي يحظى بها بين الخدم، السيد ستيفنز أخلص للورد دارلنغتون وتفانى في خدمته لدرجة محت شخصيته فلم يعد له رأي أو اعتقاد إلا ما يعتقده اللورد دارلنغتون أو يؤمن به، فتوقف دوره في الحياة على أن يكون صدى صوت لما يقوله هذا اللورد دون أن يكون له رأيه الخاص بل ودون أن يفهم حتى ما يقوله هذا اللورد، السيد ستيفنز كان يستمتع جداً حين ينظم حفلات العشاء في قصر دارلنغتون والتي يحضرها نخبة السياسيين في العالم ويتناقشون في العديد من القضايا السياسية التي تصنع مستقبل العالم وهو يقوم على خدمتهم معتقداً أنه يساهم مثلهم في صنع مستقبل العالم ولكن دون أن يفهم ماذا يتناقشون به أو يحاول أن يفهمه ويكون له فيه رأيه الخاص فمرت عليه العديد من الأحداث دون أن يعي لها ولم يكتسب من السياسة إلا شرف أنه قابل كبار السياسيين دون أن يدرك ماذا كانوا يريدون وماذا كانوا يقصدون وهو لم يدرك ضرر ذلك إلى أن خرج من قصر دارلنغتون ورأى أبسط الناس يتناقشون في أمور كانت تحدث أمامه دون أن يدركها فكان يقف بينهم كالأحمق دون أن يستطيع أن يفيدهم برأي وقد فقد كل احترامه وهيبته التي ينعم بها في قصر دارلنغتون بين الخدم، وقد أدرك كيف إنه قد خسر حياته كلها وهو يسعى إلى أن يكون شخصاً مهماً وناجحاً بعمله لدرجة أصبح أسير ذلك فخسر كل شيء فلم يكون أسرة تقف معه في كبره كما وقف هو مع والده ولم يكون لنفسه أي أهمية في المجتمع رغم أنه خدم كبار المجتمع وكان من الممكن نتيجة للمواهب التي يمتلكها (الصفات القيادية وحسن الحديث والدبلوماسية في التعامل والرغبة الجامحة في الإتقان والكمال) أن يكون شخصاً مهماً ولكنه أضاعها على أشياء أدرك متأخراً إنها سخيفة ولا تكسبه الأهمية والاحترام كما يتوقع وللأسف لم يعد يستطيع أن يصلح ذلك بعد أن كبر سنه ولم يعد أمامه سوى أن يبقى متمسكاً كعمله كرئيس خدم في قصر دارلنغتون فهو المكان الوحيد الذي سيبقى في يحصل على شيء من الاحترام الذي من المستحيل أن يحصل عليه خارج هذا المكان، وهنا تسجل جهابفالا نقطة جديدة لصالحها حيث تستطيع أن توازن بإتقان بين المحور الرومانسي للعمل وبين محور الدراما الشخصية حيث تجعل عملها في نفس الوقت عن شخص دمرت حياته معتقداته الشخصية الخاطئة وكل هذا طبعاً كان بفضل البناء الممتاز لشخصية ستيفنز كما ذكرت، ولكن جهابفالا لا تلبث أن تحقق نقطة جديدة لصالحها حيث تعاملت بحرفية رائعة مع نص أشايغيورو فلم تتوقف فقط عند حد البناء ممتاز للشخصية الرئيسية السيد ستيفنز وهو اختيار قد يلجأ له أي مقتبس سينمائي عادي وهو يكفي أن تجعله يقدم عملاً ممتازاً بل إن جهابفالا تحركت لتقدم بناءً درامياً رائعاً لباقي الشخصيات الثانوية وتجعل العمل يتفرع إلى عدة محاور أخرى دون أن يشكل ذلك عبئاً على العمل وهذا ما يكسب العمل درجة الروعة أو الكلاسيكية إن صح التعبير، فشاهدنا البناء الرائع لشخصية السيدة كينتن وكيف نجحت من خلالها أن تقدم لنا صورة عن المعاناة العاطفية لامرأة وحيدة تحلم ببناء أسرة، وشاهدنا بناء جميل لشخصية السيد ستيفنز الأب وشاهدنا من خلاله معاناة العجائز بعد أن تخبو قوتهم ويقل عطائهم ورأينا أمامه طموح الشباب وقمة توهجه وثوريته من خلال شخصية الخادم الشاب تشارلي، أما أفضل بناء للشخصيات بالعمل بعد شخصيتي السيد ستيفنز والسيدة كينتن فهو بناء شخصية اللورد دارلنغتون الذي أصبح محوراً لوحده يصلح أن يكون فلماً خاصاً بذاته شخصية اللورد دارلنغتون لا تختلف عن شخصية السيد ستيفنز فهو الأخر شخص دمرت معتقداته الخاصة حياته وبحكم إنه ليس شخصاً عادياً فقد دمرت معتقداته بلاده أيضاً، اللورد دارلنغتون هو الشخص الإنكليزي النبيل التقليدي ذا الخلق والمبادئ والذي بقي متمسكاً بمبادئه ولكن إلى جانب الصف الخطأ مما حطمه بالنهاية، اللورد دارلنغتون كان يعتقد إن هناك ظلماً لحق بألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ويجب على هذا الظلم أن ينتهي ولكنه لم يدرك إنه من خلال سياسته لدعم ألمانيا والنهوض فيها كان يدعم النازية ويقوي من دعائمها في أوروبا مما ساهم بجعلها خطراً لا يستهان به وهو كان يرفض الاعتراف بذلك وكان مقتنعاً بأن هتلر رجل سلام وإنه يعمل لأجل خير بلاده، ووصل تأثير تلك الفكرة في رأس دارلنغتون لدرجة إنه كان يقرأ كتاب هتلر (كفاحي) ويقتنع بالعديد مما جاء فيه ويحاول أن يجد من خلاله تفسيرات حول السلام الذي يريده هتلر بل وإنه راح يطبق بعض تعاليمه رغم إنه ليس مقتنعاً بها بالكامل وليس مقتنعاً 100 % بصواب أفعاله هو ودعمه لألمانية ولكن شعوره بالمسؤولية اتجاه ما حصل بألمانيا من خراب يجعله بصر على دعمها ومساعدتها مما يخلق في نفسه هو الآخر نوعاً من الصراع والتناقضات التي دمرته قبل أن تساهم بتدمير العالم، ومن هنا فلا يمكننا أن نتجاهل الحديث عن الجانب السياسي في العمل الذي تحصر جهابفالا تقديمه من خلال وصف لمرحلة الحرب العالمية الثانية من خلال شخصية اللورد دارلنغتون بل العمل على تقديم مرحلة ما بعد الحرب وتغيير موازيين القوة العالمية وخروج بريطانيا وفرنسا من سيادة العالم وحلول أمريكا محلهما وذلك بطريقة رمزية جداً ورائعة جداً، الرمزية تظهر خلال حفل العشاء الذي يقيمه اللورد دارلنغتون والذي يحضره كبار سياسي العالمي نرى اللورد درالنغتون عجوز والمندوب الفرنسي عجوز أيضاً والشاب الوحيد هو السيناتور الأمريكي لويس وهو يمثل القوة الجديدة الفتية بالعالم والتي قدمت إلى أوروبة تنتقد أساليب السياسة الأوروبية التقليدية وتصف السياسيين الأوروبيين بالهواة حيث يتعاملون بالمنطلقات التقليدية التي لا تناسب السياسة الحالية وهي الشرف والنبل والأخلاق والوفاء في حين يرى هو إنه السياسة الحديثة يجب أن تقوم على سوء النية والتكتلات والأحلاف والخبث والكذب والخداع واللعب من وراء الستار وتحت الطاولة حتى، ويكون ما يقوله لويس صحيح فإنكلترا تدخل الحرب بسياستها التقليدية وأمريكا بالسياسة الحديثة وفي النهاية تنتصر أمريكا وتحل محل بريطانيا في حكم العالم ويرمز إلى ذلك بشراء لويس لقصر اللورد درالنغتون بعد وفاته، في حين تعاني إنكلترا من خسائر عديدة نتيجة سياسة لورداتها العجائز ويكون الضحايا هم الشباب الذين كانوا يدركون فشل سياسيهم الشباب ويريدون أحداث تغيير ينقذ دولتهم ويكون الرمز لذلك هو كاردينال الصحفي وأبن اللورد دارلنغتون بالتبني والذي لم تعجبه سياسة الورد وراح يحاربه بالصحافة ثم توفي بالحرب العالمية الثانية.مشهد الختام هو من أروع المشاهد وأكثرها رمزية وغرابة، حمامة تقتحم قصر السيد دارلنغتون يحاول السيد ستيفنز إبعادها عن طريق إمساكها ورميها من النافذة بطريقة تقليدية في حين يقوم السيد لويس بخداعها وجذبها إليه ورميها من النافذة، روعة المشهد في رمزيته الازدواجية فهو يرمز إلى طبيعة السيد ستيفنز الذي لم يستطع خلال حياته أن يقوم بعمل جدّي وناجح وذا أثر فكان طوال حياته شاهد على أعمال غيره، ويرمز المشهد أيضاً إلى أن السياسة الإنكليزية التقليدية لم تعد تستطيع أن تحقق أبسط الأشياء وأصبحت السياسة الأمريكية المتلاعبة هي الأقدر على حل أبسط العقد .
من الواضح بأن جهابفالا قدمت نصاً ممتازاً جداً وهذا ليس غريباً عليها وهي التي تعد من أفضل المقتبسين السينمائيين وقد حاذت سابقاً على جائزتي أوسكار في مجال الاقتباس عن عملين أخرجها جيمس إيفوري أيضاً هما A Room with a View وHowards End، روعة نص جهابفالا لا تقتصر على بناء الشخصيات الممتاز والدمج الرائع بين محاور العمل الدراميا والرومانسية والسياسية، بل هو ممتاز أيضاً من خلال طريقة عرضه الممتازة والمشوقة، فالفلم يبدأ خلال مرحلة هرم السيد ستيفنز وهو يتلقى رسالة من السيدة كينتن ويتحدثان عن مصير اللورد دارلنغتون وعن الأيام الخاولي ويتفقان على اللقاء بعد عشرين سنة من الفراق، لنطرح عدة أسئلة حول حقيقة اللورد دارلنغتون وحول ماهية العلاقة بين السيد ستيفنز والسيدة كينتن ويبدأ ستيفنز بتذكر علاقته مع كينتن خلال رحلته للقائها لتنقطع الأحداث في كل برهة وتعود إلى مستقبل السيد ستيفنز لنرى انعكاس الأحداث عليه وما أثرت فيه وكلما ازدادت سخونة الأحداث الماضية كلما اتسعت مساحة الشخصية المستقبلية لنراها تعيد حساباتها وتحاسب نفسها وتناقش تلك الأحداث.

وإلى جانب الروعة الروائية للنص نذكر روعة المونتاج التي تولاها أندرو ماركوس والذي قدم مونتاجاً جيداً حيث عرف كيف يقرأ أفكار جهابفالا على النص وينقلها إلى الشاشة فيقدم انتقال سلس وجميل بين الماضي والحاضر وموازنة رائعة بين المحاور والشخصيات التي قدمها النص، وبوجود النص الممتاز لجهابفالا والمونتاج الجيد لـماركوس نرى إن مهمة المخرج جيمس إيفوري أصبحت سهلة إلى حد ما ولكن هذا لا يمنعه من التفوق والتميز، مستلهماً أفكاره الإخراجية من المخرج الرائع والأفضل بتاريخ السينما بلا أي شك (ستانلي كوبرك) حين أخرج ذاك الفلم الرعب الرائع ((The Shining عام 1980، حيث إن إيفوري وقع بظروف إخراجية تشبه الظروف التي وقع بها كوبرك والتي تتمثل بانحصار مواقع التصوير على مكان واحد هو الفندق الضخم في فلم كوبرك وقصر السيد درالنغتون في فيلم إيفوري وكون الفلم قد قام على بناء شخصية واحدة هي شخصية الكاتب المضطرب في فيلم كوبرك و شخصية السيد ستيفنز في فيلم إيفوري فكان من المنطقي أن يستعين إيفوري بالوسائل التي استعملها كوبرك بإخراج فلمه والتي تمثلت بالاعتناء بمواقع التصوير وتفاصيله المكان والزمان وتفاصيل الشخصيات وجعل نفسية الشخصية الرئيسية تنعكس على أجواء العمل كما انعكست على أحداث العمل والاعتماد على لقطات واسعة وطويلة باستخدام زاوية واحدة للتصوير والاستخدام العبقري للموسيقى وإطلاق إمكانيات الممثلين للإبداع على اختلاف مساحات أدوارهم وتعقيد شخصياتهم، وقد كان إيفوري موفقاً جداً بإتباع تلك السياسة حيث كانت ديكورات التصوير وتصاميم الملابس التي خاطتها جيني بيفان رائعة جداً وممتازة ومتكاملة إلى حد مذهل ملتصقة مع زمان الأحداث بشكل رائع فكان استعمال اللقطات الواسعة للتصوير موفقاً جداً حيث صنع بالتزاوج مع الديكورات الرائعة لوحة بصرية عبقرية بلا أي شك بالأخص باستخدام أسلوب اللقطة الطويلة باستعمال زاوية واحدة الذي أعطى حيوية كلاسيكية للمشهد، وباعتبار أن الفلم يدور حول الطبقة الإنكليزية الارستقراطية فكان لا بد أن يصبغ المخرج على الأحداث أجواء باردة تتناسب مع الطبيعة الإنكليزية ولم تكن تلك الأجواء الباردة مملة كما في فيلم أخر عن الطبقة الارستقراطية هو حدائق غيسفورد لألتمان بل كانت جذابة وجميلة جداً ومتناسبة مع روح العمل بالأخص مع سعي إيفوري لجعل نفسية الشخصية الرئيسية السيد ستيفنز تنعكس الأجواء فكان هناك أجواء كئيبة غامضة راقية باستخدام الإضاءة الخافتة المائلة للعتمة والألوان الداكنة البسيطة والموسيقى الهادئة الرائعة التي وضعها ريتشارد روبينز كلها عوامل تضافرت معاً لتصنع جمالاً بصرياً جذاباً راقياً وغير متكلف أو مبتذل تماشى مع جمالية النص الذي كان يضج بالروعة مع كل مشهد متقدم، وأروع ما قام به إيفوري وأكثر ما برع به هو إعطائه كامل الحرية للمثليين ليطلقوا طاقاتهم بلا حدود، أنتوني هوبكنز بدور السيد ستيفنز كان صدمة حقيقية عند أختياره وهو الذي لم يكن معروفاً سابقاً إلا من خلال دوره الأسطوري المرعب من خلال ثوب الطبيب السفاح هانيبال لاكتر في رائعة جونثان ديمي صمت الحملان، وبعد عرض الفلم كان صادماًَ فعلاً بأدائه فأنتوني هوبكنز حقق انتقالية مذهلة بين أعمق نقطة في الوحشية والرعب والخبث في صمت الحملان إلى قمة الوقار والاحترام والهدوء والبرود الإنكليزي التقليدي في بقايا يوم، أنتوني هوبكنز ارتدى ثوب السيد ستيفنز بطريقة عبقرية يقدم من خلال دوره هذا التعريف الحقيقي لمعنى كلمة أسطورة تمثيلية وكما فعل في فلم صمت الحملان عاد ليكرر فعلته في بقايا يوم حيث أجرى دراسة رائعة للشخصية جسدياً ونفسياً فابتدع لها مشية خاصة وطريقة كلام مميزة ونظرات باردة وأبدع في مشاهد توجيه الأوامر وتنظيم الحفلات وقيادة الخدم، هوبكنز حافظ على الكاريكتر الذي رسمه للشخصية طوال العمل فلم تتغير نظرة عينيه ولهجة كلامه إلا بدرجات بسيطة ولكنه مع ذلك نجح بأن يقنع حين يكون الخادم المثالي والوالد البار والعاشق الولهان ومن ثم العاشق المصدوم والشخص المضطرب والعجوز والوقور المتحسر على ضياع العمر، وأشد لحظات إبداعه تأتي من خلال التفاصيل الصغيرة للشخصية والتي تسهل ملاحظتها في العمل وبالأخص المشاهد التي يقوم فيها بتوجيه الأوامر لوالده حيث يخلط بشكل رائع بين لهجة السيد الصارمة ولهجة الابن البار الذي لا يريد التمادي والده الذي هو مثله الأعلى في نفس الوقت، ومشاهد وفاة والده وطبعاً أشد اللحظات التي ظهر بها بكامل تألقه لحظات حديثه مع السيدة كينتن ويكفي أن نراقب نظراته في المشهد عندما تحاول أخذ الكتاب منه أو نظراته عندما تخبره أنها ستتزوج لنعرف مدى روعة ما قدمه هوبكنز، إن روعة أداء هوبكنز لا تأتي فقط من كل هذا بل تأتي من قدرته على تجسيد دور شخص يعيش حرباً داخلية نفسية مدمرة بشكل شديد الهدوء والانسيابية دون أن يقدم أي انفعال حاد أو صراخ أو ثورات غضب ورغم عدم وجود تلك الأدوات في شخصيته ولكنه مع ذلك مقنع جداً وصادق وقادر على جعل المشاهد يقتنع بالمعاناة التي يعيشها، بالمقارنة بين أداء هوبكنز هنا وأدائه في صمت الحملان فأني لا استطيع اختيار أيها أفضل بل لا أعرف بالأحرى أيهما أفضل كلاهما يظهران وكأن ممثل مختلف يؤديهما هو وبلا أي شك من أفضل الأدوار التمثيلية التي شاهدتها ولكنه مع ذلك فإنه لا يستحق الأوسكار في ذلك العام بوجود توم هانكس عن الأداء الذي العبقري الذي قدمه في فيلادلفيا والذي كان فعلاًَ أكثر صعوبة و أشد اتقاناً .

إلى جانب هوبكنز هناك الممثلة العظيمة إيما تومبسون والتي برأيي هي تستحق أن يذكر اسمها بين أعظم خمس ممثلات بتاريخ السينما والذي تستحق أن نعتبر أدائها لشخصية السيدة كينتن في هذا الفلم من أجمل الأداءات النسائية في التسعينات وأفضل أداء في مسيرتها الشخصية، مكامن روعة أداء تومبسون في هذا العمل هو أنها لم تجعل نفسها ظلاً للبطل الرئيسي السيد ستيفنز ومكملاً لمحور معاناته بل جعلت نفسها شريكةً رئيسيةً في الفلم ومنافسةً عتيدة لأنتوني هوبكنز على الاستئثار باهتمام المشاهد ولفت نظره وعلى مديح النقاد - أمر عادت وكررته ريز ويذرسبون العام الماضي في فيلم مشي الخطإيما تومبسون تقدم من خلال شخصية السيدة كينتن ثورة نسائية رومانسية على جفاء الرجل وتقدم خلطة تمثيلية عبقرية فتبقى محافظة على ثوبها الإنكليزي البارد والمحافظ ولكن هذا لا يمنعنا من أن ترينا كيف تكون الإمرأة الإنكليزية المحافظة إمرأة مرحة ومتحمسة ومندفعة وثائرة وعفوية وحيوية والأهم من ذلك عاشقة بل وغارقة في بحر الحب حتى أذنيها دون أن تجعل هذا الحب يفقدها ذرة من كرامتها رغم المعاناة الكبيرة التي تعيشها من جفاء الحبيب وغرابة أطواره وفشل محاولاتها بجعله يكسر قالب الجليد الذي يضع نفسه فيه وأن يعبر عن عواطفه نحوها بالإضافة إلى تقديم مخاوفها من الوحدة والعزلة و كبر السن والهرم والخوف من المستقبل المجهول، مشاعر مختلطة عديدة أسرت الجمهور وشدته وجعلته يتعاطف معها بشكل غير معقول، تومبسون ترشحت للأوسكار ولم تناله حيث كان الجمهور والنقاد مبهوراً بروعة ما فعلته هولي هنتر بأدائها لشخصية عازفة البيانو البكماء في فيلم البيانو ولكن وبعد ثلاثة عشر عاماً عاد رواد السينما ليكرموا أداء تومبسون عن هذا الفلم من خلال اختيار أدائها فيه كواحد من أفضل 100 أداء سينمائي على مدى التاريخ وتحديداً في المرتبة الـ 52 وبالنسبة لأفضل الأدوار النسائية فترتيبها جاء في المرتبة الـ15 وبالنسبة لأفضل الأدوار النسائية في التسعينات جاءت في المرتبة الرابعة .
وإلى جانب الرائعان هوبكنز وتومبسون هناك أدوار ثانوية بغاية الجمال جيمس فوكس بدور اللورد دارلنغتون وكريستوفر ريف نجم سوبرمان الكلاسيكي بدور السيناتور الأمريكي السيد لويس في أخر دور له قبل حادثة سقوطه الشهيرة عن الخيل والتي أصابته بالشلل وهيو غرانت بدور الصحفي كاردينال في واحد من أوائل الأدوار التي فتحت له باب الشهرة والنجومية العالمية نجح بان يحافظ عليها بالعديد من الأعمال الممتازة اللاحقة (أربعة حفلات زفاف وجنازة، أحاسيس ومشاعر).

0 التعليقات:

إرسال تعليق