RSS

Psycho - 1960


مرت في تاريخ السينما مجموعة من الأفلام أعتبرت نقاط تحول جوهرية بهذا الفن وفيلم Psycho أحد هذه الأفلام بل من أهمها، فيلم مدهش .... بل رائع ... أهم أفلام هيتشكوك على الأطلاق بل إنه أفضلها وأكثرها جمالاً ... من الممكن وضع كل أفلامه الأخرى بكفة ووضع هذا الفيلم بكفة أخرى ... فسايكو أو المعتوه النفسي والذي يأتي ثالث عناصر سلسلة سينمائية عبقرية قدمها هيتشكوك على التوالي (مباشرةً بعد فيرتيغو 1958 و شمال شمال غربي 1959) هو بكل بساطة عصارة تجارب هيتشكوك السينمائية وعصارة عبقرية خاصة لم تقدم السينما مثلها كثيراً..
 
هيتشكوك محترف ألعاب التضليل والخدع، عبقري نسج الكوابيس والمخاوف هو هنا في قمة تألقه، عمل بكل بساطة أشبه بالدخول ضمن سلسلة متتالية من الكوابيس المخيفة يصنعها هيتشكوك ببراعة ويمارس فيها مختلف أنواع الخدع التي يعشقها ويبقى يصر على تضليل المشاهد حتى النهاية غير المتوقعة، الفيلم يتحدث عن كارين العاشقة لسام ذا الأوضاع المادية السيئة والمثقل بالديون والذي لا يستطيع الزواج بها ضمن أوضاعه المادية الرديئة ، تقوم تلك الفتاة لتساعد خطيبها بسرقة 40000 دولار من مكان عملها وتهرب خارج المدينة وتأوي في ليلها بنزل مهجور يديره نورمان الشاب المختل الذي يعيش مع أمه العصبية الشريرة وفي الليل تقتل كارين بمشهد عنيف جداً يتهيئ للمشاهد إنها على يد والدة نورمان ويقوم ذاك بمحو آثار الجريمة حفاظاً على والدته ولكن عائلة كارين ومديرها بالعمل يبحثان عنها بواسطة محقق خاص (أربوغاست) يصل إلى النزل الذي قتلت فيه لتصبح الأمور أكثر تعقيداً ..
إن ما يجعل الفيلم يصنف كفيلم رعب ويحوز على تقيمات كأفضل أفلام رعب بالتاريخ ليس وجود مصاصي الدماء أو أكلي لحوم البشر والشخصيات المشوهة والجرائم المقرفة بل عمل هيتشكوك على جعل القصة تبدو كقصة حقيقية وإن شخصياته شخصيات إنسانية بحتة لا شخصيات إجرامية أحادية الاتجاه، بداية العمل باستعراض صور للمدينة وكتابة التاريخ والمكان يعطي إنطباع بالوثائقية ويجعلنا نشعر إن الشخصيات كانت بيننا وسير الأحداث لا يحوي تحولات فنتازية أو جرعة زائدة من المغامرات الخيالية ولا يحوي حتى – كما اعتاد هيتشكوك على بعض أفلامه – على قصص استثنائية مشوقة – كفيرتغو و شمال شمال غربي – هناك تركيز على واقعية القصة وإنسانية الشخصيات – كما فعل هيتشكوك سابقاً في النافذة الخلفية - وجعل العمل يبدو مقتبساً أو تجسيداً وثائقياً لأحد الجرائم التي تحدث يومياً في العالم ونقرأها كأسطر صغيرة على الجرائد ويكشف صورة عن وحشية إنسانية حقيقية مرعبة هي ربما أشد إفزاعاً من مئات الوحوش والشخصيات الفنتازية لأنها بكل بساطة موجودة فعلاً ومن الممكن لاي شخص أن يتعرض لها ..
الفيلم بالتأكيد أحدث ثورة بمجال الرعب وجعل صناع الأفلام يتجهون لصنع أفلام رعب عن شخصيات إجرامية حقيقية تعيش بيننا أفلام كسلسلة منشار تكساس أو هالويين تبدو مقتبسة جميعها من هذا العمل وكذلك الحالة مع أفلام عظيمة كصمت الحملان لديمي ورأس الخوف لسكورسيزي وفيلمي الكوينز فارغو و لا بلاد للعجائز وأفلام رعب شهيرة كالصرخة و أعرف ما فعلت في الصيف الماضي كلها كان هذا العمل مرجع لها في الصناعة..
هيتشكوك صرح دوماً إن الرواية المقتبسة عن العمل عادية ولكن ما أغراه بصناعتها هما أمران مشهد الدوش و التضليل المتبع فيها في النصف الثاني من القصة وخلال عمل هيتشكوك للوصول إلى مشهد الدوش قدم أفضل خمسين دقيقة بتاريخه بدايةً من التمهيد الممتاز والسريع الوافي لدوافع كارين للسرقة ثم ممارسة لعبة التضليل المبهرة بالتركيز على موضوع السرقة وعدم تقديم أي تمهيد للأحداث القادمة ثم صنع حالة تفاعلية رائعة بين الشخصية والمشاهد بجعل المشاهد ينتقل تدريجياً إلى داخل العمل ويرى الأحداث من منظار الشخصية لتتحول مجموعة من الأحداث العادية إلى كوابيس حقيقية يصورها هيتشكوك بأسلوب مبهر للوصول إلى لحظة الذروة لحظة الدوش مع مراعاة تقديم نفسية المجرم المذنب وجعل تأنيب الضمير والخوف عنصراً أساسياً بالقصة ..
أجواء العمل كما ذكرت أشبه برحلة إلى عالم الكوابيس هذه الكوابيس تبدأ خلال الهرب وكارين تقود سيارتها – ضمن أداء صامت مبهر من جانيت لي - والموسيقى المخيفة على خلفية المشهد وهي تتخيل ردود فعل ربّ عملها على فعلتها هذا المشهد البسيط يكفي لوحده لصنع حالة من التوتر والخوف ممتازة في العمل يزيد عليها هيتشكوك بمشهد لقاء الشرطي الضخم البارد الملامح ذا الصوت الهادئ والنظارة الشمسية ومشهد تصويره من نافذة السيارة ضمن سكون مريب ووجه يملئ الشاشة يقدم فزعاً نفسياً غير مسبوق ثم تخبط كارين بالإجابة وملاحقة الشرطي لها دون أن يبدي أي اتهامات نحوها ولكن بنفس الوقت يشك بسوء نيتها يصنع دقائق مخيفة ومتوترة جداً بالاخص أثناء تبديل السيارة وقطع المونتاج بين صورة الشرطي يقف من بعيد ويراقبها وهي تتلعثم بشراء سيارتها وتثير الشكوك نحوها ليحول هيتشكوك تلك الشخصيات الثانوية (البائع والصبي والشرطي الضخم) من مجرد شخصيات إنسانية  إلى أشباه أشباح حقيقية بطول قامتهم وسكوتهم المريب ونظراتهم الحادة ويزيد من جرعة التوتر والخوف بالعمل بدخول كارين إلى ذلك النزل المهجور وتلتقي بنورمان الشاب المريب المعتوه وأختيار هيتشكوك للممثل (أنتوني باركيز) للدور ممتاز ويكفي لوحده لإثارة الفزاع فطول قامته ونحله مع ملامحه الطفولية والتي يمكن تحويلها من شكل طيب بريء إلى شكل معتوه مريب يصنع خوف شديد في تلك اللحظات بالأخص مع التركيز على عزلة الفندق ووجود ذلك البيت الضخم ذا الطراز القوطي المخيف وكأنه قلعة أشباح ووجود تلك الطيور المحنطة المرعبة المعلقة على الجدران كالغربان والبوم اللذين يدلون على الشؤم والموت واللذي يبدو شكلهم كوحوش تراقب الشخصيات تستعد للانقضاض على الفريسة، ثم وبعد تقديم تلك العوامل المكانية المخيفة يفضح لنا هيتشكوك جنون شخصية نورمان وعتهها بحوار مفزع يجريه مع كارين يحمل تهديدات ضمنية لها وتظهر تلك بلا حول ولا قوة وهي بقبضة ذلك المجنون مع الأم الحاضر الغائب بصوت قوي مرعب يصرخ من بعيد وينشر الخوف كساحرة شمطاء ...
إن تقديم شخصية كارين بصورة إنسانية بحتة قريبة للمشاهد ثم أدخالها ضمن أجواء وأماكن مخيفة ومريبة يصنع فزع وخوف لا يمكن تصورهما ولكن هيتشكوك مع ذلك لا يقدم ملامح وتمهيد للحدث الجلل القادم بل على العكس يرينا مشهد مختلف حين نورمان يتلصص على كارين وهي بملابسها الداخلية ، هذا المشهد بالذات له أهمية خاصة بصنع الصدمة لدى المشاهد وباعتقادي إنه لولاه لما أحدث مشهد الدوش ذلك الأثر الكبير، فمشهد تلصص نورمان على كارين يشبه مشهد البداية واقتحام الكاميرا لنافذة الفندق الذي تقضي به كارين يومها مع عشيقها سام وهي بالملابس الداخلية أيضاً بأسلوب يشبه التلصص وكأن هيتشكوك يقول إن نورمان ليس المهووس الجنسي الوحيد كل الجمهور – الذي تحمس لمشهد كارين – هو مهووس جنسي ، ثم يأتي مشهد الدوش العنيف ليقول إن الجمهور أيضاً يملك جنون وعنف ووحشية لا تقل عمّا عليه شخصية المجرم وإن المجرم بجنونه موجود بيننا وقريب منا ولكننا لا نراه ولا يمكن أن نعرفه ويمكن أن يكون أي واحد منا، ربما لا يحمل اليوم مشهد الدوش التأثير الذي كان عليه في الستينات بالأخص مع فقدانه آثره لتكرار عرضه كثيراً في الإعلانات وأثناء الأفلام الوثائقية عن هيتشكوك ولكن لا يمكن إنكار قوته مع صوت السكين وهو يحز لحم وتناثر الدم وشكل القاتل القريب لشكل الشبح وتسلله المريب يصنع ذلك كله مشهد مخيف حقيقي جداً.
أسلوب التلاعب الذي يدور بالقسم الثاني من العمل حول شخصية الأم كان عبقري جداً أنا قبل أن أشاهد هذا الفيلم شاهدت الإعادة السيئة له على يد جوز فون سينت المنتجة عام 1998 وكنت أعرف حقيقة الأم ولكن حين شاهدت النسخة الكلاسيكية شعرت بالإخافة الحقيقية والتضليل وقلت لنفسي ربّما التحويل الذي قام به جوز فون سينت على العمل هو تغيير حقيقة شخصية الأم فأسلوب هيتشكوك المبهر لا يقدم أي شك نحو الحقيقية بالأخص مع تصوير عواطف نورمان اتجاه أمه وإنها كل شيء بحياته وأنه يحاول مساعدتها وتخليصها من الورطة التي وقعت فيها لنقتع بما يقوم فيه وبموقفه..
رغم إن مبلغ الـ 40000 دولار يكون هو محرك الأحداث في القسم الأول ولكن وبعد الجريمة الأولى يخف اهتمام المشاهد به ويركز على الجريمة ولكن يبقى للمبلغ تأثيره بتحريك الأحداث ويستمر هيتشكوك بإبداعه بصنع من ملامح صغيرة مشاهد مثيرة ممتازة كمشهد الحوار مع المأمور الذي يحمل معلومات عن حقيقة والدة نورمان وكيف يدور عن الحقائق ولا يفصح عنها مباشرةً بشكل يثير المشاهد ويشوقه لنعرف الحقيقية التي تزيد من تعقيد العمل بدلاً من أن تحل بعض عقده وتستمر الجرائم العنيفة بالعمل مع مشهد قتل أبروغاست غير المتوقع ثم يقدم هيتشكوك المشهد الأكثر إخافة والأهم بنظري وهو مشهد كشف حقيقة الأم ثم اقتحام نورمان للقبو مشهد بصراحة يشعرني بالذعر كلما اعدت مشاهدة العمل ..
الاستعراض الأخير للأحداث جيد ويشرح الكثير من خفايا شخصية القاتل ثم مشهد الختام رائع وقطع صورة نورمان مع الجمجمة الخفية مثير جداً وتصوير صعود السيارة من البحيرة كان ممتاز بتركيزه على البعد الوثائقي الواقعي للعمل، الفيلم يعتبر أنجح أفلام هيتشكوك التجارية حصد ما يزيد عن 60 مليون دولار حين عرضه مما يعادل اليوم ما يزيد عن 200 مليون دولار ونال أربعة ترشيحات أوسكار عام 1960 منها أفضل مخرج كأخر مرة يدخل فيها هيتشكوك الترشيحات وخرج بمحاولة خامسة خائبة والترشيحات الأخرى كانت لأفضل تصوير و إخراج فني وممثلة مساعدة لجانيت لي وكانت ترشيحات مصيبة فالتصوير بالأبيض والأسود كان عبقري جداً رغم إن كل أعمال هيتشكوك السابقة كانت ملونة ولكن التركيز على الأبيض والأسود أعطى أبعاد سوداوية مخيفة للعمل جداً وأجواء متوترة مشحونة وشكل وثائقي واقعي ثم زواية التصوير كانت ممتازة ومشاهد الجرائم كانت مخيفة جداً ، والإخراج الفني رائع أيضاً شكل النزل مع الطيور المحنطة وشكل البيت الضخم كالقصور القوطية الأوروبية القديمة وشكل غرفة الأم كان مرعب رغم فخامته فهو متناقض مع شكل المنزل والنزل ويوحي بغرف كونتات رومانيا الجزارين ...
جانيت لي نال جائزة غولدن غلوب عن العمل وترشيح للأوسكار مستحق فهي ورغم قصر ظهورها وقتلها بمنتصف العمل بحركة جريئة من هيتشكوك قتل خلالها بطلة العمل منذ البداية وهذا أمر لم يكن دارج يومها وقد كانت جانيت لي بأدائها لكارين رائع يثير التوتر والخوف وينقل المشاهد لأجواء العمل ويجبره على التعاطف معها والتأثر بما يجري معها ، لم تكن فقط جانيت لي تستحق الترشيح فأنتوني باركيز كان يستحق الترشيح عن أدائه الجريء المبهر وقدرته على التنقل بين العته والطيبة كان ممتاز و كذلك كانت فيرجينا كريغ بحضورها الصوتي المرعب لشخصية الأم العجوز، العمل كان يستحق أيضاً ترشيحات لأفضل موسيقى عن الإنجاز الرائع الذي قدمه بيرنارد هيرمان (واضع موسيقى فيرتيغو و المواطن كين وسائق التكسي) والذي قدم موسيقى موترة مخيفة ممتازة مع جو العمل وأحد أشهر المقطوعات الموسيقية بالتاريخ، ولأفضل مونتاج ولأفضل سيناريو فرغم بساطته ولكنه كان ممتازاً جداً بالأخص مع الحوارات الذكية والمتلاعبة والتي قامت بدور كبير بعملية التضليل، طبعاً العمل كان يستحق الترشيح لأفضل فيلم ولكن ذلك لم يحصل، هو عرض بعام سينمائي مميز ضم رائعة بيلي وايلدر (الشقة) المتوجة بالأوسكار عن استحقاق وفيلم ستانلي كوبريك الشهير (سباتركوس) ، هذا العمل كان أخر أعمال هيتشكوك العظيمة لم يقدم بعدها عمل مهم حقيقي سوى الطيور عام 1963 ثم اعتزل عام 1976 بعد انتهائه من تصوير  Family Plot ، على أية حال لا يهم تدني مستوى مخرج كهيتشكوك في أخر أيامه فمخرج قدم منذ أيام السينما الصامتة روائع حقيقية عديدة كربيكا فيلمه الوحيد الفائز بالأوسكار رباعيته الأهم النافذة الخلفية و فيرتيغو وشمال شمال غربي و سايكو و أفلام ممتازة غيرها  كـ Dial M for Murder و Strangers on a Train و Notorious و Spellbound و Lifeboat نغفر له ما قدمه فيما بعد من سقطات ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق