RSS

Shine - 1996


الحب يحتاج إلى الأنانية
الطموح يحتاج إلى الأنانية
أكثر ما يعجبني بأفلام السير الذاتية الغربية إنها لا تصور الشخصيات كملائكة بل يتذكرون إنهم يتحدثون عن إنسان له من السيئات بقدر ما له من الحسنات  أفلام السير الذاتية الغربية تهتم دوماً بالتعمق بنفسية الإنسان مكنوناته دوافعه التي تشكل عبقريته أو وحشيته والفيلم الأسترالي (تألق) للمخرج سكوت هيكز أحد أكثر أفلام السير الذاتية التي ظهرت في التسعينات تألقاً، يتناول قصة عبقري البيانو ديفيد هيسلوف وسيرته الفريدة من نوعها بأسلوب فريد وشديد الجمال يستغل تفاصيل حياته المعقدة ليقدم بشكل شديد التراجيدية العلاقة المضطربة بين ديفيد ووالده ومن خلال تلك العلاقة يقدم دراسة نفسية إنسانية ممتازة لشخصيتان متناقضتان بكل شيء بالقوة والضعف بالجبروت و الانهزام ليتحول الفيلم ليس مجرد حديث عن عبقرية البيانو الاسترالية بل حديث عن مشكلة أسرية عامة ومنتشرة في كل العالم وهي الصراع بين ما يريده الابن وبين ما يريده الأب، بين حب الأب الحقيقي الذي يصل للأنانية أحياناً والذي لا يريد لأبنه أن يكبر ويريده أن يبقى معه وبين طموح الابن بالتحرر وبتكوين شخصيته وتحقيق نجاحه الخاص والذي قد يصل أيضاً لدرجة الأنانية حين لا يعبأ لمشاعر الأب وتضحياته ... 
 
يبدأ العمل بمشهد متأخر من سيرة ديفيد – كعادة أغلب أفلام السيرة الذاتية – نراه خارجاً من مطعم بعد حفلة موسيقية قام بها يقوده أصدقاءه وهو يتلعثم بكلام غير مفهوم يمزج به بين ذكريات مشوشة وتعليقات غريبة ويقطعها بضحكة فريدة، ثم يتحدث عن والده يشتمه تارةً وتارةً أخرى يستشهد بأقواله ويذكره بكل احترام ليعود بنا هيكز بفلاش بلاك أنيق لنرى ديفيد في أحد مسابقات البيانو يمشي نحو آلته الموسيقية بخجل وعندما يسأله منظم المسابقة عن المعزوفة التي يريد أن يقدمها يصيح من بين الصفوف ذلك العجوز الضخم (باخ) معزوفة صعبة لصبي صغير ولكنه مجبر تحت توجيهات والده الصارم على أن يعزفها ورغم إجادته بعزفها ولكنه يخسر المسابقة ويعود الأب غضباناً والابن يدعي الحزن ولكنه بغفلة عن أبيه يلعب بالشارع غير مكترث، اللجنة تنتبه لموهبة الطفل وتقدم له جائزة تقديرية يستلمها والده عنه وكأنه هو من فاز بها وهكذا يدخل هيكز بتحليل لنفسية الأب الصارم ومن خلال هذا التحليل يقدم سيرة ديفيد ونفسيته أيضاً .... نرى ذلك الأب إنسان مسحوق محطم عانى من طفولة معذبة حطمت موهبته الموسيقية ، إنسان خسر كل عائلته عانى من فقر صعب لم يحقق شيئاً في حياته ... لم يصبح موسيقياً رغم موهبته لم يصبح ثرياً رغم جهده بالعمل لم يحصل على العدالة رغم إنه من أعضاء الحزب الشيوعي ، حقق فقط هذه العائلة الزوجة الصبورة والتي لا تعارضه بشيء ولا تدخل بتربيته لأولاده ليس لخوفها منه بل لأنها تدرك ما عاناه ونرى أولاده الثلاثة ماغي وإليزابيث وديفيد ، هذه العائلة هي إنجاز الأب (بيتر) الوحيد فهي عنده – كأي أب عادي – رغم كل فقره النعيم بذاته فمن خلالها من خلال نظرات أبناءه وحبهم لهم وفخرهم به رغم كل بؤسه يشعر بقيمته فهم – ككل الأولاد – لا ينظرون لأبيهم سوى أفضل إنسان بالعالم وحبهم له هو ما يشعره بقيمته فعندما يفخر أمامهم بقوته الجسدية وبجهده في العمل فهم سيهللون له بينما غيرهم لن يكترث لذلك، ولكن بيتر يسعى لإنجاز حقيقي سيراه عند أبنه ديفيد الطفل الخجول المسحوق الشخصية – كأخواته – بفعل جبروت والده، ذلك الطفل الذي نبت عنده موهبة العزف على البيانو بشكل يتفوق به على أقرانه يشعر من خلاله الأب إن هذه هي فرصته ليعوض عن ما فاته ليحقق حلمه بأن يصبح موسيقياً مهماً من خلال أبنه لذلك فراح يشرف بنفسه على تعليمه الموسيقى وكأنه هو من يتعلمها يشركه بالمسابقات وكأنه هو من يشترك وهو الذي يختار المعزوفات وهو الذي يستلم الجوائز وهو الذي يفرح عند الفوز أو يكفهر وجهه عند الخسارة بيتر كان يعيش حلمه من خلال أبنه بينما الابن فلا يريد سوى العزف على البيانو ولكن ضغط والده عله يجعل ذلك أمراً صعباً عليه ومرهقاً يستهلك قدراته العقلية، بيتر رغم إنه يوهم نفسه دوماً إنه هو من يحقق النجاح لم يدرك إن ديفيد هو من ينجح وهو من ينال المديح والاهتمام، فعندما يتم دعوتهما لحفلة في منزل المحافظ يرى جميع الحضور يحيطون بديفيد ويهتمون به وهو غارق بينهم بينما بيتر تضارب المشاعر بداخله بين الوحدة والغيرة وخيبة الأمل ونكران الجميل يشعر إن أبنه تكبر عليه وإنه لن ينظر إليه مجدداً نظرة الفخر والمحبة التي كان ينظر بها له والتي تشعره إنه رجل حقيقي رغم كل فشله، وعندما تأتي لديفيد منحة من أمريكا للدراسة فيها يدرك بيتر إن إنجازه الحقيقي في الحياة سيتلاشى ، إنجازه ذاك المتمثل بعائلته سيختفي فأحب أبنائه إليه سيغادره ، هو فعلاً يحب ديفيد حباً حقيقياً كما يحب أي أب أبنه ولكن قسوته تمنعه من أظهار هذا الحب، هذا الحب الكبير الذي يجعله متعلقاً بأولاده ورافضاً فكرة خروجهم من حضنهم فيمنع أبنته من الاختلاط بالشبان ويحارب أبنه حتى لا يسافر إلى أمريكا ، رغم إن ذلك سيحقق لهما طموحهما بالنجاح بعالم الموسيقى ولكن العائلة بالنسبة لبيتر أكبر من الموسيقى وجود أبنه أمامه أهم من الموسيقى عندما يقول له : (no one will love you like me ) يكون يعني تماماً هذا الكلمة بحذافيرها فحبه الكبير لأبنه الذي لن يضاهي أحد به سيجعله يمنعه بشتى الطرق عن مفارقته ، هذا الحب لم يفهمه ديفيد ولم يفهم تلك القسوة التي واجهها بها أبيه ضده – الذي لم يستطع ولا مرة بحياته أن يعبر عن حبه لأولاده بالشكل الصحيح ولم يستطع كذلك تفهم حاجاتهم - لذلك فعندما تسنح له الفرصة ثانيةً لن يتوانى عن استغلالها ليهرب من والده مما يعني صفعة كبيرة على خد الرجل العجوز وتخلف لديه ألم لن تمحوه السنون وستجعله طوال السنين القادمة يتذكر ولده بحب وحزن ويرفض مخاطبته بفعل كرامته ورجولته التي تمنعه من الصفح عن أبنه واعتبره وكأنه لم يكن بحياته ولكنه بقي بالسر يتتبع أخباره إلا إنه وبدافع عزة نفسه رفض الصفح عنه أو مساعدته وهو بأزمته...
ديفيد الذي ذهب إلى بريطانيا ليس فقط ليحقق حلمه بالموسيقى بل ليخرج أيضاً من عباءة والده ليبني ذاته التي يصر والده على قمعها وتهميشها ، ولكن وحتى وهو بعيد بقي ظلّ والده يرافقه ويهيمن عليه فيصراً على عزف مقطوعة رحمانوف الصعبة ليس فقط لتحقيق إنجاز خاص به بل ليحقق حلم والده وليبرهن لوالده إنه لم يفشل بعيداً عنه ، لذلك فظلّ يتدرب على عزفها ليل نهار في البرد في الحر أهمل كل شيء في حياته لم يعد يأكل لم يعد ينام سخر كل قدراته وعقله ليتدرب على هذه المعزوفة حتى استهلكت كل عقله وفي النهاية أصيب بالصرع وهو في الحفلة وأصيب بالإعاقة العقلية التي بقيت ترافقه طوال عمره ....
القسم الثاني من العمل لا يحمل تعمقاً درامياً يوازي القسم الأول وهناك هوى واسعة بين مرحلتين زمنيتين منفصلتين وهذه مشكلة العمل والتي منعته من الفوز بالأوسكار ولو تفادى ذلك المخرج لما كان غير تألق هيمن على حفل 1996 ولكن بالمقابل فإن هيكز يقدم استعراضاً جيداً لعودة ديفيد خروجه من المشفى ومحاولة من حوله التأقلم مع حالته ثم عودته لعزف البيانو ولقائه مع الممرضة وزواجه منها التي بقيت طوال الوقت معه حتى عاد لتألقه الموسيقي وعاد له المجد الغابر حيث هتف له الجمهور مجدداً بعد حفلة رائعة أحياها وقف يبكي بعدها حيث تمكن من تعلم الدرس الحقيقي الذي لم يفهمه وهو أن يسيطر هو على حبه للموسيقى لا العكس ..... حيث تخلص من لعنة والده الذي بقيت كلمته له حين خرج من المنزل (ستبقى تعاقب إلى الأبد) ترافقه ويعتقد إن كل ما جرى معه هو عقاب من والده الذي غفر له حين زاره قبل الحفلة وعبّر له بطريقة مبطنة عن حبه له وفخره به وبقدرته على التغلب عن الصعاب التي تعرض لها بينما هو لم يستطع ولكنه بقي مع ذلك ينظر لأبنه نظرة الطفل الصغير الذي يحتاج لمساعدته وعونه في كل شيء .....
هيكز قدم عملاً مذهلاً على صعيد النص والإخراج تعمق رائع بنفسية ديفيد ووالده وإظهار معاناتهما ، تقديم شغف ديفيد بالموسيقى وهوسه بها وعشقه لها بشكل رائع، تصوير عوارض مرضه بشكل ممتاز، كيف يصوره يقف لوحده بالفراغ يتمتم بكلمات غير مفهومه وكأنه معزول عن العالم ، كيف يقفز بين المطر وهو يستمع للموسيقى من خلال المسجل وكأنه لا يوجد سواه بالعالم غيره وغير الموسيقى، هيكز رائع كيف يرسم علاقة ديفيد بمشاهير عصره وتأثيرهم عليه الكاتبة كاثرين بريتشاردز الموسيقي روجر إدواردز الموسيقي وأستاذه باركس ، كيف ينسج علاقته مع والده في النصف الأول من العمل وكيف يظهر أثار هذه العلاقة عليهما في النصف الثاني منه، الفيلم يحوي تصوير كلاسيكي رائع بغاية الأناقة زواية جميلة وممتازة، المونتاج ممتاز جداً والتقطيع الموسيقي في العمل رائع، جيفري راش مذهل رغم قصر دوره في العمل 40 دقيقة فقط إلا إنه قدم أداء بغاية التمكن والمتانة فهذا الممثل الذي كان يؤدي دور متوحد كان قد توحد معه بالعمل أسلوبه بالكلام بالضحك بالتعبير عن حبه للموسيقى كان رائعاً جداً استحق الأوسكار وكان هذا الدور بداية انطلاقه بالعديد من الأدوار الهامة في شكسبير العاشق وإليزابيث وكواليس و قراصنة الكاريبي وميونخ و خطاب الملك، نوح تايلور الذي أدى المساحة الأكبر من دور ديفيد كان ممتاز جداً قدم أداء مذهل استغرب معه عدم ترشحه للأوسكار، آرماين سيللر الممثل الروسي العريق قدم أفضل ثانوي بنظري لعام 1996 رغم قوة أدوار كوبا جونيور و نورتن ولكن تلك القوة والجبروت والعاطفة والخيبة والقسوة التي مزجها سويةً وقدمها في دوره تجعل من أدائه لشخصية بيتر والد ديفيد أحد أفضل الأدوار بتاريخ السينما ...      

0 التعليقات:

إرسال تعليق