RSS

A Clockwork Orange - 1971


خلال مشوار كوبريك السينمائي من الواضح إن إشكالية النزعة الحيوانية عند الإنسان وتأثيرها عليه هي محور أعماله أو بالأحرى الغاية التي يريد اكتشافها من ورائها ..... كوبريك مبدع كيف يبحث عن هذه الغريزة الحيوانية في مختلف الصنوف السينمائية فينتقل من الجريمة إلى الكوميدية إلى الخيال إلى الحرب إلى الرعب إلى التاريخ وبنفس الجودة، في فيلمه هذا أصبح على تماس مباشر مع هذه النزعة أبدع بإظهارها بشكل مزدوج كحالة اجتماعية عامة وحالة خاصة من خلال أليكس وأبدع بنفس الوقت بإظهار التأثير المزدوج بين هذين الحالتين وطرح السؤال الملح هل أليكس هو ضحية مجتمعه وأحد مخلفاته أم إن أليكس هو متعدي على المجتمع ....
 كوبريك لا يجيب على هذا السؤال بشكل مباشر بل يترك المجال متاحاً للمشاهد ليخمن الجواب ..... يبدأ بثلث فيلمه الأول باستعراض حالة المجتمع من خلال نظرة القوي أليكس الشاب الجامح المتمرد المجرم يسرق ليس لأنه بحاجة للمال فهو ينتمي لعائلة ذات أحوال مادية جيدة ... يغتصب ليس لأنه بحاجة إلى الجنس فشاهدناه يجتذب إلى شقته فتاتين بكل سهولة .... يقتل ويضرب المتسكعين بالشوارع والأناس العاجزين ليس لأنهم أعدائه فلا يوجد هناك أي عداء له بينهم ... هناك شيء ملح بحياة أليكس يدفعه ليصبح هكذا جامحاً متمرداً عنيفاً ... هذا الشيء هو الفراغ إنعدام الهدف إنعدام الشعور بقيمة الأشياء إنعدام الاكتراث بالدين والقيم المثالية ... البحث عن الشخصية والأنا والرغبة بأن يصبح قوياً مسيطراً على مجتمعه يعيش ضمن قوانينه الخاصة لا مجرد تابع للمجتمع وخاضع لقوانينه الكلاسيكية ... أليكس شخصية قوية ذكية شاب وسيم ومؤهل ليكون له مستقبل جيد ولكن إنعدام الهدف والتوجيه حوله إلى حيوان جامح سيطرت عليه غرائزه وأصبحت غير قابلة للإشباع وأصبح إشباعها هو محور حياته .... فبعد أن يقتل ويغتصب نراه يستمني وهو يسرح ضمن تخيلات مجنونة على موسيقى بتهوفين المضطربة (وهذا ليس سوى إشارة إلى فقدان قيمة الفن والرقي واقترانه بالجنس والغريزة) ... الغريزة عند أليكس تتفجر طالبة المزيد في كل مرة يشبعها .... لماذا أليكس أصبح هكذا هو والعشرات من الشباب .. راقب محيطه كل ما فيه يشير إلى الجنس والرغبة ويحرضه على أن يصبح حيواناً تسيطر عليه الغريزة التماثيل والمجسمات الموحية للجنس الموجودة في كل مكان في المقاهي والمنازل بين العائلة كتعبير عن ثقافة إباحية وتعبير عن مجتمع أطلق العنان لغرائزه مجتمع أصبح فيه من السهل دعوة فتاتين لا نعرفهما إلى المنزل لممارسة الجنس معهما ثم يذهبان دون أن نعرف عنهما شيء، مجتمع أصبحت قيمه السابقة مجرد شيء من الذكرى نسخر منها كحكايات الجدات (وهذا يظهر بوضوح من خلال مشهد قيام أليكس بعملية أغتصاب واعتداء بالضرب على وهو يغني أغنية فيلم غناء تحت المطر) مجتمع كهذا أصبحت الغريزة فيه مسيطرة لا عجب أن يظهر فيه أليكس ، راقب تفاصيل حياة أليكس نشأ في عائلة جيدة الحال كل شيء متوفر لديه هو ليس مضطر للسعي لتحصيل شيء ثم راقب والديه لا يوجد أي علاقة معهم يخرجون من الصباح إلى المساء يعتقدون إن العمل وتأمين كل احتياجات أبنهم الوحيد المادية سيجعله مستريح ولكن أليكس وغيره من الشباب المراهق لديه احتياجات نفسية أيضاً لا يمكن للمال أن يلبيها ... أليكس كمراهق لم يحظى بالتوجيه المفروض من أهله فأطلق كردة فعل طبيعية غرائزه حيث لم يعثر على من يعلمه كيف يضبطها فأطلقها بعشوائية آذته قبل أن تؤذي غيره.... أصبح يؤذي كتعبير عن الغضب على المجتمع وطموح لإسكات شيء بداخله وطمعاً ليكوّن لنفسه قيمة يفتقدها هذا هو أليكس القوي ... عبقرية كوبريك وقبله الروائي أنتوني بارغيس إنهما قدما نظرتها عن المجتمع بكامل عناصره من خلال شخصية واحدة أليكس الذي كان الجلاد (ولو بشكل ظاهري) في بداية العمل أصبح في الثلث الأخير هو الضحية رأينا من خلاله وجهة نظر الضحية أيضاً في المجتمع .... أليكس بعد تلك التجربة المريرة في السجن حاول التعايش بهدوء وسلام مع المجتمع ولكن المجتمع رفضه لم يرحمه واجهه بعنف لا يختلف عن قسوة عنفه، عائلته وربيبها طردوه بطريقة عنيفة جداً ... ثم المتشرد الذي تعرض له أليكس في السابق للضرب ينتقم منه مع جمع من المتشردين بطريقة عنيفة أيضاً ينتهي أليكس هارباً إلى الشرطة كأي مواطن عادي مسالم لكن رجال الشرطة هما صديقاه السابقان اللذان عانا منه في السابق وكانا شريكيه في كل ما ارتكبه من أصبحا الآن وبطريقة غريبة وضمن إسقاط على فساد المجتمع رجال الشرطة وبعد أن ينتقم الشرطيان من أليكس متناسين مهمتمها الرئيسية بحماية المجتمع التي كانت مجرد شعار ردداه دون أن يفقها معناه لجأ أليكس إلى منزل يعرفه هو منزل الشخص الذي أغتصب زوجته وضربه الذي فقد صوابه وأنتقم من أليكس هو أيضاً ، ربما تكون هذه المصادفات غير مقبولة في عمل أخر ولكن في فيلم كوبريك هذا هي مقبولة جداً ولولاها لفقد الفيلم كل غايته وقيمته ولولاه لما عبر الفيلم عن رسالته الهامة ، وبعد هذا كله نرى أليكس في النهاية مرتاحاً وقد عاد كما كان في السابق حيواناً جنسياً عنيفاً ليس لإن التجربة فشلت ... لا التجربة نجحت جداً فغايتها الرئيسية إندماج أليكس مع المجتمع وأليكس حقق الإندماج مع المجتمع بشخصيته العنيفة فهي أقرب إلى المجتمع وقيمه من شخصيته اللطيفة والمسالمة فالأولى هي ربيبة المجتمع ونتيجته أما الثانية فهي دخيلة عليه، قد نقول إن العنف الذي لحق بأليكس هو من سببه إلى نفسه حين أعتدى على أولئك الأشخاص في البداية ولكن من جعل أليكس هذا الحيوان العنيف في السابق الذي يعتدي على الناس بلا رحمة ، وأين الرحمة والغفران التي يجب أن تتوفر لأولئك اتجاه أليكس بعد أن نال جزاءه ، كوبريك يوضح إن مسألة العنف عند الإنسان قد تظهر منذ البداية كأليكس في بداية العمل أو قد تكون مختبئة تنتظر المحفز لتظهر كأليكس في نهاية العمل وكأعدائه... المرحلة الانتقالية بين حالتا أليكس من الشر إلى الخير هي المرحلة الأهم في العمل لأنها نقلتنا لنرى فساد المجتمع الذي أفرز شخصيات كأليكس ، تلك المعاملة اللاإنسانية للمساجين وغياب تأثير الدين ثم الاستغلال الخاطئ للتكنولوجيا التي أصبحت غالبة حتى على إنسانية البشر وجعلتهم آلات وعبيد لها كلها ليست سوى نافذة لنطلع على فساد المؤسسة السياسية من خلال أحد أهم منظماتها الأمن التي هي بالتأكيد أحد عوامل إنحلال المجتمع ويكمل بذلك كوبريك الصورة لمجتمع فاسد منحل ، العائلة المنحلة ، الفتيات الجامحات ، الشباب العنيف، المحاربين المتشردين، المثقفين المنحلين أخلاقياً، رجال الدين العاجزين، الشرطة والمسؤولين الفاسدين، العلماء المجانيين، يااااه لم أرى عمل يستطيع إختصار مجتمع بهذه الطريقة العجيبة .... كوبريك الذي قدم نصاً مبهراً مقتبساً عن رواية أنتوني بارغيس أكلمه بصور عبقرية كالعادة كل شيء في أوجه التصوير والمونتاج والإخراج الفني ... وسأتوقف طويلاً للحديث عن الإخراج الفني عن هذه الديكورات الرائعة تصور مميز لمستقبل أسود منحل حيواني كل شيء يعبر عنه شكل المقهى والمنازل والسجن المنحوتات اللوحات ويكملها بإنجاز رائع على صعيد الملابس والمكياج ... كوبريك يصنع عملاً مذهلاً جريئاً وصادماً ... أستغرب كيف ظهر في السبعينات عمل بهذه الجرءة مشاهد عديدة ما زالت غير محبذ تصويرها إلى إيامنا هذه (كمشهد تفتيش ألكيس في السجن أو تعذيبه والبصق في وجههه ولحس حذاء السجان) عدا التصوير الصادم والمؤلم لمشاهد القتل والأغتصاب، واستعمال عجيب لمشاهد وثائقية عنيفة على خلفية تخيلات أليكس الدموية وتصوير الأخر السريالي لمشهد الجنس مع الفتاتين تصوير من زاوية واحدة بكاميرا واحدة وبطريقة سريعة على إنغام موسيقى إيقاعية كتعبير عن مجتمع سريع أصبح فيه الناس مجرد حيوانات تمر لحظات اللذة عنده دون الشعور فيها بل أصبحت مجرد إشباع لذّة كالحيوان ... لا أنسى أبداً أداء مالكولم ماكدويل الصعب والقوي والاحترافي والمتناقض والمخيف والعنيف ....
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق