RSS

The Seventh Seal - 1957


عندما نتحدث عن إنغمار بريغمان لا نستطيع سوى أن نصفه بأنه أحد أفضل صناع السينما بالتاريخ، فالمبدع السويدي الذي رحل عام 2007 هو أحد الاسماء التي تنتمي لجيل الأربعينات و الخمسينات الذهبي جيل فلليني ودي سيكا وهيتشكوك ولين ووايلر وكوروساوا وكازان وويلز، الجيل الذي صنع للسينما أهميتها الحقيقية كوسيلة فكرية وثقافية أكثير منها أداة ترفيهية ، بريغمان المولود عام 1918 هو أكبر من مجرد صانع أفلام هو فيلسوف حقيقي ناقش من خلال الصورة أفكار الحياة والموت والخلود والدين والإلحاد والفناء بجميع أفلامه منذ الأربعينات وحتى نهاية السبعينات وصنع أعمال سينمائية خالدة أهمها ربما على الإطلاق الختم السابع الذي حاز عنه على جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان عام 1957 وتحول مع الأيام ليكون من إيقونات السينما الحقيقية وأحد أكثر الأفلام شعبية وإثارة للجدل وأهمية فكرية وثقافية، عمل لامس به بريغمان أكثر الأسئلة الإنسانية عمقاً وخطورة حقيقة الموت والرب ومصير الإنسان بعد الموت، يتحدث الفيلم عن فارس يعود من الحملات الصليبية وقد فقد إيمانه بكل شيء ويرى بلاده واقعة تحت رحمة وباء الطاعون الذي يهدد العالم بالفناء حتى يصبح الحديث عن دنو يوم القيامة ومواجهته أمراً اعتيادي ، ومن خلال تحدي الفارس لملك الموت بلعبة شطرنج يحاول العثور على أجوبة لأكثر الأسئلة خطورة عن حقيقة الرب والحياة بعد الموت وعن سبب كل المعاناة التي يعيشها العالم. 

يبدأ الفيلم مع عودة الفارس وخادمه إلى السويد يستعرضهما بريغمان في أول مشاهد عمله مرميان على الشاطئ  ، يحاول الفارس الصلاة ولكنه لا يستطيع وهناك يلتقي بملك الموت ويدعوه لتحديه بلعبة شطرنج يراهن بها على حياته ويحاول أن يعرف منه أسرار وجود الرّب والعالم والحكمة من المعاناة ومن الموت والحياة ،  ويحاول خادم الفارس سؤال أحد الأشخاص عن مكان حانة قريبة فيصطدم به كجثة هامدة متفسخة، الفارس يواجه قيامته الصغرى والعالم من حوله يواجه القيامة الكبرى مع اكتساح الطاعون للعالم الكل يتحدث عن أن القيامة حانت والكل يستعد لمواجهة الفناء بطريقته الخاصة.




أعمال بريغمان هي ربما أكثر الأفلام كئابة على الإطلاق ولكنها بنفس الوقت الأكثر عمقاً وملامسة للأسئلة الإنسانية الأخطر بالوجود، ابن الكاهن السويدي بمسيرته السينمائية كان دوماً يلهث وراء أجوبة حول المخاوف البشرية الأكثر تعقيداً وقدماً وفي كل مرة يحاول مقاربتها بطريقة جديدة ولكن هنا بهذا العمل لامسها بأكثر المرات مباشرة وصراحة، الفيلم ليس قصة عن العصور الوسطى هو يصلح كإسقاط على البشرية في أي زمان وعلى زمن بريغمان بالذات، مع نهاية الخمسينات ومعافاة أوروبا من جراح الحرب العالمية الثانية والنازية انفجرت جراح جديدة الخطر السوفيتي من الشرق تصعيد التسلح العالمي وظهور القنبلة الذرية التي تهدد العالم بالفناء بكبسة زر واحد مع انتشار العديد من الأمراض التي لم تكن معروفة سابقاً بالأخص السرطان الذي ألقى بظلاله المميتة على العالم بأسره، زمن أصبح فيه العالم فعلاً على شفى الفناء مع تصاعد جنون الحرب الباردة ومخاوف تحويلها إلى جهنم حقيقية لن تبقي أحد، في ذك الوقت جاء عمل بريغمان ليعبر عن مخاوف الإنسان المعاصر الغارق في لذات العالم الحديث والشاعر بانهيار كل القيم الدينية القديمة مع تصاعد ثورة العلم والمادية ليطرح أسئلة ذلك الإنسان عن سر وجوده وسر العالم الذي يعيش فيه وهل هذه هي المحطة الأخيرة أم يوجد ما بعدها.

يتجاوز بريغمان بعمله فلسفة الموت ليسأل عن دور الإنسان باستحقاقه للعقاب وعن علاقة رجال الدين بالدين، يدخل خادم الفارس إلى كنيسة يزين خدمها جدرانها برموز عن القيامة يحدثه عن الإنسان ويخبره إن الخوف هو أكثر المشاعر تأصلاً وجذباً بداخله ويجب دوماً إثارة هذا مخاوفه وتذكريه بالنهاية فيقول له الخادم إثارة خوف الإنسان المستمر من الموت يعني جذبه أكثر للكنيسة هنا إشارة بريغمان واضحة إلى الدور الذي يلعبه رجال الدين وتحويلهم مناصبهم الروحية إلى نقاط نفوذ وقوة دنيوية لهم دون أن يحملوا أي خلاص أو راحة للإنسانية، يعود بريغمان بفيلمه أكثر إلى الحملات الصليبية التي أندفع إليها الناس بحماس ديني أيقظه رجال الدين (اندفعنا نحو مجد الرب) هذا ما يقوله الخادم ولكن يسأل الفارس أين كان الرب في تلك الحملات ؟، يتحدث الفارس وخادمه عن تلك الحملات بشيء من الأسى يصوراها بأنها أسوء من الجحيم ليس فقط ما عانوه بل وما سببوه ايضاً من معاناة دون وجود مبرر اندفعوا نحو مجد الرب ولكنهم لم يجدوا أي مجد وعادوا وقد اختفت كل مفاهيم الإيمان والرب لديهم ليجدوا عالمهم في حالة ليست أفضل يعيش أيضاً في جحيم قاتل، في نفس الوقت لا يحمل الفارس كل شيء على الرب يرمي بالذنب أيضاً على الإنسانية ، (لقد عشنا في سنوات من الفخر والعنجهية وحان وقت عقابنا) كلمات يقولها الفارس يصف بها عالمه والعالم كله الذي ابتعد بالكامل من نبلائه ورجال دينه وعلمائه وحتى أصغر رجل فيه عن تعاليم الرب السمحاء واتبع شهواته والشيطان ويصدقه بريغمان حين يرينا الممثل المسرحي يلهو بمجون مع زوجة خائنة أثناء عرض فني يذكر الإنسان بنهايته والفناء ويدعو للتوبة، وحين يرينا الناس في الحانة يفكرون كيف يجب أن يتعاملوا مع نهاية العالم فأحدهم يقول إنه يجب أن يودعوا العالم بإشباع أقصى غرائزهم وشهواتهم ويسخر من دعاة التوبة ثم يقوم الجميع بالسخرية وإذلال الفنان بطريقة مسيئة ومذلّة ، والزوجة الخائنة تتلاعب بعواطف زوجها حتى يشفع لها ويقتل عشيقها رغم إنها هي من أغوته، ويعثر الخادم على رجل يحاول سرقة جثث الأموات ويتعرف عليه بأنه عالم أغرى وأوقع بسيده ليخوض تلك الحروب باسم الرب والآن تحول ذاك إلى وحش كشف عن نفاقه وخداعه وإن كل ما قام ويقوم به ليس سوى حيل ليستفيد مادياً بأقصى شكل ممكن دون أن يصدق بشيء مما يقوله.


في الكنيسة يلتقي الفارس مجدداً بملك الموت وقد انتحل شكل الكاهن، يسأله الفارس عن معنى الأيمان وحقيقة الرّب يخبره إنه لا يستطيع الاكتفاء فقط بالإيمان بقلبه يريد أيضاً أن يفهم بعقله كل الأمور الكونية غير المألوفة، هو لا يستطيع تجاهل تلك الأسئلة وكلما حاول تجاوزها تعود لتواجهه ، كلما حاول التخلص من الإيمان تعود تلك الأسئلة من خلال الموت لتذكره بوجود الرب والمصير بعد الموت ويقول إنه لا يستطيع فقط أن يكون مؤمناً بالمجهول يريد الحقيقة واضحة، في ذلك المشهد العظيم يلخص بريغمان العديد من أفكاره، يرينا عقدة الإنسان الحديث الذي لم يعد مع تطور العلم يكتفي فقط بالإيمان ويحتاج لبراهين علمية، لا يستطيع أن يرمي الإيمان خلف ظهره لأنه موجود في كل مكان وينتظره بالنهاية ولا يستطيع أن يخدع نفسه ويقول إنه مؤمن وإيمانه وفكره مليء بالثغرات التي لا يوجد من يصححها له أو يملئها، في نفس المشهد يسخر بريغمان من رجال الدين الذي هم أيضاً لا يعرفون الأجوبة بل يستغلون حاجة الإنسان للتحايل عليه حيث يقوم ملك الموت بمعرفة خطة الفارس ليغلبه حين يستدرجه بالحديث وهو ينتحل شخصية الكاهن وهنا إشارة أخرى إلى حيل الموت الذي لا يمكن هزمه والتخلص منه لأنه مصير الإنسان المحتوم وفي مشهد آخر يحاول الممثل المسرحي الهرب من الموت فيصعد إلى شجرة فيلحقه ذاك حاملاً منشاراً ويقطع الشجرة ويسقطه.
مع شخصية الفارس ورفيقه هناك الفرقة المسرحية، شخصية قائد الفرقة يصنعها بريغمان بشكل أشبه بالرسول أو النبي، هو تعبير بريغمان عن أهمية دور الفن بزمن الأزمات لتوعية الإنسان والنظر بشكل مختلف للعالم، يرى قائد الفرقة رؤية العذراء وابنها تمشيان بالغابة فيدرك إن لديه رسالة يجب أن يقولها، عليه أيضاً أن يوعي الإنسان من خطر الموت والفناء ولكن ليس بطريقة مخيفة تقتل الأمل وإنما بطريقة لطيفة يذكرهم بها بضرورة التوبة والعودة إلى الله والعمل على إصلاح النفس، هو الوحيد الذي لا يرى فيما يجري الفناء وإنما فرصة أخرى للعودة، وحين ينشر رسالته يقتحم موكب ديني مخيف عرضه يحمل كل رعب ووحشية وينذر الإنسان بالنهاية وإنه لن تنفع أي توبة ويجذب إليه الناس ويقودهم بعيداً عن العرض ، هنا إشارة من بريغمان إلى ألاعيب السياسة وتلاعبها بغرائز الناس ومخاوفهم، كيف إن الخوف لديه القدرة على جذب الإنسان والسيطرة عليه أكثر من الفرح، كيف يتحول الناس إلى قطيع حين يتم التلاعب بمفاهيمهم وعواطفهم الأساسية عن الموت والدين والفناء ويقتادون في موكب دون تفكير إن كان فيه نجاتهم أو فيه الهاوية.


في رحلته يلتقي الفارس بإمرأة ممسوسة من الشيطان، وبعد أن عجز عن العثور على أجوبة لدى ملك الموت ولدى الكاهن يحاول سؤال الشيطان فهو برأيه أكثر معرفة بالرب، تقول له المرأة الممسوسة إن الشيطان بكل مكان بإمكانك أن تراه إن استدعيته ويستغل الشيطان تلك الفرصة ليغوي الفارس بأنه حين الكارثة والعذاب هو الوحيد الذي سيخلصه هو الوحيد الذي سيحول عذابه إلى جحيم وكأن بريغمان يقول إنه حتى الشيطان يستغل حاجة الإنسان للمعرفة ليغويه ويبعده، حتى الشيطان لا يحمل أجوبة وليس مستعد ليعطي أجوبة بلا مقابل وكأنه لا يختلف بشيء عن الكاهن المضل المتلاعب بالدين.
بعد هزيمة الفارس في لعبته يسأل ملك الموت عن أجوبة فيخبره إنه هو أيضاً جاهل، بهذا الجواب يلخص بريغمان مفهومه عن الرّب، إنه أكبر  من يدركه أحد أو يفهمه أحد ، لا يمكن لأي شيء من مخلوقاته أن يصل لحقيقة كنهوته لأنه ليس كمثله شيء لا يستطيع الإنسان بعقله الصغير أن يدركه، والأفضل أثناء النهاية بدل أن يشغل نفسه في التفكير أن يسارع إلى التوبة وتغيير نفسه وتخليص ذاته، فالحقيقة لن تبان للإنسان بحياته، لن تظهر أمامه إلا لحظة الموت، لذلك حين يأتي الموت للفارس يلجئ إلى الصلاة والتوبة بخشوع افتقده بداية العمل، كل الحقائق تظهر للإنسان لحظة الموت، كل الأسئلة يجاب عنها لحظة الموت، كل الشكوك تزول أمام الموت فهو الحقيقة المطلقة، والأفضل للإنسان أن يستعد لتلك اللحظة وأن لا يهملها أبداً أو يتجاهلها فالموت هو الحقيقة التي لا تقبل الشكل وهي مفتاح كل الحقائق.


القيامة تحل والكل يموت ويرقصون مع عزرائيل رقصة الموت ويبقى الممثل المسرحي وزوجته وأبنه كرسالة من بريغمان إلا إن الموت ليس النهاية، ليس هو المهم بحد ذاته بل المهم هي العبرة التي يخلفها، هو محطة يجب على الإنسان أن يستعد لها وأن يواجهها بعمل صالح يخلفه بمسامحة الناس بالتعامل الحسن معهم باحترام عائلته وتقديرها .
نص فيلم الختم السابع هو من أعقد النصوص وأكثرها بساطة ورمزية بنفس الوقت وبريغمان لا يكتفي قوة نصه بل يعطي للصورة دور كبير برواية القصة، أسطورة المسرح السويدية يجعل من فضاءات السويد مسرحاً واسعاً لعمله ولكنه بنفس الوقت يعطي للسردية السينمائية دور كبير ورئيسي بفيلمه هذا، ستشعر بالموت في كل مكان ستشتم رائحته،الخوف والتوتر والكئابة والحيرة سترافقان المشاهد بكل لحظة بهذا العمل التصوير بالأبيض والأسود يقوم بدور رئيسي بإعطاء تلك الانطباعات وبريغمان يحافظ على تصعيد إيقاع فيلمه حتى إنه يشعر المشاهد بدنو القيامة منه ليأتي مشهد القيامة صارماً جليلاً مخيفاً ، بريغمان صنع العديد من المشاهد الموترة المفزعة بعمله مشهد الجثة على الشاطئ اقتحام الموكب الكنسي للعرض المسرحي تطهير الفتاة الممسوسة ومشهد النهاية العظيم، هو نجح بجعل مشاهده يلمسون الخوف من الموت وكأن القيامة فعلاً غداً ويجبرهم على إعادة التفكير بحياتهم ومفاهيمهم بالكامل، الطاقم التمثيلي بالعمل أبدع بالأخص ماكس فون سيداو شريك بريغمان القديم الذي قدم من خلال شخصية الفارس أداء صعب معقد حائر قدم من خلاله النزاعات الدينية والفكرية وتحديات الحياة والموت بشكل إبداعي حقيقي .


0 التعليقات:

إرسال تعليق