RSS

The shining - 1980

نوعيتي السينمائية المفضلة في أفلام الرعب هي  رعب ما وراء الطبيعة وبعد أن شاهدت الكثير من هذه الأفلام (وعندما أقول الكثير فأنا أعني المئات وليس العشرات) لم أعثر سوى على أربعة أفلام تستحق لقب أفلام خالدة وهي طفل روزماري لبولانكسي وطارد الأرواح لوليام فرادكلين وكاري لبراين دي بالما وفيلمنا هذا، ولهذا الفيلم مكانة خاصة في التاريخ السينمائي كونه من صناعة ستانلي كوبريك أعظم صانع أفلام في تاريخ السينما وبلا منازع وبطولة جاك نيكلسون أسطورة زمانه وأفضل ممثل في جيله بلا نقاش ...
ولكن ليس ضخامة الأسماء هي ما تجعل من الفيلم عملاً خالداً (لدينا المترجمة بطولة شون بين ونيكول كيدمان وإخراج سيدني بولاك ولكنه سقط بشكل مدوي) إن الذي يجعل الفيلم عملاً خالداً هو النتيجة التي يقدمها وهذا الفيلم قدم نتيجة مبهرة أهلته ليكون من أفضل أفلام الرعب على الإطلاق بل هو للكثيرين أفضل فيلم رعب ومن أفضل الأفلام التي عرضتها السينما وهو ما زال صامداً ومحافظاً على أصالته رغم  مرور حوالي ثلاثين سنة تقريباً ...
عندما عرض الفيلم عام 1980 حقق نجاحاً تجارياً منقطع النظير وهو أنجح مشاريع كوبريك تجارياً وعلى مدى السنوات أصبح كلاسيكي بامتياز وشهرة العمل تأتي من شكله الاستثنائي والتجديدي فالأفلام التي تتحدث عن جماعة أو عائلة تعلق في منزل مليء بالأشباح كثيرة ولكن لهذا الفيلم طابعه الخاص فهنا ليست الوحوش والأشباح هي التي تفتك بالعائلة ولا يوجد هناك بطل لا يهاب الموت يواجه الأشباح بذكاء مفرط ، بل إن هذه الأشباح تسيطر على ربّ العائلة الذي يلاحق زوجته وأبنه بفأس حديدي ليقضي عليهم وتحاول الأم الضعيفة مواجهة هذا الأب بأي سلاح يتوفر لها وسياق الأحداث يعطي مبررات قريبة للواقع يشبه ما يجري في العديد من العائلات ضمن مشهد حواري هو أهم حوار في العمل حيث تطلب ويندي من زوجها التخلي عن العمل ليعرض أبنهم على مريض على طبيب ولكن الأب يثور متمسكاً بعمله ومهمته ويلوم زوجته التي لا تكترث لمسؤولياته وأعماله ، وهذا ما جعل للعمل طابع إنساني بحت فالجمهور يتعاطف مع الأم التي تدافع عن أبنها وينفر دوماً من الرجل السكير الذي يحاول أن يؤذي عائلته وهذه مشكلة مستفحلة في المجتمع الأمريكي بل حتى إن بيل كلينتون تعرض لهذا بطفولته، ومشهد اقتحام جاك تورينس لغرفة عائلته وصياحه (عزيزتي جاء جوني) هو أحد أكثر المشاهد شعبية وهذه العبارة هي أشهر عبارة بسينما الرعب ليس لتفردها بل لشدة الفزع الذي أثارته حيث هذا الشرير ليس شيطان بل هو إنسان حقيقي وموجود في كل مكان.   

أنا لم أقرأ رواية الضياء لستيفن كينغ لذلك فلا استطيع أن أناقش الفيلم من منظر أمانة الاقتباس سأناقش الفيلم من باب النتيجة التي توصلت إليها عقب انتهائه ومن باب ما قدمه كفيلم ومن هذه الزاوية بإمكاني أن أقول إنه فيلم مذهل فيه   قدرة عجيبة على إثارة الرعب والفزع والتشويق ومصنوع ضمن شكل فني عبقري وفيه تم تقديم أحد أفضل الأدوار بتاريخ سينما الرعب ولكن من حيث تناسبه مع المشروع الكوبريكي عن وحشية الإنسان فقد كان موفقاً بذلك إلى حد ما ولكن ليس بالشكل الكامل، فالفيلم يحوي مزج محير وغريب بين رعب الماورائيات والرعب النفسي هذه المزج أدى أحياناً إلى صنع بعض التشويش والغموض حوله وحال دون تقديم بعض أفكاره بالشكل الكامل ولم يكن متناسباً 100 % مع مشروع كوبريك ، أنا لا أقول إن كوبريك ملزماً بكل فيلم بتقديم مشروعه ولكن حين يقدم فيلم رعب عن الأشباح والظواهر الخفية ثم يحاول إقحام مشروعه عن وحشية الإنسان فهنا أقول إنه ملزم بتقديم صورة وافية عن تلك الفكرة ، فالفيلم في كثير من الأحيان يعزي أسباب ما قام به جاك تورينس إلى العزلة التي يعيشها والفشل والكآبة والمشاكل الزوجية ورعب الأماكن المغلقة والتي جعلته متوحش الطباع ثم يسلط الضوء على موضوع الأشباح والأساطير الخفية في هذا الفندق وإنها سيطرت على جاك ودفعته لإرتكاب ما ارتكبه .... كان من الممكن أن يتم إرجاع فكرة الأشباح إلى أنها وليدة عقل تورينس ومخيلته المريضة ونتيجة الضغط النفسي الذي يعيشه ولكن هناك العديد من المشاهد تصر على أن هذه الأشباح هي من لعنة الفندق نفسه (شلالات الدم ... العجوز في حوض الاستحمام ... فكرة التخاطر بين داني والطباخ الأسود ... الظواهر الغريبة التي يقوم بها داني ... الأشباح التي تراهم ويندي صورة جاك في نهاية العمل) كلها أمور تجعل المشاهد يحتار بين كون الفيلم ينتمي إلى رعب الماورائيات أو الرعب النفسي الإجرامي دون أن تظهر له بالنهاية هوية واضحة ... ولكن ذلك لا يجعلني أنكر إنه في بعض النواحي وببعض المشاهد كان موفقاً بتقديم أفكاره ففي مشهد البار الذي يقول فيه جاك تورينس إنه مستعد أن يبيع روحه للشيطان من أجل شراب تظهر له شياطين الفندق وتقدم له الشراب مجاناً وتدفعه فيما بعد ليقضي على عائلته في هذا المشهد شعرت إن كوبريك يقول إن الإنسان مستعد في كل لحظة أن يبيع نفسه للشيطان وللخطيئة من أجل بضاعة بخسة ويدفع ثمنها سعراً باهظاً وهي روحه التي يسيطر عليها هذا الشيطان بشكل مخيف وتدفعه إلى ارتكاب الفظائع...



على أية حال وبغض النظر عن ضياع مضمون الفيلم وبعض غموضه فمن المستحيل إنكار احترافية كوبريك في صنع الرعب والإفزاع في العمل ، مادة العمل الأصلية التي خطها ستيفن كينغ وفرت أرضية ممتازة لصنع الرعب استغلها كوبريك بنجاح فائق ، هو يبدع بصنع إنسيابية مذهلة بين المشاهد والعمل ويجعل المشاهد يعيش برعب حقيقي ، شاهدت العمل لأول مرة عام 2005 ولا استطيع نسيان شعور الإثارة الذي انتابني وأنا أشاهده، واليوم وبعد عدة مشاهدات للعمل ما زالت تبهرني قدرة كوبريك على صنع الإثارة بعمله وما زال يذهلني ذلك التمهيد المبهر للحدث حيث يجعل المشاهد وبهدوء شديد يندمج بالعمل ثم تبدأ أحداث العنف الدموية فيه، بدايةً مشهد الافتتاحية مع موسيقى ويندي كارلوس المضطربة وتصوير جون ألكوت الجوي المتقن لرحلة جاك تورينس الأولى إلى الفندق والتركيز على مدة عزلة الفندق وبعده ثم اللقاء مع صاحب الفندق الذي يحذر جاك من حادثة قتل قديمة وقعت هناك بسبب العزلة التي عاشها المشرف السابق، وبواسطة مونتاج راي لوفجوي المبهر (مونتير أوديسا الفضاء وأفضل مونتير في التاريخ) تنتقل الأحداث إلى منزل جاك ونلتقي بابنه داني وزوجته ويندي ونعلم إن هذا الولد مصاب باضطراب نكتشف فيما بعد إنه قدرة تخاطر خارقة أو الضياء كما يسميها الطباخ الأسود في الفندق الذي يملك نفس القدرة، ونعلم كذلك إن الأب كان يعاني من إدمان على الخمور وإن علاقته ليست جيدة مع زوجته ، ومن خلال قدرة الصبي الخارقة يتنبأ إن الفندق لا يحمل الخير للعائلة ... تنتقل العائلة إلى الفندق وتتجول فيه من باب الإطلاع ليطلع المشاهد على مدى كبر الفندق واتساعه ويبدأ بالارتياب (كيف ستعيش عائلة لوحدها طيلة ستة أشهر بهذا الفندق الضخم معزولة عن كل العالم) وخلال الجولة نشاهد المتاهة الواسعة ونعلم إن الفندق مبني على مقبرة هندية، في الفندق يلتقي داني بالطباخ ويصرح له بشكوكه عن الفندق وإن هناك كارثة وقعت فيه فيخبره الطباخ : (إن ما جرى هو أشبه بتناولك كعكة وقد ترك آثار على الأرض) ويحذره بشدة من دخول الغرفة 237 .


فيما بعد نتابع مجريات حياة العائلة في الفندق جاك لا يستطيع الكتابة وتنتابه الكآبة وتؤثر عليه العزلة وتبدأ أخلاقه الشريرة بالظهور فليست مجرد عزلة المكان تؤثر فيه بل عزلته عن زوجته وأبنه حيث إنه لا يستطيع التواصل معهم وعلاقته معهم مضطربة، أما الابن فيبدأ برؤية الأشباح شلالات دم وتوأم قتلن فيما مضى.. ثم يدخل الغرفة 237 وهنا يأخذ الفيلم منحاً جديداً ويدخل المشاهد بنفق من الإثارة والرعب ....
كوبريك سخر فنياته التي كانت كعادتها بالقمة لصنع الإثارة بالعمل... الديكورات كانت بمنتهى الإتقان الفندق والمتاهة كانا متكاملين مع التركيز على الألوان الداكنة الحمراء والصفراء لزيادة السوداوية والتوتر، التصوير مذهل منذ اللحظة واستعمال تقنية كوبرك المفضلة بملاحقة الممثل لم تعطي مجرد جمالية بصرية بالتمازج مع الديكورات رائعة بل جعلت المشاهد ينساب بسهولة إلى العمل ويشعر بالتوحد فيه، هناك العديد من المشاهد لا تنسى مشهد ضرب جاك على الباب مشهد مراقبته للمتاهة، مشهد البار مشهد الحمام ، مشهد حوض الحمام ، هذه المشاهد لم يكن مجرد التصوير هو سيد العمل فيها بل المونتاج لعب دوراً كبيراً خلالها بصنع جو الإثارة وبجعل المشاهد يتوحد بالعمل، المونتاج الذي لعب دوراً كبيراً بصنع الإثارة بتلك المشاهد يلعب نفس الدور بصنع الإثارة بمشاهد أخرى بالأخص مشاهد مقابلة داني مع الفتاتان وقطع تلك المشاهد بصور للفتاتين قتيلتين ...

باعتقادي فإن السبب الحقيقي في صنع الإثارة بالعمل ليست فقط فنيات كوبريك بل أداء جاك نيكلسون الأسطوري الذي قدم ثاني أفضل أداء له بعد أدائه في طار فوق عش الكوكو، نيكلسون بذلك الدور كان منفلتاً بقمة تمرده وجنونيته دون أي حدود تقيده ملامح وجهه الجنونية طريقته بالكلام صراخه صوته جنونه ضحكته حركة عينيه ركضه لا ينسى يرينا كيف يكون الشيطان كيف يكون المجنون كيف يكون الكآيب المهزوم المعزول .... نيكلسون يبدع بحرفته التمثيلية ليس قط على صعيد جنون الأداء بل على صعيد تنقله بعدة حالات نفسية بنفس الوقت ...

كان من الصعب مع وجود نيكلسون المجنون أن يجاريه أحد بقوته داني لويد بدور داني جيد جداً وكذلك سكاتمان كروزيس بدور الطباخ لا بأس به ...   أما شيلي دوفال بدور ويندي فكانت هزيلة جداً وشديدة الانفعال تستحق لقب أسوء ممثلة لعام 1980 ، وإن كنت اتفق مع اعتبارها أسوء ممثلة فلا اتفق مع اعتبار كوبريك أسوء مخرج لذاك العام ربما لا يكون هذا الفيلم أفضل أفلامه ولكنه بالتأكيد ليس الأسوأ ولكن هو أقل أعماله قيمة أنا أفضل عليه أوديسا الفضاء وباري ليندون ودكتور سترنجلوف و برتقالية آلية و سترة حديدية ممتلئة لكنه بالتأكيد عمل مبهر وممتاز جداً ومن أفضل أفلام الرعب على الإطلاق .   

0 التعليقات:

إرسال تعليق