RSS

JFK - 1991


فلم JFK لأوليفر ستون يشكل أحد أفضل نماذج الأفلام السياسية بتاريخ السينما، يضع قواعد واضحة لصناعة فلم سياسي مثالي ويشكل مثالاً يحتذ به بهذا المجال يقدم أفكار جديدة عديدة وجرأة غير معهودة ومطلوبة بهذه الأفلام، طريقة استعمال اللقطات الوثائقية وإدخالها داخل العمل إعطاء شخصية البطل جوانب نفسية ودراميا أكبر، طريقة سير التحقيق الواقعية وغير التقليدية كلها أمور جديدة قدمها أوليفر ستون بفلمه الذي عومل كحدث سينمائي بارز في بداية التسعينات أصبح اليوم كلاسيكياً عن جدارة بل وأصبح مثلاً أعلى لجميع المخرجين الذي يطمحون أن يصنعوا أفلام سياسية ويكفي أن نراقب الأفلام السياسية المعاصرة ونشاهد هذا الفلم لنرى مدى التأثير الذي أحدثه هذا العمل، ولا عجب أن يثير الفلم عند عرضه عام 1991 جدلاً واسعاً في الأوساط السينمائية والسياسية كيف لا ومخرجه هو صانع الأفلام الأكثر إثارة للجدل في زمانه أوليفر ستون الذي أحدثت أفلامه وقت عرضها وحتى الآن إثارة بالغة للجدل ونجاحاً كبيراً في نفس الوقت منذ أن قدم فلم بلاتوون وحتى آخر أفلامه المثيرة للجدل  الأسكندر عام 2004 والذي كان دون حجم التوقعات
 رغم إجماع أغلب النقاد على أن فلم بلاتوون هو أفضل أفلام أوليفر ستون ولكن هناك العديد من النقاد ومتابعي السينما وأنا منهم يعتبرون فلم JFK أفضل ما قدمه أوليفر ستون، صناعة فلم عن اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي كان يشكل هاجساً لدى ستون وقد نجح بهذا الفلم بأن يصيب هذا الموضوع بالصميم ويخرج بنتيجة ممتازة جداً، ستون ومن خلال رحلة التحقيق وراء قتلة كينيدي يرينا آثار اغتيال كينيدي وانعكاسات هذه الحادثة على الدولة والمجتمع، هو لا يتعامل مع الحادثة على أنها جريمة سياسية عادية بل يتعامل معها كمؤشر ودلاله على شيء أخطر وأكبر، يعاملها كمؤشر إلى عملية اغتيال أكبر تستهدف المجتمع والحرية فيه والمبادئ الأخلاقية السامية التي يقودها، يرينا المفرزات التي يفرزها اغتيال الرئيس والممهدات التي سبقتها، ومن ناحية أخرى لا يقتصر أوليفر ستون بمعالجته للفلم على موضوع اغتيال كينيدي وآثاره وحسب دون يدور مرة أخرى حول موضوعه الأثير الحرب الفيتنامية ويعالج قضية أخرى من قضاياها وجانباً أخر من جوانبها وفي هذا الفلم يقوم ستون بدراسة تأثير الحرب الفيتنامية على السياسة الأمريكية وتأثير السياسة الأمريكية على الحرب الفيتنامية والعلاقة المزدوجة بينهما وتأثيرهما المتبادل على بعض، أوليفر ستون نجح بجعل موضوع اغتيال كينيدي قاعدة لينطلق ليناقش مواضيع عديدة هامة جداً ومحرجة جداً حول الفساد السياسي والأخلاقي الذي يعيشه المجتمع الأمريكي وسيطرة المادية على مفاصل الحياة السياسية الأمريكية وراح يرينا الدور السلبي الذي يقوم به الإعلام في تضليل الشارع الأمريكي، وبالمقابل راح يرينا الناس الشرفاء ومعاناتهم لكشف الحقيقة مسلطاً الضوء على الوجه الإيجابي للمجتمع من خلال أولئك الشرفاء القلائل .قضية اغتيال جون كيندي هي المحور الأهم في العمل، عالجها أوليفر ستون ضمن إطار وثائقي مثير بحت من خلال نص قام بوضعه مع الكاتب زكريا سكلار استناداً إلى كتاب بطل القصة جيم غاريسون (على آثر القتلة) وكتاب الصحفي جيم مارس (تبادل إطلاق النار : المؤامرة التي قتلت كينيدي) جميع هذه الكتب تقدم روايات مختلفة بل ومتناقضة أحياناً ومزعجة حول هوية قاتل كيندي، ستون وسكلار قاما بدمج كل تلك الروايات المختلفة ضمن إطار واحد يفرز عدة ألغاز ينتهي الفلم دون أن نرى حلول لها، يقومان بشيء قام به ستيفن غاغان مؤخراً في فلم سيريانا بإبقائنا على مسافة خطوة واحدة وراء الحل تاركين مجالاً ضيقاً جداً للتكهن، ستون وسكلار يلمحان ويلمزان ويشيران بصوت منخفض لهوية القاتل ويتحدثان برموز من السهل فهمها وإدراك المقصود منها، وبالوقت نفسه لا يبتعدان عن محور القصة الأصلية وسير الأحداث فيها، ستون يجعل المشاهد يعيش حالة مذهلة من الإثارة على مدى تتجاوز الثلاث ساعات من التحقيقات والتحليلات ولا يشعره بالملل ويتركه مستعداً للمزيد من المفاجآت، ولو أن المشاهد يخرج من الفلم بنتيجة مبهمة حول قاتل كينيدي وحول فصول المؤامرة القذرة التي أدت إلى عملية الاغتيال ولكنه سيخرج بنتيجة أخرى شديدة الوضوح هي النتيجة التي يريد ستون تقديمها ويسعى إليها وهي أن اللعبة السياسية أكبر من أن يستوعبها شخص واحد هي لعبة معقدة جداً وخطيرة جداً غير محمودة العواقب والذي يدخل في خضمها عليه أن يدرك أنه لا يوجد هناك طريق للعودة منها، لعبة لا تعرف حدود وليس لها قانون سوى الانتصار بأي وسيلة ممكنة ومتاحة أو الموت، هي لعبة مال لعبة سلطة لعبة جاه لعبة مبادئ لعبة إعلام لعبة مشوشة ومخيفة جداً، أنا واثق إنه بعد فلم JFK سيعد المشاهد للمائة قبل أن يصدق ما يراه ويسمعه بالأخبار، وسيجبره على أن يترك ذهنه مستعداً لتوقع أي شيء حتى الأشياء الغير معقولة والمستحيلة.أحداث الفلم تدور حول المدعي العام (جيم غاريسون) الذي يقرر إجراء تحقيق عن اغتيال جون كيندي عام 1965 ويدخل تلك المغامرة التي يكتشف أنها لعبة شديدة الخطورة غير محمودة العواقب تكشف له عن أسرار خطيرة حول السياسة والمجتمع ، ومن خلال شخصية (جيم غاريسون) يصنع ستون خطاً جديداً في الأفلام السياسية وهي الموازنة بين الجانب السياسي والجانب الدرامي الإنساني النفسي للفلم وهذا الخط أصبح مذهباً تسير عليه صناعة الأفلام السياسية حالياً، أوليفر ستون حرص على أن يرينا أن (جيم غاريسون) لم يكن رجلاً طالب شهرة وساعياً وراء مجده الشخصي من هذه القضية وإنما هو شخص شريف تربى على مبادئ ومثل عليا رآها جميعاً تسقط مع سقوط كينيدي صريعاً برصاصة الغدر، الصورة الجميلة التي رسمها (جيم غاريسون) للمجتمع بخياله انهارت وأكتشف وجود مجتمع مشوش فاسد دنيء لا شيء يقف أمام طمعه ، (جيم غاريسون) لم يعد يناضل في سبيل كشف قاتل كينيدي بقدر ما أصبح يناضل من أجل إنقاذ تلك المثل والمبادئ التي أصبحت جميعها مهددة، هو وكما يقول يناضل من أجل التاريخ ومن أجل أن يعيش أطفاله في مجتمع لا تضيع فيه الحقيقة وفي سبيل تلك الغاية راح يتحمل جميع الضغوط ويتجاوز جميع العراقيل التي توضع بطريقه، لم يعد يكترث لتشويه سمعته ولم ينصت للتهديدات التي توجه إليه ، بالنسبة له لم يعد هناك شيء يخيفه بعد أن أصبح المجتمع الذي يعيشه أشبه بغابة تموج بالوحوش.فنياً لا يمكننا القول سوى إن أوليفر ستون كان بأفضل حالاته الفنية، كان فعلاً متألقاً بلا حدود وبلا توقف ، النص الذي وضعه مع زكريا سكلار ممتاز إلى حد الإذهال نص متشعب خبيث وجريء إلى درجة عالية وينفس الوقت إنساني ودرامي، ستون حرص على أن يجعل فلمه يتراوح بين الطابع الوثائقي والطابع السينمائي، فأدرج العديد من اللقطات الوثائقية الحقيقية وصور العديد من المشاهد بالأبيض والأسود كل ذلك بمساعدة (جوي هيتشينغ وبيترو سكاليا) اللذان قدما مونتاجاً خارقاً هو أفضل مونتاج عبر التسعينات ويكاد يكون من الأسباب الرئيسية بنجاح الفلم حيث نجحا بخلق موازنة بين الصورة السينمائية والصورة الوثائقية والصورة السينمائية الوثائقية وعرفا كيف يقدمان جميع المتهمين بصورة متوازنة دون أن يطغى أحدهم على أخر وبرع بالانتقال بين الحاضر والماضي بلا توقف وبلا إزعاج، أوليفر ستون استحضر بيئة الستينات بواقعية مميزة جداً أعطى درساً متميزاً لجميع المخرجين الذين سيأتون بعده ويريدون صناعة أفلام غير معاصرة فعند أوليفر ستون كان هناك تفنن واضح بالديكورات والملابس والمكياج وتسريحات الشعر، ولا استطيع أن أنسى الإبداع الآخاذ في التصوير وحركة الكاميرا والحرص على إظهار الطابع الواقعي في العمل الذي استعدى شيئاً من الفكاهة الموزونة في بعض المشاهد، موسيقى العمل وضعها جون ويليامز ويصعب ملاحظتها من خلال تدفق الإثارة والأفكار العديدة خلال الفلم ولكن إن أنصتنا سنسمع موسيقى متوترة مثيرة مخيفة ولاهثة. الأدوار التمثيلية كانت موزعة بعناية مطلقة على طاقم تمثيلي موهوب جداً، جوي بيتشي الذي قدم هذا الفلم بعد فوزه مباشرةً في الأوسكار عن رائعة سكورسيزي صحبة جيدة يقدم هنا دوراً ممتازاً جداً دور ديفيد فيري الثائر الكوبي المتوحش المزاجي ، الشخصية لا تختلف جداً عن الشخصية التي أكسبت بيتشي الأوسكار شخصية تومي دي فيتو ولكن المميز هنا إننا سنرى الجانب الضعيف من خذه الشخصية الجانب المرتاب المضطرب الخائف الضعيف الحائر وقد نجح بيتشي بتقديم تلك التناقضات باقتدار، كيفن بيكون أدى دوراً جريئاً جداً هو دور ويلي أوكيف الشاب الشاذ اللعوب وقد أدى الدور ببراعة تمهد لولادة نجم قدير جداً برأيي لم يأخذ فرصته المستحقة حتى الآن رغم الأفلام العديدة الهامة التي شارك فيها والتي ظهر بها بأدوار ثانوية بدءً بهذا الفلم وانتهاءً برائعة إيستوود النهر الغامض، الممثل القدير الراحل جيك ليمون يؤدي دوراً ثانوياً جميلاً جداً هو دور جاك مارتن العجوز الذي يحمل بجعبته العديد من الأسرار الخطيرة والقاتلة وقد أدى الدور كعادته باقتدار لا مثيل له، الممثلة القديرة سيسي سبيسك والتي أحب تصنيفها كأعظم ممثلة بتاريخ هوليوود تؤدي بهذا الفلم دور ليز غاريسون زوجة المدعي العام جيم غاريسون التي تعاني من غرق زوجها بالعمل وإهماله لها ولعائلتها ومن خوفها من نهاية الطريق الذي يقودهم إليه، من السهل ملاحظة ملامح الخوف والاضطراب على وجه سبيسك البارعة جداً بتقديم الاضطراب الذي تعيشه المرأة في حياتها، توم لي جونز قدم من خلال دور رجل الأعمال الشاذ الفاسد كلاي شو أفضل أدواره بلا أي شك، بشعره الأبيض وملابسه الأنيقة ونظراته الخبيثة ولسان الأفعى الذي ينطق به يصنع نموذجاً حياً لشيطان بشري يمشي على الأرض هو يريد أن يكرهه المشاهد وأن يقدم أسوء ما في هذه الشخصية بطريقة غير تقليدية وشديدة الواقعية وقد نجح بذلك، توم لي جونز بهذا الفلم أشبه بشخص تقابله للمرة الأولى وتدرك مباشرةً إنه شخص سيء رغم كل اللطف الذي يظهر به، توم لي جونز نال ترشيحاً للأوسكار عن هذا الفلم بفئة أفضل ممثل مساعد وخسره لصالح جاك بالانس عن فلم سيتي سليكارز، الممثل الإنكليزي العريق غاري أولدمان يقدم بالعمل دور صغيراً وهاماً جداً هو دور المتهم الأول باغتيال كينيدي لي هارفي أوزوالد، مشكلتي مع أولدمان أنني لا استطيع تميز شكله من كل فلم لآخر يقدمه، بهذا الفلم من الصعب التميز بينه وبين أوزوالد الحقيقي الذي يظهر مراراً باللقطات الوثائقية المكياج قام بدور كبير جداً في إنجاح ذلك وكذلك أداء أولدمان الجيد للشخصية، الممثل المخضرم دونالد ثوزرلاند بظهوره البسيط من خلال دور الكولونيل أكس صاحب الأسرار ينجح بأسر المشاهد وبتحريك جميع أحداث الفلم، أنا شاهدت عدة أدوار للمثل المذكور ولكنني أتوقع أن هذا أفضلها رغم صغر مساحتها هو غامض وذكي وقوي ومسيطر، خلال حواره مع كيفن كوستنر (الحوار الأهم في العمل) تلاحظ ملامح وجهه المضطربة والخائفة والمتوترة هو رائع جداً وقدير جداً بهذا العمل.برأيي أن واحدة من أسوء فضائح الأوسكار هي تجاهل أسم كيفن كوستنر من بين المرشحين لأفضل ممثل في ذلك العام رغم وجود اسمه بين المرشحين في باقي قوائم الجمعيات السينمائية ومن ضمنها الغولدن غلوب، كوستنر أدى دور جيم غاريسون وبرأي هو أفضل دور له على الإطلاق، يصنع من خلاله نموذجاً حياً للشخص الشريف ذو المبادئ الذي يناضل في سبيل مبادئه ويهمل كل شيء آخر، أداءه هادئ ومتوازن وصادق جداً يشعرك بمدى الهموم التي يحملها هذا الرجل وبمدى الصدمة والخوف التي في عينيه، هناك مشاهد عديدة وصل فيها كوستنر إلى أعلى دراجات الإبداع مشهد الصدمة خلال سماعه خبر اغتيال كينيدي مشهد تحقيقه مع كلاي شو ومشهد مشاجرته مع زوجته ومشهد وقوفه على قبر كينيدي مع ولده والمشهد الأخير والطويل والصعب جداً خلال المحكمة، كوستنر قدم خلطة تمثيلية رائعة جداً، هو لم يظهر فقط الجانب الإيجابي من الشخصية بل أظهر الجانب السلبي الخاص أيضاً في الشخصية فرغم نبل أهدافه إلا أنه كان بنفس الوقت شخص يقود نفسه وعائلته إلى الهاوية سعياً وراء أهدافه وقضيته.فلم JFK أحد أفضل وأهم أفلام التسعينات بلا أي شك الفلم نال ثماني ترشيحات للأوسكار ولم يكسب سوى جائزة أفضل تصوير وأفضل تحرير وخسر جوائز أفضل فلم ومخرج واقتباس لصالح رائعة جونثان ديمي صمت الحملان.

0 التعليقات:

إرسال تعليق