RSS

Heat - 1995


عندما تمطر السماء يجب أن يبتل المرء
فيلم حرارة لمايكل مان هو من أكثر الأفلام مديحاً في التسعينات رغم عدم نيله أي جائزة من أي جمعية سينمائية مع أنني أرى أنه يستحق خمس جوائز أوسكار رئيسية وفنية على الأقل، وهو أول تجربة إخراجية حقيقية لمايكل مان، الذي لم يكن يوم إخراجه لحرارة مخرجاً مبتدأ بل كان مخرج عتيق الطراز إذ بدأ بإخراج الإعلانات التلفزيونية عام 1965 ثم الأفلام الوثائقية عام 1969وأخرج عام 1979 فلم تلفزيوني ثم دخل السينما عام 1981 بفلم اللص من بطولة جيمس كان وعاد إلى التلفزيون عام 1984 بالسلسلة التلفزيونية الشعبية ستارسكي وهيتش والذي استمر عرضه حتى عام 1990، وقد تحول المسلسل إلى فيلم سينمائي عام 2004 من بطولة بين ستيلير وأوين ويلسون، في عام 1995 عاد مايكل مان إلى السينما بفلم حرارة جامعاً أثنين من أهم نجوم السينما أل باشتينو وروبيرت دي نيرو ونال الفلم مديحاً كبيراً جداً من النقاد ، وبعد هذا الفلم قدم مايكل مان الفلم الدرامي المثير (الدخيل) من بطولة راسل كرو وأل باتشينو عام 1999 و نال ثناءً عالياً
 
جداً من النقاد وعدة ترشيحات للأوسكار من ضمنها أفضل فيلم ومخرج ونص وممثل وخسرها جميعها لصالح فيلم جمال أمريكي، عام 2001 حقق مايكل مان حلم الكثيرين بصنع فلم عن سيرة الملاكم الشهير محمد علي كلاي حمل اسم علي وقام ببطولته ويل سميث وجيمي فوكس وجون فوغت ونال الفلم ترشيحان للأوسكار كأفضل ممثل لويل سميث خسرها لصالح دينزل واشنطن عن يوم التدريب وأفضل ممثل مساعد لجون فوغت خسرها لصالح جيم برودبينت عن أيريس، في عام 2003 تم طرح سيناريو فلم الطيار على مايكل مان لإخراجه ولكنه رفض واكتفى بإنتاجه ليخرجه مارتن سكورسيزي في حين قام هو بإخراج الفيلم الإجرامي المثير المرافق بطولة توم كروز وجيمي فوكس وعرض الفلمان عام 2004 ونالا ثناءً عالياً جداً وفاقت أرباحهما 100 مليون دولار وفاز فلم الطيار بعدة جوائز غولدن غلوب من ضمنها أفضل فيلم درامي وممثل درامي (ليوناردو دي كابريو) ونال أحد عشر ترشيح للأوسكار من ضمنها أفضل فيلم ومخرج وممثل وممثلة مساعدة وممثل مساعد ونص، أما فيلم كولاترال فقد ترشيح لجائزتي أوسكار أفضل ممثل مساعد لجيمي فوكس وأفضل تحرير، ولم يفز فيلم الطيار سوى بخمس جوائز وهي أفضل ممثلة مساعدة لكيت بلانشيت وأفضل تحرير وأفضل ديكور وأفضل تصوير وأفضل تصميم ملابس، ورغم كل تلك النجاحات المتوالية يبقى فيلم حرارة أهم وأفضل فيلم قدمه مايكل مان العديد من النقاد ناقشوا العمل من عدة وجهات فمنهم من تحدث عن روعته الفنية إن كان من بناء السيناريو الذكي جداً والإخراج الواقعي الممتاز أو ناقشه من خلال الزاوية التي كان لها الفضل باكتساب الفلم تلك الشهرة الواسعة التي تزداد بالاتساع رغم مضي أحد عشر سنة على عرضه وهي جمعه لأثنين من أهم الممثلين اللذين أفرزهما التاريخ الفني لهوليوود في القرن الماضي وهما أل باتشينو وروبيرت دي نيرو على رأس طاقم من مجموعة من الممثلين الموهوبين جداً ليشكلا أهم طاقم تمثيلي في التسعينات بالإضافة طبعاً إلى طاقم لب الخيال الرائع والفريد من نوعه، وبمناقشة النقاد لتلك النواحي كان هناك إهمال للناحية الأشد أهمية فيه وهي ذلك الزخم الكبير من المشاعر الإنسانية الصافية التي حواها الفلم والتي حولته إلى واحد من أكثر أفلام التسعينات إنسانية لا يوازيه إنسانية سوى تحفة الوسترن عديم الرحمة لإيستوود رغم إن كلا الفلمان يقومان على قصتان تقليدتيان، ففي فلم إيستوود نرى شريف المقاطعة الطاغي ورجال الكاوبوي العنيفين والمهمات الخطيرة والمغامرات في الغرب الأمريكي، وفي فلم حرارة نرى اللصوص الأذكياء والشرطة المتفانيين وعمليات سرقة فاشلة ومعارك عنيفة عديدة ولكن الروعة بهذين العملين هو تقديم تلك المعاني الإنسانية الصافية بذلك العمق الذي شاهدناه من تلك التقليدية والسطحية الظاهرة، فرأينا شوق الإنسان للتوبة والغفران في عديم الرحمة ورحلة البحث عن الأمان في حرارة، وسبب نجاح مان بتحويل فلمه ذا القصة التقليدية ظاهراً إلى واحداً من أكثر الأفلام عمقاً وإنسانية هو إنه هو الذي كتب نص العمل وهو الذي أخرجه أيضاً فلو إن مايكل مان الذي لم يخرج الفلم بنفسه لما كان فلمه أصبح بهذا الشكل الرائع بل أصبح مجرد فلم أكشن فارغ، فالكاتب عندما يكتب نصاً كنص حرارة أو لب الخيال يكون بباله أشياء لا يكتبها وإنما ينتظر حتى يظهرها ويعبر عنها بالإخراج لهذا فإن المخرج الكاتب قادر أكثر من غيره على قراءة السيناريو والتعبير عنه وعن ما يريده منه وهذا رأيناه بالإضافة إلى تارانتينو ومان عند جورج لوكاس وكوبولا الذي يحول بنفسه الروايات إلى أفلام وابنته صوفي أيضاً وحالياً ستيفن غاغان كاتب ومخرج سيريانا، ورأيناه سابقاً عند ألفريد هيتشكوك الذي يعبر إخراجه عن الكثير والكثير من الأشياء التي لا يذكرها النص، طبعاً هناك استثناءات عند سكورسيزي وإيستوود اللذان ينجحا بقراءة النص وما بين سطوره ويقدماه بشكل شديد الروعة.الفكرة الرئيسية التي يدور حولها حرارة هو عبثية القدر بتحقيق أحلام الناس وطموحاتهم حتى لو كانت بسيطة جداً وهي الحرية وذلك رأيناه من خلال قصة نيل ماكوالي المجرم والقاتل المحترف، فنيل كما عرفناه شخص قضى معظم حياته في السجن وخرج الآن ولا يريد أن يعود إليه رغم أن أصحابه يعود ثانيةً، فراح نيل يمضي حياته بالانتقال والترحال يرفض القيود التي قد تعيقه خلال انتقاله وتوصله إلى السجن، فلم يتزوج ولم ينجب ولم يعشق ولم يشتري الأثاث لبيته، ولكن نيل لم يقم بالشيء الوحيد الذي قد يحميه من السجن وهي ترك الجريمة، نيل حاول تحقيق هذه المعادلة بقدر ما يستطيع، ففرض على نفسه حياة لا تختلف عن حياة السجناء بل حتى الأموات فهو بقي مصراً على أن يعزل نفسه عن الناس وعن أي شيء قد يربطه ويجعله يضعف ويستسلم معتمداً بذلك على القاعدة التي رسمها لنفسه وهي كما يقولها :( لا تتعلق بشيء لا تستطيع التخلص منه خلال 30 ثانية إذا رأيت الشرطة قريبة)، الفترة الوحيدة التي نستطيع أن نقول أن كان بها على قيد الحياة وحراً هي عندما وقع بحب إيدي ولكن مع ذلك فإن حتى تلك الحياة قرر أن يتركها عندما وجد أن الخطر قريب منه تنفيذاً لتلك الحكمة التي كان يتشدق بها طوال الفلم ولكن عندما حان وقت تطبيقه وجد ذلك صعباً جداً وجداً راقب ملامحه عندما يتركها ولا حظ الألم الكبير الذي كان يعانيه بتلك اللحظة التي ضحى بها بالإنسانة الوحيدة التي أحبها من أجل ينجو ويبقى حراً ولكي يبقى حراً ضحى أخيراً بأخر شيء يملكه في سبيل ذلك وهي حياته فأختار الموت على العودة إلى السجن .

مايكل مان في فيلم حرارة ناقش العديد من المشاكل الاجتماعية والإنسانية بالدرجة الأولى ناقش مشكلة الوحدة والعزلة النفسية التي يعيشها الناس في المجتمعات الحديثة وذلك من خلال عدة شخصيات كل شخصية تعاني من تلك الوحدة بطريقتها المختلفة فرأينا جستين هانا الزوجة التي عانت من فشل في زواجها الأول وهي تعاني حالياً من مشاكل عديدة في زواجها الثاني بسبب غياب زوجها (فنست هانا) المستمر عنها الغارق في عمله حتى الثمالة مما يجعله يهمل أي شيء أخر حتى نفسه، ورأينا أبنتها لوريان الفتاة المراهقة التي تعيش مرحلة صعبة بعد طلاق والديها ثم زواج والدتها وانشغال تلك بمشاكلها مع زوجها في وقت هي بأمس الحاجة لها مما يجعلها تشتاق للاجتماع بوالدها لتعثر عنده على الحنان والعاطفة التي تفتقدها ولكن والدها دائم الغياب عنها لا يحضر على مواعيدهما ولا يكترث لرؤيتها مما يزيد من حزنها حزناً ومن عزلتها اشتداداً، وتعرفنا أيضاً على أيدي الفتاة القادمة إلى لوس أنجلوس للعمل لتأمين مصاريف دراستها فنرها تعمل بمهنتين في الصباح في مكتبة وفي المساء مصممة شعارات على الحاسوب والوقت الفارغ عندها هو وجبة الغداء عند الظهيرة والتي تقديها محاولةً التعرف على شخص ما ينقلها من وحدتها الكريهة تلك، ولكن المعاناة الأكبر من الوحدة رأيناها عند فنسنت هانا المحقق الذي يغرق نفسه بالعمل لدرجة تجعله معزولاً ووحيداً عن أي شيء بالعالم حتى نفسه، فهو يشعر بأنه مسئول عن الناس الذين قتلوا وعليه الانتقام لهم، بالإضافة إلى سعيه إلى الكمال والإتقان بعمله ومشكلة فنسنت تستطيع زوجته جستين أن تصفها بشكل وافي جداً إذ تقول : (أنت لا تعيش معي أنك تعيش مع بقايا الأشخاص الميتين، إنك تبحث في الحطام بحثاً عن دليل ، تبحث عن علامات الموت وعن رائحة طريدتك ثم تصطادها ، هذا هو الشيء الوحيد الذي تكرس نفسك لأجله وما تبقى يمر بحياتك مرور الكرام ما لا أفهمه هو سبب عدم قدرتك على تركي) سنرى فنسنت دوماً مجتمع مع أصحابه ولكنه غير سعيد يراقب فقط ويستمع دون أن يشارك فهو غير منسجم على الإطلاق مع أي أحد في مجال عمله مما يزيد من عزلته، ورغم أن فنسنت هو الذي فرض على نفسه هذا النظام ويعيشه ولكنه غير سعيد به لذلك فيسعى بشكل أو بأخر إلى كسر الوحدة من خلال محاولته إنجاح زواجه، وتبرز سخرية القدر ثانيةً حين يعثر فنسنت على الشخص الذي يساعده على كسر وحدته ويتفاهم معه وهو طريدته نيل ماكوالي ولكن هذه الصداقة لا يكتب لها الحياة بسبب اختلاف عقائدهما ففنسيت عمله هو الشيء الوحيد الذي يأتي عنده بالدرجة الأولى أما نيل فحريته هو الشيء الوحيد الذي يضعه بالدرجة الأولى وهذا الاختلاف هو الذي يجعلهما لا يستمران ويشهران الأسلحة بوجه بعضهما ليحقق بمواجهة يهدفان بها تحقيق عقائدهما حتى لو كانت الضريبة شديدة جداً ومؤلمة.من المشاكل الاجتماعية التي ناقشها العمل فشل العلاقات الزوجية فرأينا كريس المقامر عديم المسؤولية الذي يكاد زواجه ينهار بسبب مقامرته المجنونة رغم محاولات زوجته إصلاح أمره ولكنها تمل منه بالنهاية وتعمل على خيانته إلا أنها تعود إلى جادة الصواب وتقرر مساندة زوجها باحلك الظروف، ونرى جستين التي تقوم هي الأخرى بخيانة فنسيت بسبب إهماله لها وإدمانه على عمله والتي على ما يبدو أن زواجها الأول أنهار لنفس السبب فزوجه الذي لم نراه كان يهملها وأبنتها ولكن ليس بسبب العمل بل بسبب السعي وراء اللذات ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعلها تصمد مع فنسنت لأنه الوحيد الذي يتفهم أبنتها ولأنه من الممكن أن يعود إلى جادة الصواب ويتفاهم معهما.

ويناقش العمل مشكلة أخرى هي مشكلة المجرمين التائبين الذين يحاولون العودة إلى الحياة الطبيعية كيف يتم استغلالهم بشكل مذل جداً فها هو دوبي راش المجرم الذي قضى مدى بالسجن وعاد وقد وفى دينه للمجتمع وعثر على عمل بأحد المطاعم حيث راح مدير المطعم يهينه ويذله باستمرار بسبب وبدون سبب مما يسبب حالة من الغضب تجعله يعود إلى الإجرام مع أقرب فرصة ممكنة حيث كان في ذلك العالم يشعر بكرامته وإنسانيته .ويستعرض العمل بالإضافة إلى تلك المشاكل مشاكل أخرى كضياع الهوية فرأينا العاهرة التي تبدأ بمديح شخص قضت معه ليلة وتتودد منه على أمل أن ينقلها من حياة الشوارع إلى حياة مريحة، رأينا مشكلة السادية وضعف الشخصية فالمجرم المتوحش هو شخص ضعيف الشخصية جداً لا يستطيع رد الاهانة ويغطي ضعفه بالتوحش والسادية على الناس الضعفاء، ويستعرض مايكل مان العديد من تلك القضايا من خلال بحثه في الحياة في الشوارع الفقيرة الأمريكية والفساد الاجتماعي المزري التي يعيشه الناس في تلك الشوارع .
مايكل مان يقدم شخصيات فلمه بشكل متقن ومحترف جداً هو لا يعمد إلى تقديم الشخصيات بشكل تقليدي حيث لا يأخذ وقت من بداية الفلم ليعرفنا عليها كما يعمل سكورسيزي بل هو يعمد إلى أسلوب كوبولا فيستعرضهم من خلال أحداث العمل أو من خلال موقف واحد ببداية العمل يكون المفتاح لتتعرف عليها جيداًً، مايكل مان يحب أن يصنع شخصياته ويرسمها ويقدمها من خلال ملامح الوجه، في مشهد البداية نرى نيل ماكالوي وعلى ملامح وجه علامات الصرامة والقوة، ثم سنرى كريس ومن خلال ملامح وجهه ستتوقع الطفولة والطيش، سنرى بعده فنسنت هانا وستلاحظه أنه متعب ومنهك من ضغط العمل، وسنرى في نفس المشهد لوريان وهي تستعد للقاء والدها ويلاحظ عليها التوتر من خوفها أن لا تكون على قدر من الأناقة ترتضي والدها، سنتعرف بعدها على جيرمينو العضو الجديد بالعصابة الذي يحاول التقرب من زميلة ولكنه يصده فيغتاظ منه فيفجر غضبه بالأسرى من أعضاء الشرطة، هذه البداية لا تأخذ أكثر من ربع ساعة من وقت الفلم الذي يمتد لحوالي ثلاث ساعات ولكنها تكون بداية جيدة لننطلق منها لنتعرف خلال سير العمل على الشخصيات بشكل موسع جداً من خلال الحوارات والأحداث العديدة التي تدخل خلال سير العمل.مايكل مان لم يرسم لنا شخصية الشرطي البطل من خلال شخصية فنسنت هانا ولم يرسم لنا شخصية المجرم الجذاب أو عديم الرحمة من خلال شخصية نيل ماكالوي ، بل رسمها لنا بشكل شديد الطبيعية أنت لن تتعاطف مع شخصية على حساب أخرى ولن تحقد على شخصية لأجل أخرى أنت ستتعامل مع كل الشخصيات بشكل شديد المنطقية والواقعية فمايكل مان حرص على أن يرينا إياهم أشخاص طبيعيين لهم حياة وأهداف ولديهم مشاكل يعانون منها يطمحون بحلها، يجتمعون مع أصحابهم بالمساء يتحدثون بشتى المواضيع يداعبون زوجاتهم ويلاعبون أطفالهم، مايكل مان لا يعامل المجرمين على أنهم مذنبين بل يعاملهم على أنهم أطفال طائشين لم يلقوا التربية الجيدة وانتهى نموهم الخلقي عند سن المراهقة فبقوا طائشين مشاغبين يسعون إلى اللذة والمتعة مهما كانت الضريبة جراء ذلك، فها هو نيل ماكولي يريد أن يعيش حياته كصقر بلا قيود تعيقه عن الطيران ، وكريس يعيش حياته كطفل شقي يركض وراء متعته غير مكترث لزوجته وطفله، شيريتو رغم عدم حاجته للمال نراه يسعى إلى العمليات الإجرامية طمعاً بالمغامرة .مايكل مان لا ينهي مع فلمه معاناة الشخصيات فالشخصيات بفلمه هذا لا تطور ولا تتغير ستستمر بالحياة كما كانت عليه مع بداية الفلم، فنسنت هانا لن يتخلى عن عمله وعن إدمانه له رغم أنه كان يتذمر منه ولكن هناك شيء يربطه به لا يستطيع تركه لأجله ونيل ماكالوي لم يتغير عليه شيء بوفاته فهو كان بالأصل ميتاً بالبداية ، كريس وزوجته لم يضعا حلاً لمشاكلهما رغم أنهما أدركا كم يحبا بعضهما بعد تلك الأزمة التي مرا بها ولكن هذا لن يجعل كريس يتوقف عن لعب القمار ولن يجعل زوجته تتوقف عن خيانته، لوريان لم تحل مشاكلها مع والدتها ووالدها ولو أن محاولتها الانتحار نبهت أمها لمشاكل أبنتها، إيدي عادت بترك نيل ماكالوي لها أكثر وحدة.وهذا الرسم الواقعي جداً للشخصيات والذي تبعه رسم واقعي جداً للأحداث جعلت من العمل أحد أشد أعمال التسعينات واقعية بالإضافة إلى فارغو، فالأحداث تستمر بإطار الواقعي فهي تتطور وتزداد حماسة وتشويق مع ازدياد الأحداث ولكن دون ابتذال ومبالغة، الأحداث تجري كاللعبة شطرنج فاللاعب يجري حركة والأخر يجري حركة مضادة وتستمر الأحداث بين الهجوم والدفاع بشكل مشوق ليلتقي (الشاهان) معاً ويتحقق ذلك أخيراً بمشهد تاريخي أستمر 10 دقائق هو أروع مشهد بالعمل كله ليس فقط بسبب اجتماع دي نيرو وأل باتشينو سويةً بمشهد تقشعر له الأبدان بل لأن المشهد كشف حقيقة الشخصيتان وتعرفنا عليهما وعلى معاناتهما بشكل أوسع ، مايكل مان كان يدرك شوق الجمهور لاجتماع هذين النجمين فجعل المشهد يظهر بشكل مفاجأً وبلا مقدمات، عندما يوقف دي نيرو السيارة ثم يتقدم نحوه أل باتشينو كان هناك تباطأ مقصود بخطوات أل باتشنو ليزيد من حماسة الجمهور، وكما كان الجمهور متشوقاً لذلك اللقاء كان متشوقاً أكثر لمشهد المواجهة المسلحة بينهما بعد التحضيرات والتجهيزات الطويلة التي سبقتها، وكانت النتيجة أكثر من مرضية، واحدة من أجمل اللألتحامات المسلحة دون مؤثرات مبالغ فيها لا بصرية ولا صوتية ودون مغامرات متهورة لدرجة أنني كنت أشك بأن الذي كان يستعمل هو رصاص حقيقي فصوت أزيزه ثم صداه وصوت اصطدامه بالسيارات ممزوجة مع صراخ الناس الخائفين وصوت محركات السيارات الهاربة، مشهد التحامي قد تراه في الأخبار ولكنه مع ذلك جديد وفريد من نوعه كونه العمل الأول الذي تقدم به السينما مشهد التحامي بهذا الشكل البسيط والواقعي، ثم نرى مشهد المواجهة الأخير بين هانا ونيل لم يكن كالمواجهات في أفلام فاندام وأرنولد حيث ينهك البطلان نفسهما من الضرب حتى ينتصر أحدهما بل كانت المواجهة تعتمد على الذكاء والحذر وهو سلاح الشخصيتان الأساسي والأفضل هو الذي ينتصر ، ورغم عدم وجود في كل تلك المواجهة سوى فقط أربع رصاصات إلا أنها مع ذلك أجمل من جميع المواجهات السابقة وأكثر حماسة، وبين كل ذلك الحماس نرى العديد والعديد من اللقطات الإنسانية الشفافة أغلب تلك المشاهد هي تلك التي تربط بلوريان وأكثر المشاهد تأثيراً مشهد عندما تحاول الانتحار ويقوم فينسيت باحتضانها وإنقاذها، ومن المشاهد الأخرى عندما تعثر الأم على أبنتها المقتولة ويحاول فينسيت منعها من النفاذ إليها ومشهد عندما ترى الزوجة صورة زوجها المتوفى على التلفاز ومشهد عندما يترك نيل إيدي مع اقتراب الشرطة، هذا كله يدخل تحت اسم الإخراج الذكي جداً والواثق فعلاً في أول تجربة إخراجية حقيقية لمايكل مان، الذي أتبع بعمله الأسلوب الوثائقي فكما تحدثت سابقاً المعارك ليست مبتذلة ومفبركة، وهناك تشديد على الألوان الزرقاء بالعمل استناداً إلى كون لوس أنجلس مدينة بحرية تقع على المحيط وإلى أن دي نيرو يرتدي طول العمل بذلة رمادية، والتركيز على لون معين بالعمل أصبح سمة بارزة بأفلام مايكل مان، ففي فيلم الدخيل هناك تركيز على اللون الرمادي وفي فيلم علي هناك تركز على اللون الأحمر، وفي فيلم المرافق هناك تركيز على اللون الأخضر الغامق.مايكل مان أعتمد رسماً خاصاً لأشكال الشخصيات نيل ماكلوي يرتدي دوماً بذلة رسمية وعلى وجهه شارب ولحية خفيفة، كريس شعره طويل وملابسه سوداء خفيفة ليست رسمية، جيرمينو يطيل شارباه وذقنه وشعره مما يجعله يشبه ملامح الأسد، فنسنت هانا لم يكن له شكل خاص هو طبيعي جداً بإمكانك أن تراه عند أي شخص طبيعي، أما موسيقى العمل فهي قصيرة الظهور وليست ممتعة جداً باستثناء موسيقى الخاتمة .
من ناحية أخرى أشعر بأن مايكل مان يمثل الوجه الأخر لكوينتن تارانتينو الوجه الأكثر اتزاناً مع لمسة أكثر سكورسيزية، فمايكل مان كاتب ومخرج يعتني بحوارات أفلامه وبتفاصيل الأحداث والشخصيات والواقعية الشديدة بعمله ولكن الاختلاف بينه وبين تارانتينو بأسلوب تحقيق هذه الأغراض السابقة وبالنوعية التي يقدمها مان ، ففي حين أن أفلام تارانتينو الخمس هي كلها تدور حول العصابات نرى مايكل مان يتنوع أكثر من الحركة والدراما والسير الذاتية والإثارة، الاتجاه نحو سينما تارانتينو بهذا العمل يبرز بالاعتناء الكبير بالتفاصيل لدرجة أنني شعرت بأن مايكل مان كان يعمل كشرطي في السباق أو كعميل متخفي عند الشرطة لدى العصابات، فالفلم يريك كيف يقوم الشرطة بأعمالهم كيف تصلهم المعلومات وكيف يحشدون الرجال ويقوم بالمهمات والمداهمات ، كيف يحققون ويطاردون ويجمعون الأدلة ويحللونها ويصلون إلى النتائج، و كذلك رأينا كيف يجمع المجرمين المعلومات عن الضحايا كيف يخططون لأعمالهم وكيف ينفذوها وكيف يعقدون الصفقات ، والأهم من ذلك أرانا العمل انعكاسات هذه الأعمال على أصحابها والتي لا تنحصر فقط بتعريض النفس للخطر بل هناك الانعكاسات النفسية السيئة عليها ، فالشرطة دائمو القلق والتفكير صور المجرمين والضحايا لا تراوح خيالهم، والمجرمون دائمو الخوف من الهزيمة والقتل والسجن، والأهم من ذلك إن كلا الطرفان يشتركان من خوفهما على أطفالهما، فالشرطة تخشى من يكون أولادهم ضحايا والمجرمون يخافون من يسلك أولادهم طريق الجريمة القذر، هذا كله شاهدناه ضمن سيناريو العمل المتماسك بشكل مذهل، نص فيلم حرارة هو من أقوى النصوص وأذكاها ليس فقط من نجاحه بالموازنة بين الحماس والإثارة والدراما المفرطة بل أيضاً بتماسكه وترابطه العجيب حيث يصعب أن تعثر به على ثغرة واحدة لدرجة أنه لا يوجد بالعمل كلمة (وصلتنا معلومة من أحد العملاء ) أنت ستعرف كيف وصلت المعلومة وما هي الخطوات التي خطتها حتى وصلت إلى الشرطة، فيلم حرارة لا يذهلك بغموضه بقدر ما يذهلك بوضوحه وتماسكه هو لا يترك شيئاً مخفياً أو مفاجئاً كل شيء مفضوح وواضح سيجعلك تشعر بأنك تعيش القصة والحكاية مع الشخصيات وأنك متوحد معها بشكل أقوى من أي توحد مع أي عمل أخر .

حوارات العمل رائعة جداً هي متوازنة ليست كواقعية حوارات فارغو الصرفة وليست جريئة كحوارات لب الخيال وليست فلسفية كحوارات الكرت الأخضر، هي أشبه إلى الشعر ولكن دون بلاغة صرفة ومزعجة، هو شعر خفيف يعبر عن خوالج النفس بطبيعية وواقعية وعفوية هي تفضح ما تفكر فيه الشخصيات وتفضح أحداث العمل بشكل جميل جداً ، أجمل المقاطع الحوارية هي بين أل باتشينو ودي نيرو وأبرز مقطع هو :

فنسنت هانا : لدي حلم يتكرر ، أرى نفسي جالساً إلى مائدة كبيرة وضحايا كل الجرائم يجلسون محدقين بي لأن في رؤوسهم جروح كبيرة وترى أجسادهم منتفخة لأنني وجدتهم بعد أسبوعيين من مقتلهم وقد بلغ الجيران عن رائحة كريهة .

نيل ماكولي : ماذا يقولون ؟!

فنسنت هانا : لا شيء !!

نيل ماكولي : لا يتكلمون ؟!

فنسنت هانا : ينظرون إلى بعضهم البعض وينظرون إلي، ليس لديهم شيء يتكلمون عنه، هذا هو الحلم .

نيل ماكولي : أنا لدي حلم ، أرى نفسي وأنا أغرق، عندها أجد أنني مضطر لأوقظ نفسي قبل أن أموت أثناء نومي.

فنسنت هانا : أتدري ماذا يعنيه ؟!

نيل ماكولي : نعم لدي وقت كافي .

أما التشابه بين سكورسيزي ومايكل مان فهو من خلال لهجة خطابه لمدينته لوس أنجلوس التي تشبه لهجة خطاب سكورسيزي لنيويورك فقد تحدث مايكل مان عن الجريمة والشرطة والعصابات والحب والشوارع والحياة الطبيعية في لوس انجلوس .

من أكثر الأشياء التي جعلت للفلم شعبية واسعة جداً لدى رواد السينما وجود أهم ممثلين في الثلث الأخير من القرن العشرين أل باتشينو وروبيرت دي نيرو، هذان الممثلان اللذان لمعا بوقت واحد وبنفس نوعية الأفلام أفلام العصابات الإيطالية، فأل باتشينو لمع بفلم العراب عام 1972، وروبيرت دي نيرو أنشهر بفلم شوارع وضيعة عام 1973 قبل أن ينضم إلى قافلة العراب بالجزء الثاني عام 1974 حيث لم يجتمع مع أل باتشينو بمشهد واحد على الإطلاق ولا بزمن واحد حتى !! وتابعا بعد ذلك بالأدوار العظيمة حيث قدم أل باشتينو ثاني أفضل أداء ذكوري رئيسي بالسبعينات من خلال دور العراب الجزء الثاني (الأداء الأفضل كان لمارلون براندو بالجزء الأول) في حين قدم دي نيرو ثالث أفضل أداء بالسبعينات من خلال دور ترافيس بيكل في سائق التكسي، وعلى صعيد الأدوار الثانوية الاثنان قدما أفضل أداء ثانوي في السبعينات من خلال فلم العراب الأول والثاني، وفي الثمانينات دي نيرو قدم ثاني أفضل أداء ذكوري بالثمانينات في الثور الهائج (الأداء الأفضل كان لموراي أبراهام في أماديوس) أما أل باتشينو فبعد غياب في الثمانينات عاد ليقدم أفضل أداء ذكوري في التسعينات في فيلم عطر امرأة، هذا طبعاً عدا تقديم كلا الممثلان أفلام رائعة جداً في السبعينات والثمانينات والتسعينات فرأينا أل باتشينو في (عصر يوم حارسكارفيس – بحر الحب – العراب 3 – طريق كارليتو) أما دي نيرو فقد كان حاضراً في (صيد الغزلان – فوق القانون – الصحوة - صحبة جيدة) وأخيراً جاء مايكل مان ليجمع بينهما بهذا العمل، من الصعب معرفة من هو بطل الفلم الأوحد أهو دي نيرو أو أل باتشينو فعدم اصطدام هذين الممثلين سوى بمشهد واحد يصعب تحديد من كان أفضل من الأخر فكلا الممثلان متمكنان ومسيطران على كل مشهد يظهران به، المشهد القصير الذي اجتمعا به لا يصلح كتقييم لمن كانت بطولة الفلم فالمشهد كان لصالح أل باتشينو إذ كن هو المتحدث أما دي نيرو فقد كان بأغلب المشهد مستمعاً ، على أية حال فإن أغلب رواد السينما يفضلون دي نيرو بالعمل على أل باتشينو كون شخصيته كانت أكثر تعقيداً من شخصية أل باتشينو أنا من جهتي أفضل أل باشتينو بالفلم على دي نيرو، حيث إنه إذا لاحظنا كان أل باتشينو يؤدي دورين بدل الدور الواحد، دور المحقق الصارم خلال العمل ودور الزوج المتعب بالليل، ففنسينت هانا يرى الفظائع والقذارات بالنهار جثث وأشلاء ومجرمين ولكنه يقابلها بوجه صارم وشخصية صلبة وفي الليل عندما يعود إلى منزله تعود صور الموت لتقفز إلى مخيلته وفي المنزل هي الفرصة الوحيدة التي يعبر بها فنسينت عن ضعفه وانزعاجه من ذلك المجتمع الفاسد، وذلك بالبقاء صامتاً ومطرقاً دون أن يتحدث كلمة واحدة لزوجته التي تشطات غضباً من غربة زوجها المستمرة عنه وتبحره بتخيلاته المرعبة، أل باتشينو قدم أداءً راقياً جداً لقد عاش الشخصية ولبسها واتقنها لا يوجد ثغرات بأدائه ولا خلل كان مسيطراً على الدور كاملاً وفارضاً نفسه على الشخصية ومتحكماً بها.

شخصية نيل ماكولي التي أداها روبيرت دي نيرو هي شخصية معقدة عميقة جداً شخصية ضعيفة من الداخل تخاف من الموت والهزيمة ترتدي ثوب النمر لتخفي ضعفها، شخصية تحتاج إلى الحب والعطف وقد وجدته لدى أيدي ولكنها في نفس الوقت شخصية لها معتقداتها الخاصة التي تجعل من الهرب السياسية الأولى لها حتى لو كانت النتيجة الدوس على كل ما قد يعيقها، روبيرت دي نيرو أدى دوراً رائعاً بأداء متماسك ومتفهم لطبيعة الشخصية قادرة على التنقل بين ثوب الرجل القوي إلى ثوب الرجل الضعيف والرجل العاشق والرجل الخائف شخصية تستحق الثناء.

فال كيلمار قدم دوراً مفاجئاً ورائعاً وقوفه أمام هذين الممثلين الكبيرين كانت فرصةً له للنجومية، أدى فال كيلمار دور كريس الطائش المدمن على القمار والذي تتهدم عائلته من وراء إدمانه هذا رغم حبه الكبير لزوجته وحب زوجته الكبير له ، دور زوجته أدته أشلي جود وهي أيضاً قدمت أداءً جميلاً من خلال هذا الدور، ناتالي بوتمان كانت مفاجئة جداً بهذا الدور فالممثلة التي لمعت عام 1994 بفلم ليون عادت لتقدم أداءً لا يقل جمالاًَ عن أداءها ذاك ، الفتاة المراهقة الضائعة التي لا ترى أحد تستطيع أن تسند رأسها على كتفه مما يصبها ذاك بالكائبة القاتلة والاتجاه نحو الانتحار أداءها كان الاداء النسائي الأفضل بالعمل، جون فوغت شارك بالعمل بدور صغير هو دور نات صائد المهمات للمجرمين وشارك بالعمل توم سايزمور بدور شيريتو المجرم المغامر ، في حين أدى دور جستين زوجة فنسنت الممثلة ديان فينورا وأدت دور إيدي عشيقة نيل إيمي برينمان وقد أدى دوران نسائيان شديد الجمال .

0 التعليقات:

إرسال تعليق