RSS

Taxi Driver - 1976


عند الحديث عن المخرج الأهم بزمانه وعن أحد أهم الممثلين بالتاريخ فسيكون من الجميل أن نعود إلى البدايات، فيلم سائق التكسي ليس هو البداية، هذا صحيح فقبله اجتمعا في شوارع قذرة 1973 ثم انضم روبيرت دي نيرو إلى فريق العرّاب عام 1974 وفي نفس العام أوصل مارتن سكورسيزي الأسطورة ألين بريستين لنيل أوسكارها الوحيد عن الميلودراما النسائية (أليس لا نعيش هنا بعد الآن) ولكن ما فعلاه في فيلم سائق التكسي كان أمراً أخر، هو المحطة الفاصلة في مسيرتهما، هو نقطة التحول من لاعبين ماهرين في السينما إلى أحد أسياد الكار ، سائق التكسي ليس البداية ولكن من عنده بدأ كل شيء، بدأ إبحار سكورسيزي الحقيقي في القاع الاجتماعي والإنساني والتنقيب عن العنف والوحدة والبحث عن الذات لدى الإنسان وعلاقته بالمجتمع والتأثير المتبادل بينهما، ومنه بدأ دي نيرو لعبته المفضلة بالتقمص غير الاعتيادي للشخصيات المريضة ومعايشتها.
 
الفيلم وضع نصه الكاتب والمخرج بول شريدير وعرضه في البداية على براين دي بالما ولكنه رفض إخراج العمل وحوله إلى صديقه مارتن سكورسيزي لانشغاله بتحول رواية ستيفن كينغ الشهيرة كاري إلى عمل سينمائي، عام 1975 كان نص فيلم سائق التكسي هو حديث هوليوود والمخرجين تتسابق لإخراجه وفور أن وضع سكورسيزي يده على النص حتى حوله إلى مشروعه الخاص، المشكلة كانت إن بول شريدر لم يكن مقتنعاً بسكورسيزي مخرجاً للعمل فمارتي لم يكن له تلك البصمة الهوليوودية التي تجعله مؤهلاً لتحويل نص بتعقيد وصعوبة نص سائق التكسي إلى عمل سينمائي ولكن وبعد مشاهدة شوارع قذرة أصبح هو يلاحقه حتى يخرج له نصه، وبعد و عاد سائق التكسي ليجمع بين ثلاثي الشوارع القذرة مارتن سكورسيزي المخرج وروبيرت دي نيرو و هارفي كيتل كممثلين، وعانى العمل من صعوبات إنتاجية عديدة بسبب عدم ثقة المنتجين بمدى قدرة فيلم بتلك الكئابة والسوداوية على جذب الجمهور لصالات العرض ومدى سيكون تقبلهم للمشاهد الدموية والحوارات العنصرية ولوجود عاهرة بعمر الثانية عشر وغير ذلك مما هو غير تقليدي للعمل، ضئالة الميزانية جعلت من العمل أكثر صعوبة لدرجة إن سكورسيزي تخلى عن أحد ممثلي الكومباريس وظهر لدقائق بدور الزوج المخدوع بمشهد أصبح من اللحظات الأيقونية السينمائية، وبمهرجان كان 1976 تغير كل شيء حين تم تتويج سائق التكسي بجائزة أفضل فيلم قبل أن يبهر النقاد والجمهور وينال أربع ترشيحات للأوسكار ويصبح مع الأيام من أعظم الأعمال السينمائية في التاريخ ومادة دسمة للنقاش والجدل في المحافل الفنية والثقافية والاجتماعية، بل حتى إن العمل هو من الأمثلة الشائعة لتأثير الإعلام على الجمهور ولتصوير العنف الاجتماعي (بالأخص مع ظهور المهووس بالعمل الذي حاول ملاحقة جودي فوستر وأغتيال رونالد ريغان عام 1980) وأحد النماذج الحقيقية للبناء النفسي للشخصيات وللتصوير الواقعي الصادم للمجتمع.

في أحيان كثيرة يتم مناقشة الفيلم من كونه تعبير عن انعكاسات الحرب الفيتنامية على المجتمع الأمريكي، أو دراسة للعنف المستشري في أمريكا، ربما هذا صحيح ولكن كل تلك الأمور ثانوية أمام ما يريد سكورسيزي تقديمه بأعجوبته هذه وهو تصوير حياة إنسان متوحد منفصل عن الواقع يعيش في عالمه الخاص، قصة إنسان وصل إلى أقصى حالات احتقار الذات وعدم تقبلها ويريد تغير نفسه والعثور على احترام الذات ولو بالقوى، ترافيس بيكل سائق التكسي هي ليست فقط أشهر شخصية صنعها سكورسيزي بل ربما هي من أشهر الشخصيات السينمائية على الإطلاق، بعد عودته من حرب فيتنام بعمر الخامسة والعشرين وجد نفسه معزولاً في المدينة الأكبر بالعالم نيويورك، غير قادر على التأقلم مع المجتمع المدني مجدداً، يعتقد إن مجتمع تغير ولكنه بالحقيقية هو من لم يعد إنساناً حقيقياً، أشبه بكائن فضائي هبط على الأرض أو سائح أجنبي في أرض غريبة لا يتقن لغة البلاد الجديدة ولا عاداتها، يحاول جاهداً التواصل الاجتماعي ولكنه يفشل مراراً فهو ليس فقط يفتقر لأدنى طرق التواصل الاجتماعي ولكنه فيما بعد سيبدأ هو نفسه برفض المجتمع والبيئة التي ينتمي لها ويحاول الخروج منها إلى بيئة أفضل.
سكورسيزي منذ مشاهد عمله الأولى يختصر عقدة بطله ومشاكله، هو يدرك نقطة الضعف الوحيدة في نص بول شريدير العظيم وهي إن شخصية ترافيس بيكل تبدأ من الفراغ نراها وقد وصلت إلى قمة عتهها وانفصالها الاجتماعي دون أن نعيش بدايات ذاك الانفصال أو نعرف شيء عن خلفية ترافيس وحياته، نعايش يومياتها بلا مقدمات فقط نعيش تطور حالة العته التي وصلت إليه دون نعرف متى وكيف ولماذا بدأ، سكورسيزي يتجاوز ذلك منذ المشهد الأول، يبدأ بملأ الشاشة بالدخان وتخترقه سيارة التكسي الصفراء التي يقودها بيكل وكأن سكورسيزي يقول هذا شخص جاء من الفراغ من القاع من عمق المجتمع المهمش، ونرى عينيه تراقب المجتمع من المرأة الخلفية لسيارته وكأنه يقول هذا شخص منعزل غريب يترصد هذا العالم، ثم نرى ترافيس يدخل إلى وكالة سيارات الأجرة محاولاً العثور على عمل، هو لا يحتاج إلى المال ولا يريد العمل سوى بسبب معاناته الأرق ويريد أن يستغل الوقت بالعمل كسائق تكسي في ليالي نيويورك، منذ اللحظات الأولى وبفضل أداء دي نيرو العبقري سيكون من السهل ملاحظة عدم اتزان شخصية بيكل وأنه لم يأتي باحثاً عن العمل لمجرد العمل، لماذا لم يختر أن يعمل كحارس أمني في الليل، هذا شخص يستجدي التواصل الاجتماعي، وعمله كسائق تكسي سيجعله على احتكاك دائم بالناس، يحاول التقرب لمديره ولكن ذاك يرفضه حين يلاحظ غرابة أطواره، يقبل به كسائق تكسي عنده يسأله عن خدمته العسكرية فيخبره أنه تسرح بتقدير مشرف (هذا شخص كان ينتمي لشيء ما وكان له قيمته فيه ثم خرج منه إلى الفراغ لذلك لن يكون غريباً أن ينتحل شخصية موظف أمني حين يبدأ بصنع ذاته الجديدة) يسأله المدير لماذا لا يلجأ إلى متابعة الأفلام الإباحية حتى يتخلص من أرقه الليلي فيجيبه إنه لجأ إلى ذلك ولكنه لم يعثر على الفائدة (هذا الشخص منتمي لثقافة المجتمع التي يعيشها ولا يرفضها ويريد أن يكون جزء منها) يحاول بيكل لاحقاً التقرب لعاملة سينما الأفلام الإباحية التي يرتادها ولكنها ترفضه أيضاً بسبب غرابته ونشاهده يتابع الفيلم الإباحي بلا أي تأثر أو شعور باللذة حيث لم تعد تلك الأعمال تملئ له رغبته من التواصل الاجتماعي واختفى تخديرها الوهمي وحان الوقت ليخرج بيكل للمجتمع الذي ينتمي له ويكون جزء منه.

ننتقل لنتابع يوميات بيكل واكتشافه لهذا العالم ، هو لم يبدأ برفضه قبل أن ينبذه وبعد أن لفظ منه عدّة مرات بدأ بيكل يكتشف مدى بشاعته، مجتمع ليلي مليء بالعاهرات بالمجرمين بالشواذ بالعلاقات غير الشريعة والماجنة، مجتمع مجنون بالكامل بلا أي قيمة أو أهمية، مجتمع وصل إلى الحضيض، وحين دخل بيكل هذا المجتمع رأى انعكاس ذاته فيه رأى ما هو عليه دون أن يدري ، بماذا يختلف هو عن القوادين والعاهرات إذا كان يسمح بممارسة الجنس بسيارته ثم يقوم بتنظيف قاذورات زبائنه، بيكل يخاطب نفسه بيومياته ويقول إن المدينة غرقت بالقاذورات ويدعو الله أن يهطل المطر الذي يغسل كل تلك القذارة كطوفان نوح، ولكنه بصراحة يريد المطر ليغسل به قذارته ويتطهر وينتقل ليصبح إنساناً أفضل، بيكل لو إنه نجح بالتواصل الاجتماعي والعثور على شريك له بحياته لن يعود يكترث للمجتمع وقذارته ولن يهمه وهذا ما يدركه ولكن حين يفشل بذلك ويلمس عمق الحضيض الذي وصل إليه ويوصف نفسه كأكثر الناس وحدة بالعالم بل وبأنه مخلوق الله الوحيد تبدأ عمليته الانتقامية الدموية  ليس فقط كانتقام من مجتمع فاسد بل رحلة لتطهير نفسه وإثبات إنه ليس من هذه البيئة وإنه كائن آخر أفضل من مجتمعه.
بيكل أبعمله كسائق تكسي أصبح ينتمي لجماعة معينة لفئة اجتماعية،ولكنه يرفض الاختلاط بها رغم إنه منذ البداية أراد العمل ليصبح عضو بالمجتمع، هو يجلس منعزلاً عن سائقي التكسي الآخرين يراقبهم فقط بعين الاحتقار ومحتقراً لنفسه أيضاً، لم يكن هذا ما يبحث عنه ولم يكن هذا ما يريده، هو لا يريد أن يمضي حياته هكذا هو يريد أن يكون له قيمة أو يكون محترماً بالمجتمع، حواره الرائع – وهو المشهد المفضل لي بالعمل – مع سائق التكسي العجوز لا يقل أهمية عن حوار براندو الشهير مع أخيه في رائعة كازان على الواجهة المائية، هو يقولها بملئ الصوت إنه يريد أن يكون شخص محترم، يريد أن يكون شخص ذو قيمة ولو على الأقل من وجهة نظر إنسان معين هو شريكه في المجتمع.

نقطة التحول الأهم بالعمل هي حين يقابل بيتسي، يراها كنموذج ملائكي، ككائن هارب من فساد المجتمع ومحافظ على نقائه لم تدنسها قذارة نيويورك بعد، وبيكل يريد تلك الإنسانة، يريدها أن تكون شريكته حتى يهرب من تلك البيئة ويصبح نقياً مثلها، سكورسيزي يبدع بتصوير ظهور بيتسي الأول بالشكل الملائكي الذي يتخيله بيكل وينتقل فيما بعد ليرينا إياها كإنسانة طبيعية بالكامل ليست مميزة سوى بنظر بيكل، مشهد واحد سريع يعطينا مبرر حول سبب اقتناعها بالخروج بموعد مع بيكل (ليحصل معها على أول تواصل اجتماعي حقيقي) حين نرى الموظف النمطي الذي يلاحقها وانجذابها للمرشح الرئاسي الذي تعمل في إدارة حملته بالانتاين ثم ترى بيكل يراقبها من سيارته ويبدأ بإثارة فضولها ويقتحم عملها طالباً الخروج معها بموعد بثقة بالنفس مفرطة ولافتة تجعله مميزاً أيضاً بنظرها، تخرج معه لتكتشف هذا الشخص وترى به قمة التناقض والغموض مما يشجعها على الخروج معه بموعد آخر وهو الموعد الذي تكتشف فيه إن هذا الشخص ليس مجرد معتوه لترفضه بطريقة صادمة تماماً لبيكل صانعة التحول الآخر بشخصيته، مشهدي الموعد بالذات نقل بها سكورسيزي المشاهد من حالة أن يعيش الحدث إلى حالة المراقب له بحركة متعمدة، هو لا يريدنا بحالة رفض بيتسي لبيكل أن نتعاطف معه يريدنا أن نبرر لها ذلك، يريدنا أن نلمس معها مدى عته شخصية بيكل وانفصالها عن الواقع، بهذين المشهدين ، وهما الوحيدين ربما ، لا نراقب الحدث من خلال عيني بيكل ووجه نظره بل نراه كمراقب خارجي ونلمس مع بيتسي الدرجة التي وصل بها بيكل انفصاله عن الواقع والمجتمع لدرجة يصطحب بها صديقته إلى فيلم إباحي وهو يعتقد إنه تصرف اجتماعي اعتيادي ونلمس كذلك حالة الفذارة التي وصل لها بيكل والتي يشعر بها حين ترفضه بيتسي وينتقل هنا بيكل إلى المستوى الثاني.
التحول الثاني بالعمل حين يلتقي بيكل بإيريس أو إيزي العاهرة ذات الثانية عشرة، تدخل معه بالسيارة ثم يقتادها القواد سبورت ويرمي لبيكل بخمس دولارات، يحتفظ بها جانباً رافضاً المال الذي يصوره كقواد أو كعاهرة حين يقف صامتاً لا يتصرف بشيء اتجاه ما يراه، وبعد رفض بيتسي له وإدراكه القذارة التي يعيشها والتي لم يعد فقط يراقبها من بعيد بل أصبح جزء منها يعود ليبحث عن إيريس، يريد أن يخلصها ليخلص معها نفسه ليطهر ذاته من خلاله، ليكون مختلفاً عن القوادين والعاهرين الذين يملئون المجتمع، بل ليكون حتى أرقى من جورج بالانتاين المرشح الرئاسي المنافق البارع بالكلام فقط دون أن يعمل بشكل حقيقي على إنقاذ المجتمع والذي يفتن حبيبته بيتسي ويتحول كغريم له ، من مشاهد العمل الهامة والتي تشكل أيضاً نقاط تحول بشخصية بيكل صعود الزوج المخدوع معه والذي أدى دوره سكورسيزي، الزوج يتحدث عن إن زوجته تخونه الآن مع شخص أسود ويريد أن يصعد لقتلها، هنا يقدم سكورسيزي الحل لبيكل، أن يبادر هو بنفسه أن يغير هو بنفسه مجتمعه وواقعه ولو بالقوة.
بعد رفض بيتسي ظهور إيريس و صعود الزوج تكتمل عناصر التحول بشخصية بيكل ويبدأ العمل على التغيير يقتني السلاح يدرب نفسه، يبدأ يشعر أن حياته تعني شيئاً وإن هناك شيء مهم يجب أن يقوم به، يصف نفسه كرجل الله الوحيد وكأكثر الناس وحدة بالعالم، لم يعد يدرك إنه هو من صنع هذه الوحدة حول نفسه بفشله بالتواصل الاجتماعي بل أصبح يتصور إن ما يجري معه صممه له القدر ليحمل رسالة الله بالتغيير ويصل هنا إلى ذروة العته والانفصال يصنع لنفسه واقعاً آخر إنه عميل سري بالمخابرات وإنه عشيق بيتسي ويرسل رسائل لوالديه يخبرهما تلك الأقاصيص، يحطم تلفاز يصور عاشقين متيمين كتعبير عن كرهه للإعلام التجاري الذي يصور عالم مثالي غير موجود وغيرة قاتلة من عدم قدرته على أن يكون مع حبيبته، يتجول بين حراس بالانتاين الشخصيين يلفت لهم الأنظار بأنه عميل سري يثير الشبهات حوله لأنه بكل بساطة يريد أن يصرح للعالم بشخصيته الجديدة التي أبتدعها، يرتكب جريمة قتل لص أسود يحاول اقتحام أحد الدكاكين وحين ينجو من ذلك يدرك إنه قادر على ذلك وإنه سينجو بسهولة بهذا المجتمع المفتقد للقانون، يعود ليرتدي أزياء الحرب ويحلق شعره كجندي مستعيداً الأيام التي كان له فيها قيمة حقيقية، يحاول اغتيال بالانتيان ولكنه يفشل فيعود ليخلص إيريس بانتقامه الدموي الشهير وحين تقتحم الشرطة مكان الجريمة يطلق بيكل النار على نفسه من مسدس وهمي قاتلاً شخصيته القذرة شخصيته المنبوذة الكريهة، ورغم وحشية المجزرة التي ارتكبها ولكن المجتمع يحوله إلى بطل ويصبح له شخصية ذات قيمة وأهمية كرسالة من سكورسيزي إلى الإعلام الذي يمجد العنف ويسوق له ، يعود بيكل ليعمل بالتكسي وتصعد معه بيتسي وتعبر عن احترامها للعمل الذي قام به وإنقاذه لإيريس هنا فعلاً يلمس بيكل الاحترام الذاتي لطالما حلم به ولكن حياته لم تتغير عاد ليكون مجرد سائق تكسي على هامش المجتمع فيعود ليراقب العالم من خلال المرآة الخلفية لأنه سيعود مجدداً ليتفجر عنفاً مستعيداً الاحترام الذي عاشه.
سكورسيزي بهذا العمل صنع أفضل نماذج أفلام البناء النفسي للشخصيات وأفلام الـ Anti-Hero   تجاوز الكثير من نقاط الغموض حول بيكل وحول ذلك الغموض إلى مراكز فضول وجذب للشخصية وصنع عملاً متكاملاً وخالي من الثغرات، كان قارئاً ممتازاً لنص بول شريدير الممتاز ومتفهماً له وحوله إلى أعجوبة حقيقية، سكورسيزي أبدع بالحفاظ على التوازن بين المحور الخاص بعمله عن عالم بيكل المتهاوي وبحثه عن ذاته وبين المحور العام المهاجم للمجتمع وفساده وضياعه، سكورسيزي رمى بقل العمل بالكامل على روبيرت دي نيرو الذي لم يختفي عن الشاشة سوى بمشهدين ربما ولكن ذاك عرف كيف يحمل العمل ويوصله بأداء غير اعتيادي، سكورسيزي بهذا العمل لم يقدم فقط بناء شخصية وأداء جبار، قدم أيضاً محاكاة بصرية مبهرة، أحب التفاصيل البصرية التي يصنع بها سكورسيزي عمله حتى الثانوية منها، أحب كيف يجعل المشاهد يلمس الشوارع التي يتكلم عنها ويشم رائحتها، كيف ينقل المشاهد إلى أجوائه وعوالمه الخاصة، بهذا العمل قدم سكورسيزي واقعية حقيقية جريئة لدرجة الصدمة والقسوة، خالف كل التقاليد السينمائية المتبعة بصنعه عالم بطله ، جعل العالم تصويراً من عيني شخص معتوه وأقتحم بكاميرته عوالم ذلك المعتوه الداخلية وصورها بطريقة لم تقدم به السينما تصوير مشابه لهذه الشخصيات بتلك القوة والأهمية، مشاهد العنف بالعمل متقنة، أجواء التصوير به مثالية وتفاصيل المكان والزمان خارجة من تقليدية السينما، كيف يصور بيكل يسير بين الناس دون أن نشعر باختلافه قائلاً إن هذا الشخص موجود في كل مكان، موسيقى بيرنارد هيرمان مثالية ومونتاج ثيلما ستوميكر رائع صنعت مع سكورسيزي عملاً بإيقاع مثالي متصاعد للذروة بطريقة مثالية وبخطوات مدروسة دون أي خلل أو ضعف يجعل المشاهد منسجماً ومتصل بالعمل طوال الوقت.

أداء روبيرت دي نيرو كان بالذروة، تقمص الشخصية الجسدي والنفسي كان مثالي دي نيرو بنظرات العيون والصوت الضعيف والملامح الشاحبة والبنية الهزيلة جعل من الشخصية أيقونية تشعر به فعلاً مختل نفسياً ومنفصل عن الواقع وبنفس الوقت إنسان يبحث عن ذاته ضمن مجتمع ضائع ، جودي فوستر بعمر السادسة عشر قدمت أداء ممتاز وصادم لشخصية إيريس عبر عن موهبة فنية أثبتتها مع الأيام بأفلام اغتصاب وصمت الحملان ونيل وكونتاكت وغيرها...، ألبرت بروكس و هارفي كيتيل قدما حضور جيد بالعمل وتحولا فيما بعد إلى كبار نجوم الشاشة.
قد يكون من المصادفة إن أعظم المشاهد بأعمال سكورسيزي هي ارتجال من ممثليه وأحياناً من إخراجهم مشهد جوي باتشي  Funny Who ?   في صحبة جيدة مشهد جاك نيكلسون There is Rat  في الراحل ومن هذا العمل مشهد You talkin me?  الشهير، ربما جمالية هذه المشاهد ليست فقط ارتجالية الممثلين بل إن قدرة سكورسيزي على إيصال فكرة عمله لممثليه وتحويلهم لا مجرد عناصر فنية بل شركاء بالمشروع يجعلهم أيضاً يريدون أن يقدموا كل مساهمتهم لإنجاح العمل وتقديم الفكرة التي يحملها، العمل هو كما قلت العلامة الفارقة بتاريخ سكورسيزي بقي ظله يرافقه بكل أعماله، رغم إن سكورسيزي قدم قبل هذا العمل نزوع الإنسان لإثبات الذات وتجاوز المجتمع والبيئة في شوارع قذرة ولكن هنا اكتملت الصورة تماماً وما جعل من سكورسيزي مخرج عظيم إنه تجاوز كمال عمله هذا ويحافظ على مشروعه وفكرته ويقدمها بباقي أعماله بصورة مختلفة شاهدنا ذلك لاحقاً في الثور الهائج وملك الكوميديا وبعد ساعات و صحبة جيدة ورأس الخوف شتر ايلاند والراحل و إيقاظ الموتى و حتى بآخر أعماله هيوغو وبفيلمه الشهير الإغواء الأخير للمسيح، بل إن أعماله آثرت بأجيال المخرجين بعده سبايك لي وأوليفر ستون و بول توماس أندرسون و ديفيد فينشر ودارين أرنوفسكي بل حتى إنه آثر بكريستوفر نولان رغم خيالية أعماله (المليونير الذي يبتدع شخصية غريبة عنه ليعيد تصنيع العالم في سلسلة الوطواط، مهندس الأحلام الذي يرفض واقعه بصنع عالمه الخاص بالأحلام في أنسيبشن، وفاقد الذاكرة الذي يصنع قاتل وهمي لزوجته ليجعل لعالمه معنى في ميمنتو)،وشاهدنا نسخة جديدة له في فيلم (قيادة) الفائز بأفضل مخرج بمهرجان كان 2011، في النهاية قد لا يكون هذا العمل أفضل أعمال سكورسيزي هو قدم أفضل منه من حيث البناء والفنيات في الثور الهائج والراحل ولكن يبقى له قيمة خاصة بالنسبة لي وبأنه فعلاً أكثر عمل لامسني من أعمال سكورسيزي وهو بالنسبة لي العمل المفضل بين أعماله.

0 التعليقات:

إرسال تعليق