RSS

Jaws - 1975


حين نشاهد اليوم في زمن الـ 3D فيلم رعب من انتاج السبعينات محدود الميزانية وبتقنيات بدائية ولكنه يجبرك أن تندمج معه أثناء عرضه ويثير عندك شعور إنه فيلم رعب حقيقي أصيل ومذهل رغم مرور عشرات السنين على عرضه فلا بد إنه فيلم غير اعتيادي لصانع أفلام غير اعتيادي، ستيفن سبلبيرغ وبعد أن صنع فيلم إثارة تلفزيوني مميز عام 1971 (Duel) يمكن إعتباره كدرس بسيط ومميز بصناعة أفلام الرعب وجعل النقاد يتفاءلون بوجود هيتشكوك جديد في السينما صنع وبعد أربع سنوات ولم يكن قد بلغ الثلاثين فيلماً أثبت فيه إنه حمل خبرة وانتاج خمسين سنة من هيتشكوك واختصرها بعمل أصبح ظاهرة حقيقية بأفلام الرعب وما زال أحد أضخم مراجع الرعب على الاطلاق.
لم يكن من المستغرب أن يكون عقد السبعينات عقد أفلام الرعب وأفلام العوالم الغامضة والسريالية فالمخرجين الذين نشأوا على أفلام هيتشكوك وبريغمان وفلليني وتشربوا أساليبها على طول الأربعينات والخمسينات والستينات جاءتهم الفرصة في السبعينات ليقدموا نتاجهم الذي كان أغلبه رعب وإثارة أو سيريالية فبهذا المجال تتجلى التعبيرية السينمائية الحقيقية وتأخذ السينما دورها كفن مستقل بذاته عن تأثيرات الرواية والموسيقى والمسرح والأوبرا بل وأكبر من كل تلك الفنون بالقدرة على إثارة تفاعل المشاهد وجذبه وإدخاله بعوالم نفسية أخرى، السبعينات كانت البداية والذروة لموجة من سينما الإثارة التي تركت أثارها على كل صنوف السينما فيما بعد في العقد اللاحق الثمانينات، أفلام كطارد الأرواح والتكهن وهالويين واليان وكاري أصبحت ظواهر شعبية في السبعينات وما زالت إلى حد الآن جزء من الثقافة الشعبية العالمية أفلام رعب جميعها تتحدث عن ظواهر لا طبيعية وعالم السحر والأشباح وتعتمد على تلك الأساطير و العوالم الغامضة لصنع اللغة السينمائية والتأثير بالمشاهد وجذبه ولكن فيلماً واحداً بعيد عن كل تلك المؤثرات الخارجية ومنتم للواقع يزيح كل تلك الأفلام ويصبح هو الأكثر وشعبية على الإطلاق وهو فيلم الفكاك لسبلبيرغ.
بهذا العمل أثبت سبلبيرغ إنه أكثر المخرجين وفاءً لهيتشكوك وأسلوبه وهو إذا كنت تريد أفزاع المشاهد فلست بحاجة لشيء غير اعتيادي الواقع يحوي أمور مفزعة أكثر مما يتخيل أحد وهذا ما صنعه سبليرغ أحضر للمشاهد كل شيء مفضل ومبهج عنده شاطئ بحر أشعة شمس ومرح الصيف وحول كل تلك الأمور إلى كابوس حين أضاف شيء واحد فقط قرش فتاك بشكل واقعي صادم دون أي رتوش أو عوامل مثيرة خارجية.
افتتاحية العمل بغاية الإبهار وأحد أفضل الافتتاحيات بالتاريخ مشهد لرحلة صيفية وشباب وفتيات يلهون على الشاطئ تتسلل احداهن لتسبح في المحيط وبشكل غير متوقع ومفاجئ ودون مقدمات يهاجمها سمك وقرش ويلتهمها ضمن مشهد وحشي جداً وبهذا المشهد تتلخص حبكة الفيلم وتتلخص حيل سبلبيرغ المثيرة التي لا تفقد أثرها على طول فترة العرض فسبلبيرغ يبرع بنسج حيله المثيرة وتقديمها.
قضية وجود قرش على الشاطئ لن تمر بتلك السهولة بالأخص إنه موسم السياحة الذي تعتمد عليه تلك الجزيرة بمعيشتها وإغلاق الشواطئ يعني كارثة اقتصادية لذلك يغامر عمدة الجزيرة للجنوح للتفسير الثاني وهو حادث قارب تعرضت له الشابة ولكن شخص واحد يرفض التسليم بتلك الحقيقة وهو المأمور الغريب عن البلدة والذي لا يهمه موضوع السياحة بقدر ما يهمه الأمن على الجزيرة وشواطئها.   
أن يجعل سبلبيرغ من شخصية المأمور هي الشخصية المحورية أمر يحسب له على عدة أصعدة فهذا المأمور غريب عن الجزيرة مثل المشاهد مما يجعله قريب منه أكثر ويجعل نظرته للأمور حيادية ومنطقية جداً كنظرة المشاهد لتلك الأمور ولكنه لا يندفع بوجه الباقي بشكل بطولي متهور بل يسايرهم بإجماعهم ولو كانت القرارات خاطئة ولكن وبعد حادثة قتل الطفل يصبح له دافع خاص ليصطاد القرش، التركيز على نقاط الضعف لهذا المأمور – وتحديداً خوفه من الماء - يجعله أكثر قرباً للمشاهد حيث يصبح له شكل أكثر واقعية لا شكل بطولي تخيلي وهذه نقاط الضعف تصنع محور إضافي للعمل عن ذلك المأمور الذي سيتحدى خوفه ليثبت نفسه في عالم هو غريب عنه كلياً .
حادثة أغتيال الطفل في العمل هامة على عدة صعد فهي تظهر لنا مدة خطورة ذلك القرش الذي لا يعرف الرحمة ويشكل صدمة وحشية للمشاهد الذي لم يعتد رؤية طفل ضحية، هذا المشهد يؤثر على حبكة العمل حيث يصيب الأمور بشيء من تأنيب الضمير لأن اهماله هو من سبب بذلك ومع التركيز على علاقته بابنه يجعلنا نشعر إنه هو الأخر متضرر بنوع خاص ويندفع لمواجهة ذلك القرش.
مشهد آخر من المشاهد الهامة بالعمل مشهد مهاجمة سمكة القرش للصيادين في الليل بقدر ما يحويه هذا المشهد من إثارة وإشارة لعنف القرش ووحشية يظهره كذلك إنه ليس وحشاً عادياً بدائياً هو يتمتع بشيء من الذكاء والمكر يزيد من احتمالات خطورته ويركز سبلبيرغ على وحشية القرش بمشاهد أخرى عديدة (تقرير الخبير عنه، ملاحقة آثار هجومه، دراسة الكتيبات العلمية والتركيز على صور آثار الضحايا المفزعة).
العمل على أعلى درجات الإثارة والتشويق رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على عرضه فتمر فترته الزمنية (ساعتين) دون الشعور بها وينجح بصنع تفاعل هائل مع المشاهد والسر بالحبكة البسيطة التي قدمها سبلبيرغ والتي اهتم بأن يجعل من خلالها المشاهد يركز على الحدث وردّة الفعل عليه ومن خلاله قدّم سبلبيرغ أسلوبيته الشهيرة وضع أشخاص عاديين بموافق غير اعتيادية والاهتمام بصنع أجواء واقعية بكل شيء فصحيح إن العمل يدور على الشاطئ ولكه ليس استعراض جمالي أو إثارة هناك تركيز على جعله مكان للعائلات، عائلات طبيعية جداً من حيث الشكل والتفاعل حتى أبطال العمل أشكالهم ودوافعهم بعيدة عن أجواء هوليوود المعتادة بل هم بالأصل مغمورين ولكن أدائهم كان بغاية القوة.
تكتيك لحظات الرعب جعل العمل يدور بجو توتر دائم طوال العمل التمهيد للحظات الهجوم شعورياً وأحياناً صدم المشاهد بهجوم القرش دون سابق إنذار ومن الحيل المميزة المزج بين الخطر الوهمي والحقيقي وتأثير تلك اللحظات على المشاهد بنفس الدرجة كمشهد الهجوم الوهمي للقرش أحد أعظم المشاهد بالتاريخ رغم إن القرش لم يكن بالنهاية سوى زعنفة بلاستيكية ولكن شكل العشرات وهم يركضون على الشاطئ بجنون بعد التمهيد الرائع لخطر القرش صنع جواً من الإثارة العظيمة بالسينما.
العوامل البصرية ساعدت سبلبيرغ على تقديم ذلك العمل العظيم المونتاج الممتاز جداً والقادر على إحداث ربط دائم بين الحدث والشخصيات وبين ردّات فعل الشخصيات والمشاهد مما يجعل المشاهد جزء من العمل، والتصوير الممتاز الذي تغلب على تحدي التصوير بالماء رغم التقنيات البدائية وطريقة تصوير المشاهد من عين الوحش صنعت ثورة تصويرية أصبحت معتادة بفن سينما الرعب، وطبعاً الموسيقى العظيمة المعتادة من جون ويليامز.
أفضل شيء قام به سبلبيرغ بالعمل هو عدم تصويره للقرش كاملاً حتى نهاية العمل أغلب العمل لا يظهر القرش نسمع فقط صراخ ثم الضحية تتأرجح والدماء تخرج وتغطي الماء وهذه الحركة التي اعتمد عليها سبلبيرغ لتغطية الضعف التقني ساعدت بشكل غير مباشر بصنع جو من الغموض والتشويق والإفزاع حول ذلك الوحش الذي كشف عيوب تلك الجزيرة وعيوب الأنظمة السياسية المسيطرة على الشعوب بأنانية ليصبح العمل من الأعمال الناجحة بالمزج بين الجانب الفكري والفني وأحد أفضل أفلام الإثارة على الاطلاق.
الفيلم أحدث ثورة بسينما الرعب والإثارة صنعت له عدّة أجزاء واستنسخت عنه عدّة أفلام عن تماسيح وأخطبوط ووحش عديدة ونمل وحشرات و وطاويط وأفاعي بل حتى إن ريدلي سكوت اعتمد عليه ليصنع أول أفلامه ((Alien الذي تم تشبيه بفكاك ولكن بالفضاء، الفيلم صنع ما يمكن تسميته سينما الصيف وابتدع فيه سبلبيرغ أسلوب التسويق والإعلان الناجح من خلال مونتاج من مشاهد العمل تعلن عنه حقق أفضل الأرباح بزمانه قبل أن يأتي صديق سبلبيرغ لوكاس ويزيحه مع حرب نجومه، نال خمس ترشيحات للأوسكار منها افضل فيلم بأقوى أعوام السبعينات مع باري ليندون لكوبيرك وطار فوق عش الكوكو لفورمان وبعد ظهر يوم لعين للوميت ولم تتضمن تلك الترشيحات ترشيح لسبلبيرغ كأفضل مخرج ليصبح أول مخرج ينال له فيلم لأول مرة ترشيح لأوسكار أفضل فيلم دون أن ينال معه ترشيح للإخراج (وبعد عام سيشكل ثنائي مع سكورسيزي بتلك الحالة الذي تجول عن سائق التكسي) الفيلم خرج بأربع جوائز وشعبية كبيرة لم تنتهي حتى اليوم.
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق