منذ بداية الستينات ومع ظهور سلسلة جيمس بوند حلّت أفلام الإثارة والحركة ( action movies ) كبديل عن أفلام الوسترن في تجسديها للبطولة والإثارة وأخذت هذه الأفلام منحاً أمريكياً بحتاً مع عرض فيلم ويليام فرادكلين صاحب الأوسكارات الأربعة (الاتصال الفرنسي) ثم جاء هاري القذر لأحد رموز الوسترن كلينت إيستوود ليصنع نموذجاً لشكل بطل الإثارة الأمريكي المتهور والجامح والغاضب والسادي المختلف عن نظيره الإنكليزي الجنتل والجذاب والخارق، أصبح لهذا النوع رواج كبير في الثمانينات بالأخص مع التطور التقني الرهيب الذي عاشته السينما منذ أواخر السبعينات، وأصبح هناك ما يعرف بنجم الأكشن ومخرج الأكشن وجمهور الأكشن وأصبحت لأفلام ميل غيبسون وأرنولد شوارزنيغر وسلفستر ستالون شعبية منقطعة النظير عالمياً وتحقق ضربات تجارية على شباك التذاكر وتنال الإعجاب النقدي الكبير، وساعد هذا النوع السينما الآسيوية (الصينية والكورية) على الحصول على إعجاب الجمهور الدولي.
من بين عشرات – بل مئات – أفلام الإثارة التي شاهدتها كان هناك فيلم واحد فقط أعطيته عالمتي الكاملة ، فيلم لا أخجل إن اعتبرته بين أفضل 10 أفلام في الثمانينات وبين أفضل الأفلام التي شاهدتها على الإطلاق، فيلم لا أمانع في منحه أوسكار أفضل فيلم ومخرج في عامه (1988) حتى بوجود منافسة من أفلام بقيمة رجل المطر ومسيسبي تحترق، فيلم أعتبره كلاسيكي ولا أمل من متابعته في كل مرة أعدته، هذا الفيلم هو رائعة جون ماكتيرنان ( Die hard – موت صعب) .
إن ما يجعل لهذه الرائعة من أفضل ما جادت به السينما على الإطلاق بالنسبة لي وأحد أكثر الأفلام شعبية في السنوات العشرين الفائتة هو ذلك النضج والوعي والفرادة في الصناعة الذي عمد إليه ماكتيرنان، حيث لم يقدم لنا بطل أمريكي مثالي قوي ووسيم وتحرري صاحب دوافع بطولية سامية، ولم يصنع فيلمه عن رمزيات بطولات رجال الأمن والمارينز الأمريكي هو قدمه كرب عائلة عادي من الشعب بل حتى إن جعله للبطل جون ماكلين رجل الشرطة لم يكن سوى لتبرير الخبرة التي يملكها هذا البطل التي قد لا يملكها هذا الأشخاص العاديين في مواجهة الإرهابيين في حين إن كل تصرفاته وردّات فعله الأخرى وتعليقاته لا تختلف عن ما يقوم به أي شخص آخر فهذا البطل كما رسمه ماكتيرنان يحوي العديد من الملامح الإنسانية البسيطة رجل عادي من عامة الناس له سيئاته وحسناته التي لا تختلف عن صفات أي شخص عادي زوج محب وحنون ولكنه منشغل عن عائلته بسبب ضغط عمله مما يولد شرخ في علاقته بينه وبين أولاده وزوجته التي تبحث عن ذاتها في عملها بعيداً عنه مما يولد خلافات عديدة بينهما تجعل علاقتهما على شفير الهاوية ثم تأتي تلك المحنة المتمثلة بمواجهة الإرهابيين ليلة الميلاد لتعيد الحرارة إلى العلاقة بين الزوجيين، وجود ماكلين في برج ناكموتي ليلة السطو المسلح عليه تعطي مبرر كافي ليواجه الإرهابيين بهذا العنف، فغير قدرة هذا الموقف على توليد الإثارة في الأحداث فإنه يعطي الفيلم المنحنى الإنساني الشعبي الذي يريده ماكتيرنان حيث يؤكد إن بطله هذا ليس البطل المثالي الذي يهب للدفاع عن الضعفاء حين الأزمة هذا شخص مثله مثل أي إنسان آخر تحركه دوافع خاصة في مواجهة الإرهابيين تتمثل بالدفاع عن نفسه وعن زوجته الرهينة وربما لو كان هو خارج المبنى ليلة الهجوم حتى لو كانت زوجته رهينة لاكتفى مثله مثل أي شخص عادي بمراقبة ما يحدث دون أن يتدخل، فمن الواضح إن ماكلين خلال كل تلك المواجهات كانت نجاته هي ما يهمه قبل أي شيء آخر، هو لم يعثر باب النجاة ثم أصر على البقاء لإنقاذ زوجته وغيرها من الرهائن والانتقام من أعداء الديمقراطية، الفرق بين ماكلين وغيره إن ظروفه وضعته في مواقف جعلته يدرك إن الحل الوحيد للنجاة هو بمواجهة هؤلاء الإرهابيين وتسليمهم للشرطة لإنقاذ نفسه قبل أي أحد أخر، هذا الرسم الإنساني البسيط لشخصية ماكلين كانت السبب الرئيسي بجذب الجمهور للفيلم حيث شعر المشاهد – في كل بقاع الأرض – بنوع من الألفة مع هذا البطل الذي يشبه في كثير من الأشياء ولا يختلف عنه، هو ليس كسوبرمان بطل بقدرات خارقة عن البشر هو بطل من لحم ودم يحمل صفات أي شخص ويمكن لأي إنسان أن يقوم بما قام به في حال وقع بهذا الموقف، بل حتى إن جعل البطل متزوجاً وله مشاكل مع زوجته التي يأسرها الإرهابيين لا بطل يعثر على عشيقة حسناء بين الجثث المتراكمة والرهائن المرتجفة أبعدت الفيلم عن الابتذال المعتاد في مثل هذه النوعية من الأفلام وصنعت له أجواء واقعية وعائلية حميمة يحبها المشاهد ويتأثر بها بالأخص في فترة الأعياد بالنسبة للمجتمع الأمريكي.
على صعيد آخر يبرز ماكتيرنان براعة برسم شخصية الإرهابيين حيث لا يقدمهم كإرهابيين أصحاب قضية وحاقدين على أمريكا بل مجرد لصوص مثل أي لصوص عاديين يتخذون الإرهاب وسيلة وحجة لينفذوا أعمالهم لا تهمهم قضايا العالم الثالث ولا الهيمنة الأمريكية على العالم بل حتى إن زعيمهم لا يعرف المنظمات الثورية إلا بالاسم وهمه الوحيد هو تحقيق الثراء السريع، وبهذا ينجح ماكتيرنان بإبعاد فيلمه عن الأجواء السياسية والبطولية المزيفة التي سأمها الجمهور ليقدم فيلم شعبي بحت يهدف إلى التسلية والإمتاع فقط دون أي أهداف سياسية ولكن دون أن يسخر من المشاهد.
الفيلم بالتأكيد بحكم نوعيته يحوي على جرعة عالية من الإثارة والتشويق، ماكتيرنان وبفضل فنياته الممتازة جداً من تصوير ومونتاج وموسيقى ومؤثرات صوتية راقية يجعل المشاهد يجلس على حافة الكرسي على مدى ساعتين تقريباً دون أن يزيح عينه عن الشاشة إثارة هائلة وجو رائع من المتعة والتشويق من الصعب نسيانه وينجح المشاهد بالشعور به في كل مشاهدة جديدة للعمل، مصدر الإثارة في العمل ليست فقط المواجهات الدموية العنيفة بين ماكلين وأعدائه المنفذة بعناية وعبقرية وحسب بل إن تسلسل الأحداث ورسمها بطريقة استثنائية يصنع هذا التشويق بشكل لم نره في غيره من أفلام الإثارة، كاتب السيناريو قدم إنجازاً استثنائياً على صعيد سيناريو أفلام الأكشن حيث صنع فيلم أكشن ممتلئ وليس فارغ ، ممتلئ بالعديد من الأحداث المشوقة والمفاجآت الاستثنائية المثيرة وممتلئ بدراما مناسبة لنوعية الفيلم فبهذا الفيلم نحن لسنا أمام بطل يحمل مسدساً آلياً ويفتحه على خصومه ويسقط العشرات نحن هنا أمام لعبة إثارة بحتة مطاردة بين قط وفأر يستخدمان خلالها كل الطرق والحيل والأسلحة الآلية والفكرية للإيقاع بالأخر، جون ماكلين في المعركة لا ينجو بفضل قوته الخارقة فنحن أمام بطل إنساني بل يهرب باستفادته من أخطاء خصومه تارةً ومن ذكاءه تارةً أخرى وبفضل غريزة البقاء وعزيمته الحديدية التي تمده بقوة إضافية للمواجهة بينما الحظ لا يدعمه سوى مرة واحدة فقط، وحتى أثناء نجاته فإن ماكلين لا ينجو بسلام بل يصاب بجروح وندوب عديدة توشك أن تصرعه، ماكلين ينجح بإعلام الشرطة الذين يحيطون بالمبنى ولكن اللصوص مستعدين لهذا وينجحون بالتصدي للهجوم الخارجي، خلال ذلك الوقت يكون ماكلين مرتاحاً من المعركة يراقب ما يجري كأي شخص عادي فهو ليس البطل المثالي المستعد للتضحية ولكن فشل هجوم الشرطة وتضارب مقترحات الـ FBI تجعل ماكلين يدرك إنه لن ينجو إلا إذا قام هو بمتابعة حربه على العصابة فهم استعدوا لأي هجوم خارجي ولكنهم لم يستعدوا لشخص من الداخل ومع عودة ماكلين للهجوم وتفجيره لمجموعة من القنابل في الفندق لإفزاع الإرهابيين تأخذ الأحداث منحاً مختلفاً ومتطوراً من الإثارة لم تعهده أفلام الحركة عادةً حيث جميع الشخصيات تتخلى عن حذرها وتلجأ إلى غريزة البقاء الإنسانية للنجاة وتختار بفضلها حلولاً لا يقبلها المشاهد ولم يعتدها في مثل هذه الأنواع ولكنها منسجمة مع الطبيعة الإنسانية التي ألبسها ماكتيرنان لشخصياته، أفلام الأكشن عادةً تتميز بحوارات رنانة تجذب المشاهد وتطرب سمعه والعديد من الجمل تصبح جزء من الثقافة الشعبية وهذا الفيلم كان له السبق بأن يكون أحد أكثر أفلام الأكشن التي اقتبس الجمهور من حواراته حيث يحمل حوارات شديدة الجمال والقوة والفرادة تقوم على حس فكاهي متزن مناسب لإضفاء جو من الدعابة المقبول في هذه المعركة ومناسب لطبيعة مكلين الساخرة وأغلب تلك الحوارات كانت تعبير عن جمل ساخطة يلقيها مكلين يآساً وحزناً على واقعه المؤسف.
إن الإنسانية البحتة التي أكساها ماكتيرنان على بطله جون ماكلين جعلت هذا البطل يظهر بصورة لم تعتدها السينما، بطلنا هذا ليس كأرنولد لا يهتز له جفن هو يمر بلحظات ضعف واستسلام عديدة في العمل ، نراه ينزف يتألم يصاب يعرج يبكي ييأس يوشك على الموت يندب حظه الذي جعله يصبح بطل، بطلنا هذا شخص مشوش أجبرته الظروف على أن يكون بطل في ليلة النحس تلك بينما هو لا يريد هذه البطولة ولا يطمح لها ولا يستمتع بها فالبطولة ليست كما يصورها الإعلام هي أمر صعب جداً من المتعب تحمله، هذه التركيبة الفريدة لشخصية جون ماكلين كانت تتطلب ممثل قادر على إظهار انفعالات وصراعات تلك الشخصية، من هنا كان اختيار بروس ويليس للدور موفق جداً ، ماكتيرنان كان ذكياً جداً حين لم يعطي الدور لبطل فيلمه السابق الرائع (المفترس) أرنولد شوارزنيغر فرغم شعبية أرنولد ولكنه غير قادر على إظهار التعابير الإنسانية المطلوبة منه في هذا الدور بينما لو أسند الدور لنجم أخر هو ستالون لشاهدناه يتبع أسلوبه المعتاد بالمبالغة بإظهار الانفعالات وعندها لما كان الإحساس بالشخصية وصل بالشكل المطلوب، ماكتيرنان أسند الدور لبروس ويليس الذي كان ممثلاً شعبياً في المسلسل التلفزيوني الكوميدي (أضواء القمر) الذي أكسبه غولدن غلوب أفضل ممثل مما يدخل أن اختيار ماكتيرنان أنصب على ممثل يحمل الموهبة وقادر على تجسيد صراعات الشخصية وبنفس الوقت يحمل الصفات الجسدية المناسبة للشخصية لا مجرد عضلات منفوخة، بروس ويليس نجح بالدور بشكل غير متوقع وصنع منه إيقونة أمريكية لديه شكل واقعي يظهره من عامة الناس وجسم جيد يتحمل العبء الجسدي للشخصية ومع هذه الصفات هناك أدائه الممتاز قدرته على السخرية وإلقاء التعبيرات المرحة في أحلك الأوقات وبشكل مميز جداً جعل للشخصية جاذبية غير معقولة ونجاحه بتقديم انفعالات الشخصية بشكل متوازن وإيصالها للمشاهد وتفهمه للشخصية إنها ليست شخصية بطولية بل شخصية إنسان وقع بمأزق لا يحسد عليه جعل من الدور أفضل أدواره على الإطلاق، صحيح إن ويليس قدم بعد هذا الدور عدة أدوار درامية جيدة كبولب فيكشن و12 قرد والحاسة السادسة ولكن ولا واحد من هذه الأدوار نجح بتجاوز إبداعه هنا ، هذه هو عن جدارة أدائه الأفضل على الإطلاق ولم أكن أمانع من رؤيته بين قوائم المرشحين لأوسكار أفضل ممثل عن هذا الدور عام 1988 ، ولكل بطل في فيلم أكشن هناك عدو والعدو هذه المرة هو هانس وأدى دوره بإتقان آلان رايكمن في أحد أول أدواره وأجملها رائع كيف يرتدي زي اللص الذكي الشرير الخبيث يظهر كأفعى خبيثة دموية لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها يصنع كاريكتر يستحق الدراسة لشرير أفلام الأكشن، باقي الممثلين كانوا جيدين أيضاً
إن أكثر ما يجعلني احترم تحفة الأكشن هذه وأقدرها هي التفاصيل التي ملئها ماكتيرنان فيها ، علاقة الصداقة الجميلة التي تنشأ بين ماكلين و الشرطي الأسود ، أنانية الصحافة وغرور رجال الأمن وكيف كل تلك الأمور ساهمت بتشكيل أحداث العمل، هوس اللص الأسود بالمال وشغب سائق الليموزين وكلمته في النهاية : (إذا كانت هذه حفلة الميلاد استدعني لحفلة رأس السنة)، كلمة زوجة ماكلين : ( لا أحد يستطيع إثارة جنون أحد هكذا سوى جون ) كلمة ماكلين : (من بين كل إرهابيي العالم لم أقتل سوى شخص قدميه أصغر من قدمي أختي الصغيرة) وكلمته (أهلاً بك في الحفلة)، ملامح هانس عندما يقول لشريكه : (أطلق النار على الزجاج) وجوابه عندما يسأله عن جماعة إرهابية : (قرأت عنهم في التايمز)، وكلمة أحد اللصوص : (عندما تسنح لك الفرصة لتقتل عدوك لا تتأخر)، مشهد قتل هانس الرائع ومشهد الخاتمة المثير جداً والعديد من مشاهد العمل كلما تذكرت تلك اللحظات الرائعة في العمل تأكدت إن هذا عن جدارة أفضل فيلم أكشن أنتجته السينما، بعد سنتين من صدور الفيلم انتجت فوكس جزءً أخر له من لم يعجبني الجزء الثاني فأصبحت فكرة غير منطقية أن توقع الصدفة مجدداً – ويوم الميلاد أيضاً – بجون ماكلين في مواجهة مع الإرهابيين و هذا ما أدركه جون ماكتيرنان عندما أخرج الجزء الثالث والممتع جداً من السلسلة عام 1996 باسم Die Hard With Revenge الذي كان تتمة لقصة الجزء الأول وشاركه ممثلين كبار (سامويل جاكسون وجيرمي إيرونز)، عام 2007 ظهر الجزء الرابع من الفيلم ورغم الجهد التقني الكبير في الفيلم ولكنه كان في غاية السوء لم يعجبني على الإطلاق ولا يقارن بالجزء الأول أو الثالث، الفيلم يعتبر من أهم أفلام الأكشن التي أنتجتها السينما وأحد أكثرها تأثيراً على هذا النوع ظهرت بعده موجة عارمة عن أفلام البطل الذي يعلق مع المجرمين بمأزق حرج (متسلق الصخور لستالون وتحت الحصار لسيغال وغيرها الكثير) ورغم تعدد هذه الأفلام فلم يظهر فيلم بقوة Die Hard ربما كان فيلم speed بطولة كيانو ريفز وساندرا بولوك ودينيس هوبر هو الوحيد الذي نجح بالاقتراب إلى مستوى Die Hard ولكن بالنسبة لي تبقى تحفة ماكتيرنان هذه هي عرّاب أفلام الأكشن والإثارة الحديثة لم تعرف السينما فيلم أكشن غيّر سينما هذا النوع وأعطى دفعاً جديداً كموت صعب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق