RSS

dances with the wolves - 1990


لقد شعرت بفخر لم أشعر به من قبل أبداً فلم أعرف حقاً من هو جون دنبار ، ربما لم يكن للاسم معنى لكن وبينما سمعت اسمي الهندي يتردد عرفت من هو جون دنبار)

عندما أذيع في بداية عام 1990 بوسائل الإعلام الأمريكية بأن النجم الشاب كيفن كوستنر أبن الخامسة والثلاثين عاماً ينوي تحويل رواية رقص مع الذئاب للكاتب الشهير مايكل بلاك إلى فيلم سينمائي أصبح كوستنر مصدراً لسخرية القاصي والداني فالنجم الشاب الذي وكما تقول أحد الأمثال الشعبية : لم يكن له بالقصر سوى منذ أمس العصر حيث إنه لم يمضي عليه سوى بضع سنين فقط منذ أن أصبح ممثلاُ مشهوراً عندما قام عام 1985 بالمشاركة بفلم الوسترن الشهير سيلفيرادو ثم اجتمع مع شون كونري وربيرت دي نيرو برائعة براين دي بالما (فوق القانون) عام 1987 وبعدها بعامين راح يطلق أفلام البيسبول الواحد تلو الأخر ، (ثور رودرهام – وحقل الأحلام) فكان قراره المفاجئ هذا بالتصدي لرواية أدبية شديدة الشهرة كرقص مع الذئاب أشبه بانتحار فني له بالأخص بأنه ممثل جديد عظمه طري ليس له تلك الخبرة الفنية الطويلة ولا ذلك التاريخ الفني العريق، لم يكن يعلم وقتها أولئك الناقدون بأن كوستنر يقبع في تلال داكوتا الجنوبية ومعه ميزانية سينمائية صغيرة جداً لم تتجاوز التسعة عشر مليون دولار وطاقم تمثيلي ضعيف ومغمور ظهر بهذا العمل ولم نعد نراه ويحضر معه المفاجئة التي سيفتتح بها عقد التسعينات السينمائي والتي ستزلزل أركان هوليوود، وإلى جانب السخرية التي أحاطت بكوستنر كان هناك التشويق لرؤية تلك المغامرة 

وفي 9 نوفمبر عام 1990 حطم كيفن كوستنر وفيلمه المنتظر كل التوقعات حيث وقف كل صناع السينما فاغرين أفواههم أمام تلك المفاجأة التي راقت للجمهور بشكل جنوني فحقق أرباح خيالية نظراً لميزانيته وللعام الذي أصدر به عام 1990 إذ أن أرباحه وصلت إلى حوالي 185 مليون دولار وجاء الثالث على ترتيب أرباح ذلك العام بعد فيلمي وحيد في المنزل والشبح ورغم أن رقص مع الذئاب لم يتصدر أرباح ذلك العام ولكنه تصدر الترشيحات للأوسكار حيث حظي باثني عشر ترشيح وفي يوم 25 مارش ظفر الفلم بسبعة هي أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل اقتباس وأفضل موسيقى وأفضل مؤثرات صوتية وأفضل تحرير وأفضل تصوير والجوائز التي خسرها هي أفضل أفضل ممثلة مساعدة لماري ماكدونيل وأفضل ممثل مساعد لـغراهام غرين وأفضل تصميم ملابس وأفضل ديكورات، وبعد أن كان كيفن كوستنر المرشح الأقوى ليكسب أوسكار أفضل ممثل خسر الجائزة بشكل مفاجئ للممثل الكبير جيرمي أيرونز، وقبل الأوسكار كان رقص مع الذئاب قد جمع جوائز الغولدن غلوب لأفضل فيلم ومخرج ونص وجائزة أفضل ممثل في مهرجان برلين وجائزة أفضل مخرج من معهد المخرجين الأمريكيين وجائزتي أفضل مخرج وفيلم من معهد النقاد الوطني الأمريكي ومثلهما من جمعية نقاد نيويورك ، وبعد سبع سنين تم اختيار الرقص مع الذئاب ليدخل في قائمة أفضل 100 فيلم كلاسيكي وجاء بالمرتبة الخامسة والسبعين و بالنسبة لأفلام التسعينات فقد حل رابعاً بعد أفلام قائمة تشاندلار وصمت الحملان وفورست غومب ومتقدماً على فارغو وصحبة جيدة وبولب فيكشن و عديم الرحمة ..

ولكن ما الذي يجعل لرقص مع الذئاب كل تلك العظمة حتى يتغلب على رائعة سكورسيزي الصحبة الجيدة وما هي تلك الوصفة السحرية الإخراجية التي جعلت كوستنر يتجاوز كوبولا ويستحوذ منه على الأوسكار ، أن أحصينا الأسباب لوجدنا هناك أكثر من مئة سبب لجعل من رقص مع الذئاب فيلماً عظيماً، فرقص مع الذئاب ليس مجرد فيلم وسترن فهو فيلم رومانسي يؤرخ لمرحلة هامة من التاريخ الأمريكي القديم بقالب غربي بحت ويعمل على دراسة التعصب والعرقية الأمريكية وصراع الحضارات بين الحضارة الأمريكية التي كانت بهذا الوقت مزيج الحضارات الأوروبية وبين الحضارة الهندية الحمراء التي عبارة عن مخلفات الحضارات البدوية القديمة، ويهتم بتسليط الضوء على البيئة الهنود الحمر وقبائلهم بشكل شديد الموضوعية ويعمل على الكشف عن سيئات المادية الحديثة والوحشية الأمريكية المتعصبة، وبعيداً عن الصورة العامة يركز الفلم على الصورة الخاصة على جندي أمريكي حطمته الحرب الأهلية وحطمت نفسه مشاهد الموت والوحشية وراح يبحث لنفسه عن السلام والراحة الإنسانية ، بكل بساطة فيلم راقص مع الذئاب هو قصة رجل عثر على السلام الروحي بين قوم كان يظنهم برابرة متوحشين !!
الفلم يبدأ عام 1865 في نهاية الحرب الأهلية الأمريكية جون جي دنبار جندي في قوات الاتحاد قليل الكلام تبدو على وجهه علامات السخط واليأس والانهيار، ذقنه كثة ومصاب عدة إصابات ولكنه لا يكترث لها، وفي لحظة جنون يقرر يمتطي حصان ويركض فيه أمام أعدائه !! جون دنبار بهذه اللحظة قد وصل إلى قمة الانهيار ويريد الخلاص من جحيم الحرب وجنونها ولكن الجنود يفكرون بأن هذه تضحية حتى يلفت نظر عدوهم فيستغلون انشغال العدو به حتى يهاجمونهم ويتخلصوا منه ويصاب دنبار ولا يشعر بإصابته إلا بعد انتهاء المعركة ، وبفضل شجاعته المزعومة يتم ترقيته ومنحه الحصان الذي ركض عليه (سيسكو) وإعطائه الحرية باختيار المنطقة التي يريد أن يخدم فيها فيختار المواقع المتقدمة على الجبهة في شمال الغرب لكي يتطلع على حضارة الشمال قبل انقراضها .

دنبار فاجئ الجميع باختياره لهذا الموقع المكروه من غيره ولكن الذي فاجئهم أكثر تغير دنبار الكلي بعد حادثة الانتحار المجنونة التي خاضها ، فدنبار بعد أن جرب الموت عرف جمال الحياة فقرر أن يعيش حياته الجديدة بشكل جديد وأراد أن تبدأ حياته تلك في الشمال في مناطق الهنود الحمر ليدركهم قبل أن ينقرضوا على يد المستوطنين البيض !!، وفي الحصن المهجور يعثر دنبار على كل ما كان يحلم به جمال الطبيعة وهدوئها يعيداً عن صخب الحرب ليقوم هناك باكتشاف الحياة الحقيقية عندما يعيش لوحده ويبدأ بعملية التطهير الذاتية لنفسه، وأول ما يصحو عليه دنبار هو بشاعة الحرب التي لمسها من منظر بقايا الجثث المنتشرة في كل مكان وعندما يذهب إلى النهر فيعثر على غزال ميت غارق هناك، وهنا تبدأ عشرات الأسئلة تدور برأس دنبار حول ماهية الحرب وما الفائدة منها وغايتها وحول النفس البشرية وقدرتها على القتل بلا رحمة لمجرد التسلية وكل ذلك يسجله بمذكراته التي يبدأ يخطها بعد وصله إلى الحصن حيث أنه ورغم افتقاد حياته الجديدة إلى المعارك والأحداث الساخنة التي كانت مزدحمة بحياته الأولى إلا أنه وجود العديد من الأشياء التي تستحق الذكر في منفاه الاختياري هذا، ولكن الشيء الأهم الذي أكتشفه دنبار في حياته الحقيقية هم الهنود الحمر !! وهل كان الهنود غير معروفين قبله ؟؟ لا كانوا معروفين ولكن دنبار هو الوحيد الذي اكتشف الهنود على حقيقتهم .

طقوس تعارف دنبار على الهنود قدمها كل من كوستنر ومايكل بلاك بشكل شديدة العناية، فمنذ بداية العمل وكوستنر يؤكد على أن الهنود برابرة ومتوحشين وقتلة، حيث نرى جنود الحصن السابقين وحالتهم مزرية وقد عانوا الأمرين بسبب الهنود وقرروا ترك الموقع لهم بعد أن قتل معظم جنودهم وسرقوا خيولهم ومؤنهم، ونلمس وحشية الهنود من قول سائق عربة دنبار (أن الهنود قتلة متوحشين ولصوص وأن أردت أن تراهم فالأفضل أن تراهم أموات) ثم بعد ذلك يقوم الهنود بقتل السائق بشكل شديد الوحشية، ويرى دنبار وحشية الهنود بأم عينيه عندما يرى بقايا جثث الجنود والحالة السيئة التي وصل إليها الحصن بسبب الهنود فيبدأ بتحصين الحصن ويستعد للمواجهة مع الهنود، بهذه البداية يجهد كوستنر لإقناع المشاهد بوحشية الهنود ليجعله يشعر بالخطر الذي يحط بدنبار ويشوقه إلى مواجهته مع الهنود ويجعله يندمج مع شخصية دنبار ويتعاطف معها ويتأثر بالمؤثرات التي يتعرض لها حتى إذا ما بدأ الاتصال مع الهنود نبدأ نشعر اتجاههم بالريبة والحيرة التي يشعر بها دنبار ويتغير شعورنا نحوهم مع تغير شعور دنبار وهكذا ينجح كوستنر بإيصالنا إلى النتيجة التي يريدها وهي جعلنا نشعر بالتعاطف مع الهنود ، هذا الأسلوب الذي اتبعه كوستنر بعمله هذا أسلوب التأثير النفسي بالمشاهد والتشويق كان قد اكتسبه عن سيد التشويق بذلك الوقت براين دي بالما الذي لم يجعل من التشويق والتأثير النفسي حصراً على أفلام الرعب التي أخرجها في السبعينات بل حررها لتدخل بأفلام العصابات في الثمانينات (سكارفيس – فوق القانون) وأثبت كوستنر نجاحها بأفلام الوسترن أيضاً مما رفع من قيمة الفلم وزاد من احترامه لدى النقاد الذين وجدوه جديداً من نوعه بالنسبة لغيره من أفلام الوسترن.

كوستنر لم يستعمل التشويق فقط من خلال التمهيد للاحتكاك بالهنود بل وبعدة مشاهد فرعية أخرى، أخذاً أسلوب أخر من أساليب دي بالما اتساع الأطر والصدمة بعد الاسترخاء، ففي أحد المشاهد نرى الكاميرا قريبة لوجه دنبار وهو يمشي وموسيقى جون بيري الهادئة ترافقه ثم المشاهد إلى حد الآن عادي ولا يوحي بأي شيء ، وفجأة !!! يتوقف دنابر وقد أصابه شيء من الفزع وتتوقف الموسيقى معه ويتسع أطار الكاميرا ببطء ليرينا ما ينظر إليه دنبار ساحة مليئة ببقايا الجثث، وقد استعمل كوستنر هذا الأسلوب مرة أخرى في مشهد عثور دنبار على الغزال المقتول بالماء ومشهد دخول الحصان إلى حصن خلال نوم دنبار، ولكن كوستنر جعل من مشاهد الإفزاع النفسية هذه قليلة جداً حتى إنها لربما اقتصرت على هذه المشاهد الثلاث حتى لا يكثر من تكريرها وتصبح مبتذلة بلا طائل .

كذلك فإن كوستنر قام بدمج أسلوبي دون سيغيل وبراين دي بالما بتصوير المشاهد القتالية ، فرغم إن المشاهد القتالية قليلاً بضع الشيء اقتصرت على المواجهة مع القبيلة الهندية وصيد الثيران والتعارك مع الجنود البيض إلا أنه كان من الواضح وجود لمسة هذين المخرجين فيها فسرعة حركة الكاميرا من سيغيل مع الوصول إلى لحظة الذروة بالحماس والتشويق من خلال اللحظات الحاسمة الحابسة للأنفاس والتي تجعلك تصل إلى حافة الكرسي ووقع البطل أمام اختيارات عديدة محرجة والتي هي علامة تجارية مسجلة باسم دي بالما .

وكما استفاد كوستنر من أسلوب مخرج أفلام كوبوي ضخم كدون سيغيل فلا عجب أن يستفيد من أسلوب سيد أفلام الكاوبوي سيرجيو ليوني وبنفس الاتجاه الذي استفاد منه إيستوود أيضاً حين صنع تحفته النادرة (عديم الرحمة) من حيث تحويل اللقطات الطبيعية البسيطة إلى لوحات بصرية جمالية ، وهذا الاتجاه كان طاغياً جداً بفلم كوستنر وأعطاه أبعاداً جمالية شديدة الروعة، ولكن كوستنر حاول التحرر من أسلوب ليوني ليدمجه بأسلوب مخرج أخر مشهور بأفلام الأكشن والتشويق في السبعينات وهو سيدني بولاك عندما أخرج فيلمه الكلاسيكي الرائع (خارج أفريقيا) حيث إن بولاك بفلمه ذاك راح يهتم بإدراج العديد من المشاهد التي تقدس الطبيعة الأفريقية الساحرة ، وكوستنر راح يمشي على خطاه بتمجيد طبيعة الغرب الأمريكي ولكن الاختلاف هو أن لقطات تمجيد الطبيعة الأمريكية لم تكن مستقلة عن القصة وزائدة عليها كما في فلم بولاك، حيث أن بولاك عندما راح يقدم اللقطات الطبيعة كانت تلك اللقطات لا تمس بالقصة الرئيسية ولا يوجد فيها كلمة حوار واحدة فقط موسيقى وكان التحرير فيها نجم الموقف الذي أنقذ فيلم بولاك بعد أن ازداد طوله ضعفين عما يجب يمكن أن يكون، أما كوستنر فإن تلك المشاهد الطبيعية الساحرة كانت على خلفية المشاهد الأصلية ومن أصل المشهد المكتوب ليست زائدة عليه مما جعل فيلمه يجري على خط متوازي بين الروعة القصصية للكاتب بلاك والروعة البصيرة للمخرج الجديد كوستنر حيث لم يطغى أحداهما على الأخر موصلاً الفلم إلى درجة التكامل التي هدف لها كوستنر، وهذا التوليف الناجح الذي سار عليه كوستنر في استحضار ميزة واحدة من أربعة مخرجين مختلفين بالاتجاه والسياسة الإخراجية رغم تشابه أعمالهم بصورتها العامة هو الذي جعل كوستنر يتصدر معظم الترشيحات لجائزة الإخراج خلال تلك الفترة .

وبنظرة أخرى إلى العمل بعيداً عن الاتجاه الإخراجي الذي اتبعه كوستنر نرى بأن كوستنر كان يقدم هذا الفلم كتكريم للمثل الكبير (مارلون براندو) !!، ولماذا يريد تكريم مارلون براندو الذي لم يقدم بحياته سوى بضعة أفلام وسترن بكل تاريخه تعد على أصبع اليد الواحدة ولم يحقق ولا واحد منها أي شهرة تعادل شهرة أي فيلم من أفلام براندو الرائعة؟!! الحقيقة هي أن كوستنر أراد تكريم براندو الإنسان المدافع عن الحقوق المدنية، فعندما نال مارلون براندو الأوسكار عن فيلم العراب لم يحضر إلى الحفل وأرسل ممثلة شابة بثياب امرأة هندية بدلاً عنه ومعها رسالة من براندو يعبر عن انزعاجه على المعاملة السيئة التي تلقاها الهنود وعلى تشويه حضارتهم وتاريخهم، وبعد هذه الحادثة بست سنين قام براندو بدور البطولة بفلم كوبولا الشهير القيامة الآن وبه يؤدي دور جنرال إمريكي تنكر للجيش الأمريكي وبطولاته فيه وأصبح صديقاً للفيتناميين وزعيماً عليهم ويقودهم لمواجه الجيش الأمريكي الذي يرتكب العديد من الفظائع بحق الفيتناميين الأبرياء، وبفلمنا هذا يؤدي كوستنر دور ضابط أمريكي أصبح صديقاً للهنود الحمر وتنكر لبطولاته لأجلهم ولكن بطريقة عرض مختلفة جذرياً عن طريقة عرض كوبولا للأحداث، حيث أن المشاهد يشعر بأن فيلم كوبولا (القيامة الآن) هو تتمة لرقص مع الذئاب ولكن بزمن وأرض مختلفتين غير أن الهدف والغاية متطابقة، برأيي بأن هذا هو كل ما كان يحلم به براندو ويريده .
كوستنر وكما ذكرت عمل جاهداً على جعل المشاهد يتشوق بشدة للقاء دنبار مع الهنود واتصاله معهم، وعندما حان الوقت لذلك لم يحطم كوستنر كل ما بناه باللحظة واحدة بل قام مع بلاك بحل خيوط شبكة التشويق بعناية شديدة، الاتصال الأول بين دنبار والهنود بدأ عندما أشعل دنبار النار بالحصن فيرى مجموعة من الهنود تلك النار فيستغربون كيف أن جندي وحيد يشعل تلك النار في بيئة تموج بأعدائه الهنود، بعض الهنود يعتقدونه بأنه مجنون أو بأنه ينتظر الجنود البيض ولكن واحد هو حكيم القبيلة (الطائر الراكل) يستبشر خيراً بذلك الأبيض ويشعر بأنه مختلف عن غيره فيقرر الاتصال به، ويأتي ليتعرف على ذلك الأبيض فيظهر له دنبار عاري من أي سلاح ، بل أنه عار من أي شيء يستره، وعندما يرى دنبار أمامه ذلك الهندي يوقن بالموت على يد ذلك المتوحش ولكن وبشكل مفاجأ يهرب ذلك الهندي وكأنه رأى أمامه جيش بأكمله، دنبار يستغرب من ذلك الموقف فالهنود معروفين بأنهم متوحشين وقتلة ولا يكترثون لأحد فلماذا لم يقتله وهو وحيد وعار وهنا تبدأ صورة الهندي المتوحش بالانهيار ويبدأ دنبار بالبحث عن الشخصية الحقيقية للهنود، وبعد عدة مواقف مشابهة يقرر دنبار كسر الحاجز بينه وبين الهنود والذهاب لمواجهتهم ، فيرتدي لباسه العسكري ويجهز أسلحته كاملةً ويرفع العلم الأمريكي ويذهب على حصانه ويتجه نحو قبيلة الهنود لخوض تلك المواجهة الانتحارية، وفي الطريق يعثر دنبار على الهندية (ذات القبضة) تنازع بعد أن قطعت شريان ذراعها فينزل دنبار من على حصانه ليتفقد أمرها وعندما يرى خطورة حالتها يضحي بعلمه ويربط به يدها ويأخذها إلى القبيلة الهندية وهو يعتقد بأنه لن يخرج حياً من هناك وما أن يصل دنبار إلى مشارف القبيلة الهندية حتى يقف مذهولاً للحظات بعد أن رأى ذلك التنظيم الهائل للقبيلة الهندية توزيع الخيم والأحصنة، هذا التنظيم لا يمكن أن يصدر من قوم همجيين كما كان يظن وعندما يدخل إلى القبيلة يسلمهم الفتاة وتحيط به القبيلة الهندية بأكملها ولكن بدل أن تقتله تتركه يذهب بعد عدة شتائم لم يفهمها، وفيما بعد يكرر الهنود الزيارة وهذه المرة بلا مواجهات أو توتر فيقدم له الهنود هدية قطعة من جلد الثور ودنبار استقبل الهنود أفضل استقبال ويقدم لهم القهوة، وينجح بالتفاهم معهم والوصول إلى السلام، ولكن كيف ذلك وهم لا يفهمون الإنكليزية وهو لا يتقن الهندية؟؟!، الحل سهل هو التسامح فعندما يوجد التسامح والنية الطبية والصادقة للسلام تتحطم كل الحواجز ويصبح التفاهم سهلاً ودنبار نجح بالتفاهم معهم بالإشارات وكانت الإشارات كافية لكي يصل إلى السلام مع الهنود !!! وهنا يبدو بأن كوستنر يسخر من المجتمع الدولي الذي وصل إلى أعظم ما يمكن أن يصل إليه في مجال الاتصالات ، هواتف نقال وغير نقالة وانترنيت وماسنجر ومترجمون فوريون وغير ذلك من أدوات .... حتى إن اكتشافات العلم الحديث أصبحت تمكن الإنسان من أن يفهم على الأصوات التي يصدرها الجنين داخل بطن أمه ويفهم على الذبذات التي تصدرها الحيوانات للتفاهم بين بعضها (كالفئران) ولكنهم لم يتمكنوا إلى حد الآن من تحقيق السلام بينهم ، فالحرب بين المستوطنين والهنود الحمر ما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا ولو اختلفت الأسماء حيث ما زال البشر عالقين في عقل المستوطن الأبيض الهمجي المتعصب ولم ينجح التطور الذي ألم بالكرة الأرضية أن يصل إلى العقل البشري ....

بعد الاتصال بين الهنود يبدأ كوستنر في القسم الثاني من الفلم يعرض برمزية شديدة عثور دنبار على ذاته الإنسانية بين الهنود وتحطم مبادئه السابقة التي حملها من المستوطنين البيض عن الهنود ليدرك الحقيقة التي كان يجهلها وهي أن الهنود الحمر ليسوا كما تصورهم متوحشين قتلة بل هم أصحاب حق وأرض ومسالمين ويعثر على إنسانيته بينهم، وتلك الرمزية التي يلجئ إليها كوستنر تمثلت بالملابس العسكرية التي هي كانت رمز لوحشية المستوطنين البيض، ففي البداية يقوم بربط العلم الأمريكي بيد (ذات القبضة) حتى ينقذها من الموت، وبالمقابل يهديه الهنود جلد ثور رمز الهنود، ثم يهدي معطفه لـ( الريح بشعره) ويحصل بالمقابل على زي هندي ، ويتنازل عن قبعته لأحد الهنود ويحصل بالمقابل على سيف هندي، ويقوم بحلق شاربه الذي يرمز للبطولة لدى الجيش الأمريكي بذلك الوقت ، ويهديهم الأسلحة ويترك الحصن ليسكن معهم وفي نهاية الأمر حتى يتجوز بـ(ذات القبضة) يقرر أن يقدم لها حصانه الذي أهداه له الجيش بفضل بطولاته بالحرب الأهلية والذي يمثل شرف الجندي الأمريكي ، هذا التنازل التدريجي عن الزي العسكري يمثل تحرر دنبار التدريجي من أفكار المستوطنين المتعصبة واتجاهه إلى صف الهنود الحمر أصحاب الحق الحقيقيين وإدراكه بأن المستوطنين البيض لا يقلون وحشية عن الهنود .

ولكن بالحقيقية فإن رمزية انتقال دنبار من إطار الجندي الأمريكي إلى إطار الهندي قام كوستنر بإبرازها منذ أن وصول دنبار إلى الحصن حيث التقى بالذئب الأبيض والذي أسماه (ذا الجوربين) لأن لون أقدامه بيضاء وهو رمادي، والذئب كما هو معروف بالأساطير يرمز إلى روح الهندي الأحمر وعندما وصل المستوطنين إلى أمريكا كانوا يحرصون على القضاء على الذئاب لأنها كانت تشكل خطر عليهم ومصدر تهديد دائم، ولكن عندما التقى دنبار بالذئب قام بإشهار البندقية بوجهه ولكنه لم يقتله ولم يهرب الذئب، حيث إن هناك شيء منعه من قتله لم يفهمه ، وحفاظ دنبار على حياة الذئب كان يمثل إمكانية وجود روح متسامحة في داخل دنبار وبأنه وكما كان يقول الحكيم الهندي (الطائر الراكل) قادر على أحداث التغيير، الشيء الممتع بأن ظهور الذئب أمام دنبار كان بنفس توقيت عثور الهنود عليه لأول مرة بعد أن أشعل النار فكان الذئب تجسيد لتطور علاقة دنبار مع الهنود، فالذئب في البداية كان يحذر من الاقتراب من دنبار ولا يتناول الطعام من يده ، ولكن عندما يحصل تطهير روح دنبار يبدأ الذئب بالاحتكاك مع دنبار ويتناول الطعام من يده ويبدأ دنبار فرحاً يرقص الرقصة الهندية حول الذئب مانحاً الفلم اسمه (رقص مع الذئاب) وهذا الاسم الغريب للفلم لم يأتي فقط بفضل مشهد رقص دنبار مع الذئب وحسب، فالأمريكيين كانوا يخافون من الهنود خوفهم من الذئاب والهنود يقدسون الذئاب فعندما يدخل دنبار بحياة الهنود ويكسر حاجز الخوف بينه وبينهم ويشاركهم حياتهم ويرقص معهم في فرحهم وحزنهم يكون قد تحول إلى راقص حقيقي مع الذئاب حتى أن الهنود هم الذين يطلقون عليه هذا الاسم، وهنا نرى أن العمل يركز على نقطة أخرى الخوف من الغرباء، فالذئب حيوان مفترس ضار يثير الفزع ولكن عندما تقترب منه قد تكتشف به خصال جيدة ، فبالعديد من الأحيان تختفي الخصال الطيبة خلف الشكل المرعب، وعلى الإنسان أن يتحلى بالشجاعة والنية الطيبة الحقيقية حتى يكسر الخوف ويصل الحقيقة، وهذه كانت نظرة كوستنر وبلاك إلى العلاقة الأمريكية الهندية، فالأمريكان أخذوا عن الهنود النظرة السيئة وهم أنهم متوحشون وبرابرة يجب القضاء عليه قبل أن يقضوا عليهم لم يحاولوا التقرب منهم والتفاهم معهم والتحاور فيما بينهم لا فقد أعمى عينهم الخوف وسيطر على عقلهم التعصب الذي كان سبب تلك المجازر المروعة ضد السكان الأصليين، وكذلك كان الهنود لا يرون في البيض سوى الوجه الغازي المعتدي لم يحاولوا التفاهم معهم للبداية ولكن وعندما يكسر الطرفان حاجز الخوف من خلال الطائر الراكل وجون دنبار يصبح الرقص مع الذئاب ممكناً بدل من القتال معهم وقتلهم .

وحتى نهاية العمل يستمر كوستنر بعرض العديد من أفكاره حول طبيعة العلاقة بين الأمريكيين والهنود برمزية بحتة، فعندما يجتاح الأمريكيين المنطقة يتمكنون من قتل حصان دنبار بسهولة ولكنهم ورغم إطلاقهم عشرات الطلقات يعجزون عن التخلص من الذئب، وهنا يرمز كوستنر بقدرة الأمريكيين على قتل الحصان وهو بالأصل للجيش الأمريكي بأن التعصب سيقضي على أمريكا ذات يوم ولكن عدم قدرتهم على القضاء على الذئب والذي كما ذكرت يرمز إلى الروح الهندية فهو يرمز إلى أن الأمريكيين قد ينجحون بالتخلص من كل الهنود ولكنهم لن يتمكنوا من التخلص من الروح الهندية لأنها مرتبطة بهذه الأرض .

والرمزية في العمل لدى كوستنر لم تقتصر على اللباس الحربي والذئب الهندي، فهناك العديد من الحوارات كانت كرموز لتقديم عثور دنبار على ذاته بين الهنود، منها عندما يكتب دنبار بمذكراته بعد أن أنهى زيارته لدى الهنود (لم أشعر بمثل هذه الوحدة حتى عندما جئت إلى الحصن لأول مرة) فدنبار كان قد قضى مع الجيش الأمريكي سنوات طويلة ولكنه لم يشتق لأي جندي عندما انتقل إلى ذلك الحصن ، ولكن عندما ترك الهنود اشتاق لهم رغم أنه لم يمضي عليه سوى أيام قليلة تعرف بهم عليها، إذ أنه لم يجد إنسانيته بين القتلة في الجيش الأمريكي بل وجدها بين الهنود الذي كان يظن بأنهم متوحشين .

موضوع الصراع الحضاري شغل حيزاً كبيراً من العمل وقدمه كوستنر من خلال شخصية دنبار وتنازعها بين المبادئ التي تربى عليها وبين الحقائق التي اكتشفها حديثاً، فما أن دخل دنبار بحياة الهنود حتى راح وبشكل غير أرادي يجري مقارنات بين الهنود الحمر وبين المستوطنين البيض، بالأخص حين يرى الحميمية بين الهنود وحبهم لبعض واحترامهم لكبارهم وإكرامهم للضيف واستعدادهم للتضحية بنفسهم في سبيل الجماعة وبساطة حياتهم وأملهم الوحيد في الحياة أن يعيشوا بسلام، وتزداد الأسئلة بباله عندما يخرج معهم لصيد الثيران الذين هم مصدر الدفء والغذاء للهنود ولكنه يعثر مع الهنود على عشرات الثيران ميتة بسبب البيض الذين قتلوها من أجل التجارة بجلودها وألسنتها !! وعندما تقوم قبيلة بغزو أرض الهنود ويتصدوا لهم من أجل الدفاع عن أهلهم وطعامهم هذه البساطة ذهل لأجلها دنبار ، فكل الحروب المعروفة تقوم من أجل مبادئ سياسية غامضة ليست محددة وفي معظم الأحيان ينقلب ذلك الهدف بعد تحقيقه إلى مصدر لحرب أخرى، كتجربة دنبار في الحروب الأمريكية فبعد حرب الاستقلال خاضوا الحرب الأهلية لأجل تحديد السيادة، حروب عديدة تخوضها الشعوب لأجل حقوقها ولكن يظهر بأن المستفيد منها هم الزعماء والشعب هو الذي يدفع الضريبة وهو الذي يتحمل أطماع القادة، أما حروب الهنود فهي من أجل الدفاع عن الأهل والطعام لا من أجل مبادئ وترهات فلسفية أخترعها السادة من أجل إمكانية بسط السيطرة والحكم ، هذه البساطة التي عاش بها دنبار وسط الهنود هي التي أعادت دنبار إلى فطريته الإنسانية البسيطة بعيداً عن أطماع البيض وأحقادهم التي أنهكته في حياته الأولى، وجاءت لحظة الفصل عندما يقبض عليه المستوطنين ويبدؤون بضربه وأهانته لمجرد أنه يرتدي اللباس الهندي ويهددوه بالقتل رغم أنه لا هو ولا كل قبيلة الهنود تشكل خطر على أي أبيض إلا إذا هو اعتدى عليهم .

موضوع التكامل الحضاري الذي طرحه كوستنر بفلمه هذا جسد له من خلال قبيلة السو الهندية، فرغم أن كوستنر كان يمدح الهنود طوال عمله هذا ويدافع عن حقوقهم ولكنه مع ذلك راح يظهر سيئاتهم فهم متخلفون جداً ولهم بعض التصرفات المتوحشة كالتمثيل بجثث القتلة ويعاملون النساء بطريقة مسيئة فعندما يوصل دنبار الفتاة الجريحة (ذات القبضة) إلى القبيلة يقوم (الريح في شعره) بسحبها على الأرض وكأنه يسحب حيواناً، وعندما يقرر دنبار الزواج من (ذات القبضة) يقرر أن يقدم حصانه كمهر لها فيقول له (الضاحك) ساخراً هذا كثير على فتاة، كوستنر يرى بأن بإمكان الهنود أن تصبح حياتهم أفضل بفضل الحضارة التي ستوفر عليهم العناء الكثير ولكن دون أن تجعلهم الحضارة يتخلون عن مبادئهم، هذا المبدأ المتكامل حضارة مع مبادئ إنسانية لم أراه في فلم أقدم من رقص مع الذئاب، صحيح أن أفلام القيامة الآن وخارج أفريقية كانت تصب بنفس خانة هدف فيلم الرقص مع الذئاب ولكن جميعاً عمدت إلى انتقاض الغازي الإنكليزي بخارج أفريقيا والأمريكي بالقيامة الآن ولم يقدم فكرة التعايش السلمي على الإطلاق والتكامل الحضاري، ولكن في العديد من الأفلام التي لحقته كالساموراي الأخير وسبانغليش تبنت هذا المبدأ وأصبحت تقدمه مراراً ولكن ولا فلم نجح بإصابة الهدف بنفس عمق الرقص مع الذئاب ، وهذا سبب أخر من أسباب عظمة هذا الفلم.

تقديم البيئة الهندية كان الشغل الشاغل لكل من بلاك وكوستنر بهذا العمل وقد عملا عليها كل باتجاهه بلاك بالاتجاه القصصي ابتداءً من الأسماء الهندية التي هي بالحقيقة ألقاب مثل (الريح في شعره – الطائر الراكل – الضاحك – ذات القبضة) وبمحاولة الدخول إلى أعماق البيئة الهندية تقديم العادات والتقاليد احترامهم للكبار وطقوس الحرب عندهم والزواج والاحتفالات التي يقيمونها والصيد الذي يشكل عصب حياتهم، ودور المرأة عندهم خياطة الثياب وتحضير الطعام وتجهيز الخيم وغير ذلك، واجتماعات الهنود قدمها بلاك بطريقة متقنة وبعدة أنحاء وأهداف الشباب متحمسين للحرب ولكنهم يسكتون عندما يتكلم الشيوخ، الأطفال يتنصتون على اجتماعات الكبار ويحلمون بالقيام بعمل يجعلهم محط أنظار الكبار ويسمحون لهم نتيجته بالخروج للغزو، والنساء تجهز للعشاء لبعد الاجتماع.

وقمة المتعة بالعمل كانت الأحاديث الجانبية التي كانت تدور بين النساء خلال الطبخ أو الخياطة أو بين الرجال في الصيد والاحتفالات وبين المرأة وزوجها، والدعبات التي كانوا يطلقونها ولهجة الخطاب والمفردات التي كانوا يتعاملون بها، معظم تلك الحوارات الجانبية لم يكن لها اتصال بالعمل ولكنها كانت تخدم غاية العمل تقديم البيئة الهندية، الروعة بهذه الحوارات إنها لم تكن مستقلة بعرضها بل كانت تجري ضمن المشهد الرئيسين أي إن المشهد يبدأ بحوار جانبي بين شخصيتين ثم يأتي طرف ثالث أو يحصل أمر ما يجعل الشخصيتان مع المشهد تعودان لأجواء العمل، وهذا كله كان له الفضل بترجيح بلاك لنيل الأوسكار عن فلمه هذا عن استحقاق وبجدارة .

دور كوستنر بتقديم البيئة الهندية بواقعية كان كما ذكرت يجري من خلال الصورة فالديكورات التي بناها جيفري بيكروفت - وكان هذا العمل فرصة له للانطلاق بعدة أعمال شهيرة أخرى ك12 قرد واللعبة - والأزياء التي صممتها ألسا زامبارليلي واختيار مناطق التصوير في تلال داكوتا الجنوبية كله أعطى للعمل رونقه الواقعي ولكن أكثر ما خدم البيئة الهندية بالعمل هو قصد كوستنر بجعل الحوارات بين الهنود باللغة الهندية القديمة، ربما لو أن كوستنر جعل تلك الحوارات بالإنكليزية لما لاقى الفلم النجاح الذي لاقاه فاللغة الهندية أعطت للعمل دفعة قوية بمجال الواقعية، لحسن الحظ إن الفلم لم يجري اعتباره نتيجة ذلك فلم ناطق باللغة أجنبية وحرم من الأوسكار نتيجة ذلك كما جرى بفلم ميل غيبسون آلام المسيح الذي وكما أتوقع أوحت له فكرة جعل فلمه كاملاً باللغة الآرامية من تجربة كوستنر الناجحة .

موسيقى العمل أقل ما يقال عنها رائعة، فجون بيري قدم إبداعاً موسيقياً حقيقياً ، موسيقى رائعة دافئة راقية كلاسيكية صبغت الفلم الطابع الكلاسيكي مباشرةً وبسرعة خاطفة وجعلت العديد من المشاهد الصامتة التي حواها الفلم تتكلم بعشرات اللغات وليس بالإنكليزية والهندية

0 التعليقات:

إرسال تعليق