RSS

One Flew Over the Cuckoo's Nest - 1975


هذا الفيلم رغم إنه يلخص عنوان (البساطة سر العظمة) ولكن الحديث عن أسباب عظمته وخلوده ليس بسيطاً، ليس فقط العظمة الفكرية التي يقدمها بل أيضاً العظمة الفنية من تمثيل وإخراج الذي ورغم بساطته أيضاً ولكنه قدم ثورة سينمائية آثارها ما زالت إلى حد الآن تعتبر منهاجاً في صنع الواقعية التعبيرية أو الرمزية.
ميلوش فورمان المخرج التشيكي الأصل والذي قدم إلى أمريكا عقب الأزمة السياسية التشيكية في نهاية الستينات كان هو الشخص الأنسب لإخراج هذا العمل فهذا المخرج المنتمي للمدرسة الأوروبية في الإخراج وتحديداً السوفيتية حيث التركيز على الرمز وتطويع كل عناصر العمل لصنع الإسقاط السياسي والاجتماعي المطلوب، ورسم شخصية استثنائية للبطل وتأثيره على محيطه وختم العمل بتضحية تلحقها ثورة الجماهير، هذه العناصر الأساسية والرئيسية في السينما الاشتراكية الشيوعية والتي كانت تستخدم للحديث عن ثورة الفلاح والعامل ضد التسلط والرأسمالية والإمبريالية استغلها فورمان لتوجيه سهام النقض ضد الأنظمة الديكتاتورية والقمعية ليس فقط اليسارية التي هرب منها بل جميع الأنظمة المتسلطة حتى الأنظمة الليبرالية التي لا تقل قمعية عن غيرها ولو إنها تأخذ أشكالاً خادعة ومرائية .
العمل يتحدث عن مكمرفي (جاك نيكلسون) السجين المتهم بعدة جرائم اغتصاب وشجار والذي يتم تحويله إلى مشفى المجانين ليقضي عقوبته فيها بأمل تحسين حالته العقلية وأن يصبح حملاً وديعاً في المجتمع، في المشفى المجانين يلتقي مكمرفي بعدة من الأشخاص الذين يعتبرون مجانين ولكنهم ليسوا كذلك هم مجرد أشخاص عاجزين عن التأقلم في المجتمع لمختلف الأسباب (فيلسوف يعاني من الغيرة على زوجته ، عجوز يعاني من البارونويا (جنون الاضطهاد) شاب كئيب ومقموع وفاقد الثقة بنفسه، مجموعة من المشاكسين، ورجل أبله يبتسم باستمرار، وهندي عملاق منعزل عن الجميع) هؤلاء الجماعة المستسلمين لنظام المجتمع يوقظ فيهم مكمرفي روح التحدي ضد النظام القمعي التي تمارسه الممرضة (راتشيلد) عليهم ليثور عليها وعلى نظامها.
العمل مليء بالرموز التي يستغلها فورمان بإتقان خالص ويحمل العديد من الإسقاطات الذكية، يبدأ العمل بيوم في المشفى يعرض فيه الروتين والنظام المتبع فيها وهو النظام والروتين الذي لا يخدم المرضى ولا يعالجهم بل فقط يعزلهم عن الخارج، ثم يدخل مكمرفي بينهم ذلك الشخص الجامح المتحرر المنفلت من كل قيود وتقاليد وأعراف والذي يدعي الجنون ليتخلص من السجن، يقابل مدير المشفى ويتحدث هو وإياه عن حالته يقول له المدير بتعجب : (لقد اشتركت في عدة شجارات ، مارست الجنس كثيراً، تهربت من عملك، قضيت حياتك في التنقل، تكلمت بلا إذن) فيقاطعه مكمرفي ساخراً: (ومضغت العلكة في الصف) إنه النظام الفاسد الذي يريد الشعب كحملان وديعة لا تتكلم بلا إذن كطلاب المدارس الصغار الطائعين دون السماح بالفوضى والحركة حتى الكلمة رغم إنها قد لا تضر أحداً، إن ما قام به مكمرفي لا يعتبر جنوناً بالمعنى التشخيصي أو الطبي للكلمة سلوكه لا يختلف عن سلوك الكثيرين من الناس – بل عن غالبيتهم -  ولكن تم اعتباره مجنوناً لأنه يخالف كل التقاليد الاجتماعية ويتحدى هذا النظام وإصراره على تحدي النظام هو ما يمدد عقوبته في المشفى من مجرد أيام إلى سنوات ولكنه لا يستسلم ويستمر بثورته..
ولكن ما هو النظام الذي تحداه مكمرفي وأين الخلل فيه، فورمان لا يوفر فرصة للحديث عن سوء هذا النظام ويركز على مشهد واحد مهم جداً في العمل، مشهد العلاج النفسي حين يتحدث أحد المجانين عن مشكلته مع زوجته ثم يتحول الأمر إلى شجار وفوضى وتنتهي الجلسة دون التوصل إلى نتيجة منطقية وتبقى الممرضة جالسة تتأمل دون أن تقوم بأي حركة لتهدئة المجانين ، في هذا المشهد يرينا فورمان مدى سوء هذا النظام الذي لا يقدم النفع لأحد كيف تتحول جلسة علاج نفسي إلى حلقة شجار ولا أحد يتدخل لحاول حل الشجار ولا يوجد آلية حقيقية لحل مشاكل المجانين كما يفترض بالمؤسسة أن تقوم ، فورمان يركز على موضوع جلسات العلاج النفسي لتكون محطات للحديث عن التغيير الذي يحدثه مكمرفي في المجتمع فهذه هي الجلسة الأولى والتي تصور الوضع تحت سلطة النظام، الجلسة الثالثة هبوب رياح التغيير من خلال إعلان مكمرفي رغبته بتغيير نظام المشفى لمتابعة دوري البيسبول ، الجلسة الثانية استجابة الجماهير للتغير فهذه المرة أحد المجانين هو من يطالب بتغيير نظام المشفى ويستجيب باقي المرضى ولكن تلاعب النظام يعرقل أحلامهم ولكن الجماهير تحقق غايتها حين تقف أمام التلفاز المطفئ وتدعي إنها تتابع المباراة وتهتف فيها وتفتعل الفوضى ، النظام لا يريد أن يجعل المجانين يتابعون كرة القدم حتى لا تحدث فوضى في المجتمع ولكن الفوضى حدثت حتى مع سياسة النظام القمعية، اللقاء الرابع يطالب فيه المريض بجنون الاضطهاد باستعادة سغائره ويعبر عن رفضه لهذا النظام وعن اعتراضه عليه ويثور ويتحدى وترفض الممرضى راتشيلد تنفيذ طلبه ولكن عندما يقدم له مكمرفي السغائر تهدئ حالته كإشارة إلى إنه ليس بالقمع تحل مشاكل المجتمعات بل بتحقيق غايات الشعوب، في هذا اللقاء يقدم فورمان إشارة كيف استطاعت الثورة والتغيير أن تحسن حالة ذلك المريض الضعيف والخائف ويصبح يطالب بحقوقه ويتحدى بينما لم تتمكن إجراءات النظام القمعية من تحقيق ذلك، بعد جلسة العلاج الكهربائي يعتقد الجميع إن مكمرفي قد انتهى ولكنه يعود مجدداً في اللقاء الخامس حيث تستقبله الممرضى راتشيلد بنوع من البرود ويكون مكمرفي هادئاً بعض الشيء ومتزناً كحالة هدنة بينه وبين النظام ليعود ويقوم بضربته الكبرى .
بين تلك اللقاءات الخمس يقدم فورمان عوامل تغيير المجتمع مستفيداً من شخصية مكمرفي المتحرر القوي الذي يتمكن من فرض هيبته على الجميع ويتأثرون به، الرحلة التي يقوم بها مع المجانين وكيف يجعلهم يستعيدون ثقتهم بنفسهم وإنهم قادرين على أن يكونوا كالأناس الطبيعيين، الفوضى التي يقوم بها بالحمامات ومحاولته الهرب وكلمته (على الأقل أنا حاولت) التي تؤثر بالجماهير وتدفعهم للثورة فيما بعد ، قدرته على جعل الهندي (شيف) يتكلم ويتعامل معه كإشارة إلى قوة الشعوب الضائعة والتي حركها مكمرفي ليقوم بثورته، بعد أن يتعرض مكمرفي للتعذيب وضربات الكهرباء ويختفي يتحول إلى أسطورة ويتحدث الجميع عنه يقول البعض إنه قد هرب وآخرون إنه استسلم كما يجري في كل الثورات ولكل القادة العظام في المجتمع الذين تنسج عنهم الأساطير والذين ورغم غيابهم ولكن آثارهم تبقى، عندما يعود مكمرفي إلى المهجع وقد نجح النظام بهزيمته يقوم الهندي بقتله حتى تبقى الأسطورة حيّة ولا تموت ثم ينفذ خطته بالهرب في أحد أعظم مشاهد الفيلم – بل أعظم المشاهد بتاريخ السينما – وأكثرها تأثيراً مشهد أضاف الكثير للفيلم وصنع جانب هام من عظمته وهو إنه ورغم قوة النظام وقمعيته المستمرة ولكنه لن يستطيع هزيمة الثورة في الشعب وإرادته  ...
من أشد عوامل الإبهار في العمل رسم شخصية مكمرفي ، هذه الشخصية الاستثنائية التي لم تقدمها السينما كثيراً ولكن قدمتها هنا بشكل مبهر جداً، هذه الشخصية غير القادرة على الوقوف أو السكوت شخصية ثائرة متحدية غاضبة عنيفة مضحكة سلطوية جذابة لا تستطيع الالتزام بالقيود والضوابط تعشق التحدي والتمرد، شخصية مبهرة بتعليقاتها وأفكارها وحركاتها وقد أعطاها نيكلسون أبعاداً أخرى، نيكلسون الذي كان تعليقه الأول حين قرأ النص : (سأنال الأوسكار عن هذا الدور) والذي قال عن الفيلم في أحد مقابلاته رداً على سؤال ما هو فيلمه المفضل : (طار فوق عش الكوكو) وعندما كرر الصحفي السؤال : (لا أعني بين أفلامك بل كل الأفلام عموماً) كان رده : (إنه طار فوق عش الكوكو أفضل فيلم شاهدته على الإطلاق) شخصية مناسبة جداً لنيكلسون و محببة جداً بالنسبة إليه، عندما نشاهد أدائه بهذا العمل لا نستطيع سوى أن نقف صامتين وأن نكتفي بتعليق هذا ممثل لن تقدم السينما مثله، ممثل نادر الوجود كبراندو، إنه فعلاً أفضل ممثل بجيله وأفضل من مثل بعد براندو، مبهر بحركاته و تعليقاته وفوضويته وجنونه لا تشعر به إنه يمثل بل يقدم الدور بعفوية مطلقة بعيداً عن التمثيل...
لويس فيشر بدور الممرضى راتشيلد خارقة كلما أعدت مشاهدة العمل يبهرني أدائها وقوته رغم صغر مساحة دورها ومحدودية ظهوره ولكنها تبرع بارتداء ثوب الممرضة الصارمة الباردة السادية القاسية ، كاريكتر تحافظ عليه طوال العمل وتستغله لتقدم ملامح انطباعات عديدة الغضب الغيظ التحدي الصدمة ، باقي الممثلين رائعين جداً قدموا أدوار ثانوية جميلة جداً وقد أجروا دراسة كاملة عن أدوارهم في مصحات نفسية...
ميلوش فورمان نجم العمل الحقيقي، هذا المخرج الأسطوري الذي قدم في أقل من عشر سنوات تحفتان لم تنساهما السينما هذا العمل وأماديوس ونال عنهما الأوسكار، عملان مختلفان في كل شيء في الأفكار وأسلوبية الصناعة والاتجاه ولكنهما بنفس القوة والتمكن ، رغم بساطة عمله هذا وبعده عن البذخ الموجود في أماديوس ولكنني أفضله في هذا العمل عن أماديوس، فورمان قدم نموذجاً لصنع الأفلام الواقعية تركيزه على الممثلين وأدائهم استحضار الأجواء المسرحية التصوير في مشفى مجانين حقيقية استغلال الرموز والتركيز عليها وعلى الإسقاط التي تحمله كله ساهم بصنع عمل لا ينسى ، العمل رغم بعده عن المبالغة والبذخ البصري ولكنه جميل من النواحي الفنية من مكياج ومونتاج وتصوير وموسيقى كانوا جيدين جداً ...
العمل نافس على الأوسكار عام 1975 وهو باعتقادي أفضل أعوام السبعينات حيث كان ينافسه تحفة سبلبيرغ الفك المفترس، فيلم سيدني لوميت الرائع Dog day afternoon   رائعة ستانلي كوبريك باري ليندون، ورغم وجود هذه الأفلام الرائعة وما قدمه مخرجيها من إنجازات إخراجية رائعة وقوة الأدوار التمثيلية في هذا العام تحديداً من آل باتشينو ولكن طار فوق عش الكوكو لم يترك المجال لأحد ليتكلم خطف خمس أوسكارات رئيسية عن استحقاق كأفضل فيلم ومخرج وممثل وممثلة واقتباس هو الفيلم الثاني الذي حقق ذلك بعد حدث في ليلة واحدة عام 1934 ولم يتمكن أي فيلم من تكرير هذا الإنجاز حتى عام 1991 وفوز صمت الحملان بالأوسكارات الخمسة تلك ....
إنه فيلم مبهر قدم ثورة السينما المستقلة حيث انتجه مايكل دوغلاس بعيداً عن سلطة الشركات الكبرى وتمكن من أن يخلف أثراً بالسينما لم يتوقف حتى الآن ..   
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق