RSS

Schindler's List - 1993


من ينقذ حياة إنسان ينقذ العالم بأسره
في حفل الأوسكار عام 1993 كان الحدث الوحيد المهيمن هو ستيفن سبلبيرغ، كانت تلك ليلته وليلة معجبيه فبعد انتظار طال حوالي ثمان عشر سنة تم تكريم صانع الأفلام الأهم بزمانه بجائزتي أوسكار كأفضل مخرج ومنتج عن فيلمه التحفة قائمة تشاندلار، تكريم انتظره في ذلك الوقت عشاق السينما طويلاً كما انتظروا لاحقاً تكريماً مستحقاً لمارتن سكورسيزي، فرغم كل ما يقال اليوم عن محاباة هوليوود لسيدها ومعلم مخرجيها ولكن الحقيقة إن الملك لم يكن دوماً متوجاً في عاصمته فرغم إنه كان الأول لدى الجمهور وكل من جاء بعده من مخرجين وصناع أفلام و لكنه لدى النقاد والأكادميين و موزعي الجوائز في تلك الأيام كان مجرد مخرج تجاري مع إنه كان ككل العباقرة شخص متفرد يبحث عن التميز خارج السرب كحال سلفه هيتشكوك الذي عاش نفس المعاناة ولكن في النهاية يبدو إن النقاد والأكادميين تعلموا الدرس وأدركوا إن ما يصنعه وصنعه سبلبيرغ فن سينمائي حقيقي ولكن غير تقليدي فبعد أن تم تجاهل اسمه عن مرشحي الاوسكار عام 1975 عن فيلم الرعب المذهل Jaws  وخسر ثلاث ترشيحات متتالية لأفضل مخرج آثنين منهما عن فيملي خيال علمي دراميين (Close Encounters of the Third Kind و  E.T.: The Extra-Terrestrial عامي 1977 و 1982 ) وآخر مغامرة وفنتازية (Raiders of the Lost Ark عام 1981) ثم حاول مجاراة الأكاديمية والنقاد بأن يثبت إنه ليس مجرد مخرج أفلام خيال علمي ومغامرات فصنع قصة درامية مؤثرة بعيدة عن خياله الجامح المبهر فكانت التحفة الإنسانية (The Color Purple ) عام 1985 التي نالت 11 ترشيح للأوسكار في شتى المجالات بإستثناء أفضل مخرج فرغم نيله جائزة نقابة المخرجين لم ينل سبلبيرغ حتى الترشيح ليصبح في ذلك الوقت الثالث في التاريخ الذي ينال جائزة النقابة دون جائزة الإخراج وفي النهاية أصبح فيلم اللون القرمزي الخاسر الأكبر بأن خرج من حفل الأوسكار دون أي جائزة – رغم استحقاقه أغلبها - لا أتوقع بأنه هنا يوجد أي محاباة للمخرج الأسطورة بل إذلال مسيء لعبقرية فنية لذلك فليس أمر مستغرب أن يكون تكريمه عام 1993 حدث سينمائي بارز واعتذار لهذا المخرج وطاقمه المبدع الذي عانى طويلاً التهميش ولكن الإساءة عادت عام 1998 بتفضيل فيلم كشكسبير العاشق بأغلب جوائز الأوسكار ومنها أفضل فيلم على حساب التحفة الحربية إنقاذ المجند رايان التي خرجت فقط بخمس جوائز أوسكار منها أفضل مخرج ثانيةً لسبلبيرغ رقم قد يعتبره البعض جيد أن يفوز بجائزتي أوسكار ولكن نظراً لقيمة هذا المخرج وأعماله أتوقع إنه رقم ضئيل جداً .
 
بالنسبة لسبلبيرغ فإن فوزه بجائزة أفضل مخرج عام 1993 كان يعتبر حدث خاص بالنسبة له ليس مجرد تكريم لعبقريته الإخراجية بل إن هذه الجائزة جاءت بمناسبة عمله الأكثر قرباً له وأهمية فيلم قائمة تشاندلار الذي يتحدث عن إحدى التراجيديات والجرائم التي أفرزتها عقلية هتلر ونازيته المجنونة وهي مآساة الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية والتي أدت إلى تصفية جماعات من اليهود ظلماً تقول الإحصائات إنها وصلت إلى 6 ملايين رغم إصرار العديدين من الباحثين و المؤرخين على إن هذا الرقم مبالغ فيه ولكن المبالغة بتقدير عدد الضحايا لا ينكر وجود الجريمة، أهمية هذا العمل معروفة لدى سبلبيرغ وهو المخرج الشهير بيهوديته وتعصبه لها – رغم إنه معتدل وحيادي بمواقفه السياسية – وهو الذي كان يخشى إخراج هذا العمل إذ كان يظن إنه لن يستطيع تمثيل مآساة شعبه بالوجه المطلوب فأجلّ العمل عشر سنوات ثم قرر اتخاذ مقام المنتج والبحث عن مخرج أهل لهذا العمل اتجه بالبداية لبيلي وايلدر ولكنه رفض إخراج العمل بحكم كبر سنه ثم عرضه على رومان بولانسكي أحد الناجين من الهولوكوست والذي فقد أمه في تلك الحوادث الذي رفض هو الآخر لعدم قدرته على مواجهة تلك المآساة التي عاصرها ولكنه عرض مساعدته بإخراج العمل من حكم تجربته الشخصية انتهى المشروع في النهاية في يد سكورسيزي الذي رفض إخراجه وأعاده لسبلبيرغ وقال له : (من الأفضل أن يخرجه يهودي) وقايضه على مشروع رأس الخوف وشجع وايلدر سبلبيرغ على إخراجه ليقدم عملاً دخل التاريخ مباشرةً كأحد الكلاسيكيات المعاصرة واحتل المراتب الأولى عن استحقاق بين أفضل أعمال القرن وآثر على كل من شاهده لدرجة جعلت مخرجاً بحجم كوبريك يؤجل مشروعه عن فيلم هولوكوست حتى أجل غير مسمى.
أثناء الحديث عن هذا الفيلم أو أي فيلم آخر يتناول الهولوكوست بشكل إيجابي في المنطقة العربية يثير الأمر استياء القارئ العربي أو المشاهد العربي وكأن مشاهدة مثل هذه الأعمال أو مدحها جريمة وخيانة عظمة، لا أعرف أين تكمن الجريمة والخيانة حين نتحدث عن تعاطف إنساني مع شعب تعرض للظلم، ربما بين العرب واليهود عداء تاريخي اشتد في المائة سنة الأخيرة بحكم احتلال فلسطين والجرائم غير الإنسانية التي تمارس بحق شعبنا العربي فيها ولكن عدائنا للصهاينة وحاملي الجنسية الإسرائيلية لا يبرر لنا عداء لكل اليهود في كل زمان ومكان، بصراحة حين اتعاطف مع يهود ألمانيا النازية لا أشعر بأي شيء من تأنيب الضمير لأن الضحايا هناك لم يكن لهم علاقة بمآساتنا ولم يشاركوا فيها – على الأقل خلال تلك المرحلة – وخلال العمل لم يتم الإشارة بأي شكل إلى فلسطين وأرض الميعاد والهيكل، بل ربما النظر بشماتة وحقد على عشرات الأطفال والنسوة يقتلن بلا سبب دون أن يكونوا قد أساؤا لي ولقضيتي يجعلني أشعر باستحقار لنفسي فلا ديني ولا عقيديتي ولا فطرتي بأمرنني بالشماتة بالضحايا الأبرياء.
فيلم مثل قائمة تشاندلار يحمل عدّة أبعاد غير فقط قصة الهولوكوست هو نظرة مستنكرة للعنصرية وما تؤديه إلى جرائم غير إنسانية ووحشية بغض النظر عن جنسية الضحية ، فمهما كان بيننا وبين الضحية عداء فنحن لن نستطيع منع التعاطف الإنساني من أن يسيطر على داخلنا، حين أشاهد هذا العمل ألمس المعاناة التي عاشها أهل فلسطين جراء التهجير والقتل العشوائي الدموي والإذلال المستمر أكثر من أي عمل عربي آخر تعرض للقضية الفلسطينية، حين أرى جموع اليهود تخرج مطرودة من بيتها في بولندا إلى الأسر لا استطيع تجاهل صورة مئات العرب المهجرين عام 48 تحيط بذاكرتي وحين اتابع يومياتهم وكيف يحصلون على طعامهم تتزاحم تلك الصور مع صور الأنفاق التي تجتهد اسرائيل لردمها وقطعها عن أسرة غزة ، حين يقتحم جنود النازية أحياء اليهود ويزرعون القتل والرعب هناك أشعر بالضحايا لا يختلفون عن ثلاثة آلاف عربي قتلوا ظلماً تحت ضربات طائرات العدو الإسرائيلي رغم إن المفارقة إن ضحايا البارحة أصبحوا هم جلادي اليوم، سبلبيرغ ينجح بزرع ذلك التعاطف مع ضحايا النازية ويوسع الصورة ليجعلها تنطبق على كل ضحية مظلومة من العنف والعنصرية والجهل في العالم ويجعل تعاطفنا يتسع ليشمل كل مظلوم وكل من كان لون بشرته أو عرقه أو دينه سبباً لظلم وقع عليه، عمل مثل قائمة تشاندلار لا يجب أن يمنع من العرض في البلاد العربية الأمر سخف أن نمنع فيلم لمجرد إنه يتحدث عن مآساة عاشها اليهود من العرض هل يعني إنهم أصبحوا غير إنسانيين ويستحقون العقاب في كل زمان وحتى قبل زمان ارتكابهم الجريمة بحقنا وهل الفيلم يوجد فيه ما يمس قضيتنا ليمنع – مع العلم إنه لم ترد أي جملة حوارية أو فكرة تشير إلى أن الخلاص من العذاب هو بالهجرة إلى فلسطين بل التخلص من العذاب والعنصرية كانت بالوعي – الفيلم يجب أن يعرض ويدرس كوسيلة ليستفيد منها فنانونا العرب بإصال صوتنا للغرب ليستفيدوا منها بصنع أعمال تجسد مآسينا ومعاناتنا بشكل واقعي ومؤثر جداً.

العمل كما صرح سبلبيرغ بالفيلم الوثائقي الملحق بالفيلم ليس فقط فيلم عن الهولوكوست هو فيلم عن العنصرية وما تفرزه وسعيه لتحقيق تلك النتيجة تعني إنه حين يصنع مثل هذا الفيلم لا يجب فقط أن يكون لليهود يجب أن يصل لكل الناس على اختلاف مللهم وأعراقهم سبلبيرغ نجح بذلك بامتياز وأجبر أي مشاهد مهما كانت ثقافته ودينه على التعاطف مع شخصيات العمل فلا عجب أن نراه دوماً في ريادة التصويتات السينمائية لأفضل الأفلام على الاطلاق على اختلاف عرقية المصوتين نجاح سبلبيرغ بتحقيق تلك النتيجة يتمثل في السر الذي كان يلجأ إليه دوماً في أعماله وهو الحرص على أن تكون الشخصيات في غاية الواقعية رغم إن الأحداث التي تجري حولها ربما غير واقعية، في قائمة تشاندلار يهتم سبلبيرغ بأن لا يعطي دور البطولة الرئيسي لشخصيات يهودية البطلان الرئيسيان هما نازي بولندي ونازي ألماني في المقابل فإن أغلب الشخصيات الثانوية هي يهودية واهتم سبلبيرغ بالتركيز على مجموعة منهم (زوجان شابان، حاخام، إمرأة وابنتها، فتى صغير، رجل أعمال مفلس وعائلته، محاسب، خادمة) شخصيات بتفاصيلها الإنسانية قريبة لأي مشاهد لا تختلف عنه بالشكل بالعادات بالتصرفات بالثقافة بالعواطف بالانتماء للوطن المقيمين فيه، شخصيات بريئة بحتة تريد أن تعيش حياتها بشتى الطرق وتحاول رغم تلك الكارثة أن تتأقلم مع العاصفة ولكن رغم ذلك تتعرض للإضطهاد والتصفية بشكل موحش غير مفهوم دون أن يكون هناك أي استثناءات لا لطفلة أو عجوز أو عاجز، الفيلم هو بلا أي شك أكثر الأعمال الغنية بالتفاصيل عن الحياة الاجتماعية داخل ألمانيا النازية بالأخص من حيث معاملتها لليهود ومحاولة أولئك التمس بأخر خيط للنجاة، تركيز سبلبيرغ على تلك الشخصيات العادية البريئة التي لا يمكن أن تشكل أي خطر على أحد وتصوير المعاناة التي تتعرض له وعدم إلقائه الضوء على الشخصيات المثقفة والسياسية ورجال الأعمال الذي كانت مؤامرتهم وصلاتهم الخارجية هي السبب التي دفعت هتلر لإتخاذ قرار إبادة اليهود لا يساعد فقط بإعطاء إنطباع البراءة والضحية على تلك الشخصيات بل لأن تلك الشخصيات هي فعلاً الضحية الحقيقة ولا تستحق أن تعاقب بجريرة غيرهم المسيئين من بني شعبهم .
العمل ربما هو أكثر الأعمال غنىً بالتفاصيل الحياتية للمجتمع زمن النازية يحرص سبلبيرغ على تصوير النازية وآثار فكرها الهادم على الجميع ليس فقط على منظومة سياسية بل أيضاً كأسلوب حياة اجتماعي حين نرى شاب صغير يسير أمام فرقة عسكرية نازية وفتاة تضرب اليهود الصخور ندرك إنه فكر يجب استئصاله لأنه لن يتوقف عند جيل معين وضحاياه لن يتوقفوا عند شعب معين وعندما نرى النازيين ينتقون اليهود ويركزون على اصحاب الاختصاصات الحربية والصناعية (وكل ما هو مفيد للمجهود الحربي) بينما حين يأتي مدرس للآدب و التاريخ وأخر موسيقي يتم استبعادهما وتحويلهما للتصفية كإشارة إلى عدم وجود أي أساس حضاري إنساني لتلك العقيدة النازية مجرد عقيدة حربية غازية مدمرة لأي حضارة إنسانية، في المقابل يركز العمل على محاولات اليهود التعايش في تلك المرحلة في زمن أصبحوا فيه ممنوعين من التجارة والشراء والبيع و تملك الأموال والعقارات نراهم يحاولون النجاة والتجارة من خلال مختلف الطرق كأي شعب يعاني ويحاول النجاة دون أن نشعر بتميز لليهود أو نظرة عنصرية بحقهم (رغم إن العمل من نواحي أخرى فيه إشارات غير مباشرة لدرجة المبالغة لأفضلية اليهود كقصة المهندسة اليهودية أو الحاخام المتسامح الماهر بعمله)، تحت حكم ظالم وعنصري كالنازية القتل ليس هو المعاناة الوحيدة ربما هو قمة المعاناة وربما هو الخلاص من المعاناة، سبلبيرغ يركز على إنه زمن النازية تعددت أوجه المآساة الطرد التهجير الإذلال الخوف المستمر من القتل والموت المترصد على الدوام فقدان الأمل بالمستقبل سلب الأموال والمعاملة كمخلوقات درجة ثانية كلها معاناة ومآسي عاشتها الشعوب غير الآرية زمن النازية ولولا سقوطها السريع لكان الهولوكوست انتقل من اليهود إلى غيرهم ربما نحن العرب (وللأسف نحن الآن نعيش الهولوكوست على يد ضحاياه السابقين).
سبلبيرغ تميز بهذا العمل بتصويره الصريح والقاسي لعمليات التصفية والعنف، التصوير المبهر الغني بالتفاصيل العنيفة الإجرامية لدرجة الصدمة مع ألوان أبيض وأسود  و حركة الكاميرا المرتجة ومؤثرات الصوت القوية ولغة الحوار البولندية على عكس باقي العمل الانكليزي اللغة تجعل المشاهد لا يشعر إنه يرى فيلم روائي مختلق بل عمل وثائقي حقيقي يصور جرائم وقعت حقيقةً وفعلاً تجعل المشاهد يلمس المآساة يشتم رائحتها يشعر بمدى الوحشية والخوف التي كانت تسود زمن النازية، سبلبيرغ الذي استمع لشهادات العشرات بل المئات من الناجين من الهولوكوست لطرق اختبائهم وأفاعيل النازية بحقهم قدم تفاصيل بغاية الأمانة والواقعية تعطي المشاهد صورة متكاملة لوصمة عار بتاريخ الإنسانية وقصة شجاعة – رغم كرهنا لليهود وعدائنا معهم ولكن لا نستطيع إنكار الحقيقية – لأناس وشعب قاوموا حتى اللحظة الأخيرة بوجه العنف والجريمة .
سبلبيرغ لا يصور العنف والجريمة كما ذكرت مجسداً بالقتل ولا يصور وحشية القتل مجسدة بالفعل بل ربما وحشية القتل نرى لها أبعاد ثانية من خلال الباقين الذين ينتظرون دورهم على لائحة القتل حين نرى بعد ترحيل جماعة من اليهود للإعدام ويقوم النازيين بتفريغ حمولتهم وامتعتهم ويفرزون ممتلاكتهم ويقوم بهذه المهمة موظفين يهود أحدهم يقوم بحرق صور عائلات بأكملها وآخر يجمع الاسنان الذهبية لمئات الضحايا ضمن مشهد مخيف جداً وشديد التعاطف والرثائية وبمشهد آخر حين يأمر النازيين الأسرى اليهود بنبش المقابر الجماعية وإخراج جثث آلاف اليهود وحرقها وتتحول عظامهم إلى رماد يهطل كثلج بين ضحكات النازيين وصراخهم المجنون، هذه المشاهد تنجح بتصوير الوحشية النازية المجنونة والخوف اليهودي الإنساني بطريقة استثنائية وغير تقليدية وقادرة على الوصول إلى أي مشاهد تؤلمه تلك الوحشية وتثير سخطه وخوفة ذلك الجنون النازي غير المألوف منذ غزوات الصليبيين والبربر المغول.
سبلبيرغ لم يجعل فيلمه يقتصر على تصوير جرائم النازية ولم يجعله مجرد عمل وثائقي عن يهود ونازيين هذه القصة العامة التي تستند على قصة فرعية خاصة شديدة الجمال، قصة أوسكار تشاندلار رجل الأعمال البولندي الذي ستغير تلك الحرب مصيره إلى مستوى لم يكن يتخيل أن يصل إليه، العمل يحوي قصة رائعة ومحبوكة عن تحول ذلك الإنسان من مجرد رجل وصولي إلى انتهازي إلى بطل إنساني حقيقي استطاع لوحده تحقيق فرق بحياة أمة وشعب كامل، تمهيد شخصية تشاندلار ممتاز جداً شاب جامح يحلم بالنجاح يحلم بتحقيق إنجاز بحياته شخص ذكي ماهر باغتنام الفرص ووجد بتلك الحرب المدمرة وبالاحتلال النازي لبولاندا فرصة لتغير مصيره، ذكاء ذلك الشخص وعلاقاته تساعدانه على الصعود إلى قمة المجتمع يستغل ضعف اليهود وأسرهم وطمع النازيين للمال والثروة ليصنع بينهم نجاحه، سبلبيرغ يصل على وصولية ذلك الإنسان و انتهازيته حين يجلس على طاولة واحدة مع النازيين لا يكترث لحديثهم عن مخططات لإبادة اليهود بل إنه لا يستمع لهذا الحديث أصلاً ما يهمه هو إرضاء ضيوفه على الطاولة بشتى الوسائل الدنيئة والرخيصة، حين يسعى إلى الاستفادة من أموال اليهود ليس بغرض مساعدتهم بل للاستفادة من وضعهم الحالي لصنع نجاحه وحين يحرص على أن يكون كل عماله يهود فذلك لأن رواتبهم أقل من رواتب غيرهم، ولكن سبلبيرغ مع ذلك يحرص على عدم صنع شخصية تشاندلار بشيطانية وسوداوية هي شخصية إنسانية بحتة مزيجة من التناقضات الجيدة والسلبية فبين علاقاته الحيوانية الشهوانية المستمرة هناك حب حقيقي لزوجته وبين طمعه اللامحدود ووصوليته الدنيئة هناك بذرة خير بداخله هو ليس شخص نازي حقيقي نازيته ليست سوى وسيلة لتحقيق النجاح هذا ما يدركه محاسبه اليهودي (إسحاق شامير) ويستغل ذلك حتى اللحظة الأخيرى لمساعدة شعبه بدءً من قصة العامل الاكتع ولكن التحول الحقيقي في حياة تشاندلار سيكون عقب مشاهدته بأم عينيه لمجزرة نازية بحق اليهود، سيشهد وحشية وعنف بحق أناس عاشرهم وأدرك إنهم ليسوا بذلك السوء الموصوفين فيه فكان تحوله إلى الطرف الآخر حيث ضحى بكل شيء وبكل نجاحه من أجل إنقاذ أرواح إنسانية التي هي أغلى من أي مادة أو ثمن أو سعر لأنه أي إنسان مهما كان أناني لا يستطيع أن يرضى أن يكون جزءً من هذه الجريمة إلا إذا كان وحشاً .
إلى جانب شخصية تشاندلار هناك الضابط النازي (أمون) سبلبيرغ يحرص على تصويره كشبيه لتشاندلار وصولي أيضاً وطموح وشهواني وأناني ولكن هذا الشخص على عكس تشاندلار منع لبذرة الخير أن تسيطر عليه أصر على أن يكون مجرماً ولكن مع ذلك تشعر إن سبلبيرغ بتصويره لذلك الشخص لا يصوره بشكل سلبي ووحشي بل بشكل إنساني كضحية أخرى من ضحايا النازية التي دمرت الإنسان داخله وحولته إلى وحش لا يرحم وفي النهاية تلقى عقابه بعد أن سنحت له الفرص العديدة ليتغير ولكنه أصر على وحشيته مضحياً بإنسانيته وبحبه لخادمته اليهودية هيلين هيرش.          
سبلبيرغ وضع بهذا العمل كامل خبرته الإخراجية وعبقريته السينمائية بل إنه اجتهد ليصل لمستويات فنية مبهرة، رغم إنه فيلم سيرة ذاتية وحربي تراجيدي ولكنه مبهر لدرجة تفوق أفلامه الخيالية كل العناصر الفنية بهذا العمل كانت متكاملة بدرجة رهيبة بدءً من نص ستيفن زيلان المحبوك والمتقن والمتعدد المحاور والمتكاملة درامياً ، موسيقى الرائع جون ويليامز ربما هي أفضل موسيقى تصويرية بالتاريخ يكفي أن تغلق عينيك وتستمع لها لتشعر بمرارة المآساة ووحشية الجريمة وتنجح تلك الموسيقى بالقيام بدورها (كما هي عادةً بكل عمل يقدمه ويليامز) بأن تكون جزءً من العمل وعنصراً أساسياً من عناصر روعته.
التصوير والإخراج الفني والأزياء والمكياج ومؤثرات الصوت على أعلى درجات الاتقان تعيد جو أوروبا الأربعينات بشكل متقن بل وأكثر من ذلك تعطي انطباع بالوثائقية والواقعية بالعمل، كيف لا والعمل صور أغلبه ببولندا والأزياء هي ملابس مستعملة من بولندا الأربعينات والثلاثينات قام سبلبيرغ بشرائها بمزاد علني.
لو كان لي وضع ترتيب بأفضل إنجازات المونتاج بالعمل لكان انجاز مايكل كهان بهذا العمل هو الثالث بعد أوديسا الفضاء والعراب2 هو لا يصنع فقط جمالية بتقديم القصة بل يمزج تلك الجمالية بالقيام بدور برواية القصة كتقديم نفسية تشاندلار الشهوانية من خلال مشهد مقابلته للسكرتيرات وتقديم التشابه بينه وبين أمون من خلال قطع الصور بينهما وهما يحلقان ذقنهما .
سبلبيرغ لم يكن متفوقاً فقط على الصعيد الفني بل حتى إدارته للمثلين كانت ممتازة ليام نيسين بدور تشاندلار يقدم أفضل أدواره محكم ومؤثر وعاطفي ناجح بأن يكون الشخص الوصولي الانتهازي والشخص الشهواني المحب للحياة واللذائذ، ناجح بتصوير التحول الإنساني وبتصوير الخير والتعاطف البشري، ناجح بأن يكون بطلاً يشعر بتأنيب الضمير لشعوره بالتقصير (ولو إن المشهد الأخير كان فيه شيء من المبالغة) الإنكليزي المخضرم بين كنزلي (الشهير بدور غاندي) يقدم أداء رائع جداً كان يستحق عليه الترشيح على الأقل والتكريم ينجح بإظهار ذلك الخوف والطيبة والذكاء والحذر والطموح والتفاني بشكل ممتاز جداً، رالف فينز قدم من خلال دور أمون أفضل أدواره كان يستحق عن الدور أوسكار أفضل ممثل مساعد فذلك التعقيد الدرامي الذي يقدمه بين الصراع الداخلي الذي يعيشه بين غريزة الطيبة و طموحه ومبادئه الخاطئة، يظهره كطفل يحمل لعبة أكبر منه طفل تشوهت مبادئه وميوله وتحول إلى وحش إنساني لا رحمة .

0 التعليقات:

إرسال تعليق