RSS

Avatar - 2009


(عندما أكون نائماً أرى أني أطير ثم استيقظ)


نور الدين النجار 

بهذه العبارة افتتح جيمس كاميرون رائعته الأخيرة أفاتار وكأنه يحضّر جمهوره لدخول بعالم خاص من الأحلام وقد صدق معهم بوعده هذا، من حضر فيلم أفاتار 3D  أو 2D  كان مجبراً ولكن عن طيب خاطر أن ينسلخ عن عالم الواقع ويدخل عالماً لم يكن يحلم بوجوده حتى بأحلامه، رحلة استثنائية مبهرة سيقوم بها إلى عالم آخر ... مجرة أخرى .... كوكب آخر ... ليعيش مغامرة استثنائية مبهجة للروح ... ليعيش الحب .... ليتحول إلى بطل .... ليكتشف قذارة العالم المادي ... ليعود إلى الطبيعة الحقيقية وجمالها ... جيك سولي لم يكن فقط سام ويذرستون كان كل مشاهد لامسته هذه التحفة وآثرت به وسرقته إلى عوالمها الخاصة .


أفاتار الفيلم السابع للأسطورة جيمس كاميرون وأعلى أفلامه تكلفة مما يعني أعلى أفلام السينما تكلفة، وأكثر أفلامه إيراداً مما يعني أكثر أفلام السينما ربحاً ... ثورة السينما الحقيقية الجديدة كمولد أمة و أضواء المدينة و مغني الجاز والمواطن كين وعربة تدعى الرغبة وأوديسا الفضاء وحرب النجوم وسائق التكسي وبولب فيكشن وماتركس .... هو ثورة السينما التقنية ... ثورة الـ 3D  ... فيلم جاء بنهاية العقد الأول من الألفية الجديدة ليفتتح عصر سينمائي جديد ... لينقل السينما إلى شكل تقني بصري أكثر إبهاراً وقوة وجمالية ... جيمس كاميرون لم يبتكر الصورة الثلاثية الأبعاد ولكنه أفضل من قدمها وأفضل من أعطاها دفعة لتصبح بريادة أساليب السرد السينمائي وسريعاً لاقت هذه التقنية القبول الجماهيري و النقدي ليتحول كبار صناع السينما إليها تيم بيرتن في أليس في بلاد العجائب سبلبيرغ وجاكسون في تان تان سكورسيزي في Hugo و سكوت في Prometheus
ولكن – ورغم الثورة التي فجّرها كاميرون بفيلمه الأسطوري هذا – فعظمة الفيلم لا تأتي فقط من هذه الجزئية ، عناصر الفيلم جميعها تدفعه ليكون بريادة الأفلام السينمائية بالتاريخ والتحفة الكلاسيكية الحديثة، أضخم فيلم منذ The Lord of the Rings وأكثرها متعة وقيمة، كاميرون المبهر بصورته وتقنياته لم يصنع فيلماً فارغاً أو مجرد فرجة مشوقة، بل صنع سينما حقيقية ولو لم يكن كذلك لما حافظ على إبهاره كـ 2D  وهو المصنوع 3D  ،  الإبهار ليس فقط في الصورة بل أيضاً النص وعلاقات الشخصية وتطور الأحداث كلها عناصر شكلت فسيفساء تحفة سينمائية حقيقية، قد لا يكون الفيلم بتعقيد وفلسفة تحف عظيمة كأماديوس ولا يقدم أداءات صاعقة كالعرّاب ولكنه ليس فارغ أبداً، يحوي فكرة عميقة ومهمة جداً ويحوي أداءات ممتازة وكلها متماهية مع طابع الفيلم كخيال علمي وممتازة ضمن هذا الصنف، لا يوجد هنا نص ضعيف أو فارغ ولا يوجد هنا شخصية هشة أو أداء رديء، هنا كل شيء ممتاز ومتناسب مع خيال علمي وأحياناً متناسب حتى مع فيلم درامي، الفيلم لا يجعل نفسه عرض ترفيهي بل يحمل قضية ويعبر عنها بقوة وينجح بإيصالها بقوة .
الفيلم هو حصيلة تجارب كاميرون ومغامراته السينمائية المجنونة ، هو سينماه الأصيلة، يمزج بين إثارة وملحمية Aliens  الفضائية مع عاطفية تايتنك ورومانسيته وخيال The Terminator  وجموحه، ويوازن بينهم ليصنع ملحمته الخاصة، ويصنع بها أحد أكثر تجارب السينما تشويقاً وعاطفية و أهمية فكرية ، يبدأ بأسلوبيته المعتادة كما في Terminator 2: Judgment Day و تايتنك بصوت الراوي (وهذه المرة هو شاب جيك سولي بأداء براق من سام ويذرستون) يشرح بها شخصيته ورحلته الخاصة، جندي المارينز المشلول الذي يتطوع للمشاركة بمشروع الأفاتار بكوكب باندورا بدلاً عن أخيه الطبيب الميت، مشروع الأفاتار يعني أن يتواصل مع جسد كائن فضائي هو (النافي) صمم لأجله خصيصاً من مزج بين حمضه النووي وحمض النافي النووي ليستطيع التواصل مع كائنات النافي المستطونة في أماكن تحوي ثروات باهظة تعادل البترول يريد سكان الأرض الحصول عليها لتكون مصدر طاقة جديد لهم يمد حضارتهم المادية الميتة بالقوة .
بعد دخول جيك سولي بجسد النافي ينجح بالتواصل مع شعبهم عن طريق ترينتي (زوي سالدان) التي تشعر إن آلهتم أيوا تريد لهذا الشخص الحياة وأن يتواصل مع شعبهم وتبدأ بتعليمه كل شيء، مديرة مشروع الأفاتار العلمي بريستين (سيغورني ويفر) يبهجها هذا التواصل لتنجح بإكمال مهمتها العلمية، وكذلك مدير الشركة (جيوفاني رايباس) وقائد فريق الحماية (ستيفن لانغ) الذين يريدون استغلال سولي ليتجسس لهم على شعوب النافي من جهة وإقناعهم بإخلاء الأرض والتنازل عنها وإلا سوف يتعرضون للغزو، وخلال هذا يكون لسولي مغامرته الخاصة فمع اكتشافه لعالم النافي وحضارتهم والعيش ضمن الطبيعة يبدأ باكتشاف ذاته واكتشاف عظمة هذا العالم، يكتشف إن هؤلاء النافي ليسوا كما صورهم البشر مخلوقات همجية متوحشة و باندورا ليس صورة أكثر رعباً عن الجحيم، هو الجنة بعينها والجحيم تلك المادية الباردة التي يعيش بها كوكبه وتلك الهمجية العمياء التي سكنت نفوس بني جنسه، سولي لم يلتحق بالبعثة لسبب عقائدي أو مبدئي أو لإيمانه بعمل الشركة، هو يريد العثور على فرصة ليصلح الشلل بعاموده الفقري وبقيادته جسد الأفاتار يحصل على قدمين ويزول الدافع لديه ويفتح نفسه نحو عالم النافي ومع تقبله وترحيبه بهذا العالم تبدأ علاقته العاطفية بترينتي تتطور وكاميرون يدفعها نحو التصاعد بشكل أنيق ومحكم ليصور لنا إن سولي عثر بهذا العالم على كل شيء يحلم به أي إنسان، التقبل ، الصداقة، الحب، القوة ، والأهم السلام الروحي، لينسلخ تماماً عن بني جلدته ويعتنق قضية شعوب النافي ويدافع عنها.
حبكة الفيلم مأخوذة بشكل واضح عن dances with the wolves    ولكن هذا الشيء ليس معيب ، كاميرون باقتباسه للقصة يقوم بعمل جبار بتحويلها لشكل خيال علمي ويظهرها بشكل أصيل وممتاز ولا يشعرنا أبداً إنها مستهلكة، فكرة كلتي يريد تقديمها في أفاتار لا يمكن أن تقدم سوى بتلك الطريقة، هنا كان يمكن أن يسقط نصياً ولكنه نجح بصنع التوازن المطلوب وضخ جرعة ناجحة من الخيالية من خلال فكرة الأفاتار غير المسبوقة ليظهر فكرة التحول والانعتاق والخلاص هنا أصيلة وغير مستهلكة،  هنا كاميرون يعطي دفعة عاطفية ورومانسية شديدة الجمال في عمله وبنفس الوقت يصعّد من جانب الإثارة حتى يطغى في الثلث الأخير دون أن يلغي دور العاطفة ويبقيها موجودة ولها دور هام بالعمل كما فعل سابقاً في True lies   و تايتنك، وبنفس الوقت ينجح كاميرون بإبداع بتقديم حالة الصراع التي يعيشها جيك سولي، ليست حالة صراع مبادئ فقط بل صراع كينونة بين بشريته وانغماسه أكثر بجسد النافي، يعيش بحالة انفصامية تتداخل فيها الأحلام مع الواقع ويبدأ يتساءل عن حقيقة هويته وانتمائه ويشعر رويداً رويداً بانسلاخه عن الجسد البشري وانتمائه أكثر للنافي ليس فقط جسدياً بل وفكرياً أيضاً، وهنا يعطي كاميرون بعداً آخر لفكرة المخلص التي قدمها سابقاً في رائعته The Terminator فهناك مخلصه جون كونور كان أيضاً بلا أب كون والده هو جندي مستقبلي عابر للزمن، هنا المخلص جيك سولي أيضاً بلا أب، فهو إنسان دخل جسد النافي وأصبح مخلصاً لهم كما قدمته الأساطير، هو ليس كذلك فقط بسبب دخوله الاستنثائي بحياة النافي بل لأنه الوحيد الغريب عن كوكب باندورا الذي أدرك ولمس مدى عظمة وقوة هذا الكوكب وهذه الحضارة حتى تخلى لأجلها عن كل شيء وضحى بكل شيء .
العمل مليء بالإسقاطات الفكرية العميقة يقدمها كاميرون من خلال نصه وصورته، فكرة العقلية العسكرية وتزاوجها مع العقلية الرأسمالية و استغلالها للعلم في سبيل الربح المادي وسيطرة فكرة القوة والسيطرة والعنجهية، وحشية الحرب ودمويتها وهدمها لكل معتقد روحي، قيمة الطبيعة الأم وجمالها في مواجهة الزحف الرأسمالي الاستعماري، شكل الاستعمار الحديث الذي أخذ لبوس الرأسمالية والشركات المادية للسيطرة على كل شيء وتدمير أي شيء يقف بوجهه مهما كانت قدسيته أو أهميته لأصحابه ، النص يفعل الكثير بهذا المجال وكذلك الصورة، الانتقال بين عالم البشر البارد المعتم وعالم بندورا المبهر المشرق الخلاب، اللحظة الأولى لارتداء جيك سولي لجسد النافي وانتقاله من حالة العجز إلى حالة الركض وكأنه يطير ثم لقائه مع الكولونيل الذي كان يرتدي البذلة العسكرية الآلية وكأن كاميرون هنا عمداً يريد أن يقارن بين الجسد الحي الذي ارتداه سولي والجسد الاصطناعي الذي ارتداه الكولونيل، تقديم شخصية مدير الشركة اللاهي العابث اللاهث وراء الرفاهية والماديات وظهورها الأول وهي تلعب الغولف ضمن المكتب، إعطاء الكولونيل أوامر القصف أثناء شربه للقهوة وعدم ارتسام أي انطباع بالذنب أو الندم عليه على عكس باقي الشخصيات.
عظمة نص أفاتار ليس فقط بالحبكة والأحداث والشخصيات وعلاقاتها وتطوراتها وصراعاتها وإسقاطاتها، بل أيضاً بصناعته لعالم بندورا، في أفتار ليست الصورة من تقود النص، بل النص هو من يقود الصورة، النص لا يمكن أن يقدم سوى بصورة كلتي شاهدناها، صناعة عالم كامل حضارة كاملة شعب كامل بكل تفاصيله، الملابس ، اللغة، التاريخ، الديانة، كاميرون استعان بكل ما نعرفه عن الحضارات البدائية ومزجه ليصنع شعب النافي ويصنع معهم عالم كامل مختلف بكل مخلوقاته وطبيعته بشكل شديد الإتقان والقوة، كل المخلوقات التي شاهدناها مرسومة على الورق قبل أن نراها على الشاشة وكصورة كاميرون يبدع بصناعتها ورسمها، كاميرون يستغل الميزانية التي تجاوزت الـ 300 مليون دولار ليصنع صورة متكاملة لا تشوبها شائبة يمزج بإبداع بين الصورة على الحاسوب والصورة الحقيقية ويقدم شخصيات الأفتار بشكل رائع وينجح بإظهار انفعالات الأداء وراء البذلة الكرستالية بشكل وافي جداً، الإخراج الفني بالعمل مبهر جداً والتصوير إبداعي والمونتاج يقوم بعمل عظيم وكذلك الموسيقى والأغنية ولا نحتاج للحديث عن قوة التقنيات والمؤثرات البصرية والصوتية التي كانت هي نجمة العمل الحقيقية وفي النهاية لا يوجد طبعاً أي ثغرة أو نقطة ضعف بصورة كاميرون.
جيمس كاميرون كما ذكرت يبدع برفع مستوى الإثارة بالعمل نحو الذروة، سيد سينما الأكشن من قدم روائع وثورات بهذا الصنف في The Terminator 1 -   2 و   True lies و Aliens  كان معتزلاً هذا النوع منذ عام 1994 ومعتزلاً السينما منذ أن قدم تايتنك عام 1997 متنسكاً باستديوهاتيه يعد لثورة أفاتار بمؤثرات وكاميرات تصوير ابتكرها بنفسه، خلال غيابه هذا – عن ساحة الأكشن - خلال السنوات الخمس عشر حتى أفتار لا يمكننا سوى أن نقول إن ساحة هذا النوع خسرت الكثير، رغم اجتهادات بيتر جاكسون وكريستوفر نولان و الأخوة واتشوكسي ورغم وجود لمسته خلال أعمال من لحقه من مخرجي الحركة، ولكن بدون كاميرون هناك دوماً شيء مفقود، إخلائه الساحة لمخرجين مثل رونالد اميريتش و مايكل بي سبب شيء من الانحطاط والتفسخ للحركة والخيال عبّر عنه كاميرون نفسه بمقابلاته ، هنا كاميرون يعود ليقول كلمته، المخرج الذي كان ينتظر منه الجمهور أن يقدم جزء ثاني لرائعة الأكشن True lies وامتنع عن ذلك لأنه حسب قوله (الإرهاب لم يعد مزحة نسخر منها بعد 11 أيلول) أو أن يقدم جزء ثالث من The Terminator ولكنه اكتفى بالإنتاج لأنه لم يعد هناك شيء يغريه بالسلسلة وهناك مشاريع أهم في جدوله ، كاميرون هنا يغزو الفضاء ويقدم صراع بين المجرات بشكل شديد السوداوية بعيد عمّا رأيناه من وردية في ستار تريك و ستار وور ويقلب الصورة فلا يكون هذه المرة البشر هم الضحايا بل الجناة، ولكنه وكما عودة يرضي عشاق الحركة والخيال ويشبعهم حتى الثمالة، كل ما يحلمون به سيعثرون عليه، عراك طائرات عسكرية مع جيوش من الطيور المتوحشة، اشتباك فضائيين مع رجال آليين، هجوم حيوانات عملاقة على مدرعات عسكرية، عراك بالأسلحة، عراك يدوي، اشتباكات جيوش، إلتحامات ومعارك ملحمية، في الثلث الأخير من عمله يقدم كاميرون ملحمة أكشن حقيقية مبهرة ومشوقة جداً بكامل تفاصيلها لم ترى السينما مثلها منذ معركة حصار غوندور في سيد الخواتم .
جيمس كاميرون مع كونه عبقري في الصناعة البصرية وممتاز ككاتب نصوص هو أيضاً مدير ممثلين ناجح، الألماني الشاب سام ويذرستون حوله كاميرون – كما فعل سابقاً مع أرنولد شوارزنيغر و ليوناردو دي كابريو وكيت وينسليت – إلى أحد نجوم الصف الأول في السينما وقد قدم بدور جيك سولي أداء خلّاب وممتاز جداً ومن شدة إعجاب كاميرون بما قدمه رشحه لدور ماركوس في الجزء الخامس من The Terminator ، زوي سالدان التي ظهرت عام 2009 في فيلم خيال علمي آخر ممتاز هو Star Trick  لجي جي إبرامز تأتي بعد ليندا هاميلتون و سيغورني ويفر كنجمة كاميرون العنيفة الجديدة وكما كانت سابقاً هاميلتون وويفر ومعهما جيمي لي كورتيز ووينسليت فهي تقدم ريادة الأداء النسائي والأداء الأكثر مديحاً في فيلم كاميرون ، سيغورني ويفر نجمة فيلم كاميرون الشهير Aliens  تقدم دوراً هاماً وممتازاً ، ستيف لانغ يقدم دور رائع كالكولونيل مايلز، يعبر بقوة عن العقلية العسكرية الاستعمارية المتطرفة الوحشية الغازية، جيوفاني رايباس يقدم أداء جيد، وكذلك ميشيل رودريغز ، وبالنهاية كاميرون يقدم فعلاً الفيلم الذي طالما هو وعشاق السينما حلموا به .

10 / 10 فيلمي المفضل لعام  2009       

0 التعليقات:

إرسال تعليق