RSS

barton fink - 1991



نور الدين النجار
ألتصق اسم فيلم بارتون فينك للأخوة إيثان وجويل كوينز بأحد أشهر فضائح مهرجان كان السينمائي، هو من الأفلام النادرة التي خرجت بثلاث جوائز رئيسية عام 1991 (أفضل فيلم ومخرج  وممثل) ولم يكن للفيلم ذنب في هذه الفضيحة سوى انتمائه لسينما المخرج البولندي رومان بولانسكي رئيس لجنة التحكيم، والذي صعقه تمكن صانعي سينما شابين من اختزال كل موهبته و أسلوبيته ورؤيته للسينما في فيلمهما الرابع وهما لم يبلغا من العمر الأربعين، مما جعله يتبنى الفيلم ويدافع  عنه بشدة بل ويبالغ بالثناء عليه وكيله بالجوائز – لإدراكه إن فيلم كهذا من الصعب وصوله لمنصات التتويج الأمريكي وكان هو فرصته الوحيدة - لدرجة زائدة رغم إدراك كل من شاهد الفيلم استحقاقه التكريم والتقدير.


هذا العمل يمثل الانطلاقة الحقيقية للكوينز ، بعد أن بدءا بالعمل في السينما بحقل المونتاج وحققا نجاحاً مع أفلام سام ريمي الأولى في الثمانينات اتجها للكتابة والإخراج الخاص، تقاسما كتابة السيناريو بينما تولى جويل الإخراج وإيثان الإنتاج قبل أن يصبحا مشتركين بكل شيء معاً في نهاية التسعينات، لفتا الأنظار إليهما سريعاً بفيلمها الأول (Simple Blood ) عام 1986 – بطولة زوجة جويل وشريكته بأهم نجاحاته فرانسيس ماكدورماند – الذي يمثل ذروة أفلام النوار الحديثة، وصنعا به أسلوبهما الخاص برسم الشخصيات و الحوارات ونسج العلاقات وتطورات الأحداث المنطقية وغير المنطقية والأجواء البصرية والمكانية الخاصة وإغراق العمل بعنف متفجر صادم وكل هذا وأبقائه ضمن إطار لا يتعدى الواقع ولو قيد شعرة.
بقي فيلم (Simple Blood ) هو النجاح الأهم لهما حتى عرضا بارتون فينك الذي وكما اعتادا غيرا بالنوعية ولكن حافظا على نفس الأسلوب، هنا لسنا أمام فيلم نوار متفجر عنيف، هنا نحن أمام كوميدية سوداء خالصة ، هو غزوتهما الحقيقية للعالمية وفرض اسمها على الساحة استطاعا أن يخطفا أفضل فيلم بكان – في زمن هيمنت فيه السينما الأمريكية على السعفة الفرنسية بعد ستيفن سودربيرغ عن جنس أكاذيب وشريط فيديو 1989 و ديفيد لينش عن وحشية في القلب 1990 ولاحقاً كوينتن تارانتينو عن بولب فيكشن 1994– يأتي فيلم الكوينز ليمثل قمة السينما المستقلة الواقعية المخترقة للعالمية، هو ليس فقط فيلم الكوينز بأسولبيتهما السينمائية الخاصة أنت لا تستطيع أن تمنع روح عباقرة صناع السينما المستقلة في السبعينات والثمانينات من أن تراودك وأن تشاهد العمل، سخرية وودي ألين من هوليوود وصناعة السينما التجارية فيها وتحويلها الفن إلى سلعة تجارية تفصل على مقياس طلبات المنتجين ، وشكل بارتون فينك المماثل تقريباً لشكل بطل ديفيد لينش في تحفته الأولى (رأس المحماة) والأزمة التي يعيشها اصطدام الإنسان العادي بسلسلة من الحوادث والمواقف والشخصيات غير المنطقية المنسلخة عن الواقع، ضمن أجواء رومان بولانسكي الخاصة وأسلوبيته، مخاوف الإنسان العادي الغريب المقتحم لبيئة جديدة ، المعزول في عالم ضخم ، الإنسان الوحيد الخائف التي تسيطر عليه مخاوفه وشكوكه وتخلق من الواقع وحوشه الخاصة و مخاطره الخاصة غير الواقعية وغير الموجودة سوى بعقله، أسلوب أبدع به بولانسكي في نهاية الستينات والسبعينات بأفلام عديدة كـ(المستأجر) و (نفور) وحتى (طفل روزماري) هنا الكوينز يعيدان ألاعيب بولانسكي بإخلاص شديد وعلى نفس سوية الإبداع والقوى ولكن – وهنا مصدر قوى عملهما هذا – يحافظان على هويتهما الخاصة وأسلوبيتهما الخاصة  لا ينسلخان عن سينماهما الأصيلة وما يفعلانه هو فقط اقتباس للروح تأثر بأسلوبية معينة لمخرج عظيم .
ككل أفلام الكوينز الشخصية الرئيسية مسحوبة من الواقع تماماً ليست غريبة عنه وتقحم ضمن أجواء وسلسلة من الأحداث الواقعية ولكن عقدة الشخصيات وأجواء العمل تصورها على إنها سريالية بحتة، لا يوجد شيء بالعمل غير منطقي أو غير واقعي ولكن روح السريالية فيه تبدو غامرة ليس من باب الإستعراض الإخراجي ولكن مخاوف وعقد الشخصيات الداخلية هي من تصورها بهذا الشكل السريالية والكوينز يبدعان بتصوير العمل من المنظور الداخلي للشخصية الرئيسية، بارتون فينك الكاتب المسرحي الشاب الذي يحقق نجاحاً ضارباً في نيويورك يجعله محط حديث الصالونات الثقافية فيها ينتقل إلى هوليوود مرغماً تحت تأثير وكيل أعماله ليعمل على كتابة نص سينمائي لأحد المنتجين الناجحين المتاجرين بالفن بعيداً عن صنع أي قيمة فنية، فينك ينتقل إلى هناك كمحطة ليصنع لنفسه اسم شهير و يجني بعض المال ليعود ويحقق مسرحه الخاص، ولكن يسطحب معه الخوف من تلك المدينة الخطيرة التي تحطم المواهب وتقولبها لتصبح أداة صناعية تجارية لا مصدر فن وأفكار، بارتون فينك يريد أن يكتب عن الإنسان العادي – وهو إنسان عادي جداً – ولكن المنتجين يريدون صنع فيلم مسلي عن المصارعة ليدخل فينك بمأزق فني إبداعي ويضيع ضمن هذه المدينة الضخمة التي لا يراها سوى مصح كبير للمجانين فيرى كل الشخصيات مجنونة بالكامل ومعتوهة رغم إن شخصياته شديدة الواقعية، وسلسلة من الحوادث معه تشعره بشيء غريب واختلال بواقعية الأحداث رغم إنها منطقية بالكامل ولكن الصراعات بداخله طبيعته الشخصية مخاوفه الخاصة تصنع له عالماً سريالياً غير منتم للواقع أبداً.
الكوينز يبدعان بالعمل على سريالية الأحداث، لا يوجد هنا أي مشهد خوارقي خارج عن الطبيعية، كل الأحداث هنا واقعية بالكامل ولكنهما يغمران العمل بالروح السريالية الخاصة المنبعثة من داخل شخصية بارتون فينك، يشعراننا بأن هناك شيء غير مفهوم، شيء خارج عن المألوف يوشك على الحدوث، رغم إن كل مانراه أمور بغاية المنطقية والعادية، يمارسان ألاعيب وحيل إخراجية خاصة بهما ومبهرة بتحويل أدق وأكثر الأمور بساطة وتفاهة إلى تحدي لا طبيعي تواجهه الشخصية حتى لو كان تمزق ورق الجدران  على الحائط  أو صوت ممارسة الجنس من الغرفة المجاورة لغرفة البطل.
الشخصيات هنا لا تحتاج لأي تقديم أو تمهيد ولكنها مع ذلك شديدة القرب والوضوح للمشاهد ويعرفها جيداً، شكل الشخصيات وملابسها ولغتها بالكلام و أسلوبها بالتعامل مع المحيطين بها وأسلوب الممثل بأدائها يجعلنا نحيط بها بالكامل ونفهمهما دون أي لبس أو غموض، الأحداث هنا لا تحتاج أيضاً إلى تمهيد أو تبرير أنت لا تتساءل لماذا حدثت بل تتقبل حدوثها طواعية لأنها من نوعية الحوادث اليومية العادية، حدثت لأنها يجب أن تحدث، لا يوجد تحولات أو تطورات غير مفهومة أو مفاجأة ، كل شيء يسير ضمن النسق اليومي للعمل وأكثر الأحداث غرابة أو مفاجأة – كجريمة القتل المفاجأة هنا – ستقبل بها لأنك أصبحت على دراية كاملة بالشخصيات وحالتها العقلية ومتقبل لنوعية الأحداث ومتماشي مع تطوراتها، المشاهد لن يتوقع أو يخمن أبداً أن جريمة القتل ستحدث ولكن حين تقع سيتقبلها بالكامل وحين يكتشف جانيها سيتقبل ذلك أيضاً بعد أن يكون قد تعرف عليه تماماً خلال بداية العمل.
العمل مليء بالرسائل عن الأزمة النفسية والفنية للكتاب، عن ضياع الإنسان العادي في مجتمع موحش، عن الحقيقة المجنونة وراء الشخصيات العادية والشهيرة، عن تقاليد الصناعة الهوليوودية وانحطاطها، الكوينز يمرران رسائلهما ضمن ثناية فيلمهما البصري التجريبي بالكامل إلى حد ما، لا يفصلان بين السينما كفن والسينما كرسالة وهما بذلك يمثلان ذروة السينما المستقلة العظيمة، العمل بغاية القتامة ولكن مع ذلك أنت لا تستطيع سوى الابتسام مع مراقبة مآزق الشخصية الرئيسية متابعة الحوارات الممتعة جداً التي يبدع الكوينز بنسجها أما بصرياً فهناك نوع من التكثيف البصري الممتع هنا وأجواء بصرية قاتمة يعرف الكوينز كيف يصنعانها بأصالة وكيف يجعلانها ركناً من الأركان الرئيسية لنجاح العمل، الأداءات بالعمل شديدة الصلابة والإتقان رغم الاعتماد على طاقم شبه مغمور (جون تورتورو ، جون غودمان ، مايكل لارنر ، جون ماهوني ، جودي ديفيس، توني شلهوب) العمل بعد أكثر من عشرين سنة على صنعه ما زال يرمي بظلاله على جميع أفلام الكوينز بالأخص مع كونه العمل الذي جسد كامل أسلوبيتهما ومذهبهما الإخراجي الخاص رغم كونه ليس أفضلها، ستشعر به في فارغو و لابوسكي الكبير ولا بلد للعجائز و رجل جاد فهو يقدم ما يبدع الكوينز بتقديمه أزمة الإنسان العادي وسلسلة من الحوادث اليومية العادية ولكنها معروضة بشكل غير عادي أبداً لأن الكوينز دوماً لا يكتفيان فقط بتقديم الحدث بل بتقديم أسبابه وخلفياته، هذه هي بكل بساطة سينما الكوينز وبارتون فينك هي خير دليل عنها .
9 / 10  

0 التعليقات:

إرسال تعليق