RSS

The Dark Knight Rises - 2012



نور الدين النجار

-         أنا لا أخاف من الموت
-         ربما هذه هي نقطة ضعفك ... يجب أن تشعر بالخوف ...
-         يجب أن أشعر بالخوف من الموت ... من أموت قبل أن استطيع إنقاذ غوثام ...
قيامة فارس الظلام ... مشروع كريستوفر نولان الأضخم والأهم في مسيرته على الإطلاق، والمغامرة الأكثر خطورة على الإطلاق، فيلم لا يحتمل أنصاف الحلول إما أن يحافظ على موقع نولان في نخبة المخرجين المعاصرين أو أن يشكل سقطة مؤلمة في مسيرته المشرقة ، فنولان حقق شيء لم يستطع سوى قلة من النخبة القيام به قلة تضم كازان لين كوبولا وكوبريك و كاميرون وسبلبيرغ وهو الوصول إلى القمة مرة ثم الرسوخ عليها مجدداً بعد أعوام قليلة والشروع بعمل آخر يثبته عليها، عمل ضخم قد لا يحتمل ثقله ويهوي به أو قد يكون ذكياً ويستطيع التوازن والنجاة وهو يلعب دور أطلس ويسند الكرة الأرضية على كتفيه، كازان فعلها بمتاولية عربة تدعى الرغبة وفيفا زاباتا و على واجهة الماء وشرق عدن و لين فعلها بلورانس العرب ودكتور زيفاكو ، كوبريك فعلها بدكتور سترينجلوف و أوديسا الفضاء والبرتقالة الآلية وباري ليندون وكوبولا فعلها بعرابيه و محادثة والقيامة الآن و سبلبيرغ فعلها بجوس ولقاءات النوع الثالث و أنديانا جونز وأي تي وكاميرون فعلها بالمبيد واليانز وأكاذيب حقيقية وأعماق وتايتنك وأفتار ، والآن ها هو خليفته سيد الأكشن والخيال العلمي المعاصر ، مهووس الكوميكس و المغامرات مجنونة ، البريطاني كريستوفر نولان حلق مع فارس الظلام وضاع في دهاليز العقل ثم خرج منها مع البلايين ليصنع  قيامته الخاصة ويقود وطواطه العملاق في رحلة عظيمة نحو الضوء من عمق حفرة الظلال .


لماذا هو مشروعه الأضخم والأخطر؟ لأن الرجل بكل بساطة قدم في فارس الظلام شيء لا يمكن تكراره أو تقليده، لم يترك شيء يمكن من خلاله أن يستغله ليصنع فيلم كوميكس عظيم إلا وقام به وحقق ما لم يستطع أي فيلم كوميكس تحقيقه ليكون الظاهرة الأهم عام 2008 ولم ينقصه شيء سوى التتويج بالأوسكار ولكن حتى الترشيح في الجوائز الرئيسية لم تكن من نصيبه، نولان عوضها بعد عامين ولكن هذه المرة عن فيلم أكشن خيال علمي لم تشهد السينما نظيراً له ، حقق كل ما استطاع فيلم فارس الظلام تحقيقه مع ترشيحات لأفضل فيلم وسيناريو في الأوسكار، وبعد عامين عاد نولان مجدداً بأسئلة عديدة، هل ما زال هناك شيء لم يقدمه في فارس الظلام وبداية الرجل الوطواط يريد تقديمها الآن، هل استنفذ الساحر كل خططه وحيله أم ما زال هناك المزيد؟؟، هل سيعيد السير على خطوات نجاحات قديمة أم سيبتكر شيء جديد؟؟، المشروع محفوف بالمخاطر، رجل قدم روائع بحجم باتمان يبدأ وفارس الظلام و تأسيس لا يمكن أن يقبل منه الجمهور شيء عادي بالأخص هنا نحن لا نتحدث عن مشروع اعتيادي، ليس مشروع مستقل كتأسيس بل تتمة وخاتمة مغامرة الوطواط العملاق التي عشنا معها على مدى سبع سنوات  وخضنا معه رحلة البحث عن الذات وعن قيمة البطولة والحياة والعدالة والشجاعة الحقيقية من عمق كهف الوطوايط إلى أعالي ناطحات سحاب غوثام، هل ما زال هناك مستويات أعلى سيحلق بها نولان مع وطواطه، هو يحتاج لطائرة ليشرف على مدينة غوثام من أعلى وليحلق بها نحو ضوء الخلاص وقد قدم هذا السلاح لبطله الذي تخلى عن كهفه لروبين و عن دراجته لسيلينا ولكن الأمر ليس مجرد طائرة، بل كيف سيقود هذه الطائرة و الرجل الوطواط خاض أفضل تحليق بتاريخ السلسلة ليصعد بها إلى مستويات أعلى وأسرع مما نتخيله، ، الرجل الوطواط لا يعرف سوى التحليق عالياً ونولان أفضل من يوجهه واستطاع معه أن يختم هذه الرحلة المجنونة ويصنع أفضل ختام لسلسلة سينمائية منذ عودة الملك .
نولان كان قريباً جداً ليلقى سقوطاً أسرع من سقوط فيليكس هو ترك الكثير من الأسئلة والعقد مفتوحة في نهاية الجزء الثاني ليبني عليها خيوط الجزء الثالث والخوف كان من استطاعته أن يجل حلول وخواتيم على مستوى التحديات السابقة، التحدي الأهم كان بعدو الوطواط الجديد، الجزء الثاني لقي ما لقيه من نجاح وعظمة بفضل ذلك التحدي الاستثنائي الذي واجه الوطواط من خلال الجوكر (مع عدم إغفال جوانب عظيمة الفيلم الأخرى ولكن مهما قلنا فالفيلم بالدرجة الأولى كان فيلم الجوكر) من هو العدو الذي سيستطيع أن يكون خليفة الجوكر، بعد أن دارت شائعات عن استمرار الجوكر بالجزء من الجديد من خلال ممثل آخر خليفة للراحل هيث ليدجر ومواقع الأنترنيت اقترحت دي كابريو أو جود لو أو جوني ديب للدور وحين تم إعلان خبر دخول جوزيف جوردن لوفيت للمشروع طالب به الجمهور كخليفة لليدجر بالأخص من حيث الشبه بينهما، قسم آخر من الجمهور لم يريد رؤية الجوكر بدون ليدجر فطالب بعشيقته المنتقمة المجنونة ماري كوين بل وانطلقت شائعات استحواذ مايلي سايرس على الدور، عشاق ديب أصروا على أن يكون معبودهم موجود ومهووسي أنسيبشن أرادوا نجمهم دي كابريو في الفيلم وأعطوه دور أحد أكثر أعداء الوطواط خطورة في روايات الكوميكس صاحب الأحاجي الذي أداه سابقاً جيم كاري في فيلم (batman forever)، ولكن كل الشائعات لم تكن مصيبة سوى بشيء واحد وهو إن المرأة القطة ستكون موجودة وحققت أني هاثاوي حلمها أخيراً بأن وقعت على العقد لتجسيد الشخصية، ثم جاءت الصدمة الحقيقية عدو الرجل الوطواط الجديد هو العملاق باين مع احتمال عودة راس الغول أو ابنته تاليا.
باين كانت أولى صدمات المشروع النولاني، هو أقل أعداء الوطواط شعبية وأقلهم تعقيداً وأهمية وخطورة لا  يميزه سوى عقليته الدموية وبنيته العضلية الصخرية التي جعلته في كتب الكوميكس و المسلسلات التلفزيونية التحدي البدني الأصعب على باتمان ولكن بدون أي لمسة حقيقية، هو لا يملك رمزية الفزاعة بالنسبة لبروس واين ولا تناقضات ذو الوجهين ولا جموح الجوكر ولا أهمية راس الغول بالنسبة لماضي الوطواط، نولان أعلن إنه اختار باين هذه المرة للتجديد، الجوكر كان التحدي العقلي الأصعب على الوطواط وباين هو التحدي العضلي الأصعب عليه ، وجود المرأة القطة و باين هو الشيء الوحيد الذي صرح به نولان وتكرّم بتصريحات آخرى عن ارتباط هذا الفيلم ببدايات الرجل الوطواط وإن راس الغول موجود في صلب الأحداث وإن العمل هو أضخم فيلم منذ أن أصبحت السينما الناطقة وهو الفيلم الأخير الذي سيخرجه عن الوطواط (وربما آخر فيلم سيجرأ أحد على الإطلاق أن يقدمه عن الوطواط) وكعادته نولان حافظ على الضبابية والغموض بقصته وموضوعه وخاتمته التي لم يعلم بها سوى القلة من صلب العمل تاركين المجال واسع للشائعات (موت الوطواط اكتشاف حقيقته انتصاره اختفائه) وحتى لحظة العرض الأول للعمل لم يعلم أحد شيء عمّا ستئول إليه الأحداث ومصير نولان معها، ولكن في النهاية لم يخيب كريستوفر ظن أحد وصنع تحفته الثالثة خلال أربع سنين وقدم كل ما تمنى الجمهور رؤيته وتوقع أن يراه.
الفيلم الأول كان فيلم الوطواط كيف نشئ من عمق الظلام، الفيلم الثاني كان عن الجوكر الشر الجامح الخارج عن أي نطاق أو قيد وعن الخيارات المستحيلة التي تواجه الإنسان في رحلته لفرض مبادئه، الفيلم الثالث هو فيلم بروس واين، وهذا الأهم، فيلم الإنسان الحقيقي وراء قناع الوطواط، السلسلة بأجزائها السابقة كانت تتحدث عن الإنسان وراء الثوب الخارق ولكن هذا الجزء أكثر جزء قاربه ولامسه، أكثر جزء اقتحم أعماقه، الرجل الوطواط ليس بطل خارق ليس مخلوق من كوكب آخر أو آله أسطوري أو طالب تم التلاعب بجيناته، هو النظير السوداوي لتوني ستريك، إنسان يريد أن يصبح خارق ليحقق بيديه العدالة التي لم يستطع المجتمع تحقيقها ، رجل مستعد لتقبل كل اللوم، كل الأذى كل الاضطهاد أي تحدي يمكن أن يرمى في طريقه، بروس واين استطاع أن يكون هذا الإنسان بالجزء الأول وواجه تحديات لم يكن يتخيل وجودها بالجزء الثاني خرج بأقل الخسائر الممكنة رغم خسارته الكثير على الصعيد الشخصي ولكنه استطاع تحقيق غايته، الجزء الثالث هنا نرى الوطواط أو بروس واين في قمة عزلته وقد تخلى عن كل شيء أقنع نفسه وأقنع شريكه المفوض غوردن بنصر كاذب حققوه حتى تنتصر الفكرة التي دافعوا عنها، الفكرة انتصرت، الجريمة المنظمة انتهت واختفت من غوثام والمدينة عثرت على ملهما، ولكن إحساس بوجود خطأ بقي يؤرق كلاهما، النصر الذي صنعوه مجرد كذبة وهذا السلام مجرد وهم لأنه بني على كذبة، كيف يمكن لفكرة وجود ملهم الخير أن تتحقق إذا كان الرمز ذو وجهين ومسخ شرير فاقد صوابه، هذا الإحساس المتعاظم بالخطأ مع فقدان القيمة عند كل من غوردان وبروس واين جعلهما ينتظران عاصفة يعلمان إنها ستحل يوماً ما بل وينتظرانه لتحطم هذا السلم الهش، لتعيد الحرب مجدداً وليعودا معها مجدداً إلى صدارة الساحة التي خسراها في زمن ليس زمنهما – زمن السلم – وليصلحا خطأها القديم ويصنعا نصر حقيقي يرضان به عن نفسيهما يضمدا به جراحهما القديمة وينقذا الفكرة التي ناضلا من أجلها طويلاً.

العاصفة تحلّ نذرها حين تسطو سيلينا كايل على قصر بروس واين المعتزل عن العالم منذ ثمان سنين ولكن ليس فقط لتسرق مجوهراته الثمينة بل لتسرق بصماته، أثناء هروبها تختطف سيناتور عجوز شبق وحين تدخل الشرطة في مطاردة لإنقاذه يعثر غوردن على جيش كامل يتحضر تحت الأرض ويستعد للنهوض والسيطرة على المدينة، هذا الجيش يقوده باين أحد مرتزقة الحرب الذين لا يحملون أي رحمة أو شفقة المنبوذ حتى من عصبة الظلال – عصبة راس الغول – والذي يستعد ليعيد الاعتبار للمنظمة التي دمرها باتمان ولينتقم لمعلمه راس الغول الذي قتله تلميذه النجيب بروس واين، بروس واين يبدو محاصراً بين الخطر الذي ينمو تحت قدميه ووجود داغيت منافسه الثري الذي يريد تدميره تجارياً والاستحواذ على أمجاده وأمجاد عائلة واين المالية، داغيت هو من أستأجر باين ليساعده على تحطيم واين ولكن في الحقيقة داغيت ليس سوى أداة بيد باين ليحقق انتقامه تدمير بروس واين وتدمير الوطواط في نفس الوقت، تحطيمه على كل الصعد.
الفيلم كما أعلنه نولان أكبر من فيلم كوميكس بل ملحمة سينمائية حقيقية، الملحمة لا يشترط أن تكون عاطفية أو حربية أو تاريخية، يمكن أن تكون كوميكس و نولان يثبت ذلك، الملحمة تكمن دوماً من تعقيد العلاقات بين الأبطال ، تعقيد الشخصيات، تصاعد الأحداث وتطوراتها، احتواء العمل على أفكار ضخمة على كوادر إنتاجية ضخمة على فنيات ضخمة، ونولان يقود عمله ليكون الملحمة المنتظرة للكوميكس، هو ينجح بذلك حين يلامس بشرية البطل الخارق بشكل لم يسبق حتى له أن قام بذلك، بروس واين يعيش بعزلة لثمان سنين يؤرقه فشله يؤلمه فقدان من أحب ويتنازع هذا بداخله مع شعوره المتعاظم بعدم قيمته وعدم حاجة المجتمع له بعد اختفاء الجريمة ، وحين يبدأ يحيط بخيوط المؤامرة حوله وتفوح روائح ظهور باين يبدو وكأن طاقة من الحياة انفجرت بداخله ليعود مجدداً ويعود وطواطه ليظهر ويعوض ما فاته بالماضي، يحقق ثأره لريتشيل وهارفي وللفكرة التي ماتت معه، وحوله ألفريد خادمه المطيع ومربيه القديم يحاول ثنيه عن عزمه، ذاك يدرك إن بروس كبر بالسن والتحدي المطروح أكبر منه، يدرك مدى الآلام التي يعيشها (الشخص الوحيد الذي يهتم لأمره) ويحاول مساعدته، يظهر له مساعدته بالطريقة المعتادة من خلال نصائح سريعة ولكن حين يدرك إن الأمر ليس بالسهولة المعتادة وإن خطر حقيقي يحيط به يصبح أكثر قسوة معه، يريه الأمور على حقيقتها ويرجوه أن يبقى بعيداً، يظهر له إن هناك وسائل أخرى لإنقاذ العالم غير ارتداء القناع ولكنه لا يستطيع إيقافه، فبروس امتزجت شخصيته بشخصية الوطواط وضاعت فيها فلم يعد يستطيع أن يكون موجوداً دون الوطواط لم يعد يستطيع أن يعيش سوى من خلاله، ليست الحاجة فقط للبطولة والمغامرة ولكن ارتباط الوطواط بماضيه بمخاوفه بأحقاده وثاراته التي لم تشبع بعد، هو لن يستطيع أن يكمل حياته بشكل طبيعي دون أن يثأر لوالديه ولريتشيل دون أن يحقق نصر حقيقي دون أن يثبت فكرته ويتجاوز مخاوفه، الانتصار كان يعني لبروس أن تعود ريتشيل له وأن يكمل حياته كأي إنسان طبيعي، ولكن ريتشيل ماتت والأسوأ أن موتها في نظر بروس كان بلا طائل وبروس رغم انتصاره الوهمي على الجريمة لم يعد يستطيع مواصله حياته، ألفريد يخبره إن ريتشيل لم تكن تريد العودة له حتى لو انتصر على الجريمة وانتهى من قضية الوطواط، مما يجعل الأمر لبروس أكثر تعقيداً ويرى الأمور من منظر آخر، ويصبح موضوع دخول المواجهة مع باين موضوع انتحار ووسيلة مشرفة لمغادرة العالم، لم يعد لديه شيء مهم ولكن وجود ميريندا سيلينا وبيليك حوله ثم هزيمته ووقوعه في سجن الحفرة يعيدان لبروس التفكير بخياراته كاملةً.
دخول سيلينا كايل وميريندا تايت في حياة بروس يأتي بتوقيتات ممتازة ليكملا دائرة الصراع في حياته كلاهما يجذبا بروس نحول جانب معين، ميريندا تبدو كصورة أخرى عن ريتشيل وسيلة لعودته للحياة الطبيعية مع رؤية فرصة لإنقاذ العالم من دون الوطواط، سيلينا تبدو تخاطب الجانب الوطواطي بداخله وتداعبه، تبدو كنظيرته التي ارتدت القناع مثله لمواجهة ظلم العالم ولكنها تعمل بالطريقة الخطأ وبالاتجاه الخطأ وتحتاج للتوجيه، وبيليك هو نافذة الأمل بأن فكرة الوطواط صحيحة ويمكن تحقيقها ، هذا شخص ألهمه الوطواط وبروس واين في نفس الوقت هو شخص أعاد لواين إيمانه بمبادئه السابقة وإنه يمكن أن يعوض كل ما ضيعه، ويعامله كخليفة له، يشرح له فكرة القناع وضرورتها، و رغم إن نولان لا يصرح بمصير بيليك حتى المشهد الأخير ولكن الجمهور مدرك جيداً من هو بيليك وينتظر فقط لحظة ارتدائه القناع الخاص به، ولذلك نولان لا يهتم كثيراً بإثارة الغموض حوله ولا يجعل من تحوله لحظة مفاجئة بل يهتم بالفكرة والرمز وراء التحول فكرة احتياج العالم لبطل، رمز مجهول لا يمكن إفساده ويستطيع تحمل ما لا يستطيع الإنسان العادي تحمله.
سيلينا كايل (المرأة القطة رغم عدم مناداتها بهذا اللقب طوال العمل) هي مشروع بروس الخاص، هي نافذة الأمل التي ستؤكد صحة فكرته وتحقق له هدفه، فكرة نزاع الخير والشر داخل الإنسان والانتصار لنزعة الخير، سيلينا ليست مجرمة بالضرورة هي امرأة ثورية بمبادئ ولكن تحققها بطرق ملتوية بروس يحاول جاهداً إثارة تلك النزعة لديها والانتصار لها ليحقق انتصار خاص له يعوضه عن هزيمته مع هارفي والجوكر، هنا يبدو نولان يقوم – كعادته – بعمل رائع، بصنع شخصيات الأشرار بقوة توازي صنعه لشخصيات أبطاله، الأشرار أيضاً مناضلين، أيضاً ذو مبادئ، الفزاعة عالم مختل عقلياً يحاول تطبيق نظريات علمية مجنونة، الجوكر صاحب نظرية الفوضى وهارفي ذو الوجهين لا يستطيع البقاء نزيهاً في عالم غير نزيه، رأس الغول قائد ثوري يحمل مشروع اجتماعي ولكن أفكاره غير منطقية التطبيق ودوافع خاصة تدفعه لها، دوافع تتماثل عند باين تمتزج فيها المعاناة الشخصية مع الاضطهاد الاجتماعي وتولد لديهم أفكار تماثل أفكار الرجل الوطواط عن تحقيق العدالة في المجتمع، جميعهم يريدون تحقيق العدالة، العدالة عند الجوكر تعني الفوضى وانتهاز الفرص، عند هارفي ذو الوجهين تعني القوة، عند راس الغول وباين تعني تحطيم المجتمع وإعادة بنائه من جديد، عند الوطواط تعني تصويب المجتمع نحو الطريق الصحيح، العودة للقيم البشرية الأساسية، احترام الخير عند الإنسان، مواجهة الخوف وتحديه، سيلينا المضطهدة اجتماعياً، الفقيرة في عالم يحكمه الأثرياء تمارس الجريمة كتمرد على سادة المجتمع المرفهين، لا تشعر إنها تقوم بخطأ تشعر إنها تقوم بالصواب، تهلل للثورة التي ستحصل لأنها تعتقد إنها ستحقق العدالة وتنهي الظلم، ولكن حين تنجرف الثورة وتدرك إن كل ما جرى خطأ تحاول إعادة تصويب أخطائها.
الأشرار عند نولان ليسوا مجرمين وسارقي بنوك أو قتلة هم ثوار، نولان يستلهم من الأزمة الاقتصادية العالمية وحركة احتلوا والخوف المتعاظم من انتشار السلاح النووي ليصنع ثورة أشراره، يلقي هنا نولان الضوء في زمن الثورات والتغييرات على ثورة الشعوب التي تسرق من المرتزقة المجرمين، باين يبدو إرهابي حقيقي، مجرم لديه هدف بعيد عن أهداف الشعب الذين يناضل لأجلهم، يبدو ما يقوده أشبه بحركة أصولية إرهابية تدميرية لا تقبل التفاوض، تريد تدمير العالم وإنشاء أخر بقوانينه الخاصة ولذلك يبدو باين الشخصية الأنسب لفيلم نولان هذا شخصية إرهابية قوية تدميرية وبنفس الوقت شديدة الذكاء والدهاء، هو الشخصية الأنسب كذلك ليظهر بشرية بروس واين ووطواطه، بروس واين مريض أعرج كبير في السن لا يستطيع مواجهة كتلة عضلات وحشية مثل باين، ولأول مرة نرى البطل الخارق يهزم يكسر يغلبه عدوه ويصل معه للنهاية، يبدو بشري بالكامل يمكن عطبه ولكن ما بداخله من قوة هي ما تحوله إلى بطل.
عند هزيمة الوطواط ورميه في الحفرة يدخل العمل المنعطف الأهم، فكرة الأمل المتواجد على حافة الموت، باين لا يريد فقط القتل والتدمير، يريد تحطيم أرواح الناس ونفوسهم حتى يوصلهم لدرجة اليأس المطلق ويقبلوا به ومنظمته كمخلصين له، أن يعطيهم جرعة أمل كاذب يتمسكون بها ثم يسلبها منهم، سجن الحفرة يبدو تطبيق حقيقي لهذه الفكرة، السجن المفتوح البسيط في تصميمه، تبدو النجاة منه سهلة تماماً وهذه هي الفكرة ولكن على حافته تكمن الموت، فكرة الأمل المسلوب فكرة تعامل معها بروس سابقاً عثر على الأمل بتحقيق النصر عند هارفي عثر على الأمل بالعودة للحياة الطبيعية عند ريتشيل ولكن كل هذا سلب منه، هو يدرك معنى هذا العذاب ويدرك جيداً ما سيسوقه باين لمدينة غوثام، يدرك جيداً حجم الضعف والانكسار الذي وصل له ، لأجل ذلك يريد العودة يريد الصعود، حتى يحقق انتقامه الخاص، حتى ينقذ غوثام وما بداخلها من أمل بخير البشرية، في سجن الحفرة وبقاع الحضيض يواجه بروس مخاوفه الأكبر، شكل السجن المشابه لشكل حفرة الوطواط التي وقع بها بطفولته يعيد بروس لنقطة الصفر، يعيدانه للتفكير بكل شيء كيف بدأ، بمبادئه التي حملها والتي لأجلها ناضل منذ البداية، بوالده الذي علمه أن السقوط يعني فرصة للوقوف مجدداً، بروس يعود ليواجه خوفه من جديد وهذه المرة – كما فعل سابقاً – يحوله لصالحه يحوله لسلاح له، حيث يدرك إنه ليس وحيداً وهناك أمور منذ البداية وضع لأجلها القناع أمور لا يستطيع أن يموت ببساطة ويتركها أمور يجب أن – يخاف – لأجلها ويجب أن يقوم لأجلها .
العمل مع دراماه الرائعة وأفكاره الهامة عن الثورات ونزاع الخير والشر ونزاع المبادئ والمخاوف والعقد الباطنية والشوق للتحرر من الماضي ومآسيه وتحقيق الذات وقيمة في المجتمع يحوي إثارة عظيمة على مستوى الجزئين السابقين، ربما هو الفيلم الذي شهد أقل ظهور للرجل الوطواط بين أفلام الوطواط كافة لصالح بروس واين ولكن نولان يملئ لحظات ظهور وطواطه بأكشن وإثارة عظيمة ومتصاعدة وشديدة التشويق، في هذا العمل يدخل نولان الرمزية مع الشاعرية ضمن الأكشن والإثارة العظيمة فيه، العودة الأولى للرجل الوطواط شديدة التأثير ولحظة صعوده رائعة جداً من اللحظات العظيمة في التاريخ وكذلك لقائه الأول مع غوردن بعد عودته إلى غوثام، مشهد المعركة الختامي في الضوء وتحت الثلج على نقيض المعركة الأولى تحت الأرض وفي الظلام هي رمز لخلاص الوطواط من مخاوفه وظلاميته وانتقاله مع غوثام إلى النور الحقيقي، ثم مشهد تحطيم القنبلة النووية الشديد الإبهار، العمل يحوي مفاجئات عديدة حبكة شديدة الإتقان والقوة وتحديات شديدة الخطورة تواجه الرجل الوطواط.
نولان عرف كيف يصنع عمله يمنحىً تصاعدي يصل به للذروة بنهاية، أعطى ختاماً شديد التوفيق للسلسلة، نولان صنع فيلم الكوميكس الأكثر إنسانية وواقعية، حبكة مجنونة وخارجة عن المألوف ولكن نولان جعلها منطقية بأكبر قدر ممكن، مزج بشكل مذهل الإثارة مع الدراما مع الشاعرية مع التشويق مع المفاجآت صنع ملحمة حقيقية ومفخرة سينمائية، وصل بتقنيات العمل إلى القمة، العمل مبهر جداً إنتاجياً وتقنياً ومستوفي الشرط الإبهاري بشكل جيد بالأخص من حيث حجم المؤثرات والإخراج الفني وتصوير المعارك والتقنيات المستخدمة، التصوير ممتاز والمونتاج رائع جداً بالأخص مع قدرته على الإحاطة بممثلي العمل الكثر وتوزع أماكن التصوير وإعطاء كل شخصية حقها وصنع التمازج المطلوب بين الحالات التي يدور فيها العمل من قمة الشاعرية إلى ذروة الإثارة ومزج الصنفين معاً.

نولان أحد أفضل كتاب النصوص في هوليوود وهنا يكتب نصاً ذكياً معقداً محبوكاً مؤثراً شديد العمق شديد الواقعية رغم محوره الخيالي مليء بالحوارات البراقة الذكية ومعتني بجميع الشخصيات حتى أبسطها ومنهي بشكل نهائي لجميع عقد وأسئلة الأجزاء الأولى وصانعاً الخاتمة المنتظرة التي يستحقها الجمهور المخلص للوطواط، الفيلم ربما من أكثر الأفلام احتوائاً على مرشحين وفائزين للأوسكار وهذا متعمد لأن عمق الشخصيات ودراميتها تتطلب ممثلين على مستوى عالي، كرستيان بيل (حائز على الأوسكار كأفضل ممثل مساعد عن المقاتل) يقدم أحد أفضل أدواره كبروس واين، بيل متماهي منذ الجزء الأول مع الشخصية ومتألق معها وهنا يصل فيها للذروة ويعطيها عمقها المطلوب وتأثيرها الحقيقي، مايكل كان الحائز على جائزتي أوسكار كأفضل ممثل مساعد يقدم بدور ألفريد أداء قصير ولكن مذهل جداً وشديد التأثير يعطينا الانطباع الصادق بمحبة ألفريد لبروس وبمشاعر الأبوة نحوه ، مورغان فريمان الحائز أيضاً على الأوسكار كأفضل ممثل مساعد بدور ليشيوس يحافظ على مستوى الأداء الذي ظهر به بالأجزاء السابقة، غاري ألودمان المرشح للأوسكار – أفضل ممثل هذه المرة -  ينال مساحة أكثر اتساعاً وأكثر أهمية ويعطيها أداءً شديد القوة، أني هاثاوي المرشحة لأوسكار أفضل ممثلة تحقق حلمها بالقيام بدور سيلينا كايل المرأة القطة وتعطي أداءً ممتازاً جداً على مستوى ما قدمته ميشيل بفايفر بفيلم عودة الرجل الوطواط وأفضل بمراحل من هالي بيري المرأة القطة عام 2004 ، بعد غياب ليدجر المؤسف شريكه ببطولة فيلم (10 أشياء أكرهها عنك) جوزيف جوردن لوفيت يقدم دور بليك – روبين المستقبلي -  بقوة وتمكن شديدين، بعد أن فشل بالاستحواذ على دور الرجل العنبكوت مع صديقه المخرج مارك ويب الذي سبق له وعمل معه في 500 يوم من سمر – الدور ذهب لأندرو غارفيلد – يتعاون مجدداً مع نولان بعد أنسبشن ليقدم دوراً ممتازاً في فيلم بطل خارق في عامه الذهبي ضمن مسيرته الممتازة للعام الثالث على التوالي – سيقدم أيضاً هذا العام لوبر مع بروس ويليس و لينكولن مع دانييل دي لويس تحت إدارة سبلبيرغ – لم يكن لوفيت الوحيد الذي جلبه نولان من انسبشن جلب أيضاً توم هاردي وأعطاه دور باين، توم هاردي تألق بعد أنسبشن في الفرسان وهنا يقدم دور عمره، التحدي الأخطر أن يكون الشرير الذي يخلف الجوكر بالأخص بشخصية غير محبوبة وشعبية في الكوميكس ووجه مغطى بالكامل ولكن باين نجح بالتعبير عن قوة الشخصية صلابتها حقدها قسوتها دمويتها قيادتها هيبتها ذكائها ، لم يحمل جنون الجوكر حمل هيبة وشر مخيفان وقيادة وقوة أقنع بها المشاهد، ماريون كوتيلارد تعيش أيضاً مرحلتها الذهبية بعد فوزها بالأوسكار عن الحياة الوردية واجتماعها مع كرستيان بيل وجوني ديب في عدو الشعب ومشاركتها لعملين مرشحين للأوسكار على التوالي تقدم هذا العام مع هذا الفيلم الفيلم الفرنسي Rust and Bone  لجان أوديار تقدم هنا بدور ميريندا أداء ممتاز أيضاً ويستحق التقدير ومتماسك حتى النهاية.
فيلم قيامة فارس الظلام ليس فيلم عادي بالنسبة لي أشاهده وأعجب به وربما أنساه، سلسلة الوطواط هذه حياة كاملة عشناها رحلة شيقة خضناها من أعماق الظلام حتى النور عشنا معها مغامرة حقيقية عن الإنسان العادي الذي يتحول إلى بطل، عن حاجة العالم لبطل، وعن قدرة أي شخص أن يكون ملهماً، أن يقوم بأي تصرف بسيط ليغير العالم ، هو واحد من تلك الأفعال التي أتفاعل معها أعيشها تصبح جزء مني، كحال الروائع العظيمة التي عثرت بها على شيء احتاجه هنا الوطواط كان من هذه الأعمال التي دخلت لقائمتي من الأفلام المفضلة.
10 / 10 
      

0 التعليقات:

إرسال تعليق