RSS

Moonrise Kingdom - 2012




استقبلت آخر دورات مهرجان كان السينمائي في افتتاحها الفيلم الجديد للمخرج الأمريكي الشاب ويز أندرسون مملكة ضوء القمر بالكثير من الأمال العالية، ولم يخيب من يعتبره مارتن سكورسيزي أفضل مخرجي جيله الآمال المعقودة عليه فنال مبكراً ثناءً منقطع النظير وبشر بدورة رفيعة المستوى للمهرجان انتهت بتتويج الفيلم الألماني الفرنسي (Love) بجائزته الكبرى، لتكون الدورة السابقة أشبه بكائن حيّ عشنا كل مراحل حياته، فالمتوج فيلم من القارة العجوز لمخرج كهل يروي قصة حب استثنائية بين عجوزين في خريف العمر، أما فيلم افتتاح يأتي من القارة الشابة لمخرج شاب عن قصة حب استثنائية أيضاً بين طفلين في الثانية عشر.
 
الفيلم أعتبره الكثير من النقاد والمتابعين أحد أفضل الانتاجات الدرامية الأمريكية الحديثة واستحق ويز أندرسون اعتراف أغلب المتابعين والنقاد بكونه من كبار المخرجين الحاليين رغم حداثة سنه معززاً مسيرته الاستثنائية الخاصة على خطى الكبار من بني جيله (  كريستوفر نولان و دارين أرنوفسكي و جوناثان رايتمان  و أليخاندرو كونزاليس) إنه ليس مجرد مخرج موهوب يصنع أفلام جيدة وإنما أيضاً مخرج ذا أسلوب وطريقة خاصة بالصناعة ، أندرسون لفت الأنظار له منذ عام 2001 حين قدم فيلم (The Royal Tenenbaums) ونال عنه ترشيح للأوسكار كأفضل سيناريو ونال ترشيحاً آخر عام 2009 فيلم الأنيميشين (السيد والسيدة فوكس) ، ومع فيلمه السادس هذا اكتملت الصورة عن أسلوبه ومشروعه، الرجل مغرم بأفلام البطولة الجماعية التي تروي قصص بغاية الواقعية والتجرد عن العلاقات الاجتماعية المعاصرة والعائلة وتشابك وتناقض القصص العاطفية على مستوى وجودة وودي ألين، ولكن ضمن صورة بصرية براقة وقريبة للفنتازية البحتة لدرجة يقارع بها تيم بيرتن ولكن دون أن يدخل بفيلمه ذرة خيال واحدة، يبقى محافظاً على الروح الواقعية لعمله ولكن يغمره بنفس خيالي فنتازي شديد الجمالية والإبهار.
قصة فيلم مملكة ضوء القمر عن فتاة وشاب بالثانية عشرة من العمر (سوزي و سام) يعيشان على جزيرة نائية مع عائلتهما في نيوانغلند ويقعان بالحب ويقرران الهرب من مجتمعهما وأن يعيشا وحيدين في شاطئ نائي على الجزيرة محدثين فوضى عارمة في مجتمعهما وكاشفان عن التناقضات فيه، أندرسون مع رومان كوبولا (نجل الأسطورة فرانسيس فورد كوبولا) يقدم نص محبوك جداً وعلى مستوى عالي من الجودة والمتانة رغم شدة بساطته وعفويته، يمهد للحدث والشخصيات ببساطة متناهية ولكن محكمة للغاية دون أن يتعمق أو يتشعب بما يريد قوله يحافظ على الاختصار والإشارات الكافية ليقول للمشاهد ما يريد قوله، وبهذا الأسلوب من البساطة والاحكام يتابع بقية عمله تطورات الحدث وانعكاساته وتطوراته على جميع الشخصيات دون أن يعقد الأمور ويبقيها كافية ووافية جداً ليس فقط على مستوى فيلم أطفال وإنما مقبولة ومناسبة لفيلم راشدين أيضاً، ومع هرب الصبين للغابة لا ينجر أندرسون ليدخلنا بجو من المغامرات المتصاعدة اللاهثة التي تمتلئ بها هذه الأفلام بالعادة وإنما يحافظ على مستوى الواقعية والجدّية بعمله ولكنه بنفس الوقت ينجح من باب التشويق المقبول وأسلوبيته الخاصة بتحويل أجواء وأحداث عمله الواقعية إلى عوالم قريبة للفنتازية بأن يحول بعض الأحداث البسيطة أثناء رحلة الهرب إلى مغامرات مشوقة و فكاهية جداً، الفيلم يمزج به أندرسون ببراعة بين الصورة البراقة والمضمون الكئيب ويوازن بينهما دون أن يغلّب طرف على آخر، لا ينجرف نحو المغامرات غير المنطقية ولا ينتهي بصورة سوداوية دموية وكئيبة كما يحدث في بعض أفلام مشاكل المراهقين.
أندرسون رغم إنه يتحدث بعمله عن أطفال ويصنعه بصورة مبهجة قريبة لخيال الأطفال ولكنه ليس فيلم أطفال أبداً بل فيلم مغال بالجدية والقسوة والجرأة، يبدو فيلماً مناسباً للراشدين ومهماً لهم جداً وممتعاً في نفس الوقت، هو يحوي أفكار هامة عن العلاقات بين الأبناء والأهل، عن المشاكل الأسرية ، عن مشاكل سن المراهقة، عن طموح تحقيق الذات، عن رغبة الصغير بأن يختصر الزمن ليصبح كبيراً ويتحرر من محيطه، عن الشوق للآخر الإنساني في عالم شديد العزلة حتى داخل العائلة والمجتمع المزدحم.
الفيلم فيه أكثر من عشرين شخصية ولكن كل شخصية لها مساحة مناسبة ومهمة في العمل، أندرسون أعطى توزيع ممتاز جداً للشخصيات ولكل شخصية مساحتها الخاصة والمناسبة، هو فيلم عن المراهقين والأطفال وكان لهم الجناح الأكبر في العمل وقد أدوا أدوارهم بجدية تامة ومتانة مذهلة بالأخص دوري البطولة جارد غيلمان و كارا هاورد، مع المراهقين هناك حشد من الممثلين المخضرمين الذين أدوا أدوار ممتازة بروس ويليس الشهير بأدوار الحركة كـ Die Hard والذي يعرف بين أدوار العنف أن يقدم بعض الأدوار الدرامية الهامة كـ Pulp Fiction و الحاسة السادسة يقدم هنا أحد أكثر أدواره عمقاً ومتانة وتأثير، المرشح للأوسكار بيل موراي وشريك أندرسون في أغلب أفلامه يقدم دوراً ممتازاً وكذلك الفائزتان بالأوسكار فرانسيس مكدونالدز و تيلدا سوينتن، نجم Fight Club إدوارد نورتان يقدم أحد أكثر أدواره جمالية و متانة منذ سنين والمخضرم هارفي كيتيل يقدم حضور.
مع النص والحورات الممتازة والأداء العالي الشكل البصري للعمل خلّاب أندرسون يصنع صورة براقة الألوان والديكورات وتصميم المشاهد و الأماكن رائع ومشوق جداً ويعطي مساحة واسعة للتصوير ليبدع لوحات بصرية رائعة مستفيداً ليس فقط من رؤية أندرسون الخاصة بل أيضاً من موقع التصوير الطبيعي الخلاب جداً، المونتاج بالعمل عالي المستوى وملفت جداً للنظر والموسيقى المستعملة من الموسيقار الفرنسي المبدع ألكساندر ديسبلاي (مبدع الملكة و The King's Speech وThe Tree Of Life وThe Curious Case of Benjamin Button) يقدم أحد أكثر موسيقاه تأثيراً وقوة وشفافية لينتج في النهاية عملاً يستحق التقدير العالي والثناء الذي ناله.
8.5 / 10

0 التعليقات:

إرسال تعليق