RSS

Les Miserables - 2012



نور الدين النجار
قبل عشر سنين توج فيلم شيكاغو بسبع جوائز أوسكار، فيلم موسيقي استعراضي قدم التحية وأعاد الحياة لذلك النوع المختفي منذ أكثر من عقدين وكان أول فيلم منذ عام 1967 ينال جائزة أفضل فيلم، شيكاغو شجع على عودة الأفلام الاستعراضية وقدمت فيه السينما روائع حديثة بهذا النوع فتيات الأحلام عام 2006 ، سويني تود عام 2007 واليوم يقدم المخرج الشاب توم هوبر الفائز بأوسكار أفضل مخرج الفيلم الرائعة هذا البؤساء في أول عودة له خلف الكاميرا منذ تحفته وأول أفلامه السينمائية خطاب الملك.


في هذا العمل حافظ هوبر على مكانته كمخرج كبير فعلاً ليس مجرد شاب لمع نجمه بأول أعماله ثم خبى وهنا القيمة الأهم للعمل، هوبر الذي أبرز عبقرية فذّة بخطاب الملك الذي أعاد به أمجاد السينما الكلاسيكية المبهرة بكل تفاصيلها والعاطفية بكل جوانبها بالأساليب السينمائية السردية التقليدية بعيداً عن التجريبة الرائجة حالياً، و بعد الهيمنة العظيمة لهوبر على موسم جوائز 2010 ازدحمت الكراسات السينمائية بالتوقعات حول عمل الشاب القادم، وانتشر سريعاً خبر اختياره للبؤساء، كان التوقع الأولي إنه سيقتبس الرواية العظيمة لفيكتور هيغو ولكنه صدم المتابعين باختياره لتحويل اقتباس الرواية المسرحي الغنائي إلى فيلم سينمائي، هذا الاختيار كان يعني منحاً جديداً بمسيرته عن سينماه الكلاسيكية التي ابدع بها إلى السينما الغنائية، الرجل لم يخيب الظن أبداً خاض مغامرة جديدة بإعادة أمجاد السينما الغنائية المسرحية، قدم هنا عمل غنائي بالكامل، ليس استعراضي وإنما غنائي، لايوجد فيه أي مشهد حواري تقليدي مجرد كلمات والباقي ساعتين ونصف بالكامل من الغناء والموسيقى، يركز عى هذين الفنيين ليصنع عملاً عظيماً عميقاً مبهراً فنياً وتجريباً إلى حد ما وممتع وشديد التأثير.
القصة معروفة جان فالجان (هيو جاكمان) محكوم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة مدة 15 سنة لسرقته رغيف خبز لإطعام أخته المريضة، يخرج من السجن بإطلاق سراح مشروط ولكن المجتمع لا يتقبله ، يعود ليسرق مجدداً ولكن من راهب في دير يعفو عنه أملاً بإنقاذ روحه، الرجل يتحول إلى شخص ثري وعمدة مدينة يستغل ماله لمساعدة أهالي مدينته، ولكن يبقى الخوف من الماضي ومن رئيس الشرطة جافير (راسل كرو) يطارده، ومخاوفه تتسبب بطرد فونتين (أني هاثاوي) من معمله وتحولها إلى البغاء وموتها، فالجان يحمل الذنب ويقرر التعويض بمساعدة ابنتها كوزيت التي تعيش مع لصين هيلينا بونان كارتر وساشا بارون كوهين، فالجان ينقذها وتكبر معه (اماندا سايفرد) وتقع بحب موريس (إيدي رايدمان) شاب ثائر فرنسي، وفي لحظة الثورة على الظلم تتلاقي مصائر الشخصيات.
رواية هيغو مليئة بالتصوير الواقعي للمآساة وبدراسة أعماق معاناة المجتمع الفرنسي والطموح بالثورة والعدالة وتحقيق مبادئ العدالة الفرنسية، المسرحية الغنائية تحاول تقديم ذلك الألم بأسلوب غنائي مبهج أحياناً ومدمي للقلب أحياناً أخرى مع تغليب إجباري للطابع الفني على الفكري، هوبر يحاول الموازنة بين الجانبيين وينجح بذلك، إشعارنا بالظلم الذي يشعر به فالجان ثم فرحه بالحرية وألمه لنبذ المجتمع له والذي يجبره على العودة للجريمة ندمه بعد العفو عنه وشعوره بضرورة التعويض ثم الخوف من الماضي الذي يطارده وندمه على ما قام به بحق فانتين وتأنيبه لضميره عندما يوشك شخص بريء على أن يعاقب بسببه وحياة التشرد التي يقضيها بسبب ماضيه، جافير المتمسك بالقانون الناهض من عمق الفقر المؤمن بأن ما يقوم به هو الصواب هو الصحيح طالما إنه ضمن القانون حتى لو كان فوق كل عاطفة أو أخلاق أحياناً، إحساسنا بفظاعة الفقر وهول البؤس – بالأخص بمشاهد فانتين – ، البؤس والفقر وليد هذا المجتمع الظالم غير المتقبل وغير الغفور الذي يحول الناس لوحوش بشرية تستغل بعضها، البؤس الذي يسلم الإنسان للشر وتجعلهم يبيعون أنفسهم وضمائرهم وأجسادهم، البؤس الذي يصوره هوبر هنا لا يصنعه الأغنياء للفقراء فقط وإنما يسبب به الفقراء بين بعضهم في مجتمع وحشي يناضل به الإنسان للنجاة ولو على حساب أخيه، هوبر يصور ذلك من خلال ديكورات وملابس زاهية ولكن بائسة وضمن أغاني ساخرة أغلب الأحيان ولكن ذكية بمعانيها تليق بفيلم غنائي وتصيب عمق المآساة لتبدو الثورة النهائية معها ثورة مبررة لرفع الظلم الذي سببه الفقر والبؤس المتراكم الذي عشنا معه طوال العمل والذي دفع للناس للكف عن الصمت وأن يصيحوا بلا.
الفكرة الحقيقية العظيمة هي عن إلهام الخير بالنفوس، محاولة الجميع العثور على الغفران وحقهم بهم للعثور على الخير بداخلهم ومحاولتهم تغيير العالم، الراهب غفر لفالجان وألهمه الخير ليغير حياته، الشخص لم يخالف الوصية ورغم إنه تسبب بضياع فانتين ولكنه حفظ كوزيت وحاول أن يقدم السر لجافير الذي كان موقفه الأخير من فالجان بعد أن وصل لمبتغاه فرصة ليغير الشر الذي تسبب به بالأخص ضياع فانتين ويعطي دون أن يدري أبنتها كوزيت فرصة لتعيش مع الشخص الذي أحببته.
الفيلم رغم عظمته بتصوير نزاعات شخصياته الداخلية، وتصوير الواقع الفرنسي وثورة الشباب الاشتراكية وأسلوبيته الرائعة بالسرد من خلال الغناء الرائع ولكنه يبدو مقصراً في المراحل النهائية، تصوير حياة كوزيت مع فالجان وتعلقه بها كان غائباً، تصوير حب موريس لكوزيت كان سريعاً وخاطفاً وغير مؤسس جيداً، هوبر عوض عن ذلك بالصورة وبأداء ممثليه، الفيلم مسرحي بأساسه وهوبر أعطاه أجوائه المسرحية المكياج الديكورات الملابس والاعتماد على الغناء الرائع، تكامل هذه العناصر الفنية بصورة مبهرة مع الموسيقى السمفونية الرائعة أعطى العمل الجو المسرحي المطلوب ولكنه لم يبقى أسيراً للمسرح، هوبر اطلق العنان للتصوير ليتنقل بحرية بين الكاميرا المحمولة والثابتة، بين الصور الواسعة والضيقة ليكسر جمود المسرح وساعده بذلك المونتاج السريع الذي أعطى حيوية رائعة للعمل.
عظمة العمل الحقيقية من الأداءات الرائعة فيه، رغم كرهي لهيو جاكمان لكنه قدم من خلال شخصية جان فالجان أداء يستحق عنه الترشح للأوسكار، جاكمان الشهير بولف رين والذي ابتعد مرّات عن الذئب البشري ليقدم أفلام تقدمه بصورة هامه على الشاشة برستيج مع نولان النافورة مع ارنوفسكي – كلاهما عام 2006 – هنا ينال فرصته الحقيقية، هو فعلاً جان فالجان بعذاب السجن وقهر الظلم، بالخوف من الماضي، بجلد الضمير ، بحب كوزيت، بالهرب من جافير ، بالحرص على العثور على الغفران وأداء رسالة الراهب، يقدم غناء رائعاً ويخرج به أعماق عذاب الشخصية ومعاناتها وقهرها، راسل كرو بالفيلم السادس الذي يشارك به وينال ترشيح للأوسكار يقدم أداء عظيم آخر بمسيرته من خلال شخصية جافير – رغم إني كنت أتمناه أن أراه هو كجان فالجان – رجل القانون الصلب المنحدر من العامة المتمسك بالقانون والمهووس بتطبيقه ولو على حساب حياته دون الاحتكام لأي مرجع أخلاقي آخر، أداءه ممتاز رغم أني لم أحب غنائه كثيراً، جوهرة العمل هي أني هاثاوي ، الشابة الثلاثينية التي رافقناها منذ مراهقتها الرائعة في يوميات مراهقة مروراً إلى تحولها لممثلة ناضجة في جبل بروكباك وهافوك و زواج ريتشل و الحب والمخدرات مع حفاظها على نوعية أفلامها الكوميدية الرائعة بالأخص بحرب العرائس تحقق بعام 2012 أكبر أحلامها السينمائية، نالت دور المرأة القطة في عودة فارس الظلام وقدمت من خلال سيلينا كايل القطة أداء رائع، وهي اليوم على بعد أيام من نيلها الأوسكار الأول عن أدائها الرائع كفانتين ، أداء عظيم جداً ربما أفضل أداء في العام وأفضل أداء أنثوي ثانوي شاهدته منذ أداء جينفر هدسن الغنائي الرائع في فتيات الأحلام، الصدمة الذل الإنكسار اليأس ضياع الأحلام الهوان فقدان الأمل الاستسلام للواقع المرير مشاعر نجحت هاثاوي بمزجه وتقديمه دفعة واحدة بوجه المشاهد بمشهد واحد هو أعظم مشاهد العمل ضمن أجمل أغنيات العمل (  I had dream ) قدمته بإندماج كامل بلا قطع على مدة 3 دقائق جعلت المشاهد يعيش ما عاشته فانتين ويرثي لحاله وتدمع عيناه لأجلها، هيلينا بونان كارتر بتعاونها الثاني مع هوبر و ساشا بارون كوهين في ظهوره الثاني أمام بونان كارتر بعد سويني تود يقدمان أداء ممتع ومميز، أماندا سايفر و إيدي رايدمان يقدمون أداءات جيدة في عمل من أفضل أعمال عام 2012 .
9 / 10

0 التعليقات:

إرسال تعليق